سيد بن جامع بن هاشم
الرفاعي
(مصر 1935 - 1959م)
أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني
|
والحبلُ والجلادُ ينتظراني
|
هذا الكتابُ إليك مِن زنزانة
|
مقرورة صخرِيّةِ الجُدرانِ
|
لم تبق إلاّ ليلة أحيا بِها
|
وأُحِسُّ أنّ ظلامها أكفاني
|
ستمُرُّ يا أبتاهُ لستُ أشكُّ في
|
هذا وتحمِلُ بعدها جُثماني
|
الليلُ مِن حولي هُدوء قاتِل
|
والذكرياتُ تمورُ في وِجداني
|
ويهُدُّني ألمي فأنشُدُ راحتي
|
في بِضعِ آيات مِن القُرآنِ
|
والنّفسُ بين جوانِحي شفّافة
|
دب الخُشوعُ بها فهزّ كياني
|
قد عِشتُ أُومِنُ بالإلهِ ولم أذُق
|
إلاّ أخيرا لذّة الإيمانِ
|
شكرا لهم أنا لا أريد طعامهم
|
فليرفعوه فلست بالجوعان
|
هذا الطعام المر ما صنعته لي
|
أمي ولا وضعوه فوق خوان
|
كلا ولم يشهده يا أبتي معي
|
أخوان جاءاه يستبقان
|
مدوا إلي به يدا مصبوغة
|
بدمي وهذه غاية الإحسان
|
والصّمتُ يقطعُهُ رنينُ سلاسِل
|
عبثت بِهِنّ أصابعُ السّجّانِ
|
ما بين آوِنة تمُرُّ وأختها
|
يرنوإليّ بمقلتي شيطانِ
|
مِن كُوّة بِالبابِ يرقُبُ صيدهُ
|
ويعُودُ في أمن إلى الدّورانِ
|
أنا لا أُحِسُّ بِأيِّ حِقد نحوهُ
|
ماذا جنى فتمسُّه أضغاني
|
هُوطيِّبُ الأخلاقِ مثلُك يا أبي
|
لم يبدُ في ظمأ إلى العُدوانِ
|
لكنّهُ إِن نام عنِّي لحظة
|
ذاق العيالُ مرارة الحِرمانِ
|
فلرُبّما وهُوالمُروِّعُ سحنة
|
لوكان مِثلي شاعرا لرثاني
|
أوعاد - من يدري - إلى أولادِهِ
|
يوما تذكّر صُورتي فبكاني
|
وعلى الجِدارِ الصُّلبِ نافذة بها
|
معنى الحياةِ غليظةُ القُضبانِ
|
قد طالما شارفتُها مُتأمِّلا
|
في الثّائرين على الأسى اليقظانِ
|
فأرى وُجوما كالضّبابِ مُصوِّرا
|
ما في قُلوبِ النّاسِ مِن غليانِ
|
نفسُ الشُّعورِ لدى الجميعِ وإِن هُمُو
|
كتموا وكان الموتُ في إِعلاني
|
ويدورُ همس في الجوانِحِ ما الّذي
|
بِالثّورةِ الحمقاءِ قد أغراني
|
أولم يكُن خيرا لِنفسي أن أُرى
|
مثل الجُموعِ أسيرُ في إِذعانِ
|
ما ضرّني لو قد سكتُّ وكُلّما
|
غلب الأسى بالغتُ في الكِتمانِ
|
هذا دمِي سيسِيلُ يجرِي مُطفِئا
|
ما ثار في جنبيّ مِن نِيرانِ
|
وفؤادي الموّارُ في نبضاتِهِ
|
سيكُفُّ في غدِهِ عنِ الخفقانِ
|
والظُّلمُ باق لن يُحطِّم قيدهُ
|
موتي ولن يُودِي بِهِ قُرباني
|
ويسيرُ ركبُ البغيِ ليس يضِيرُهُ
|
شاة إِذا اجتُثّت مِن القِطعانِ
|
هذا حديثُ النّفسِ حين تشُفُّ عن
|
بشرِيّتي وتمُورُ بعد ثوانِ
|
وتقُولُ لي إنّ الحياة لِغاية
|
أسمى مِن التّصفيقِ ِللطُّغيانِ
|
أنفاسُك الحرّى وإِن هِي أُخمِدت
|
ستظلُّ تعمُرُ أُفقهُم بِدُخانِ
|
وقُروحُ جِسمِك وهُوتحت سِياطِهِم
|
قسماتُ صُبح يتّقِيهِ الجاني
|
دمعُ السّجينِ هُناك في أغلالِهِ
