2018-10-17

فأصابها إعصار فيه نار فأحترقت


فأصابها إعصار فيه نار فأحترقت
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

أن يأتي القرآن الكريم على ذكر  أكثر  أنواع الأعاصير  ندرة وهو الإعصار الناري (fire tornado)  فلا بد وأن يكون لهدف التأكيد على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من تأليف بشر بل هو تنزيل من لدن من أحاط علمه بكل شيء سبحانه وتعالى. قال أحد العلماء  في وصف الإعصار الناري (بينما خصائص عديدة لدوامات النار  لا زالت مجهولة كالازدياد الدرامي لارتفاع اللهب ومعدل الاحتراق إلا أن أمرين معروفان عنها القصر  والتدمير  فإعصار ناري نموذجي لا يمكث إلا عدة دقائق  ) (While many aspects of fire vortices are still unknown, such as why they dramatically increase both the height of the flames and burning rate of the fire, they known to be two things: short and destructive. A typical fire tornado only lasts a few minutes.). وقال أحد المختصين في الأعاصير  عن ندرة حدوث مثل هذه الأعاصير  ما نصه ( يقول نيل لاريو في جامعة نيفادا: في البداية أنت تتعامل مع حدث نادر  وأن يضرب منطقة مأهولة يجعله أكثر  ندرة  ) ("You’re starting with a rare event to begin with, and for it to actually impact a populated area makes it even rarer,” says Neil Lareau of the University of Nevada. ).



من المعلوم أن من أهم معجزات القرآن الكريم  هو ذكره لكثير  من الظواهر  الطبيعية  في الكون وذلك لكي يلفت أنظار  البشر  إلى ما فيها من أسرار  الخلق ولعلها تقودهم إلى الايمان بأن وراء خلقها خالق لا حدود لعلمه وقدرته مصداقا لقوله نعالى "إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)" الجاثية.  ولقد جاء القرآن الكريم على ذكر  ظواهر  واضحة لكل من يشاهدها كالشمس والقمر  والنجوم والرياح والسحب  والأمطار  والبرد والرعد والبرق والبحار والأنهار  والجبال واختلاف الليل والنهار  والظلال وأشكال وألوان الكائنات الحية وغير ذلك الكثير.  بل إن القرآن أتي على ذكر  ظواهر   طبيعية لا يمكن للبشر   أن يشاهدوها بأم أعينهم بل يحتاجون لوسائل علمية لكشف وجودها كوجود جذور للجبال تغوص في طبقات الأرض السفلية تعمل على تثبيت القشرة الأرضية الرقيقة من الانزلاق حول طبقة الوشاح شبه السائلة وذلك في قوله تعالى "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)"  عم وقوله تعالى "وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)" النحل.  ومن هذه الظواهر الخفية وجود حواجز  بين مياه البحار  المالحة والمياه العذبة كمياه الأنهار والمياه الجوفية وذلك في قوله تعالى " وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)"الفرقان. ومنها أيضا وجود طبقات غير مرئية حول الأرض كطبقات الغلاف الجوي والمغناطيسي تحفظ الحياة على الأرض من الدمار بالجسيمات والأشعة الضارة الصادرة من الشمس وبقية نجوم السماء وذلك في قوله تعالى "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)" الأنبياء.  أما أعجب  من كل ذلك فهو ذكر القرآن الكريم لظواهر كونية حدثت وانتهت  في الماضي السحيق كذكره لحالة الدخان التي كان عليها الكون عند  أول نشأته  وكما أثبت ذلك العلماء في هذا العصر وذلك في قوله تعالى "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)" فصلت. 
                ومن الظواهر  الطبيعية العجيبة التي أتى القران الكريم على ذكرها ظاهرة  الإعصار  الناري وهو  من أندر  أنواع الأعاصير  حدوثا والذي جاء ذكره في قوله تعالى "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)" البقرة. إن مثل هذا الأعاصير النارية لا تحدث في الغالب إلا في البيئات التي تكثر فيها الأشجار  ولا تتولد إلا في داخل الحرائق الكبيرة التي تحدث في الغابات وكذلك فإنها من أقصر  الأعاصير  عمرا حيث لا يتجاوز العشرين دقيقة ولذلك فإنه من الصعب رصدها. ومن المعروف أن البيئة الطبيعية التي نزل فيها القرآن بيئة صحراوية تخلو  من  الظروف التي يمكن أن تتولد فيها الأعاصير  بشكل عام والأعاصير النارية على وجه الخصوص.  ومما يؤكد ندرة حدوث هذه الأعاصير النارية أن غالبية البشر  قد لا يعلمون بوجود مثل هذه الأعاصير  حتى في هذا العصر  الذي انتشر فيها العلم وكثرت فيه وسائل تناقل المعلومات والأحداث وتوفرت فيه وسائل رصد وتسجيل الأحداث بالصوت والصورة.  


                إن من يتفكر  في هذه الآية امتثالا  لأمره تعالى في نهايتها  "كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)"  يجد أن  تحديد الله عز وجل للإعصار  الناري ليكون السبب في إحراق الجنة وليس الحريق المعتاد هو لغرض إعلام البشر  بأنه سبحانه قد أحاط علمه بكل ما يجري في هذا الكون. فلقد كان كافيا لو أن هذا القرآن من تأليف البشر  أن يقول مؤلفه بأن الجنة قد احترقت لسبب ما حيث أن الحرائق العادية التي تصيب كثير من الغابات والمزارع ظاهرة كثيرة الحدوث إما بفعل فاعل أو  بشكل طبيعي نتيجة ارتفاع درجات الحرارة.  ولكن الذي أنزل القرآن الكريم سبحانه وتعالى يريد أن يهدي البشر إلى معرفته من خلال ذكر هذه الظاهرة النادرة الحدوث وهي الإعصار الناري وغيرها من الظواهر مصداقا لقوله تعالى "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)" الطلاق. ومن الجدير بالذكر هنا أن القرآن الكريم  قد ذكر  وسائل أخرى  لتدمير مزارع  بعض البشر بسبب كفرهم كالتدمير  بالصواعق وغور الماء والرياح الشديدة كما في قوله تعالى "فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)" الكهف وقوله تعالى "فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)" القلم.

يعرف الإعصار (twister or cyclone) بشكل عام على أنه كتلة هوائية تدور بشكل لولبي حول  عامود من الهواء الساكن ذي الضغط المنخفض يسمى عين الإعصار  (eye or vortex) .  وتتكون معظم الأعاصير  نتيجة ارتفاع درجة حرارة منطقة معينة من سطح الأرض  وعند ارتفاع الهواء الساخن إلى الأعلى تتكون منطقة ضغط منخفض تندفع إليها الرياح من المناطق الباردة المحيطة بها. وعند وصول الرياح الباردة إلى منطقة الضغط المنخفض فإنها تصطدم بكتلة الهواء الساخن فتبدأ بالدوران حولها بشكل لولبي صاعدة إلى الأعلى مكونة الإعصار. ويمكن أن يتكون الإعصار أيضا من إلتقاء تيارين هوائيين أحدهما ساخن والآخر بارد فيصعد التيار الساخن فوق البارد وينتج عن الاحتكاك بينهما ظهور دوامة هوائية أفقية موازية لسطح الأرض  تتحول فيما بعد إلى إعصار  عامودي. ويوجد أنواع كثيرة من الأعاصير  تتفاوت في أحجامها  ومواقع تولدها وآليات تكونها وسرعة الرياح فيها ومدة مكوثها ومحتواها من الماء أو  الغبار أو النار .  ويمكن تقسيم الأعاصير من حيث محتواها إلى الأعاصير  السحابية والأعاصير  الغبارية والأعاصير  النارية.

وتعتبر الأعاصير المدارية (tropical cyclone) أضخم الأعاصير  على الاطلاق حيث تتولد فوق مياه المحيطات الدافئة الواقعة حول خط الاستواء بين مداري الجدي والسرطان. وينتج عن ارتفاع الهواء الساخن المشبع ببخار الماء فوق تلك المناطق تنشأ منطقة واسعة من الضغط المنخفض. وعند اندفاع الهواء البارد القادم من المناطق القطبية فإنه يبدأ بالدوران حول الهواء الساخن بعكس اتجاه عقارب الساعة في النصف الشمالي من الأرض  ومع اتجاه عقارب الساعة في النصف الجنوبي وذلك بسبب دوران الأرض حول محورها. ويعمل الهواء البارد الذي يدور حول الهواء الساخن الرطب على ضغط أو عصر الأخير  دافعا إياه إلى طبقات الجو العليا الباردة فيتكثف مكونا الغيوم والأمطار بكميات ضخمة. وتعمل الطاقة الحرارية الكامنة التي يطلقها البخار المتكثف على مزيد من التسخين للهواء في عين الإعصار  فيزداد تدفقه إلى الأعلى وبالتالي مزيد من تدفق الهواء البارد الدوار  الذي تزداد سرعته الدورانية وبالتالي تزداد شدة الإعصار. ويتحرك الإعصار بسرعات بطئية نسبيا لا تتجاوز الثلاثين كيلومتر  في الساعة باتجاه الشمال الشرقي في النصف الشمالي وباتجاه الجنوب الشرقي في النصف الجنوبي.  ويبلغ قطر  عين الإعصار  المداري عدة كيلومترات أما دائرة نشاطه من حركة الرياح وتكون السحب فقد يمتد قطرها إلى مئات الكيلومترات وربما الآلاف. وتتلبد في سماء الإعصار غيوم كثيفة يهطل منها كميات كبيرة من الأمطار المصحوبة بالبرق والرعد  ويرافقها رياح عاتية قد تصل سرعتها إلى ما يزيد عن ثلاثمائة كيلومتر  في الساعة. ويتحرك الإعصار مسافات طويلة قد تصل عدة الآف من الكيلومترات في مدة قد تصل عدة أسابيع  بعدها يتلاشى عند سيره فوق المناطق البرية بسبب الاحتكاك مع تضاريس الأرض. ويطلق اسم التايفون (Typhoon) على الأعاصير  المدارية المتكونة في المحيط الهاديء والتي تضرب مناطق جنوب شرق أسيا واسم الهيروكين (Hurrican) لتلك المتكونة في المحيط الأطلسي وتضرب أمريكا الشمالية  واسم السايكلون(Cyclone)  لتلك المتكونة في المحيط الهندي وبحر العرب وتضرب الهند  وشرق أفريقيا وجنوب الجزيرة العربية.

أما الأعاصير  الحملية أو ما تسمى بالتورنيدو (Tornadoe) فهي تتكون في الغالب في داخل العواصف الحملية (convective storm) والتي تسمى أيضا بالعواصف الرعدية (thunder storm). وتتكون العواصف الحملية في البر والبحر  وذلك بعد صعود كتلة من الهواء الساخن الرطب من سطح الأرض إلى الأعلى من خلال ظاهرة الحمل الحراري فتتكثف مكونة ما يسمى بالسحب أو المزن الركامية (cumulonimbus clouds).  وتتشكل هذه السحب على شكل خلايا (cells) مكونة من عامود ضخم من السحب الممطرة قد يصل قطرها إلى ثلاثين كيلومتر  يصاحبها رياح عاتية وهطول أمطار وبرد بشكل غزير مع حدوث الرعد والبرق.  وقد يتكون الإعصار الحملي أو التورنيدو  في داخل الخلايا الضخمة (supercells) من العاصفة الرعدية وهو على شكل قمع (funnel) من السحاب الأسود يمتد من سطح الأرض إلى قاعدة السحابة الركامية. ويتراوح قطره على سطح الأرص بين مئات الأمتار  والكيلومترين  بينما تتراوح سرعته بين الستين والثلاثمائة كيلومتر في الساعة ولا تتجاوز مدة مكوثه الساعتين بعد أن يقطع مسافة قد تصل إلى مائة كيلومتر.

أما الأعاصير  أو الزوابع الغبارية (dust whirl or dust devil) فتتكون في الغالب فوق التضاريس المستوية والقاحلة  كالصحارى والسهول والطرق المعبدة حيث يندفع جيب من الهواء الساخن الملامس لسطح الأرض بشكل مفاجيء إلى الأعلى فيتشكل مكانها منطقة صغيرة ذات ضغط منخفض. وعندما يندفع  الهواء البارد من المناطق المحيطة إلى عين الزوبعة يبدأ بالدوران حول عمود الهواء الساخن ليكون الدوامة الهوائية التي يمكن رؤيتها إذا ما توفرت كميات كافية من الغبار  والأتربة والمخلفات النباتية اليابسة. ويتراوح قطر الزوبعة الغبارية بين عشرات السنتيمترات  والمائة متر  وارتفاعها إلى عدة مئات من الأمتار بينما لا تتجاوز سرعة الرياح فيها المائة كيلومتر  في الساعة. وتتراوح مدة مكوث الزوابع الغبارية  بين عدة ثواني وعشرات الدقائق تقطع خلالها مسافات تبعل لعمرها وسرعة تحركها. وتلعب الزوابع الغبارية دورا كبيرا في نقل الغبار  من الصحاري إلى الجو  ليعمل على تكون قطرات الماء في الغيوم وزيادة الأتربة في المناطق الفقيرة بالأتربة  كالجبال والتلال.

وأما الإعصار الناري (fire tornadoe) والذي يسمى أيضا الزوبعة النارية  (fire whirl) وكذلك الشيطان الناري (fire devil) فهو لا يختلف في خصائصه العامة عن بقية الأعاصير  وهو أقرب ما يكون من حيث الأبعاد وطريقة التكون من الزوبعة الغبارية (dust whirl) أو الشيطان الغباري (dust devil). وما يميز  الإعصار الناري عن الغباري أنه لا يتكون إلا  في داخل الحرائق حيث أن الهواء الساخن فوق الحريق يصعد إلى الأعلى ليحل محله هواء بارد يأتي من الجوانب فيبدأ بالدوران بشكل لولبي حول مكان الضغط المنخفض ليحصر اللهب والمواد القابلة للإشتعال في داخل عامود الهواء الساخن مكونا بذلك الإعصار الناري. ويتراوح قطر الإعصار الناري بين المتر الواحد والعشرين متر  أما ارتفاعه فيتراوح بين عشرة أمتار  و ثلاثمائة متر. أما سرعة الرياح الدوامة في داخله فقد تصل إلى مائتي كيلومتر في الساعة وهي أعلى من تلك التي لبقية الأعاصير  من نفس الحجم بينما تصل درجة حرارة اللهب في داخله إلى ما يزيد عن ألف درجة مئوية.  ومن حسن الحظ أن عمر  الإعصار  الناري لا يتجاوز الساعة الواحدة وأغلبها يتلاشى في دقائق معدودة ولذلك كانت الصعوبة في رصدها. وتكمن الخطورة في الأعاصير  النارية في قدرتها على حرق المواد القابلة للاشتعال بشكل أسرع من الحرائق العادية وقدرتها على نقل الحرائق من المكان الذي تولدت فيه إلى مكان آخر  وكذلك صعوبة إطفائها بسب أن النار محصورة في داخل غلاف هوائي دوام شديد السرعة.