2019-06-06

التقنية الرقمية في الكائنات الحية


التقنية الرقمية في الكائنات الحية
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

يتباهى البشر في هذا العصر بما اخترعوه من مختراعات كثيرة وعلى رأسها التقنية الرقمية التي استخدموها في نقل وتخزين ومعالجة الأصوات والصور والبيانات في أنظمة الاتصالات والحواسيب وشبكات المعلومات والأجهزة الطبية وفي التحكم بمختلف أنواع الأجهزة والمعدات. ولكن هذا التباهي سرعان ما يتلاشى إذا ما علم الإنسان أن مثل هذه التقنية الرقمية قد تم استخدامها في الكائنات الحية منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف مليون سنة بينما لم يكتشفها البشر إلا قبل ما يقرب من سبعين عام. وليس هذا فحسب فالمهام التي تقوم بها التقنية الرقمية في أنظمة البشر لا تكاد تذكر مع المهام التي تقوم بها هذه التقنية في الكائنات الحية بل إن علماء البشر لا زالوا يجهلون كثير من أسرار عمل هذه التقنية الربانية. فالتقنية الرقمية في الكائنات الحية لا يقتصر دورها على تخزين المعلومات ونقلها من كائن إلى كائن  بل تقوم بتصنيع أجسام عشرات الملايين من أنواع الكائنات الحية ابتداءا من خلية واحدة فقط وبأعداد لكل نوع منها لا يعلمها إلا الله عز وجل. ولقد أكد القرآن الكريم على أن البشر لن يمكنهم تصنيع أي كائن من هذه الكائنات الحية بمثل هذه الطريقة الربانية مما يؤكد على أن هذا القرآن منزل من لدن من يعلم تمام العلم ما في هذه الطريقة  في الخلق من معجزات لا ينكرها إلا جاحد فقال عز من قائل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)" الحج.  
   
   
إن عملية تحول خلية واحدة فقط إلى كائنات حية بمختلف الأشكال والألوان والأحجام تحدث أمام أعين البشر كل يوم ولكن قل من يلقي لها بالا أو أن  يتساءل عن طريقة عملها أو عمن يقف وراء عملية التحول هذه.  فالبشر يشاهدون كل يوم البذور وهي تتحول إلى آلاف الأنواع من النباتات والأشجار والبيوض وهي تفقس عن آلاف الأنواع من الحشرات والزواحف والأسماك والطيور وكذلك الحيوانات الثدية وهي تلد آلاف الأنواع من المواليد. إن عملية التحول هذه تتجلى في أوضح صورها في بيوض الطيور التي لا ترتبط بأي مصدر خارجي وتتحول إلى كائنات بأجسام بالغة التعقيد في ساعات أو أيام معدودة. وعلى الإنسان العاقل أن يتساءل عن الكيفية التي تمكنت بها هذه الخلية الوحيدة من أن تعطي أوامر لبقية الخلايا التي انقسمت منها لكي تقوم بالمهمة المنوطة بها في بناء جسم الكائن.  فأعضاء الطائر المختلفة تتطلب أنواعا مختلفة من الخلايا التي تحتاج لأن تغير من خصائصها أثناء الانقسام لتنتج الخلايا التي يبنى منها هيكل الطائر العظمي وعضلاته وجلده وقلبه وكبده ورئته ومعدته وريشه وغير ذلك من الأعضاء. ولقد أنزل الله عز وجل القرآن الكريم على البشر ليوقظهم من غفلتهم  فأمرهم بالتفكر في هذه المعجزة الكبرى في آيات كثيرة منها قوله عز وجل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)" الحج وقوله سبحانه "إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)" الجاثية.  