|
ودمُ الشّهيدِ هُنا سيلتقِيانِ
|
حتّى إِذا ما أُفعِمت بِهِما الرُّبا
|
لم يبق غيرُ تمرُّدِ الفيضانِ
|
ومنِ العواصِفِ ما يكُونُ هُبُوبُها
|
بعد الهُدوءِ وراحةِ الرُّبّانِ
|
إِنّ احتِدام النّارِ في جوفِ الثّرى
|
أمر يُثيرُ حفِيظة البُركانِ
|
وتتابُعُ القطراتِ ينزِلُ بعدهُ
|
سيل يليهِ تدفُّقُ الطُّوفانِ
|
فيمُوجُ يقتلِعُ الطُّغاة مُزمجِرا
|
أقوى مِن الجبرُوتِ والسُّلطانِ
|
أنا لستُ أدري هل ستُذكرُ قِصّتي
|
أم سوف يعرُوها دُجى النِّسيانِ
|
أم أنّني سأكونُ في تارِيخِنا
|
مُتآمِرا أم هادِم الأوثانِ
|
كُلُّ الّذي أدرِيهِ أنّ تجرُّعي
|
كأس المذلّةِ ليس في إِمكاني
|
لولم أكُن في ثورتي مُتطلِّبا
|
غير الضِّياءِ لأُمّتي لكفاني
|
أهوى الحياة كريمة لا قيد لا
|
إِرهاب لا استِخفاف بِالإنسانِ
|
فإذا سقطتُ سقطتُ أحمِلُ عِزّتي
|
يغلي دمُ الأحرارِ في شِرياني
|
أبتاهُ إِن طلع الصّباحُ على الدُّنى
|
وأضاء نُورُ الشّمسِ كُلّ مكانِ
|
واستقبلُ العُصفُورُ بين غُصُونِهِ
|
يوما جديدا مُشرِق الألوانِ
|
وسمِعت أنغام التّفاؤلِ ثرّة
|
تجري على فمِ بائِعِ الألبانِ
|
وأتى يدُقُّ- كما تعوّد- بابنا
|
سيدُقُّ باب السِّجنِ جلاّدانِ
|
وأكُونُ بعد هُنيهة مُتأرجِحا
|
في الحبلِ مشدُودا إِلى العِيدانِ
|
لِيكُن عزاؤك أنّ هذا الحبل ما
|
صنعتهُ في هِذي الرُّبوعِ يدانِ
|
نسجُوهُ في بلد يشُعُّ حضارة
|
وتُضاءُ مِنهُ مشاعِلُ العِرفانِ
|
أوهكذا زعمُوا وجِيء بِهِ إلى
|
بلدي الجريحِ على يدِ الأعوانِ
|
أنا لا أُرِيدُك أن تعيش مُحطّما
|
في زحمةِ الآلامِ والأشجانِ
|
إِنّ ابنك المصفُود في أغلالِهِ
|
قد سِيق نحوالموتِ غير مُدانِ
|
فاذكُر حِكايات بِأيّامِ الصِّبا
|
قد قُلتها لي عن هوى الأوطانِ
|
وإذا سمعت نحِيب أُمِّي في الدُّجى
|
تبكي شبابا ضاع في الرّيعانِ
|
وتُكتِّمُ الحسراتِ في أعماقِها
|
ألما تُوارِيهِ عنِ الجِيرانِ
|
فاطلُب إِليها الصّفح عنِّي إِنّني
|
لا أبتغي مِنها سِوى الغُفرانِ
|
ما زال في سمعي رنينُ حديثِها
|
ومقالِها في رحمة وحنانِ
|
أبُنيّ إنِّي قد غدوتُ عليلة
|
لم يبق لي جلد على الأحزانِ
|
فأذِق فُؤادِي فرحة بِالبحثِ عن
|
بِنتِ الحلالِ ودعك مِن عِصياني
|
كانت لها أُمنِية ريّانة
|
يا حُسن آمال لها وأماني
|
والآن لا أدري بِأيِّ جوانِح
|
ستبيتُ بعدي أم بِأيِّ جِنانِ
|
هذا الذي سطرتُهُ لك يا أبي
|
بعضُ الذي يجري بِفِكر عانِ
|
لكن إذا انتصر الضِّياءُ ومُزِّقت
|
بيدِ الجُموعِ شريعةُ القُرصانِ
|
فلسوف يذكُرُني ويُكبِرُ هِمّتي
|
من كان في بلدي حليف هوانِ
|
وإلى لِقاء تحت ظِلِّ عدالة
|
قُدسِيّةِ الأحكامِ والمِيزانِ
|
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق