2013-07-11

رسالة في ليلة التنفيذ \ هاشم الرفاعي


سيد بن جامع بن هاشم الرفاعي
 
(مصر 1935 - 1959م)


أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني

والحبلُ والجلادُ ينتظراني

هذا الكتابُ إليك مِن زنزانة

مقرورة صخرِيّةِ الجُدرانِ

لم تبق إلاّ ليلة أحيا بِها

وأُحِسُّ أنّ ظلامها أكفاني

ستمُرُّ يا أبتاهُ لستُ أشكُّ في

هذا وتحمِلُ بعدها جُثماني

الليلُ مِن حولي هُدوء قاتِل

والذكرياتُ تمورُ في وِجداني

ويهُدُّني ألمي فأنشُدُ راحتي

في بِضعِ آيات مِن القُرآنِ

والنّفسُ بين جوانِحي شفّافة

دب الخُشوعُ بها فهزّ كياني

قد عِشتُ أُومِنُ بالإلهِ ولم أذُق

إلاّ أخيرا لذّة الإيمانِ

شكرا لهم أنا لا أريد طعامهم

فليرفعوه فلست بالجوعان

هذا الطعام المر ما صنعته لي

أمي ولا وضعوه فوق خوان

كلا ولم يشهده يا أبتي معي

أخوان جاءاه يستبقان

مدوا إلي به يدا مصبوغة

بدمي وهذه غاية الإحسان

والصّمتُ يقطعُهُ رنينُ سلاسِل

عبثت بِهِنّ أصابعُ السّجّانِ

ما بين آوِنة تمُرُّ وأختها

يرنوإليّ بمقلتي شيطانِ

مِن كُوّة بِالبابِ يرقُبُ صيدهُ

ويعُودُ في أمن إلى الدّورانِ

أنا لا أُحِسُّ بِأيِّ حِقد نحوهُ

ماذا جنى فتمسُّه أضغاني

هُوطيِّبُ الأخلاقِ مثلُك يا أبي

لم يبدُ في ظمأ إلى العُدوانِ

لكنّهُ إِن نام عنِّي لحظة

ذاق العيالُ مرارة الحِرمانِ

فلرُبّما وهُوالمُروِّعُ سحنة

لوكان مِثلي شاعرا لرثاني

أوعاد - من يدري - إلى أولادِهِ

يوما تذكّر صُورتي فبكاني

وعلى الجِدارِ الصُّلبِ نافذة بها

معنى الحياةِ غليظةُ القُضبانِ

قد طالما شارفتُها مُتأمِّلا

في الثّائرين على الأسى اليقظانِ

فأرى وُجوما كالضّبابِ مُصوِّرا

ما في قُلوبِ النّاسِ مِن غليانِ

نفسُ الشُّعورِ لدى الجميعِ وإِن هُمُو

كتموا وكان الموتُ في إِعلاني

ويدورُ همس في الجوانِحِ ما الّذي

بِالثّورةِ الحمقاءِ قد أغراني

أولم يكُن خيرا لِنفسي أن أُرى

مثل الجُموعِ أسيرُ في إِذعانِ

ما ضرّني لو قد سكتُّ وكُلّما

غلب الأسى بالغتُ في الكِتمانِ

هذا دمِي سيسِيلُ يجرِي مُطفِئا

ما ثار في جنبيّ مِن نِيرانِ

وفؤادي الموّارُ في نبضاتِهِ

سيكُفُّ في غدِهِ عنِ الخفقانِ

والظُّلمُ باق لن يُحطِّم قيدهُ

موتي ولن يُودِي بِهِ قُرباني

ويسيرُ ركبُ البغيِ ليس يضِيرُهُ

شاة إِذا اجتُثّت مِن القِطعانِ

هذا حديثُ النّفسِ حين تشُفُّ عن

بشرِيّتي وتمُورُ بعد ثوانِ

وتقُولُ لي إنّ الحياة لِغاية

أسمى مِن التّصفيقِ ِللطُّغيانِ

أنفاسُك الحرّى وإِن هِي أُخمِدت

ستظلُّ تعمُرُ أُفقهُم بِدُخانِ

وقُروحُ جِسمِك وهُوتحت سِياطِهِم

قسماتُ صُبح يتّقِيهِ الجاني

دمعُ السّجينِ هُناك في أغلالِهِ

ودمُ الشّهيدِ هُنا سيلتقِيانِ

حتّى إِذا ما أُفعِمت بِهِما الرُّبا

لم يبق غيرُ تمرُّدِ الفيضانِ

ومنِ العواصِفِ ما يكُونُ هُبُوبُها

بعد الهُدوءِ وراحةِ الرُّبّانِ

إِنّ احتِدام النّارِ في جوفِ الثّرى

أمر يُثيرُ حفِيظة البُركانِ

وتتابُعُ القطراتِ ينزِلُ بعدهُ

سيل يليهِ تدفُّقُ الطُّوفانِ

فيمُوجُ يقتلِعُ الطُّغاة مُزمجِرا

أقوى مِن الجبرُوتِ والسُّلطانِ

أنا لستُ أدري هل ستُذكرُ قِصّتي

أم سوف يعرُوها دُجى النِّسيانِ

أم أنّني سأكونُ في تارِيخِنا

مُتآمِرا أم هادِم الأوثانِ

كُلُّ الّذي أدرِيهِ أنّ تجرُّعي

كأس المذلّةِ ليس في إِمكاني

لولم أكُن في ثورتي مُتطلِّبا

غير الضِّياءِ لأُمّتي لكفاني

أهوى الحياة كريمة لا قيد لا

إِرهاب لا استِخفاف بِالإنسانِ

فإذا سقطتُ سقطتُ أحمِلُ عِزّتي

يغلي دمُ الأحرارِ في شِرياني

أبتاهُ إِن طلع الصّباحُ على الدُّنى

وأضاء نُورُ الشّمسِ كُلّ مكانِ

واستقبلُ العُصفُورُ بين غُصُونِهِ

يوما جديدا مُشرِق الألوانِ

وسمِعت أنغام التّفاؤلِ ثرّة

تجري على فمِ بائِعِ الألبانِ

وأتى يدُقُّ- كما تعوّد- بابنا

سيدُقُّ باب السِّجنِ جلاّدانِ

وأكُونُ بعد هُنيهة مُتأرجِحا

في الحبلِ مشدُودا إِلى العِيدانِ

لِيكُن عزاؤك أنّ هذا الحبل ما

صنعتهُ في هِذي الرُّبوعِ يدانِ

نسجُوهُ في بلد يشُعُّ حضارة

وتُضاءُ مِنهُ مشاعِلُ العِرفانِ

أوهكذا زعمُوا وجِيء بِهِ إلى

بلدي الجريحِ على يدِ الأعوانِ

أنا لا أُرِيدُك أن تعيش مُحطّما

في زحمةِ الآلامِ والأشجانِ

إِنّ ابنك المصفُود في أغلالِهِ

قد سِيق نحوالموتِ غير مُدانِ

فاذكُر حِكايات بِأيّامِ الصِّبا

قد قُلتها لي عن هوى الأوطانِ

وإذا سمعت نحِيب أُمِّي في الدُّجى

تبكي شبابا ضاع في الرّيعانِ

وتُكتِّمُ الحسراتِ في أعماقِها

ألما تُوارِيهِ عنِ الجِيرانِ

فاطلُب إِليها الصّفح عنِّي إِنّني

لا أبتغي مِنها سِوى الغُفرانِ

ما زال في سمعي رنينُ حديثِها

ومقالِها في رحمة وحنانِ

أبُنيّ إنِّي قد غدوتُ عليلة

لم يبق لي جلد على الأحزانِ

فأذِق فُؤادِي فرحة بِالبحثِ عن

بِنتِ الحلالِ ودعك مِن عِصياني

كانت لها أُمنِية ريّانة

يا حُسن آمال لها وأماني

والآن لا أدري بِأيِّ جوانِح

ستبيتُ بعدي أم بِأيِّ جِنانِ

هذا الذي سطرتُهُ لك يا أبي

بعضُ الذي يجري بِفِكر عانِ

لكن إذا انتصر الضِّياءُ ومُزِّقت

بيدِ الجُموعِ شريعةُ القُرصانِ

فلسوف يذكُرُني ويُكبِرُ هِمّتي

من كان في بلدي حليف هوانِ

وإلى لِقاء تحت ظِلِّ عدالة

قُدسِيّةِ الأحكامِ والمِيزانِ
من كتاب (خمسون ألف بيت من الشعر) \ منصور العبادي

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق