2017-08-27

بلى قادرين على أن نسوي بنانه

بلى قادرين على أن نسوي بنانه
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية


لقد كان إنكار  البعث بعد الموت الذريعة الرئيسية التي حاججت الأمم بها من بعث إليهم من رسل الله عز وجل كما جاء ذلك في آيات كثيرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى   "أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)" المؤمنون وقوله تعالى " بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) " المؤمنون وقوله تعالى"أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)" الصافات. ويتحجج منكرو البعث باستحالة أن يعاد بناء أجسامهم مرة ثانية بعد أن تحولت إلى تراب بعد موتهم فرد عليهم القرآن الكريم بحجج دامغة كما في قوله تعالى  "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)" يس وقوله تعالى " وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)" الإسراء.
وفي قوله تعالى "أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)" القيامة تأكيد من الله عز وجل على أنه سبحانه قادر على إعادة خلق الإنسان من التراب يوم القيامه  محافظا على أدق تفاصيل جسمه التي كان عليها في الدنيا. إن اختيار  الله عز وجل لبنان الإنسان أي أصابع يديه  من بين جميع أعضاء جسمه الأخرى لا بد  وأن يكون لوجود سر ما في هذه الأصابع. ولقد قال بعض المفسرين بأن هذا السر  هو أن  عظام أصابع اليد هي من أدق وأصغر  العظام في جسم الإنسان ومن يقدر  على جمع  وإعادة تركيب هذه العظام الصغيرة فمن باب أولى أن يقوم بجمع بقية عظام الجسم. والحقيقة أن في اليد البشرية بشكل عام من أسرار  الخلق ما لا يمكن حصره ولقد تمكن العلماء في العصر الحديث من كشف كثير من هذه الأسرار   كما شرحت في مقالة (وفي أنفسكم أفلا تبصرون- اليد البشرية). أما أصابع اليد على وجه التحديد ففيها مجموعة من أسرار  الخلق العجيبة التي لا يطلع عليه إنسان عاقل إلا ويوقن بأنها لا بد أنها سويت من لدن خالق لا حدود لعلمه وقدرته. ومن هذه الأسرار  قدرة أصابع اليد على القيام بحركات بارعة تمكن اليد من القيام بوظائف لا حصر لها لما فيه مصلحة الإنسان وهو ما لا يتوفر  في أيدي بقية الحيوانات. وعلى باطن  أصابع اليد توجد أعلى كثافة للمستقبلات الحسية مما تمكن  الإنسان من معرفة مختلف خصائص الأشياء التي تمسك بها من حيث الصلابة والليونة والخشونة والنعومة واليبوسة والرطوبة والسخونة والبرودة والثقل والخفة. وعلى باطن  أصابع اليد توجد كذلك تجعدات أو بروزات دقيقة  تظهر على شكل خطوط متعرجة ترسم أشكالا عجيبة لا حصر لعددها. وتقوم هذه البروزات بوظائف عديدة أهمها زيادة الاحتكاك بين الجلد وسطوح الأشياء التي تمسك بها اليد لكي لا تنزلق وتزيد كذلك من حساسية حاسة اللمس. وقد وجد العلماء أن الأشكال التي ترسمها هذه البروزات على رؤوس أصابع اليد لا يمكن أن تتطابق بين أي شخصين في العالم حتى لو كانا توأمين ولذلك تم استخدامها كوسيلة للتعرف على الأشخاص بما يسمى التعرف ببصمة اليد (Fingerprint identification). وعلى ظهر رؤوس أصابع اليد توجد الأظافر  التي إلى جانب الناحية الجمالية التي تعطيها لليد فإنها تقوم بوظائف عديدة كحك الجلد والشعر والإمساك بالأشياء الدقيقة وتقشير   القشور ونزع الأشواك وكوسيلة للدفاع  وزيادة حساسية اللمس وغيرها.  



إن من أنار  الله عز وجل بصيرته يوقن بأن اليد البشرية لا بد وأنها خلقت من صانع لا حدود لعلمه وقدرته لما فيها من دقة الصنع وبديع الحركات وشدة الإحساس والقوة. وممن أدرك هذا الإبداع في الخلق بنافذ بصيرته العالم الفذ اسحق نيوتن الذي قال (في غياب أي دليل آخر فإن الإبهام وحده يقنعني بوجود الله) (Sir Isaac Newton once said, “In the absence of any other proof, the thumb alone would convince me of God’s existence.). وما على الإنسان إلا أن يحاول أن يستخدم يده بدون الإبهام  ليدرك أبعاد مقولة نيوتن.   وقال آخر عن قدرات اليد البشرية (إن استطاعة اليد البشرية مذهلة في قدرتها على القيام بعدد لا متناهي من الأشكال والحركات باستخدام مصفوفة الأصابع البارعة. إن ربع المساحة المخصصة للحركة في الدماغ مقيضة للتحكم بحركة هذا الجهاز الرائع لوحده .  فالجمع بين القوة والمرونة والبراعة والتحكم البالغ الدقة التي تبديها أيدينا لا يوجد ما يضاهيه في العالم المخلوق. )
(The capacity of the human hand is stunning in its ability to achieve, at will, a seemingly infinite number of shapes and configurations through the use of its array of dexterous fingers. Approximately one-quarter of the portion of the brain dedicated to movement is devoted to controlling motions of this exquisite device alone. The particular combination of strength, flexibility, dexterity and fine-tuned motor control exhibited by our two hands is unmatched in the created world.)

إن اليد البشرية معجزة كبرى من معجزات الخالق سبحانه وتعالى فالذي يدرس شكل اليد الخارجي فقط سيجد أن هذا الشكل هو الشكل الأمثل والأجمل والذي يدرس تركيب عظامها بأشكالها وأبعادها وموادها يجد إبداعا في التصميم لا يمكن لأحد أن يعدل عليه وكذلك لمن يدرس مفاصلها وطرق ربطها وعضلاتها وطرق تثبيتها وجلدها وما فيه من مستقبلات حسية وما عليها من بصمات وكذلك أعصابها وشرايينها وأوردتها وطرق تمديدها. وأما الذين يقومون بدراسة الطرق التي تقوم بها مراكز الحركة في الدماغ للتحكم بهذه اليد فإنهم يقفون عاجزين عن فهم أسرار البرامج المخزنة فيها والمسؤولة عن كل حركة من حركات اليد. لقد تم تصميم الأجزاء المختلفة لليد بحيث يمكنها القيام بوظائف عديدة ومعقدة وغاية في التباين بحيث يكاد يكون من المستحيل الجمع بينها في جهاز واحد. ويمكن للإنسان أن يتيقن  من هذه الحقيقة  باستعراض أصحاب المهن والهوايات المختلفة وهم يستخدمون أيديهم بطرق غاية في التباين كالعجان والخباز   والحلاق والنجار والحداد والدهان والغزال والحائك والطابع والكاتب والرسام والخطاط  والموسيقار  والملاكم والمصارع ولاعبي الكرةاليدوية  والحجار والبناء والنحات وغير ذلك من الحركات التي يقوم بها أي شخص لخدمة نفسه.
إن أول وأهم قدرات اليد هو إمكانية وصولها إلى أي موضع على سطح جسم الإنسان كالوصول إلى الفم لتمكينه من أكل طعامه وشرب شرابه والوصول إلى بقية الأعضاء لحكها أو لغسلها أو لعلاجها. واليد قادرة كذلك على سحب ودفع الأجسام وكذلك حملها على ظهره أو كتفه أو رأسه. وهي قادرة كذلك على قذف الأجسام كالحجارة مثلا لمسافات بعيدة وذلك لاصطياد الحيوانات والطيور أو للدفاع عن نفسه عند تعرضه للخطر. وهي قادرة على إمساك والتقاط مختلف الأجسام التي تتراوح في أحجامها من حبات الرمل وبذور النباتات إلى قطع الصخور وجذوع الأشجار. ولقد زود الله سبحانه وتعالى جلد رؤوس الأصابع بمستقبلات حسية من مختلف الأنواع وبكثافة عالية تمكن الإنسان من معرفة مختلف خصائص الأشياء التي تمسك بها من حيث الصلابة والليونة والخشونة والنعومة واليبوسة والرطوبة والسخونة والبرودة والثقل والخفة.


عظمات وعضلات ومفاصل وأربطة  اليد
تتكون اليد  البشرية من ثلاثة أجزاء رئيسية وهي العضد (arm) والساعد (forearm) والكف (hand) وتعد عظمتي الترقوة  ولوح الكتف  من عظام اليد وذلك لأن العضلات المحركة للذراع مثبتة  عليها.. فالعضد يتكون من عظمة واحدة تسمى عظمة العضد  (humerus) بينما يتكون الساعد من عظمتين تسميان الزند (ulna) والكعبرة (radius) ويتكون الكف مع مفصل الرسغ (wrist) من سبعة وعشرين عظمة. وقد تم تصميم كل عظمة من هذه العظام بطريقة بالغة الإتقان من حيث أبعادها وشكل أسطحها لكي يتم تثبيت مختلف أنواع العضلات عليها.   وترتبط هذه العظام مع بعضها البعض بسبعة عشر مفصلا من أنواع مختلفة تسمح في حركة هذه العظام إما في اتجاه واحد أو اتجاهين أو ثلاثة اتجاهات أو بشكل دوراني. ويتم تحريك عظام اليد حول مفاصلها من خلال عدد كبير من العضلات المثبتة على هذه العظام وعلى شكل طبقات بسبب كثرتها. ويتم التحكم بهذه العضلات باستخدام الأعصاب القادمة من مراكز الحركة في الدماغ أو من خلال العقد العصبية. ويتم تغذية عظام وعضلات اليد من خلال  الشرايين والأوردة والتي تم اختيار مساراتها وكذلك مسارات الأعصاب بشكل متقن بين عضلات ومفاصل لضمان عدم تعرضها للتلف أو القطع أثناء قيام اليد بحركاتها المختلفة.

وتتكون عظمات كف اليد والرسغ من ثلاث مجموعات وهي عظام الرسغ Carpal bones)) وعظام المشط metacarpal bones)) وعظام السلاميات Phalanges bones)). فعظمات الرسـغ تتكون من ثمانية عظمات صغيرة غير منتظمة الشكل وهي مرتبة في صفين فالصف العلوي يتكون من أربعة عظمات تتمفصل مع السطح السفلي لعظمتي الكعبرة والزند بينما تتمفصل عظمات الصف السفلي مع قواعد عظام مشط اليد الخمس. وتعمل عظمات الرسغ كمفصل إنزلاقي يسمح بحركة كف اليد بشكل عامودي أو أفقي ضمن نطاق زاوي محدد بالنسبة لمستوى  الساعد. أما مشط اليـد فيتكون من خمسة عظمات مستطيلة وهي أسطوانية الشكل لكل منها طرف كروي الشكل يسمي القاعدة  يتمفصل مع  عظمات الرسغ  والطرف الأخر كروي الشكل أيضا ولكنه  أصغر من القاعدة يسمي الرأس ويتمفصل مع ما يقابله من عظمات السلاميات الأولي. ويتصل بكل عظمة من عظمات المشط باستثناء مشط الإبهام ثلاثة عظمات تسمى السلاميات بينما يتصل بمشط الإبهام سلاميتين فقط.

ويتم التحكم بحركة أصابع اليد من خلال العضلات الموجودة في الساعد وفي كف اليد فعضلات الساعد (forearm) عددها تسعة عشر عضلة ثمانية منها تقع على الناحية الأمامية والأحد عشر الباقية تقع على الناحية الخلفية وهي مرتبة على ثلاث طبقات  السطحية والمتوسطة والعميقة. إن أكثر كثافة للعضلات موجودة على الساعد وذلك لكي تتمكن من تحريك كف اليد حول مفصل الرسغ وتحريك  أصابع اليد حول مفاصلها المختلفة. ويتجلى لنا في هذا التصميم حكمة الخالق سبحانه وتعالى حيث لم يضع  هذه العضلات في أصابع اليد لكي لا يكبر حجمها ولكي لا تعيق حركات اليد الرشيقة والدقيقة. وتتميز عضلات الساعد بوجود أوتار طويلة ورفيعة عند مغارزها تنقل حركاتها بكل كفاءة إلى أصابع اليد ولا يكاد الإنسان أن يحس بحركة هذه العضلات والأوتار  وهي تحرك أصابع اليد بمنتهى الرشاقة فسبحانه من خالق لطيف خبير. أما عضلات كف اليد فعددها ستة عشر عضلة صغيرة ووظيفنها  القيام بثني وتقريب وإبعاد بعض أصابع اليد.

                وتعتبر العضلات  المحركات التي تقوم بتحريك عظام اليد حول مفاصلها ويتم ذلك من خلال انقباض خلايا العضلات فيقصر طولها عن حالها وهي في حالة الانبساط. ولكي يتم تحريك إحدى عظمات اليد حول مفصلها فإنه يلزم تثبيت أحد طرفي العضلة المحركة له على العظم المقابل والطرف الآخر على العظم القابل للحركة حول المفصل. ويلزم لتحريك أي عظمة مفصلية في مستوى واحد عضلتان أحدهما تقوم بشد العظمة في الاتجاه المطلوب بينما تقوم الثانية بشده في الاتجاه المعاكس. ويتم تثبيت أطراف العضلات على العظام باستخدام الأوتار (Tendons) وهي عبارة عن ألياف دقيقة بيضاء اللون بالغة المتانة ولكنها ليست مرنة كالأربطة. وترتبط الأوتار بأطراف العضلات بعد أن يستدق  رأسها وهي تقوم مقام الأسلاك في الآلات الحديثة حيث تقوم بإيصال قوة شد العضلة إلى مسافات بعيدة كما هو الحال مع العضلات الموجودة على الساعد وتقوم بتحريك الأصابع من خلال الأوتار. ويتم تحريك مفصل الرسغ من خلال العضلات المثبتة على الساعد حيث يلزم أربع عضلات لتحريكه في مستويين. أما مفاصل أصابع اليد الأربعة عشر فيتم تحريكها من خلال  خمسة وثلاثين عضلة منها على  الساعد عشرين عضلة والبقية في الكف.

وتستخدم اليد ستة أنواع مختلفة من المفاصل ففي مفصل الكتف الذي يربط عظمة العضد بعظمة لوح الكتف يستخدم المفصل الكروي الحقي    (Ball and socket joint) وهو  يسمح  بحركة عظمة العضد في جميع الاتجاهات مع إمكانية تدويرها مما يمكن الشخص من تحريك ذراعه إلى الأمام والخلف والأعلى والأسفل والجوانب. أما الكوع فيتكون من مفصلين أولهما من النوع المسمى بالمفصل الرزي (Hinge joint)  وهو يربط عظمة العضد مع عظمة الزند ويسمح بحركة الساعد في مستوى واحد فقط حيث يتم مد الساعد أو ثنيه بالنسبة للعضد. وأما المفصل الآخر في الكوع فهو من النوع المسمى المفصل المداري (Pivot joint) وهو يسمح بحركة عظمة الكعبرة بشكل دوراني حول عظمة الزند مما يمكن تدوير كف اليد بمقدار 180 درجة. أما مفصل الرسغ فهو من أعقد المفاصل تركيبا وهو يربط ما بين عظمتي الساعد مع عظام  الأمشاط للأصابع الخمس وهو من النوع المنزلق (gliding joint) ويتكون من ثماني عظمات صغيرة مرتبة في صفين وتسمح بتحريك كف اليد في مستويين متعامدين وتحريك الإبهام في مستويين متعامدين كذلك. وأما مفاصل الأصابع فهي من نوعين النوع الأول يسمى المفصل السرجي (saddle joints)  والثاني يسمى المفصل اللقمي (condyloid joints) وهي تسمح بحركة الأصابع في مستوى واحد كالثني والمد مع إمكانية فرد الأصابع عن بعضها البعض.

 ويغطي سطوح العظام المتلامسة عند المفاصل غضاريف  (Articular Cartilage) تسمى الغضاريف الزجاجية (Hyaline Cartilage) وهي شبه شفافة بيضاء اللون تميل للزرقة وذات لمعان ومكونة  من عدة طبقات من شبكات معقدة من الألياف المختلفة والتي أهمها ألياف الكولاجين.  ولهذه الغضاريف خصائص عجيبة لا يجمع بينها إلا مصمم لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه فسطحها في غاية الملاسة لكي تسمح بحركة العظام بأقل احتكاك ممكن وهي عالية المرونة أي أنها قابل للإنضغاط وذلك لكي تقوم بامتصاص الصدمات المتكررة التي تتعرض لها مفاصل اليد  وهي في غاية المتانة رغم أنها طبقة رقيقة لا تتجاوز عدة ملليمترات ولذلك فإنها تتحمل ضغوط ميكانيكية عالية دون أن تتمزق وهي تخلو من الشرايين والأعصاب ويتم تغذية خلاياها من السائل المحيط بها من خلال الانتشار. ومن لطف الله عز وجل بالإنسان وبقية مخلوقاته أن هذه الطبقة الغضروفية يمكن أن تصلح نفسها إذا ما أصابها أي عطب نتيجة الاستخدام المتواصل لليد على مدى عمر الإنسان.   


إن  الغضاريف مهما بلغت نعومة سطحها لا يمكنها منع الاحتكاك تماما ولذا فقد أبدع الله سبحانه وتعالى طريقة مكملة للتقليل من الاحتكاك وهي استخدام سائل لتزييت سطوح هذه الغضاريف يطلق عليه  اسم السائل المصلي أو الزلالي (Synovial fluid). ويكون هذا السائل طبقة بالغة الرقة على سطح الغضروف لا تتجاوز 50 ميكرومتر تقوم إلى جانب تزييت المفصل بتوفير الغذاء والأكسجين للغضروف الذي يخلو كما أسلفنا من الشرايين. وللحفاظ على هذا السائل الثمين يتم إحاطة كامل المفصل بألياف قوية بيضاء اللون محكمة الإغلاق لتكون ما يسمى بحافظة أو كبسولة المفصل (joint capsule). ويبطن ألياف المحفظة الغشاء المصلي (Synovial membrane)  الذي يتكون من خلايا طلائية إفرازية  تفرز السائل المصلي الذي يغطي جميع أجزاء العظام في داخل المحفظة. كما تقوم الحافظة إلى جانب الحفاظ على السائل المصلي بربط عظام المفصل ببعضها إلى جانب الأربطة والعضلات لضمان قوة المفاصل والحيلولة دون خلعها.  
ويتجلى الإبداع في تصميم اليد في الطرق المستخدمة في ربط عظام المفاصل ببعضها البعض في غياب البراغي والصواميل التي يستخدمها البشر لربط الأجزاء المتحركة في آلاتهم ومعداتهم. وتوجد ثلاثة مستويات من الربط في المفاصل أولها ألياف المحفظة حيث يتم تثبيت أطراف الألياف على كامل محيط كل من العظميين المكونين للمفصل. أما المستوى الثاني فهو باستخدام الأربطة الليفية (fibrous ligaments) وهي عبارة عن حزم منفصلة من النسيج الليفي تثبت أطرافها على عظمتي المفصل خارج المحفظة. وتختلف الأربطة عن ألياف المحفظة بأنها موضوعة في أماكن محددة حول المفصل وبأطوال محسوبة بدقة بالغة  حيث تعمل هذه الأربطة إلى جانب وظيفة الربط  على تحديد حركة المفاصل في الاتجاهات المختلفة. فهذه الأربطة لا تسمح لعظام المفصل بالحركة إلا في الاتجاهات المحددة لها وكذلك ضمن المدى المسموح به وتمنع تجاوزها الحد الأعلى لزاوية حركتها. وتتميز ألياف الأربطة بمتانتها العالية وبوجود درجة من المرونة تسمح بزيادة طولها قليلا عن الحد المسموح به وذلك لكي لا تنقطع في حالة تعرض المفصل لضغط خارجي. 


التحكم بحركات اليد
 على الرغم من التعقيد البالغ لتركيب اليد إلا أن هذا التعقيد لا يكاد يذكر مع التعقيد الموجود في الطرق المستخدمة للتحكم بحركة اليد من خلال تحريك عضلاتها المختلفة. فلكي تتمكن العضلة من تحريك العظمة ضمن المدى المسموح به فإن يلزم تصميمها بحيث يمكنها أن تتقلص بأطوال مختلفة. وقد تم ذلك بطريقة بارعة من خلال تقسيم ألياف العضلة إلى مجموعات يطلق عليها اسم وحدة التحريك (Motor Unit) كل مجموعة تحتوي على عدد من الألياف ويتم  التحكم بكل مجموعة بليف عصبي واحد يتفرع ليتصل بكل ألياف المجموعة وعندما يرسل العصبون الخاص بها بنبضاته إلى الوحدة فإن جميع أليافها تتقلص بنفس الوقت وبنفس المقدار. وبما أن العضلة تتكون من آلاف الوحدات فإنه يمكن تفليص كامل العضلة بالطول المطلوب من خلال إرسال نبضات تحكم لعدد محدد من الوحدات يتناسب مع الطول المطلوب.

ويتم التحكم بعضلات اليد من خلال الأعصاب الموجودة في خمسة جذور (Roots) تتفرع من الحبل الشوكي أربعة منها تخرج من بين فقرات العنق الأخيرة والخامس من الفقرة الصدرية الأولى. ويتم إعادة ترتيب الألياف ألعصبية الموجودة هذه الجذور الخمسة في المشبك (brachial plexus) لتخرج في ثلاث حزم تسمى الجذوع (Trunks) وينقسم كل جذع إلى قسمين (Division) لتعود لتتحد مع بقية الأقسام بعد أن تسير مسافة قصيرة لتخرج على شكل ثلاث حزم تسمى الحبال (Cords) والتي تبدأ بالتفرع تدريجيا لترتبط بمختلف عضلات اليد. إن عملية إعادة ترتيب الألياف العصبية في المشبك عملية بالغة التعقيد لا يمكن للبشر مهما بلغت إمكانياتهم أن يقوموا بها. فكل جذر من الجذور الخمس يحتوي على مئات الآلاف من الألياف العصبية بعضها حسية وبعضها حركية ويجب أن يذهب كل ليف من هذه الألياف إلى مكان محدد في اليد ولهذا يلزم تجميع الألياف الذاهبة إلى منطقة معينة في اليد مع بعضها ولفها في حبل واحد لإيصالها بطريقة آمنة إلى المنطقة المعنية لتبدأ بالتفرع إلى أماكنها في تلك المنطقة.


وتقع المراكز العصبية المسؤولة عن الحركات الإرادية في الجزء الخلفي من فص المخ الأمامي وهي تحتل مساحة أكبر بكثير  في القشرة المخية من تلك التي لبقية الحيوانات . وقد جاءت هذه الزيادة لتلبي القدرات الحركية الهائلة لكل من يدي الإنسان ولسانه وشفتيه فاليدان هما آلة العمل والكتابة واللسان والشفتان هما آلة الكلام وهاتان القدرتان إلى جانب القدرة العقلية هي ما ميز الله سبحانه وتعالى الإنسان على غيره من الكائنات الحية.إن اليد بذراعها وبأصابعها الخمس تحتل مساحة كبيرة من المساحة الكلية المخصصة للحركات الإرادية في الجسم. ولا يدرك أكثر الناس حجم العمليات والمعالجات التي تجري في مراكز الحركة في الدماغ وكذلك كمية المعلومات الذاهبة والقادمة بين اليد والدماغ عند القيام بتحريك اليد لأداء مهمة معينة مهما بلغت بساطتها.  فمعظم الناس يعتقد أن جميع خطوات عملية تحريك أيديهم وأرجلهم وألسنتهم إنما تتم بشكل كامل تحت سيطرتهم وهي ليست كذلك أبدا حيث أن جميع الخطوات تتم بشكل غير إرادي ما عدا الخطوة الأولى وهي خطوة تحديد نوع الحركة ووقت ابتدائها. فعندما ينوي الشخص تحريك يده في وضعية ما فإن هنالك برنامجا ضخما مخزن في مركز الحركة الرئيسي والمراكز المساعدة له يلزم تشغيله ليحدد سلسلة النبضات العصبية التي يجب أن ترسل لمختلف عضلات اليد وبتزامن منقطع النظير. فعندما ينوي الشخص الإمساك بكوب من الماء ليشرب منه فإن يلزم تحريك جميع عضلات اليد لنقلها من وضعها التي كانت فيه إلى موضع الكوب فتقوم بالإمساك به ثم نقله إلى فمه. وخلال هذه الفترة الزمنية يتم إرسال مئات الملايين  من الإشارات العصبية من الدماغ لعضلات اليد ومن عضلات اليد إلى الدماغ تحدد العضلات المراد تحريكها ومقدار شدها في كل لحظة زمنية. وكيف يمكن للإنسان أن يعطي سلسلة الأوامر لتحريك يده وهو يجهل أصلا تركيب يده وكم فيها من عضلات ومفاصل وألياف عصبية وغير ذلك وحتى لو علم ذلك فإنه لا حول له ولا قوة في فعل ذلك. ويتضح ذلك جليا إذا ما أصاب أعصاب اليد أي خلل أو قطع فالشخص المصاب يعطي الأوامر لدماغه لتحريك يده ولكن اليد لا تستجيب أبدا لعدم وصول الإشارات من الدماغ إلى عضلات اليد.


 إن عملية تحريك اليد للقيام بمهمة معينة  لا تتم فقط من خلال إرسال الإشارات الكهربائية من الدماغ إلى عضلات اليد بل تحتاج لتغذية راجعة من اليد إلى الدماغ تحدد وضعية المفاصل المختلفة ومقدار شد العضلات في كل لحظة زمنية.  ويتم ذلك من خلال استخدام عدد كبير من المستقبلات الحسية (sensory receptors) التي يتم زرعها في داخل المفاصل والعضلات والأربطة والأوتار  والتي تقوم بإرسال إشارات كهربائية إلى الدماغ أو الحبل الشوكي تحدد وضع كل من هذه المكونات في كل لحظة زمنية. والمستقبلات الحسية المصممة خصيصا للقيام بهذه المهمة هي من نوع المستقبلات الميكانيكية (mechanoreceptors)  والتي تستجيب لحركات العضلات والمفاصل والتي توجد بأشكال مختلفة حسب نوع المكون الموجودة فيه كالمغزل العضلي (muscle spindle) الموجود في العضلات و (Golgi tendon organ) الموجود في الأوتار. ويعتبر المغزل العضلي  من أشهر المستقبلات الميكانيكية المستخدمة في اليد والذي يتم زرعه في بطن العضلة من خلال لفه عدة لفات حول بعض الألياف العضلية الداخلية.
وبهذه الطريقة يمكن لمركز الحركة في الدماغ تحريك اليد بحرية تامة في جميع الاتجاهات ليقوم بمهام لا حصر لها.  فمفصل الكتف يسمح  بتحريك عضد اليد في مستويين متعامدين وبزاويتين كبيرتين قد تصلان إلى 180 درجة مما يجعلها قادرة للوصول إلى أي مكان على الجسم. أما مفصل الكوع فيسمح بحركة ساعد اليد في مستوى واحد   على امتداد العضد ويمكن ثنيه باتجاه العضد بزاوية تصل إلى 145 درجة هذا إلى جانب إمكانية تدويره بزاوية قد تصل إلى  180 درجة مما يساعد على قلب كف اليد من اتجاه إلى الاتجاه المعاكس . أما مفصل الرسغ فيسمح بحركة كف اليد في مستويين  متعامدين حيث يمكن تحريك الكف يمينا وشمالا بزاوية تبلغ  50 درجة وإلى الأعلى والأسفل بزاوية تبلغ 120 درجة.  وتتميز كف اليد البشرية بكبر مساحة باطنها مما مكنها من الإمساك بأجسام أكبر حجما. ويبلغ عدد الأصابع فيها خمسة أصابع بثلاثة مفاصل لأربعة منها ومفصلين للإبهام وقد تم وضع الأربعة في مستوى واحد بينما وضع الإصبع الخامس وهو الإبهام في وضع يمكنه فيه مواجه بقية الأصابع.  ويمكن تحريك الأصابع الأربعة المتجاورة في مستوى واحد من خلال ثني كل من سلامياتها الثلاث بزاوية تصل إلى 90 درجة مما يمكن كف اليد من الإمساك بالأشياء بشكل بالغ السهولة. ويمكن كذلك إبعاد أو فرد هذه الأصابع الأربعة عن بعضها مما يزيد من مساحة سطحها وتمكينها من التعامل مع الأجسام الكبيرة.

أما إصبع الإبهام فيعتبر اللاعب الأكبر في تحديد مهارات اليد فبدونه تصبح اليد البشرية مشابهة لأيدي القرود في قدراتها. ويتميز الإبهام على بقية أصابع اليد بأنه موضوع في مواجهة بقية الأصابع بحيث يمكنه ملامسة أي جزئ من هذه الأصابع سواء من الداخل أو من الخارج. وعلى خلاف أمشاط الأصابع الأربع التي تتحرك مجتمعة فإن مشط الإبهام يتحرك لوحده من مفصل الرسغ في مستويين اثنين متعامدين. فالمستوى الأول هو مستوى الكف حيث يمكن للإبهام أن يكون بموازاة الأصابع الأربع أو يبتعد عنها بزاوية قد تصل إلى تسعين درجة. أما المستوى الثاني فهو عامودي على مستوى الكف حيث يمكن للإبهام عمل زاوية قائمة مع هذا المستوى.  وعلى الرغم من أن الإبهام له سلاميتان بخلاف الأصابع الأخرى التي لها ثلاث سلاميات إلا أن التحكم بحركة هاتان السلاميتان أكثر دقة من التحكم ببقية السلاميات.



المستقبلات الحسية في أصابع اليد
تعتبر حاسة اللمس (touch sense) لدى الإنسان من أكثر  الحواس الخمس تعقيدا حيث يتوجب على هذه الحاسة إبلاغ الدماغ عن أي شيء يلامس جلد الإنسان وتحديد طبيعة هذا الشيء. وهذا يتطلب زرع حساسات  (Sensors) مختلفة الأنواع على مسافات متقاربة على جميع أنحاء الجسم بحيث يمكن للإنسان تحديد الموضع الذي تمت عنده الملامسة بدقة عالية. إن هذه الحاسة تعتبر معجزة من معجزات الخلق فزراعة ما يقرب من خمسة ملايين مستقبل حسي في جلد لا يتجاوز سمكه الخمسة ملليمترات ولا تتجاوز مساحته المترين معجزة علمية تجعل العلماء والمهندسون يحنون رؤوسهم إجلالا لمن صنع هذا الجلد. إن التعقيد الموجود في ملايين الخلايا الحسية المزروعة في الجلد وملايين الأعصاب التي تنقل النبضات الحسية إلى الدماغ لا يكاد يذكر مع التعقيد الموجود في مراكز الإحساس والبرامج المخزنة فيها. ويستخدم الإنسان حاسة اللمس كغيره من الكائنات الحية للتعرف على درجة حرارة الجو المحيط بجسمه لكي يتخذ التدابير اللازمة لحماية جسمه من الحرارة أو البرودة الزائدة وكذلك التعرف على الأشياء التي تلامس أو تضغط على جسمه لكي يتخذ الإجراءات المناسبة. ويتميز الإنسان على بقية الكائنات الحية باستخدامه لحاسة اللمس للتعرف على خصائص الأجسام الملموسة كالصلابة والليونة والخشونة والنعومة والطراوة والقساوة والرطوبة والجفاف وخاصة من خلال خلايا الحس الموجودة في أصابع اليد. وتقع حاسة اللمس الابتدائية في مقدمة الفص الأوسط من القشرة المخية بينما تقع وحدات المعالجة الحسية خلفها على نفس الفص وتحتل أعصاب أصابع اليد والشفتان والوجه واللسان   أكبر مساحة من المساحة الكلية لحاسة اللمس.



ويوجد ستة أنواع من المستقبلات الحسية تقع على أعماق مختلفة في آدمة الجلد وتستجيب لأنواع مختلفة من المؤثرات. وقد صنف العلماء هذه المستقبلات إلى ثلاثة أنواع رئيسية وهي المستقبلات الحرارية (Thermoreceptors) وتستجيب للتغيرات في الحرارة والبرودة والمستقبلات الميكانيكية (Mechanoreceptor) وتستجيب لللمس الخفيف والضغط القوي والاهتزازات وحركة الشعر  ومستقبلات الألم (Nociceptor) وتستجيب لأي ضرر قد يصيب الجلد. وعند دراسة تركيب هذه  المستقبلات الحسية يتجلى للدارس مدى علم الله وقدرته في تصميمها بل إن المطلع على ما يصنعه البشر اليوم من حساسات (sensors) لاستخدامها في التطبيقات المختلفة يجد الفارق الكبير بين صنع البشر وصنع خالق البشر وصدق الله العظيم القائل "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)" النمل. إن حساسية هذه المستقبلات لا يضاهيها حساسية أي حساس صنعه البشر فالإنسان يستطيع أن يحس بحشرة قد لا ترى بالعين المجردة عندما تحط على يده بل إنها من شدة حساسيتها يمكنه أن يحس بالأشياء التي تلامس ملابسه  فينتقل هذا اللمس الخفيف للملابس ومن ثم للجلد ومن ثم للحساسات المزروعة فيه. لقد  أشار القرآن الكريم إلى حقيقة أن الجلد هو جهاز الإحساس الرئيسي في جسم الإنسان فقال عز من قائل "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)" النساء.



إن أبسط المستقبلات الحسية هي مستقبلات الألم (pain) وهي عبارة عن نهايات عصبية حرة ومعراه (free nerve ending) موجودة في طبقة البشرة قريبا من سطح الجلد وتستجيب لأي تخريب أو ضرر قد يحصل في الجلد ويقدر عددها في الجلد وبقية أجزاء الجسم الداخلية  بثلاثة ملايين نهاية عصبية. وأما مستقبلات الحرارة فتسمى حويصلات رافيني (corpuscules of Ruffini) وهي عبارة عن شبكة من النهايات العصبية في داخل حويصلة مغزلية الشكل بطول ملليمتر واحد وتقع في منتصف الأدمة ويبلغ  عددها ستة عشر ألف مستقبل موزعة على جميع أنحاء الجسم مع زيادة في التركيز في رؤوس الأصابع والأنف والشفاه والجبهة وتوجد أعلى كثافة لها في رؤوس أصابع اليد حيث تبلغ 75 مستقبل في السنتيمتر المربع الواحد. وتستجيب هذه المستقبلات للزيادة في درجة الحرارة وليس لقيمتها المطلقة وتبلغ أعلى استجابة لها عند 40 درجة مئوية. وأما مستقبلات البرودة أو فقدان الحرارة فتسمى كريات كراوس (Bulbs of Krause) وهي أيضا عبارة عن لفيفة من النهايات العصبية المعراه موجودة داخل غشاء كروي وتقع على عمق 0.5 ملليمتر من سطح الجلد ويبلغ عددها مائة وخمسين ألفا موزعة على جميع أنحاء الجسم مع زيادة في التركيز في رؤوس الأصابع والأنف. وتستجيب هذه المستقبلات للنقصان في درجة الحرارة وليس لقيمتها المطلقة وتبلغ أعلى استجابة لها عند 20 درجة مئوية.


أما مستقبلات اللمس والضغط الخفيف فيوجد منها نوعان وهي أقراص ميركل وحويصلات ميسنر (  Merkel disks & Meissner’s corpuscles). فأقراص ميركل عبارة عن خلايا متخصصة  تسمى خلايا ميركل  مرتبطة بنهايات عصبية وموجودة في الطبقة القاعدية من البشرة أي قريبة من سطح الجلد وتوجد أعلى كثافة لها في رؤوس أصابع اليد حيث تبلغ 750 مستقبل في السنتيمتر المربع الواحد. وهذه المستقبلات بالغة الحساسية لأي شيء يلامس الجلد لأول مرة ثم تقل حساسيتها لوجوده مع مرور الوقت ولذلك نجد أن الجلد يألف الملابس ولا يرسل أي إشارات للدماغ عنها. أما حويصلات ميسنر فهي أكثر تعقيدا في تركيبها من أقراص ميركل وتقع أسفل منها في طبقة الأدمة وتستجيب للضغط الخفيف وللاهتزازات ذات الترددات المنخفضة التي تقل عن 50 هيرتز وتوجد أعلى كثافة لها في رؤوس أصابع اليد حيث تبلغ 1500 مستقبل في السنتيمتر المربع الواحد.  أما مستقبلات حركة الشعر (Hair Follicle Receptors) فهي عبارة عن نهايات عصبية ملفوفة حول جذر الشعرة وتحس بأدنى تحرك للشعرة من أي مؤثر خارجي ويقدر عددها بعدة ملايين أي بعدد شعر الجسم. أما مستقبلات الضغط القوي والاهتزازات  فتسمى حويصلات باسينيان (Pacinian corpuscles) وهي أبعد المستقبلات عن سطح الجلد في أسفل الأدمة وأكبرها حجما وأكثرها تعقيدا في التركيب ويقدر عددها بثلاثين ألف مستقبل وتوجد أعلى كثافة لها في رؤوس أصابع اليد حيث تبلغ 75  مستقبل في السنتيمتر المربع الواحد. ويشبه تركيب هذه المستقبلات تركيب البصلة فهي مكونة من طبقات كثيرة قد يصل عددها إلى العشرين طبقة يملأ بينها مادة سائلة وتوجد الألياف العصبية في لب هذا المستقبل. وتستجيب هذه المستقبلات لأي ضغط أو شد يقع على الجلد وخاصة الضغط القوي وكذلك تستجيب للاهتزازات الميكانيكية ذات الترددات العالية والتي تصل إلى 300 هيرتز.  

بصمات أصابع اليد
يتميز جلد باطن اليد وكذلك القدم عن بقية جلد الإنسان بوجود تجعدات أو بروزات دقيقة (ridges) تظهر على شكل خطوط متعرجة ترسم أشكالا عجيبة لا حصر لعددها على سطح الجلد. وتقوم هذه البروزات بوظائف عديدة أهمها زيادة الاحتكاك بين الجلد وسطوح الأشياء التي تمسك بها اليد أو تمشي عليها القدم فيزداد ثباتها. أما الوظيفة الثانية فهي أنها تزيد من حساسية حاسة اللمس ولذا نجد أن هذه البروزات تزداد بشكل كبير في رؤوس الأصابع. فعند تحريك الأصابع على أسطح الأشياء فإن هذه البروزات تهتز  بتردد يعتمد على خشونة السطح ويتم إلتقاط هذه الترددات من قبل المستقبلات الحسية تحت الجلد ويرسلها للدماغ لتحديد طبيعة السطح.  وتكون هذه التجعدات ثلاثة ثلاثة أنواع من الأشكال الرئيسية وهي الأقواس (arches) والأنشوطات  (loops) والدوامات (whorls). فالأقواس يدخل الخط فيها من أحد الجوانب ويرسم قوسا بأبعاد معينة في منتصف المنطقة ثم يخرج من الجانب الآخر. أما الأنشوطات فيدخل الخط من أحد الجوانب ثم يرسم أنشوطة بشكل مائل في منتصف المنطقة ثم يخرج من نفس الجانب الذي دخل منه. وأما الدوامات فيدخل الخط فيها من أحد الجوانب ثم يرسم عدة دوائر حلزونية ثم ينتهي الخط في مركز الحلزون دون أن يخرج منها. ولكل نوع من هذا الأنواع الرئيسية يوجد أنواع فرعية تحدد أشكال وأبعاد الأقواس  والأنشوطات  والدوامات.



وقد وجد العلماء أن الأشكال التي ترسمها هذه البروزات على رؤوس أصابع اليد لا يمكن أن تتطابق بين أي شخصين في العالم حتى لو كانا توأمين من نفس البويضة  ولذلك تم استخدامها كوسيلة للتعرف على الأشخاص بما يسمى التعرف ببصمة اليد (Fingerprint identification).  ويعود السبب في استحالة  تطابق البصمات  بين الأشخاص هو أنه يتم تحديد أشكالها من خلال آليتين أولها من خلال الجينات والتي تحدد الشكل العام  لهذه البروزات أما الأخرى فهي طبيعة البيئة التي يتعر ض لها الطفل في شهوره الأولى في الرحم وهي التي تعطي بعض العشوائية (randomness) لأشكال الخطوط لهذه البروزات. ولهذا السبب نجد أن التوائم رغم أنهم يتطابقون في جيناتهم والتي ترسم الشكل العام للبصمة إلا أنه يستحيل أن يتعرضوا تماما لنفس الظروف وهم في داخل الرحم فلذلك وجد اختلاف في بصماتهم.  وفي العصر الحديث تم استخدام بصمات اليد لكشف مرتكبي الجرائم إذا ما تركوا آثار بصماتهم على أسطح الأشياء التي لمسوها أثناء ارتكاب الجريمة.  ومع انتشار   الأجهزة الإلكترونية الحديثة القادرة على تحليل البصمات والتعرف على هوية أصحابها ظهرت استخدامات كثيرة لهذه البصمات كما في المعاملات البنكية والعقارية وغيرها.  


أظافر اليد
الأظافر  (nails) هي مادة مرنة وشبه شفافة مكونة من مادة الكراتين (Keratin) تغطي الجهة الخلفية من مقدمة أصابع اليد وكذلك الرجل. وتنمو  هذه الأظافر  من شبكة مشيمية (germinal matrix) تقع تحت الجلد في المنطقة الخلفية للظفر  حيث تقوم خلايا الظفر  الجديدة بدفع الخلايا القديمة إلى الأمام مكونة صفيحة الظفر . وتقوم الأظافر   إلى جانب الناحية الجمالية التي تعطيها لليد بوظائف عديدة ظاهرة يعرفها جميع الناس كحماية رؤوس الأصابع وحك الجلد والشعر  والإمساك بالأشياء الدقيقة وتقشير   القشور ونزع الأشواك وكوسيلة للدفاع عن نفسه وغيرها.  أما الوظائف الخفية التي يجهلها كثير من الناس فهي أن حاسة اللمس في الأصابع تزداد بشكل كبير بوجود هذه الأظافر  حيث تعمل كدعامة للأصابع عند الضغط على الأشياء الملموسة.  وكذلك وجد العلماء أن دقة حركة ورشاقة رؤوس الأصابع تزداد بوجود هذه الأظافر   لأنها تعطيها بعض الصلابة وتمنعها من الترهل.  وقد استفاد الأطباء من حالة مادة الأظافر  وحالة ما تحتها من الطبقات التي قد ترى من وراء الظفر لكشف بعض الأمراض وحالة الجسم بشكل عام.  


   


                 

               


2017-08-03

الترانزستورات واستخداماتها

الترانزستورات واستخداماتها
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية



                إن التقدم المذهل الذي تشهده البشرية اليوم في جميع المجالات  التقنية والمعرفية لم يكن ليتحقق لولا ظهور علم الإلكترونيات في مطلع القرن العشرين.  ففي نفس العام الذي كان يعمل فيه الأخوان رايت على تصنيع أول طائرة في تاريخ البشرية وهو عام 1904م كان عالم الفيزياء الإنجليزي فليمنغ يعمل في مختبره المتواضع على تصنيع أنبوب زجاجي مفرغ من الهواء بحجم الإصبع يحتوي عند طرفيه قطبين معدنيين بحيث يسمح للتيار بالمرور في اتجاه واحد فقط.  لقد كان الأثر الذي تركه أنبوب فليمنغ على رفاهية البشر في هذا العصر لا يقل أهمية إن لم يزد عن الأثر الذي تركته طائرة الأخوين رايت.  فبفضل هذا الأنبوب المفرغ وما تبعه من إنجازات في مجال الإلكترونيات  تمكن البشر من التحدث مع بعضهم البعض عبر الهواتف السلكية واللاسلكية رغم تباعد المسافات بينهم ومتابعة كل ما يجري في هذا العالم من أخبار وأحداث من خلال سماع ومشاهدة البث الإذاعي والتلفزيوني الذي ينطلق من آلاف المحطات الموجودة على سطح الأرض أو معلقة في جو السماء.  وتمكنوا كذلك من تصنيع الحواسيب التي أحدثت ثورة المعلومات والإنترنت التي لا تقل أهمية عن الثورة الصناعية التي أحدثها اختراع الآلة البخارية.

                وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبته الصمامات الإلكترونية في تقدم أنظمة الاتصالات والحواسيب والقياس والتحكم إلا أن الثورة التي نشهدها اليوم في مختلف المجالات لم تكن لتتحقق لولا اختراع الترانزستور في عام 1947م.  فقد أدى استخدام الترانزستور الذي يتميز على الصمام الإلكتروني بصغر حجمه وبقلة استهلاكه للطاقة الكهربائية وبصلادته إلى تقليص كبير في أحجام الأجهزة والمعدات الإلكترونية وقد تمكن المهندسون من تصنيع أنظمة لم يكن بالإمكان تصنيعها باستخدام الصمامات الإلكترونية كالتلفزيونات الملونة والحواسيب والهواتف الخلوية وأنظمة الأقمار الصناعية. وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبه الترانزستور في تقليص أحجام الأجهزة الإلكترونية إلا أن أسلاك التوصيل بين الترانزستورات وبقية القطع الإلكترونية المكونة للدائرة الإلكترونية أصبحت عائقا يحول دون  تصنيع أجهزة إلكترونية متطورة وصغيرة الحجم تحتوي على أعداد كبيرة من الترانزستورات كما هو الحال في الحواسيب والتلفزيونات الملونة والهواتف المتنقلة. ولقد تم التغلب على هذه المشكلة بعد أن تمكن المهندسون في نهاية الخمسينات من تصنيع أكثر  من ترانزستور مع يلزمها من مقاومات ومكثفات على سطح رقاقة صغيرة من السيلكون وتم توصيل المكونات فيها بشرائط معدنية رقيقة يتم ترسيبها على سطح الرقاقة بما يسمى الدائرة المتكاملة. وفي عام 1961م  تنبأ أحد العاملين في مجال تطوير الدوائر المتكاملة وهو المهندس مور مؤسس شركة إنتل التي تعتبر من أكبر شركات إنتاج الدوائر المتكاملة في الولايات المتحدة الأمريكية بأن عدد الترانزستورات على الرقاقة الواحدة  سيتضاعف كل ثمانية عشر شهرا. ولقد صدقت توقعاته إلى حد كبير حيث تضاعف عدد الترانزستورات على الرقاقة الواحدة من عشرة ترانزستورات في بداية الستينات إلى ما يزيد عن عشرة ملايين ترانزستور مع نهاية القرن العشرين.

                إن الوظيفة الأساسية للترانزستور وكذلك سلفه الصمام الإلكتروني هو في إمكانية التحكم بالتيار المار بين طرفين من أطرافه من خلال  تيار أو جهد صغير يتم تسليطه على الطرف الثالث. إن هذه الوظيفة البسيطة قد تم استغلالها للقيام بوظائف أكثر تعقيدا وبني على أساسها أجهزة ومعدات بالغة التعقيد تلعب دورا بالغ الأهمية في حياة الناس كأنظمة الاتصالات المختلفة وأنظمة البث الإذاعي والتلفزيوني والحواسيب وشبكات المعلومات وأنظمة التحكم والقياس وفي الأجهزة الطبية وغيرها الكثير. فبدون الترانزستور لا يمكن لجميع هذه الأجهزة والأنظمة أن تعمل بالشكل التي هي عليه ولهذا فقد عد العلماء اختراع الترانزستور كأعظم اختراع في القرن العشرين ولذلك نال مخترعيه في عام 1956م جائزة نوبل تقديرا لجهودهم وتأكيدا على أهمية هذا الاختراع وذلك حتى قبل أن تظهر التطبيقات التي بنيت على أساسه. ولا يوجد حتى الآن أي عنصر إلكتروني يمكنه أن يحل محل الترانزستور في صناعة الإلكترونيات على الرغم من البحث المتواصل لإيجاد بديل عنه. وعلى الرغم من أن اختراع الترانزستور يعد أعظم اختراع في القرن العشرين إلا أن اختراع البطارية وكذلك المولد الكهربائي  في مطلع القرن التاسع عشر يفوق اختراع الترانزستور عظمة فالترانزستور لا يمكنه أن يعمل إلا بوجود الكهرباء.  وتجري الآن أبحاث في مجال الإلكترونيات الضوئية يعمل  الباحثون من خلالها على دراسة إمكانية تصنيع ترانزستور ضوئي يكون الضوء هو الحامل للإشارات  بدلا من الإلكترونات مما يعني رفع سرعة معالجة المعلومات بشكل كبير وذلك لأن سرعة انتقال الضوء أعلى منها بكثير من سرعة الإلكترونات.





الصمامات الإلكترونية ( Electronic Valves)
                لقد تم اختراع أول عنصر فعال في عالم الإلكترونيات وهو الصمام الثنائي (diode) على يد عالم الفيزياء الإنجليزي جون فليمنغ (John Ambrose Fleming) وذلك في عام 1904م. ويتكون الصمام من أنبوب زجاجي مفرغ (vacuum tubes) من الهواء يوجد في داخله عند طرفيه قطبين كهربائيين يسمى أحدهما المهبط (cathode) والآخر المصعد (anode)  ويوجد تحت المهبط دائرة تسخين كهربائية تعمل على تسخين المادة المعدنية التي يصنع منها المهبط والتي تطلق سيل من الإلكترونات الحرة عند تسخينها. وعند تسليط جهد موجب على المصعد يقوم بجذب الإلكترونات المنبعثة من المهبط مما يؤدي إلى سريان تيار كهربائي  في الدائرة الكهربائية الخارجية للصمام  أما عند تسليط جهد سالب على المصعد  فإن سريان التيار يتوقف على الفور  أي أن هذا العنصر الإلكتروني يسمح بمرور التيار باتجاه واحد فقط ويمنع مروره في الاتجاه المعاكس.  ولذلك فقد كان أول استخدام عملي لهذا العنصر البسيط في دوائر التقويم ودوائر الكشف. أما الاختراع الأكثر أهمية في عالم الإلكترونيات فقد تحقق على يد المهندس الكهربائي والمخترع الأمريكي لي دي فورست (Lee De Forest) وذلك في عام 1906م عندما تمكن من إضافة  شبكة معدنية تقع بين المهبط والمصعد ليحول بذلك الصمام الثنائي إلى صمام بثلاثة أقطاب (triode) وقد أطلق اسم الشبكة (Grid) على هذا القطب الثالث. وتكمن أهمية الشبكة بقدرتها على التحكم بقيمة التيار العالي نسبيا  الذي يسري بين المهبط والمصعد وذلك من خلال تسليط قيم صغيرة من الجهد الكهربائي عليها. ولقد تم تطوير الصمام الثلاثي لتحسين أدائه من خلال إضافة عدد من الشبكات يستخدم بعضها لمنع التذبذب الداخلي في المضخمات وبعضها لبناء دوائر المزج (mixers) فظهرت بذلك الصمامات الرباعية (tetrodes) والخماسية (pentodes).



                 ومع اختراع الصمام الثلاثي أصبح بالإمكان بناء أهم دائرتين كهربائيتين  كان مهندسو الاتصالات في أمس الحاجة إليهما  لتطوير قدرات أنظمة الاتصالات وهما دائرة التذبذب ( المذبذب) ودائرة التضخيم ( المضخم). فالمذبذب يقوم بتوليد إشارات كهربائية ذات ترددات مختلفة وذلك من خلال تحويل التيار الثابت إلى تيار متردد حيث يتم التحكم بقيمة التردد باستخدام عناصر غير فعالة كالمحثات والمكثفات والمقاومات في الدائرة الخارجية للصمام الثلاثي.  أما المضخم فيقوم بتضخيم الإشارات الكهربائية الحاملة للمعلومات والتي تضعف بشكل كبير عند انتقالها من المرسل إلى المستقبل عبر مختلف قنوات الاتصال. وبهذا الاختراع العظيم  حدثت نقلة نوعية  في مختلف مجالات الهندسة الكهربائية  ففي عام 1913م تم إجراء أول مكالمة هاتفية لاسلكية  بين بريطانيا  وأميركا بعد أن تم استخدام المضخمات الكهربائية.  وتم كذلك بناء أنظمة البث الإذاعي في عام 1918م وأنظمة البث التلفزيوني في عام 1935 وبذلك بعد أن تمكن المهندسون من بناء مستقبلات قادرة على التقاط الإشارات الضعيفة جدا التي تبثها محطات البث الإذاعي والتلفزيوني. وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبه الصمام الثلاثي في تقدم الأنظمة الكهربائية وخاصة أنظمة الاتصالات إلا أن بعض عيوبه وقفت حجر عثرة أمام طموح المهندسين  في بناء أنظمة إلكترونية متطورة. إن من أهم عيوب الصمام الإلكتروني كبر حجمه الذي لا يقل عن حجم الإصبع واستهلاكه العالي للطاقة الكهربائية حيث لا يعمل إلا عند جهد كهربائي مرتفع يصل لعشرات الفولتات  إلى جانب حاجته لدائرة كهربائية مستقلة لتسخين المهبط. أما عيبه الأكبر فهو أنه مصنوع من الزجاج ولذا فهو معرض للكسر عند تعرضه للصدمات مما حال دون استخدامه في كثير من التطبيقات. ولبيان مدى تأثير هذه العيوب على تصنيع الأنظمة الكهربائية نورد المثال التالي فعند تصنيع أول حاسوب رقمي في عام 1945م بلغ عدد الصمامات المستخدمة فيه ثمانية عشر ألف صمام احتلت ما مساحته ستين مترا مربعا وكان يستهلك من الطاقة الكهربائية ما يزيد عن مائة وخمسون كيلواط على الرغم من أن قدرته الحسابية لا تتجاوز قدرة  أصغر الحواسيب التي تم تصنيعها في السبعينات والتي تم تصنيع جميع مكوناتها على دائرة متكاملة واحدة لا يتجاوز حجمها حجم صمام إلكتروني واحد ولا يزيد استهلاكها من الطاقة عن واط واحد. وعلى الرغم من أن الترانزستورات قد حلت محل الصمامات في كثير من التطبيقات إلا أن الصمامات العالية القدرة لا زالت مستخدمة في التطبيقات التي يلزمها قدرة عالية كمحطات البث الإذاعي والرادارات.




المواد شبه الموصلة (Semiconductor Materials)
                 لقد تم استخدام المواد شبه الموصلة  في صناعة الترانزستور لما تتميز به هذه المواد من خصائص فريدة عند توصيلها للكهرباء فهي تختلف عن المواد الموصلة للكهرباء بإمكانية التحكم في درجة توصيلها من خلال إضافة شوائب من عناصر محددة في بنيتها البلورية. وتتوفر المواد شبه الموصلة على الأرض إما على شكل عناصر فيزيائية خالصة تقع في العامود الرابع من الجدول الدوري وهي عنصري الجرمانيوم والسيليكون أو من مواد مركبة  ناتجة عن خلط بعض عناصر العمود الثالث كالبورون والألمنيوم والأنديوم والقاليوم مع عناصر العمود الخامس كالفوسفور والزرنيخ (الأرسنيد) والبزموث منتجة مواد شبه موصلة كفوسفيد الإنديوم وأرسنيد القاليوم وغيرها من المركبات التي قد تتفوق على العناصر شبه الموصلة الخالصة في بعض خصائصها الكهربائية. لقد كان الجرمانيوم هو العنصر المستخدم في صناعة الترانزستورات في بداية عهدها إلا أنها لم تكن  تعمل بشكل موثوق إلا عند  درجات الحرارة التي تقل عن أربعين درجة مئوية  وذلك بسبب حساسية الجرمانيوم العالية للحرارة والتي تعود لتدني قيمة فجوة الطاقة (energy gap) بين نطاقي التكافؤ والتوصيل (conduction & valence bands) فيها والتي يبلغ 0.7 إلكترون فولت.
                وفي عام 1954م تمكن المهندسون من استخدام السيليكون في صناعة الترانزستور بعد التغلب على بعض المشاكل التصنيعية. ويتميز السيليكون على الجرمانيوم بكبر قيمة فجوة الطاقة فيه حيث تبلغ 1.1 إلكترون فولت مما يعطيه ثباتا كبيرا  في خصائصه الكهربائية يمتد على نطاق واسع من درجات الحرارة. ومن حسنات السيليكون أن مادته الخام وهي ثاني أكسيد السيليكون (SiO2)  متوفرة بكميات كبيرة في الطبيعة خاصة في رمال الصحراء. إن المواد شبه الموصلة النقية تعتبر مواد عازلة للكهرباء ولكن يمكن تحويلها إلى مواد موصلة من خلال إضافة شوائب من مواد محددة حيث تزيد موصليتها مع زيادة نسبة الشوائب فيها.  ويتم التحكم بدرجة توصيل مادة السيليكون النقي أو غيره من المواد شبه الموصلة من خلال إضافة مواد شائبة في بنيتها بما يسمى عملية التطعيم (doping). ويوجد نوعان من التطعيم  فالنوع الأول يتم من خلال إضافة مادة شائبة بمقدار ضئيل ومحدد مأخوذة من عناصر العامود الخامس في الجدول الدوري كالفوسفور مثلا ويكون الناتج في هذه الحالة مادة شبه موصلة تمتلك فائض من الإلكترونات الحرة ويطلق على هذا النوع من المواد الشائبة اسم المواد المانحة (donars).  ويساوي عدد الإلكترونات الفائضة عدد ذرات المادة الشائبة المضافة ويطلق على هذه المادة  شبه الموصلة المطعمة  شبه موصل من النوع السالب (N-type) وذلك لأن الإلكترونات ذات الشحنات السالبة هي المسؤولة عن حركة  التيار الكهربائي فيها. أما النوع الثاني فيتم تصنيعه من خلال إضافة مادة شائبة  من عناصر العامود الثالث في الجدول الدوري  كالبورون مثلا منتجة بذلك مادة شبه موصلة تفتقر إلى  الإلكترونات الحرة  في المدار الخارجي لذراتها وقد أطلق العلماء على هذا المكان الخالي من الإلكترون  اسم الفجوة (hole) ويطلق على هذا النوع من المواد الشائبة اسم المواد القابلة (acceptors).



                وعند تسليط جهد كهربائي على هذه المادة المطعمة فإن الفجوات ستتحرك عند انتقال الإلكترونات إليها بعكس اتجاه حركة الإلكترونات ولذا يمكن تخيلها على أنها حاملة لشحنات موجبة  ولذلك يطلق على هذه المادة المطعمة  شبه موصل من النوع الموجب (P-type). وعند تطعيم منطقتين متجاورتين على بلورة من مادة شبه موصلة كالسيليكون مثلا بحيث تكون أحدهما من النوع السالب والأخرى من النوع الموجب فإنه يتكون عند الحد الفاصل بينهما منطقة تسمى المنطقة المنضبة (depletion region). وتتكون هذه المنطقة نتيجة لهجرة الإلكترونات الزائدة الموجودة في المنطقة السالبة إلى المنطقة الموجبة لتملأ الفجوات الموجودة فيها ولكن هذه الهجرة ستقتصر فقط على الإلكترونات الموجودة في المناطق المجاورة للحد الفاصل بين المنطقتين. ويعود السبب في ذلك إلى أن الإلكترونات المهاجرة ستترك خلفها ذرات موجبة الشحنة وعند وصولها إلى المنطقة الموجبة فإنها ستحول ذراتها إلى ذرات سالبة الشحنة وبهذا سيتكون فرق جهد بين طرفي المنطقة المنضبة وإذا ما وصل فرق الجهد هذا إلى قيمة معينة فإن المجال الكهربائي الناتج عنه سيحول دون هجرة مزيد من الإلكترونات. ويطلق على فرق الجهد هذا أسماء عدة منها جهد الوصلة (junction voltage) أو جهد الحجز (barrier voltage) أو الجهد المبيت (built-in voltage) وتتحدد قيمته وكذلك مقدار عرض المنطقة المنضبة بشكل رئيسي من نوع المادة شبه الموصلة وبشكل ثانوي من تركيز التطعيم في المنطقتين وتبلغ قيمته 0.7 فولت تقريبا للسيليكون و 0.27 فولت للجرمانيوم.

                إن مبدأ عمل الترانزستورات وكذلك الثنائيات يعتمد على وجود هذه المنطقة المنضبة فعند تسليط فرق جهد من مصدر خارجي على طرفي المنطقتين من النوع الموجب والسالب أو ما يسمى بوصلة موجب-سالب (PN junction) فإنه يمكن التحكم بعرض هذه المنطقة المنضبة وكذلك فرق الجهد المحصل عليها. فعندما يتم وصل الطرف الموجب للمصدر بالمنطقة الموجبة والقطب السالب بالسالبة فإن إتجاه المجال الكهربائي المسلط سيكون بعكس إتجاه المجال الكهربائي المبيت فيعمل على تقليله وعندما تصل قيمة الجهد المسلط قيمة الجهد المبيت فإن المنطقة المنضبة ستختفي تماما وسيمر تيار كهربائي من خلال الوصلة ويسمى هذا النوع من التسليط للجهد بالإنحياز الأمامي (forward bias). أما إذا تم وصل الطرف الموجب للمصدر بالمنطقة السالبة والسالب بالموجبة فإن إتجاه المجال الكهربائي المسلط سيكون بنفس إتجاه المجال الكهربائي المبيت فيعمل على تقويته مما يمنع مرور أي تيار من خلال الوصلة ويسمى هذا النوع من التسليط للجهد بالإنحياز العكسي (backward bias). إن مثل هذه الجهاز الإلكتروني البسيط المكون من وصلة واحدة (single junction) يعمل كثنائي (diode) يسمح بمرور التيار في إتجاه معين ولا يسمح بمروره في الإتجاه المعاكس ولهذه الثنائيات تطبيقات واسعة سنبينها في حينها.


                لقد تم التغلب على جميع عيوب الصمام الإلكتروني (Electronic valve)  بإختراع الترانزستور (Transistors) في عام 1947م وذلك على يد  ثلاثة من الفيزيائيين الأميركيين العاملين في مختبرات بيل الأمريكية وهم جون باردين (John Bardeen) وولتر براتين (Walter Brattain) ووليم شوكلى (William Shockley) والذين حصلوا على جائزة نوبل في عام 1956م تقديرا لجهودهم على هذا الإنجاز العظيم. والترانزستور عنصر إلكتروني فعال (active device) مصنوع من مواد شبه موصلة كالجرمانيوم والسيليكون  وله ثلاثة أقطاب كما هو الحال مع الصمام الثلاثي ولكن بدون دائرة تسخين. ويتميز الترانزستور على الصمام الإلكتروني بصغر حجمه الذي لا يتجاوز إذا ما صنع منفردا حجم حبة الحمص أما إذا كان في دوائر متكاملة فإنه بالإمكان تصنيع ملايين الترانزستورات على شريحة لا تتجاوز مساحتها السنتيمتر المربع الواحد مما أدى إلى تقليص بالغ في أحجام وأوزان الأجهزة الكهربائية. ويتميز كذلك بأنه يعمل على جهد كهربائي منخفض لا يتجاوز عدة فولتات وبقلة استهلاكه للطاقة الكهربائية التي تقاس بالميللي واط في الترانزستورات المنفردة والميكروواط  وحتى النانوواط في الدوائر المتكاملة مما أدى إلى تصنيع أجهزة كهربائية مختلفة تعمل بالبطاريات الصغيرة ولفترات طويلة من الزمن. ويتميز بصلادته فهو جسم مصمت من مواد شبه موصلة حيث لا توجد في داخله أجزاء متحركة ولذلك فهو لا يتأثر بالصدمات والإهتزازات الميكانيكية كما هو الحال مع الصمام الإلكتروني ولذا يمكن وضعه في الأجهزة المحمولة. ويتميز كذلك بطول عمره التشغيلي الذي يمتد لعشرات السنوات وبإمكانية عمله على نطاق واسع من درجات الحرارة وبإمكانية إنتاجه بكميات كبيرة جدا وبأسعار منخفضة جدا. ومع اختراع الترانزستور الذي يعده العلماء أعظم اختراع في القرن العشرين تجددت أمال  المهندسين في صنع معدات وأجهزة إلكترونية صغيرة الحجم وقليلة الاستهلاك للطاقة كالحواسيب الرقمية والتلفزيونات الملونة والراديوات الصغيرة والهواتف المحمولة والآلات الحاسبة المكتبية واليدوية.  وكذلك فإنه لا يوجد الآن ما يحول دون وضع المعدات والأجهزة الإلكترونية  في مختلف أنواع المركبات والصواريخ العابرة للقارات وفي المركبات الفضائية  والأقمار الصناعية حيث أنها لا تحتل حيزا كبيرا ويمكنها أن تعمل على البطاريات.


ترانزستورات الوصلة ثنائية القطبية (Bipolar Junction Transistors)
                يتم تصنيع هذا النوع من الترانزستورات  من خلال تطعيم ثلاث مناطق متجاورة على بلورة نقية من السيليكون بحيث يكون التطعيم إما على شكل (سالب_موجب_ سالب)(NPN) أو على شكل (موجب_سالب_موجب) (PNP). ويتم توصيل أقطاب معدنية بهذه المناطق الثلاثة حيث يسمى القطب  الموصول بالمنطقة الوسطى  بالقاعدة (Base) بينما تسمى الأقطاب الموصولة بالمنطقتين الخارجيتين بالباعث (Emitter) والمجمع (Collector). ويطلق على هذه النوع من الترانزستورات بالترانزستور ثنائي القطبية (bipolar) وذلك بسبب وجود وصلتين فيه وكذلك بسبب مساهمة الفجوات والإلكترونات في حمل التيار الذي يسري داخل الترانزستور. يتطلب عمل هذا النوع من الترانزستورات وجود وصلتين يكون في الغالب وضع الإنحياز لأحدهما أمامي وللأخرى عكسي مما يعني أن الوصلة المنحازة أماميا ستسمح بمرور التيار بينما لا تسمح الوصلة المنحازة عكسيا بمروره. ولكن إذا ما تم تصنيع الترانزستور بحيث يكون عرض منطقة القاعدة قليل جدا بحيث أن المنطقة المنضبة للوصلة المنحازة عكسيا تغطي معظم أجزائها فإن الإلكترونات أو الفجوات التي تصل إلى منطقة القاعدة من تيار الوصلة المنحازة أماميا سيقع في أسر المجال الكهربائي للمنطقة المنضبة المنحازة عكسيا وسيمر تيارا عاليا فيها رغم أنها منحازة عكسيا. وكلما قل عرض منطقة القاعدة كلما زادت نسبة  عدد الإلكترونات أو الفجوات التي يتم اقتناصها من قبل الوصلة المنحازة عكسيا من العدد الكلي المتولد في الوصلة المنحازة أماميا.  إن هذه الآلية في طريقة عمل الترانزستور تمكن تيارا ضعيفا يمر في القاعدة من التحكم بتيار قوي يمر بين الباعث والمجمع ويطلق على نسبة تيار المجمع أو الباعث على تيار القاعدة بكسب الترانزستور (transistor gain). ويمكن زيادة كسب الترانزستور من خلال تقليل عرض منطقة القاعدة ويمكن الحصول على كسب قد يصل لعدة مئات.

                إن العيب الرئيسي للترانزستور ثنائي القطبية هو أن القاعدة تستخدم التيار الكهربائي للتحكم بعمل الترانزستور مما يستدعي استخدام دائرة كهربائية خارجية دقيقة لضبط  قيمة تيار القاعدة والذي قد يؤدي أي انحراف في قيمته إلى تغيير مكان نقطة التشغيل التي يعمل عندها الترانزستور. إن الترانزستورات من نوع (NPN) أكثر شيوعا في الاستخدام من الترانزستورات من نوع (PNP) وذلك لاستجابتها العالية وذلك بسبب أن سرعة حركة الإلكترونات في المناطق السالبة أعلى بكثير من سرعة حركة الفجوات في المناطق الموجبة.  ويتم تصنيع الترانزستور من نوع (NPN) بالطريقة السطحية من خلال تطعيم منطقة محددة بذارات مانحة لتنتج منطقة سالبة بعمق معين على سطح شذرة من السيليكون وفي داخل هذه المنطقة السالبة  يتم تطعيم جزء منها بذرات مستقبلة لتحولها إلى منطقة موجبة وفي داخل هذه المنطقة الموجبة يتم تطعيم جزء منها بذرات مانحة لتحولها إلى منطقة سالبة وبهذا تتكون ثلاث مناطق منطقتين سالبتين بينهما منطقة موجبة ويتم وصل القاعدة بالمنطقة الموجبة والباعث بالمنطقة السالبة الأقرب من السطح والمجمع بالمنطقة السالبة الأبعد عن السطح. وبسبب أن مساحة وصلة الباعث أقل منها بكثير من مساحة وصلة المجمع في عملية التصنيع هذه فإن الكسب في تيار الباعث منه  أكبر بكثير منه في حالة تيار المجمع ولذا يجب أن يراعى ذلك عند تصميم المضخمات فالترانزستور غير متماثل في مثل هذه الطريقة من التصنيع. ويتم تصنيع أنواع لا حصر لها من الترانزستورات بعضها يعمل عند الترددات المنخفضة وبعضها عند الترددات العالية وبعضها لأغراض القدرات المنخفضة وبعضها للقدرات العالية وذلك لتلبي حاجة التطبيقات المختلفة. ويحمل كل ترانزستور على سطحه رمزا مكون من عدد من الأحرف والأرقام ويمكن استخلاص بعض المعلومات من هذه الرموز كنوع مادة الترانزستور إن كانت من السيليكون أو الجرمانيوم أو كمدى الترددات التي يعمل عندها ومقدار الجهد أو التيار أو القدرة الكهربائية التي يتحملها. 
  

ترانزستورات تأثير المجال (Field Effect Transistors (FET))
تمكن في عام 1953م مهندسان من مختبرات بيل الأمريكية وهما أين روس (Ian Ross) وجورج ديسي (George Dacey) من تصنيع ترانزستور يعمل بآلية تختلف  عن تلك المستخدمة في الترانزستور ثنائي القطبية  وهو ترانزستور تأثير المجال ذي الوصلة (Junction Field Effect Transistors (FET)). ويتكون هذا الترانزستور من شريحة من السيليكون مطعمة إما كنوع سالب (N) أو كنوع موجب (P) ويوصل بطرفي هذه الشريحة قطبان معدنيان يسمى أحدهما المصدر (source) وهو يناظر الباعث (emitter) ويسمى الآخر المصرف (drain) وهو يناظر المجمع (collector). ومن الواضح أنه عند تسليط جهد خارجي بين المصدر والمصرف فإن تيارا كهربائيا سيسري بين القطبين بغض النظر عن اتجاه الجهد المسلط وذلك على العكس من الترانزستور ثنائي القطبية. ولكي يتم التحكم بمرور التيار بين القطبين فإنه يتم تطعيم الشريحة على جانبيها وعند وسطها بنوع تطعيم مخالف لنوع التطعيم الأساسي للشريحة ليتكون بذلك وصلتين حول الشريحة ويتم ربط الوصلتين بقطب معدني يسمى البوابة (gate) وهو يناظر القاعدة (base). ويطلق على منطقة الشريحة المحصورة بين الوصلتين اسم القناة (channel) ويتحدد عرض القناة الفعلي الذي يمكن للتيار أن يمر من خلاله من عرض القناة الحقيقي مطروحا منه عرض المنطقتين المنضبتين في الوصلتين.


وعند تسليط جهد ذي انحياز عكسي بين البوابة وأحد القطبين الآخرين وغالبا قطب المصدر فإنه يمكن التحكم بعرض البوابة وبالتالي كمية التيار الذي يمر من خلالها.  ومن الواضح أن عملية التحكم بالتيار المار بين المصدر والمصرف يتم  من خلال الجهد الكهربائي بدلا من التيار الكهربائي كما في الترانزستور ثنائي القطبية.  ولذلك فقد أطلق العلماء على هذا النوع من الترانزستورات  اسم ترانزستور تأثير المجال وذلك لأن المجال الكهربائي الناتج عن الجهد المسلط على البوابة هو المسؤول عن عملية التحكم بمرور التيار في الترانزستور. إن التيار الذي يسري في القناة مكون من نوع واحد فقط من حاملات الشحنات وهي إما الإلكترونات في حالة القناة السالبة أو الفجوات في حالة القناة الموجبة ولذا فقد  تمت تسمية هذا الترانزستور بالترانزستور أحادي القطبية (unipolar) وذلك عل عكس الترانستور ثنائي القطبية الذي يستخدم النوعين من الحاملات في عمله.

وفي عام 1960م تمكن المهندسون في مختبرات بيل الأمريكية من تصنيع أحد أشهر أنواع الترانزستورات أحادية القطبية وهو النوع المسمى  ترانزستور  تأثير المجال من نوع معدن _ أكسيد _  شبه موصل (Metal-Oxide-Semiconductor Field-Effect transistor (MOSFET)). ويتم تصنيع هذه الترانزستورات بالطريقة السطحية من خلال إنتاج منطقة مطعمة تسمى القناة بأحد نوعي التطعيم السالب أو الموجب على سطح رقاقة من السيليكون ثم توضع طبقة من أكسيد السيليكون العازل تعلوها طبقة أخرى من المعدن كما يوحي بذلك أسمه.  ويتم توصيل ثلاثة أقطاب معدنية أحدها إلى الطبقة المعدنية ويسمى البوابة بينما يوصل الطرفان الآخران إلى المنطقة شبه موصلة  في مكانيين متقابلين حول البوابة يسميان المصدر والمصرف. ويسمى هذا النوع من الترانزستورات بترانزستور  الموصفت المنضب ((Depletion MOSFET)  حيث يلزم تسليط جهد  بقطبية محددة على البوابة ليحول نوع المادة شبه الموصلة  التي تقع تحتها من موجب إلى سالب أو العكس لكي يتم التحكم بمرور التيار بين المصدر والمصرف. وفي النوع المسمى الموصفت المعزز (Enhancement MOSFET) يتم تطعيم رقاقة السيليكون بمنطقتين منفصلتين من النوع السالب أو الموجب بينهما منطقة وسطى تطعم بنوع مغاير لتلك التي للمنطقتين المنفصلتين ثم توضع طبقة من أكسيد السيليكون العازل تعلوها طبقة أخرى من المعدن لتغطي المنطقة الوسطى ويتم توصيل ثلاثة أقطاب اثنان بالمنطقتين المنفصلتين وهما المصدر والمصرف والثالث بالطبقة المعدنية وهو البوابة. ويلزم تسليط جهد  بقطبية محددة على البوابة ليحول نوع المادة شبه الموصلة  التي تقع تحتها من موجب إلى سالب أو العكس لكي يتم التحكم بمرور التيار بين المصدر والمصرف.  إن أهم ما يميز   الترانزستور  أحادي القطبية على ثنائي القطبية هو عدم حاجته لدائرة كهربائية معقدة لتحديد نقطة تشغيله وكذلك قلة استهلاكه للطاقة وصغر المساحة التي يحتلها على سطح البلورة الشبه موصلة ولكن عيبه الرئيسي هو أن سرعة تبديله أقل منها في الترانزستور ثنائي القطبية بسبب أن البوابة تعمل كمكثف يحتاج شحنها تفريغها زمن طويل نسبيا.

استخدامات الترانزستورات
                لم يكن أحد يتوقع أن يقوم هذا الترانزستور البسيط بهذا الدور البالغ في حياة البشر وأن تظهر بسببه تطبيقات لم تكن لتخطر على بال مخترعيه ولا حتى على بال كتاب الخيال العلمي. إن الوظيفة الأساسية للترانزستور هي وظيفة في غاية البساطة وهي قدرته على التحكم بالتيار المار بين طرفين من أطرافه من خلال  تيار أو جهد ضئيل جدا يتم تسليطه على الطرف الثالث. إن عملية التحكم بالتيار تتم بطريقتين اثنتين الأولى من خلال رفع أو خفض قيمة التيار تبعا لتيار أو جهد التحكم الصغير بحيث تكون العلاقة بينهما علاقة خطية وتسمى الدوائر الإلكترونية التي تعمل وفقا لهذه الطريقة بالدوائر الإلكترونية القياسية أو التشابهية (analog electronic circuits). وهذه الطريقة تستخدم لبناء دوائر إلكترونية تشابهية كالمضخمات (amplifiers) والمذبذبات (oscillators) والمازجات (mixers) والمعدلات (modulators) والمكاملات (integrators) والمفاضلات (differentiators) وغيرها.  أما في الطريقة الثانية فإن تيار أو جهد التحكم يقوم بوصل أو فصل التيار المار بين طرفي الترانزستور والذي يستخدم في هذه الحالة كمفتاح أو مبدل  إلكتروني (electronic switch) وتسمى الدوائر الإلكترونية التي تعمل وفقا لهذه الطريقة بالدوائر الإلكترونية الرقمية (digital electronic circuits).  وتستخدم هذه الطريقة لبناء دوائر إلكترونية منطقية كالدوائر المنطقية (logic circuits) والمسجلات (registers) والعدادات (counters) والنطاطات(flip-flops) والمردفات (multiplexors) وغيرها. وسنبين فيما يلي أن هذه الوظائف البسيطة للترانزستور قد تم استغلالها للقيام بوظائف أكثر تعقيدا وتم على أساسها تصنيع أجهزة ومعدات بالغة التعقيد تلعب دورا بالغ الأهمية في حياة الناس كأنظمة الاتصالات المختلفة وأنظمة البث الإذاعي والتلفزيوني والحواسيب وشبكات المعلومات وأنظمة التحكم والقياس وفي الأجهزة الطبية وغيرها الكثير.



المضخمات (Amplifiers)
                إن الاستخدام الرئيسي الذي من أجله تم اختراع الترانزستور في عام 1947م وسلفه الصمام الإلكتروني في عام 1906م هو لتضخيم الإشارات الكهربائية التي تصل إلى المستقبلات في أنظمة الاتصالات الكهربائية بشكل بالغ الضعف والتي قد تصل إلى ما دون النانوواط وهو جزء من ألف بليون جزء من الواط كما هو الحال في أنظمة اتصالات الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية. والمضخم كما هو واضح من اسمه جهاز إلكتروني يقوم بتضخيم أو تكبير الإشارات الضعيفة ويعتمد في عمله على وظيفة الترانزستور الأساسية وهي أن تيارا أو جهدا ضعيفا يسلط على أحد أطرافه الثلاث يمكنه التحكم بتيار كبير يمر بين الطرفين الآخرين. إن الترانزستور لا يمكن أن يقوم بوظيفة التضخيم بمفرده بل يحتاج لوضعه في دائرة إلكترونية تحتوي على مكونات أخرى كالمقاومات والمكثفات والملفات تساعده للقيام بهذه الوظيفة وذلك بعد إمداد الدائرة الإلكترونية بالطاقة الكهربائية التي تشغلها.  إن المضخم دائرة إلكترونية لها مدخل (input) ومخرج (output) وعادة ما يتم ربط أحد أطراف الترانزستور بدائرة المدخل والطرف الثاني بدائرة المخرج بينما يكون الطرف الثالث مشتركا بين الدائرتين. ولهذا فإن دوائر المضخمات تأتي على ثلاثة أشكال تسمى تبعا لاسم الطرف المشترك وهي في الترانزستورات ثنائية القطبية دوائر الباعث المشترك (common emitter) والمجمع المشترك (common collector) والقاعدة المشتركة (common base) بينما في الترانزستورات أحادية القطبية دوائر المصدر المشترك (common source) والمصرف المشترك (common drain) والبوابة المشتركة (common gate). إن مثل هذه الأشكال المختلفة للمضخمات تعطي مصممها الحرية في تحديد المواصفات التي يتطلبها التطبيق فبعض أشكال هذه المضخمات تضخم التيار ولا تضخم الجهد وبعضها يضخم الجهد ولا يضخم التيار وبعضها يضخم الجهد والتيار وبعضها له نطاق تمرير واسع للترددات وبعضها يبدى مقاومة عالية أو منخفضة في دوائر الدخل والخرج.
                 وتستخدم المضخمات في بناء دوائر تقوم بوظائف أخرى غير وظيفة تضخيم الإشارات ولكن وجود المضخم  في مثل هذه الدوائر ضروري لكي تقوم بوظيفتها على الوجه الأكمل. وعادة ما تتطلب هذا الدوائر وجود مضخم بمقدار كسب عالي جدا ولذلك فقد ظهر في الستينات ما يسمى بمضخم العمليات (operational amplifier) وهو مضخم مكون من عدة ترانزستورات على شكل مضخم تفاضلي (differential amplifier). ومضخم العمليات المثالي له كسب لا نهائي (infinite gain) ومعاوقة دخل لا نهائية (infinite input impedance) ومعاوقة خرج تساوي صفر (zero output impedance). ويستخدم مضخم العمليات في بناء دوائر إلكترونية تؤدي وظائف مهمة في معالجة الإشارات كمضخمات الجمع والطرح (summing and subtraction) والمكاملات والمفاضلات (integrators & differentiators) والمرشحات الفعالة بأنواعها المختلفة (active filters) والمقارنات وقادحات شميت (comparators and Schmitt triggers). إن صعوبة أو سهولة تصميم وتصنيع المضخمات بمختلف أنواعها يعتمد على موقع وعرض نطاق الترددات التي يضخمها وكذلك على مقدار الكسب في الجهد أو في التيار أو القدرة التي يجب أن يوفرها. ولهذا توجد أنواع لا حصر لها من المضخمات المستخدمة في مختلف التطبيقات كمضخمات القدرة (power amplifiers) والمضخمات واسعة النطاق (broadband amplifiers) والمضخمات المتولفة (tuned amplifiers).


المذبذبات (Oscillators)
                أما الاستخدام الآخر للترانزستور والذي لا يقل أهمية عن المضخمات فهو في دوائر المذبذبات التي تقوم بتوليد إشارات كهربائية جيبية (sinusoidal signals) أو غير جيبية  وبترددات محددة أو متغيرة. والمذبذب هو عبارة عن مضخم يتم تغذية جزء من إشارة خرجه إلى دخله بما يسمى التغذية الراجعة (feedback) وإذا ما تحققت شروط معينة فإن المضخم يبدأ بتوليد إشارة متناوبة على خرجه بدون وجود إشارة خارجية على دخله. ويتم تحديد التردد للإشارة التي يولدها المذبذب باستخدام طرق عدة أهمها استخدام دوائر الرنين العادية (resonant circuits)  المكونة من الملفات والمكثفات حيث تساوي قيمة التردد المتولد قيمة تردد الرنين إذا ما تحققت شروط التذبذب. ومن عيوب استخدام دوائر الرنين العادية في المذبذبات أن الترددات التي تولدها غير دقيقة بسبب عدم دقة قيم المكثفات والملفات المستخدمة فيها وكذلك تأثر قيمها بتغير درجة الحرارة وتغير مواصفات المواد التي تدخل في تركيبها مع مرور الزمن.

                وإذا ما تم استخدام البلورات (crystals) كدوائر رنين في هذه المذبذبات بدلا من دوائر الرنين العادية فإن تردد المذبذب يتحدد من تردد البلورة والذي له قيمة بالغة الدقة ويطلق على هذا النوع اسم المذبذبات البلورية (crystal oscillators).  والبلورة هي عبارة عن شريحة رقيقة من مواد بلورية تمتلك الخاصية الكهروضغطية (piezoelectric effect) توضع بين لوحين معدنيين وتتصرف هذه البلورة عند وضعها في دائرة مذبذب كدائرة رنين يتحدد ترددها من سمك الشريحة. وتتوفر البلورات بترددات تبدأ بقيم أقل من الميغاهيرتز وقد تصل إلى ما يزيد عن مائة ميغاهيرتز ولا يكاد يخلو أي مذبذب من مثل هذه البلورات نظرا لدقتها العالية مما أنعكس إيجابيا على أداء الأنظمة التي تستخدمها وخاصة أنظمة الاتصالات. أما المذبذبات التي أحدثت ثورة في أنظمة الاتصالات الحديثة فهي المسماة المذبذبات المحكومة بالجهد ( voltage-controlled oscillators (VCO)) ففي هذه المذبذبات يمكن التحكم بقيمة التردد من خلال جهد يسلط على ثنائي المكثف المتغير (varactor or varicap diode) والذي يتم وصله كجزء من دائرة الرنين العادية. لقد كانت الطريقة اليدوية هي الطريقة الوحيدة لتغيير تردد المذبذبات العادية وذلك من خلال تغيير مواسعة المكثف بطريقة ميكانيكية ولكن مع اختراع المذبذبات المحكومة بالجهد أصبح بالإمكان تغيير تردد المذبذب من خلال تغيير الجهد المسلط عليه بطرق آلية. ومع استخدام المذبذبات المحكومة بالجهد في مستقبلات أنظمة الاتصالات المختلفة أصبحت عملية اختيارالقنوات تتم يدويا من خلال كبس الأزرار عن قرب أو بالتحكم عن بعد أو تحت سيطرة المعالجات الدقيقة والحواسيب.

                لقد ساعدت المذبذبات المحكومة بالجهد على ظهور دائرة بالغة الأهمية ألا وهي العروة مقفلة الطور (Phase-Locked Loop(PLL)) والتي تستخدم في مختلف المجالات وخاصة في مجال أنظمة الاتصالات والتحكم كما في دوائر التعديل والكشف (modulation & detection) وفي مركبات الذبذبات (frequency synthesizers).   تستخدم المذبذبات بمختلف أنواعها في تطبيقات لا حصر لها ولكن استخدامها الأكثر في مجال أنظمة الاتصالات المختلفة حيث تستخدم عند المرسل كحاملات (carriers) لإشارات المعلومات وعند المستقبلات كمذبذبات محلية (local oscillators) تعمل على اختيار القنوات المراد استقبالها. وبما أن ترددات أنظمة الاتصالات تغطي جميع أجزاء الطيف الراديوي الذي يمتد من الصفر إلى ما يقرب من مائة ألف مليون هيرتز (مائة جيقاهيرتز) فإن ذلك يتطلب تصميم مذبذبات تلبي احتياجات مختلف أنواع أنظمة الاتصالات وهذا يتطلب توفر ترانزستورات قادرة على العمل عند مختلف أجزاء الطيف الراديوي.

                وتستخدم الترانزستورات في تطبيقات أخرى لا يمكن حصرها نذكر منها على سبيل المثال دوائر التعديل التي تقوم بتحميل إشارات المعلومات على الترددات الحاملة التي تولدها المذبذبات عند المرسل وفي دوائر الكشف التي تسترجع إشارات المعلومات من الحاملات عند المستقبل وفي دوائر الترشيح التي تقوم بانتقاء الإشارات الكهربائية المراد استقبالها من بين آلاف الإشارات التي تلتقطها هوائيات الاستقبال إلى جانب التقليل من أثر الضجيج والتداخل على هذه الإشارات. وتستخدم الترانزستورات في أنظمة القدرة الكهربائية لتحويل التيارات المترددة إلى تيارات مباشرة وكذلك العكس والتحكم كذلك بالآلات والمحركات الكهربائية. وتستخدم في المعدات الطبية لتوليد مختلف أنواع الإشارات الكهربائية والذبذبات الفوق صوتية وبعض أنواع الأشعة وكذلك دوائر الكشف الخاصة بها. وتستخدم في أنظمة القياس لتصنيع مختلف أنواع المجسات أو الحساسات التي تحول مختلف أنواع الكميات الفيزيائية كالضغط والشد والرطوبة ودرجة الحرارة وغيرها إلى إشارات كهربائية يسهل معالجتها وتخزينها باستخدام الدوائر الإلكترونية. وتستخدم كذلك في أنظمة التحكم لبناء معدات تحكم صغيرة الحجم وعالية الدقة لمختلف التطبيقات كالمصانع والمركبات والقطارات والطائرات ومحطات توليد الكهرباء بمختلف أنواعها.

الإلكترونيات الرقمية (Digital Electronics)
إن الاستخدام الأكثر أهمية الذي يقف وراء ما يسمى بثورة المعلومات فهو استخدام الترانزستور كمبدل أو مفتاح إلكتروني (electronic switch) يسمح أو لا يسمح بمرور التيار الكهربائي فيه وذلك من خلال تمرير تيار كهربائي ضئيل في قاعدة الترانزستور ثنائي القطبية أو من خلال تسليط جهد كهربائي على بوابة الترانزستور أحادي القطبية. لقد تم استخدام الترانزستور كمفتاح إلكتروني في بناء جميع الدوائر المنطقية الرقمية التي يحتاجها الحاسوب حيث أن هذه الدوائر المنطقية ما هي إلا مجموعة من المفاتيح الموصولة على التوالي أو على التوازي وعند القيام بفتحها وإغلاقها نحصل على العمليات المنطقية التي يعمل على أساسها الحاسوب الرقمي. ومع التحول إلى استخدام التقنية الرقمية في أنظمة الاتصالات الكهربائية في الستينات بدأت صناعة الإلكترونيات الرقمية تزدهر وتخدم أنظمة الحواسيب وأنظمة الاتصالات على حد سواء حيث أن الدوائر المنطقية الرقمية هي التي تقوم بمعالجة جميع أنواع الإشارات الرقمية بغض النظر عن مصدرها.
وتتعامل الدوائر الإلكترونية الرقمية مع عدد محدد من مستويات الجهد بدلا من العدد اللامتناهي  في الدوائر العادية أو ما يطلق عليها الدوائر القياسية أو التشابهية (Analog Circuits). وغالبا ما تستخدم الدوائر الرقمية مستويين اثنين فقط من الجهد أو التيار  وتسمى مثل هذه  الدوائر بالدوائر الرقمية الثنائية. إن أهم ما يميز الدوائر الرقمية الثنائية هو سهولة تصميمها وتصنيعها لكونها تتعامل مع مستويين اثنين فقط من الجهد ومقاومتها العالية لإشارات الضجيج المتولدة في داخل هذه الدوائر وكذلك إمكانية ربط عدد كبير من المراحل على التوالي دون أن تتشوه الإشارة الرقمية خلال انتقالها عبر هذه المراحل. وهنالك ميزة أخرى بالغة الأهمية لمصممي الأنظمة الرقمية وهي إمكانية بناء أنظمتهم مهما بلغ تعقيدها ومهما كان الغرض الذي صممت من أجله من وحدات منطقية رقمية أساسية كالبوابات المنطقية والمسجلات والعدادات والنطاطات والموقتات.  ولذلك فقد قامت الشركات المصنعة للدوائر المتكاملة الرقمية بإنتاج كميات ضخمة من هذه القطع الإلكترونية الرقمية يتم استهلاكها من قبل أسواق تصنيع مختلف أنواع الأجهزة والمعدات الرقمية في مختلف الصناعات الإلكترونية. 
                يتم تصنيع الدوائر الإلكترونية الرقمية باستخدام تقنيتين رئيسيتين وهما تقنية الترانزستور ثنائي القطبية وتقنية الترانزستور أحادي القطبية. وتتكون تقنية الترانزستور ثنائي القطبية بدورها من عدة عائلات وذلك لأن سرعة التبديل وكمية الطاقة المستهلكة والحيز التي تحتله الدائرة على الرقاقة لا يعتمد فقط على نوع الترانزستور بل على الطريقة التي يتم بها وصل الترانزستورات مع بقية العناصر الإلكترونية. ففي مطلع الستينات ظهرت أول العائلات المنطقية وهي  ما يسمى بمنطق الترانزستور-المقاومة (Resistor-Transistor Logic (RTL)) حيث تبنى الدوائر المنطقية من الترانزستورات والمقاومات فقط.  وبسبب انخفاض سرعة التبديل في هذه العائلة فقد تم تعديلها بعد عام واحد  من خلال إضافة الثنائيات إلى دوائرها والتقليل من عدد المقاومات وأطلق على الدائرة  الناتجة  اسم منطق الترانزستور- الثنائي ((Diode-Transistor Logic (DTL).  وفي عام 1963م ظهرت العائلة المنطقية الشهيرة المسماة منطق الترانزستور- الترانزستور ( (Transistor-Transistor Logic (TTL)حيث تغلبت على المشاكل التي كانت تعاني منها العائلات التي سبقتها ولا زالت من أهم العائلات المنطقية المستخدمة إلى يومنا هذا.  وفي نهاية الستينات ظهرت عائلتان جديدتان وهما عائلة منطق البواعث المقترنة((Emitter-Coupled Logic (ECL) وعائلة منطق الحقن المتكامل (Integrated Injection Logic) واللتان تتميزان بأعلى سرعة تبديل ممكنة من بين جميع العائلات المنطقية إلا أنهما في المقابل تستهلكان كميات عالية من الطاقة ولذلك فقد اقتصر استخدامهما في التطبيقات التي تحتاج لسرعات تبديل عالية جدا. وبشكل عام تتميز تقنية الترانزستور ثنائي القطبية  بسرعة تبديل عالية نسبيا  إلا أن عيبها يكمن في أنها تستهلك طاقة كهربائية عالية نسبيا وأن عدد الترانزستورات المصنعة على وحدة المساحة (كثافة التكامل)  قليل نسبيا ولذلك فقد اقتصر استخدامها في الدوائر المتكاملة ذات النطاق المتوسط والكبير وبعض أجزاء أنظمة الاتصالات الرقمية.

                أما التقنية الثانية فهي تقنية الترانزستور أحادي القطبية والتي ظهرت في عام 1968م  وتمتاز هذه التقنية بسهولة تصنيعها وقلة استهلاكها للطاقة وارتفاع  عدد الترانزستورات المصنعة على وحدة المساحة ولكن سرعة التبديل فيها أقل من تلك التي في تقنية الترانزستور ثنائي القطبية.  وتستخدم هذه التقنية في جميع أنواع الدوائر المتكاملة وخاصة ذات النطاق الكبير جدا (VLSI) وما فوقها والتي تتناسب مع صناعة المعالجات الدقيقة وذاكرات الحاسوب. وتشتمل هذه التقنية على  ثلاث عائلات وهي عائلة ترانزستور معدن-اكسيد- شبه موصل – موجب القناة  P-channel Semiconductor Field-Effect Transistor (PMOSFET)) وعائلة ترانزستور معدن-اكسيد- شبه موصل – سالب القناة N-channel Semiconductor Field-Effect Transistor (NMOSFET)) وعائلة ترانزستور معدن-اكسيد- شبه موصل –مكمل Complementary Semiconductor Field-Effect Transistor (CMOSFET)). وفي بداية التسعينات ظهرت تقنية جديدة تجمع بين ميزات تقنية الترانزستور ثنائي القطبية ذات سرعة التبديل العالية وتقنية الترانزستور أحادي القطبية ذات كثافة التكامل العالية بعد أن أصبح بالإمكان تصنيع نوعي الترانزستور على نفس شريحة السيليكون ولقد تم استخدام هذه التقنية المسماة (BiCMOS)  في تصنيع المعالجات الدقيقة ذات السرعات العالية. ولا تقتصر الإلكترونيات الرقمية على بناء دوائر المنطق الرقمي بل تتعامل مع أنواع مختلفة من الدوائر الرقمية فالمهتزات أحادية الاستقرار وغير المستقرة (monostable and astable multivibrators) تستخدم في الموقتات (clocks) ودوائر التوقيت (timing circuits) لجميع الأنظمة الرقمية والتي لا يمكن أن تعمل بدونها. وتستعمل المهتزات ثنائية الاستقرار (bistable multivibrators) لبناء أنواع كثيرة من النطاطات (flip-flops) والتي تستخدم بدورها في دوائر رقمية كثيرة كالعدادات (counters) والمسجلات (registers) والذاكرات (memories). وتستعمل المضخمات التفاضلية ومضخمات العمليات لبناء المقارنات (comparators) وقادحات شميت (Schmitt triggers) ومولدات الأشكال الموجية (waveform generators). وتعمل المحولات التشابهية-الرقمية والرقمية-التشابهية (analog-digital & digital-analog converters) على تحويل الإشارات التشابهية إلى إشارات رقمية وبالعكس وتعتبر هذه المحولات جزءا أساسيا من الأنظمة الإلكترونية الحديثة وذلك بسبب أن جميع هذه الأنظمة تحولت إلى التقنية الرقمية بسبب ميزاتها الكثيرة ولذلك يلزم وجود مثل هذه المحولات لربط العالم التشابهي مع العالم الرقمي.  


الدوائر المتكاملة (Integrated Circuits)
                على الرغم من الدور الكبير الذي لعبه الترانزستور في تقليص أحجام الأجهزة الإلكترونية إلا أن أسلاك التوصيل بين الترانزستورات وبقية القطع الإلكترونية أصبحت هي العائق الرئيسي الذي يحول دون  تصنيع أجهزة إلكترونية متطورة صغيرة الحجم تحتوي على أعداد كبيرة من الترانزستورات كالحواسيب والتلفزيونات الملونة والهواتف المتنقلة.  فهذه الأسلاك أصبحت تحتل حيزا يزيد بكثير عن الحيز الذي تحتله الترانزستورات نفسها هذا إلى جانب أن التداخل الكهربائي بين الإشارات التي تحملها هذه الأسلاك والتأخير الزمني الذي تواجهه هذه الإشارات حد بشكل كبير من سرعة معالجة الإشارات التي تقوم بها الدوائر الإلكترونية. ولقد تم التغلب على مشكلة أسلاك التوصيل هذه بعد أن تمكن المهندسون في نهاية الخمسينات من اكتشاف طريقة جديدة لتصنيع الترانزستورات وهي الطريقة السطحية حيث يمكن تطعيم مناطق الترانزستور المختلفة على سطح رقاقة السيليكون بدلا من تطعيم كامل جسمها وكذلك تمكنهم من تصنيع المقاومات والمكثفات من نفس المواد شبه الموصلة التي يصنع منها الترانزستور.  وبهذا فقد أصبح من الممكن تصنيع عدد كبير من الترانزستورات وما يلزمها من المقاومات والمكثفات في مناطق متجاورة على سطح الرقاقة ومن ثم يتم توصيلها ببعضها البعض بشرائط معدنية رقيقة يتم ترسيبها على سطح الرقاقة. وقد أطلق المهندسون على هذا الناتج اسم الدائرة المتكاملة حيث أنه تحتوي على دائرة إلكترونية بكامل مكوناتها من ترانزستورات ومكثفات ومقاومات. ففي عام 1958م تمكن مهندس في  شركة تكساس للأجهزة  في الولايات المتحدة الأمريكية من تصنيع أول دائرة متكاملة بسيطة على رقاقة من السيليكون حيث لم يتجاوز عدد الترانزستورات فيها العشرة. 


                وقد أطلق المهندسون على الدوائر المتكاملة التي تحتوي على أقل من مائة ترانزستور  اسم الدوائر المتكاملة  ذات النطاق الصغير (Small Scale IC (SSI)). ومن ذلك الحين بدأت الشركات المصنعة لهذه الدوائر المتكاملة بالتنافس لزيادة عدد الترانزستورات على الرقاقة الواحدة بعد أن ارتبط  التقدم في صناعة أجهزة الحواسيب وأجهزة الاتصالات الرقمية بما تنتجه هذه الشركات من دوائر متكاملة. وفي عام 1961م  تنبأ أحد العاملين في مجال تطوير الدوائر المتكاملة وهو المهندس مور والذي قام في عام 1966م بتأسيس شركة إنتل التي تعتبر من أكبر شركات إنتاج الدوائر المتكاملة في الولايات المتحدة الأمريكية بأن عدد الترانزستورات على الرقاقة الواحدة  سيتضاعف كل ثمانية عشر شهرا.  ولقد صدقت توقعاته إلى حد كبير فقد ظهر في منتصف الستينات جيل الدوائر المتكاملة ذات  النطاق المتوسط(Medium Scale IC (MSI))  (ما بين مائة ترانزستور  وألف ترانزستور)  وفي بداية السبعينات ظهر جيل الدوائر المتكاملة  ذات النطاق الكبير (Large Scale IC (LSI)) (ما بين ألف وعشرة آلاف ترانزستور). وفي بداية الثمانينات ظهر جيل الدوائر المتكاملة ذات النطاق الكبير جدا (Very Large Scale IC (VLSI)) (ما بين عشرة آلاف ومائة ألف ترانزستور) وفي نهاية الثمانينات ظهر جيل الدوائر المتكاملة ذات النطاق فوق الكبير (Ultra Large Scale IC (ULSI)) (ما بين مائة ألف ومليون ترانزستور)  وفي بداية التسعينات ظهر جيل  الدوائر المتكاملة ذات النطاق فائق الكبر (Extremely large Scale IC (ELSI)) حيث تجاوز عدد الترانزستورات المليون ترانزستور. وتتوفر الآن في الأسواق دوائر متكاملة تحتوي على ما يزيد عن عشرة ملايين ترانزستور مع ما يتبعها من مقاومات ومكثفات.

              وتعتبر تقنية تصنيع الدوائر المتكاملة وخاصة الكبيرة منها من أكثر تقنيات التصنيع تعقيدا حيث تحتاج إلى معدات بالغة التعقيد وباهظة الثمن ولذلك  فقد اقتصرت هذه التقنية على عدد قليل من الشركات الكبرى الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية واليابان. إن تصنيع عدة ملايين من  الترانزستورات على سطح رقاقة من السليكون لا تتجاوز مساحتها عدة سنتيمترات مربعة مهمة ليست بالسهلة إذا ما عرفنا أن تعطل ترانزستور واحد فقط أو انقطاع أحد خطوط التوصيل بينها كفيل بتعطل كامل الدائرة المتكاملة ولا سبيل لإصلاحها بأي شكل من الأشكال. وتبدأ عملية تصنيع الدوائر المتكاملة  بعملية إنتاج عنصر السيليكون  من أكسيد السيليكون المتوفر بكثرة في رمال الصحراء وبدرجة نقاء  تصل إلى 99,9999999 بالمائة ومن ثم يتم إذابة هذا السيليكون ليتم تصنيع بلورة سيليكون كبيرة الحجم. ويتم إنتاج هذه البلورة  من خلال غمس بذرة بلورية في السيليكون المذاب ومن ثم يتم سحبها وتدويرها بشكل تدريجي تحت سيطرة معدات بالغة الدقة ليكون الناتج بلورة على شكل قضيب أسطواني  يتراوح قطره ما بين خمسة سنتيمترات وعشرين سنتيمتر وبطول قد يصل إلى المتر.  ويجب أن تتم هذه العملية في جو في غاية النظافة لتجنب دخول ذرات الغبار في هذه البلورات النقية. أما العملية التالية فهي عملية تقطيع القضيب البلوري إلى شرائح دائرية كشرائح البطاطا بسمك لا يتجاوز عشر الميليمتر ومن ثم يتم صقل أحد أوجه هذه الشرائح بشكل جيد. وبما أن مساحة الشريحة  تتراوح ما بين مائة وألف سنتيمتر مربع بينما لا تتجاوز مساحة الدوائر المتكاملة عدة سنتيمترات مربعة فإنه يلزم تصنيع أعداد كبيرة من الدوائر المتكاملة جملة واحدة على سطح هذه الشريحة قبل أن يتم تقطيعها إلى قطع صغيرة  تسمى الرقاقات يحتوي كل منها على دائرة متكاملة واحدة. أما العملية الأكثر تعقيدا فهي عملية تصنيع الدائرة المتكاملة على سطح الرقاقة والتي لا تتجاوز مساحتها عدة سنتيمترات مربعة حيث تتم هذه العملية على مراحل متعددة قد يصل عددها إلى مائة مرحلة في تقنيات التصنيع الحالية.



 وتبدأ العملية بتصميم الدائرة المتكاملة المراد تصنيعها التي قد تحتوى على ملايين الترانزستورات ولا يمكن أن تتم هذه المرحلة إلا بمساعدة حواسيب ذات قدرات عالية ومن ثم تقوم برمجيات حاسوبية خاصة بإجراء محاكاة لهذه الدائرة الإلكترونية لكي يضمن المصممون أنها تعمل بالشكل المطلوب قبل تصنيعها حيث لا مجال لإصلاح الأخطاء بعد أن تتم عملية التصنيع. أما الخطوة التالية فهي عملية طبع الدائرة الإلكترونية على أفلام شفافة كبيرة حيث تظهر هذه الدائرة على شكل خطوط متشابكة يمكن مشاهدة  تفاصيلها بالعين المجردة ومن ثم  يتم طباعة الدائرة المتكاملة على طبقة رقيقة جدا  من مادة حساسة للضوء يتم ترسيبها على سطح رقاقة السيليكون ولكن بعد تصغيرها آلاف المرات باستخدام سلسلة من العدسات الضوئية  بحيث لا يتجاوز عرض الخط الواحد على سطح الرقاقة  الميكرومتر الواحد. ويتم إزالة الطبقة الحساسة للضوء التي انطبعت عليها خطوط الدائرة الإلكترونية باستخدام المواد الكيميائية والإبقاء على الطبقة في المناطق التي لا تحتوي على خطوط. ومن ثم تبدأ عملية تطعيم مناطق السيليكون المكشوفة والتي كانت تقع تحت هذه الخطوط وذلك لتصنيع الترانزستورات وبقية العناصر الإلكترونية. وبعد ذلك يتم طبع التوصيلات التي تربط الترانزستورات ببعضها بنفس الطريقة السابقة حيث يتم ترسيب طبقة معدنية رقيقة حيث توجد خطوط التوصيل. وبعد الانتهاء من عملية تصنيع الدوائر الإلكترونية على الرقاقات  يتم فحصها جميعا بأجهزة إلكترونية لاستبعاد الرقاقات المعطوبة ومن ثم يتم تقطيع الشريحة إلى رقاقات صغيرة يحتوي كل منها على دائرة متكاملة صالحة.  ومن ثم يتم وصل الوصلات المعدنية الخارجية للرقاقات الصالحة ويتم تغليفها في كبسولات خزفية أو بلاستيكية محكمة الإغلاق  لتكون جاهزة للاستخدام.


من كتاب مدخل إلى الهندسة الكهربائية \ الدكتور منصور أبوشريعة العبادي