ولطالما تساءل علماء الأحياء عن السر الذي يجعل خلايا التكاثر والتي تكاد أن تكون متشابهة في الشكل وتحتوي على نفس المكونات أن تنتج ملايين الأنواع من الكائنات الحية بمختلف الأحجام والأشكال والألوان. ولا يوجد من يشك في أن جميع أنواع الكائنات الحية يبدأ تصنيعها من خلية واحدة فقط حيث تنقسم إلى خليتين ثم إلى أربع ثم إلى ثماني خلايا وهكذا دواليك إلى أن يتم إنتاج جميع الخلايا التي تلزم لبناء جسم الكائن. لقد كان شك علماء الأحياء يدور حول مكون دقيق موجود في نواة الخلية وهو الحامض النووي الرايبوزي منقوص الأوكسجين أو الدنا (DNA) وكانوا يعتقدون أنه هو المادة الوراثية (hereditary or genetic material) المسؤولة عن نقل الصفات الوراثية من جيل إلى جيل في الكائنات الحية. لقد تم اكتشاف مادة الحامض النووي لأول مرة في عام 1869م على يد الطبيب السويسري فريدرك ميشر (Friedrich Miescher). وفي عام 1953م  تمكن عالمي الأحياء فرانسيس كريك (Francis Crick) وجيمس واطسون (James Watson) باستخدام التصوير بالأشعة السينية (X-ray) من كشف تركيب الحامض النووي ونالوا على هذا الإنجاز العظيم جائزة نوبل في الفسيولوجيا وذلك في عام 1962م.  لقد وجد هذان العالمان أن كامل مواصفات أجسام الكائنات الحية مكتوبة بطريقة رقمية على شريط طويل ودقيق من الحامض النووي موجود في نواة الخلية وهو من الصغر بحيث لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضوئية. وبهذا الاكتشاف العظيم تمكن هذان العالمان من فك أعظم سر من أسرار الحياة وهو الكيفية التي يتم من خلالها توارث مواصفات أجسام الكائنات الحية وكذلك الطريقة التي يتم بها تصنيع كائنات جديدة ابتداء من خلية واحدة. وبعد هذا الاكتشاف بدأ علماء الأحياء بدراسة تركيب شريط الحامض النووي والطريقة التي يستخدمها في تخزين المعلومات الوراثية والآليات التي يستخدمها في تنفيذ البرامج المخزنة عليه ووجدوا أن فيه من الأسرار بل من المعجزات ما تعجز أكبر العقول البشرية عن فكها.  ولقد جاء هذا الاعتراف على لسان أحد هاذين العالمين وهو فرانسيس كريك حيث قال في كتابه طبيعة الحياة "إن الرجل الأمين المسلح بكل المعرفة المتاحة لنا الآن لا يستطيع أن يقول أكثر من أن نشأة الحياة تبدو شيئا أقرب ما يكون إلى المعجزة".


  إن أكثر ما أثار دهشة علماء الأحياء في شريط الحامض النووي هو أن التقنية التي تمت بها كتابة تعليمات تصنيع الكائنات الحية هي شبيهه بالتقنية الرقمية التي يستخدمها الحاسوب وأنظمة الاتصالات الرقمية. ولقد ترتب على هذا الاكتشاف العظيم تحول كبير في المفاهيم المتعلقة بالطريقة التي تمت بها عملية خلق الكائنات الحية ابتداءا من التراب وخاصة تلك المتعلقة بنظرية التطور والذي أصيب أنصارها بصدمة كبيرة. ويعود سبب هذه الصدمة إلى حقيقة أنه لا يمكن تعديل أيّ جزء من أجزاء الكائن الحي مهما بلغت بساطة تركيبه إلا من خلال تعديل المعلومات الرقمية المكتوبة على هذا الشريط. وهذا يعني أن عملية تطور أيّ كائن حي إلى كائن حي آخر يتطلب إعادة كتابة أو تعديل برنامج التصنيع الرقمي المخزن على شريط الحامض النووي. وكذلك فإنه لا يمكن لعاقل أن يصدق أن الصدفة التي لا عقل لها يمكنها أن تنحى هذا المنحى في اختراع هذه التقنية الرقمية لتصنيع الكائنات فمثل هذه الفكرة البالغة الذكاء لم تخطر على عقول البشر إلا في هذا العصر وبهدي من الله عز وجل. لقد أشار القرآن الكريم  في عدة آيات إلى حقيقة أن الكائنات الحية ممثلة بالإنسان يبدأ خلقها من خلية واحدة بل أشار إلى المكون الدقيق والضعيف الموجود في داخل هذه الخلية والمسؤؤل عن إعطاء أوامر التصنيع وأطلق عليه اسم السلالة كما في قوله تعالى "قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)" عبس وقوله تعالى "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)" السجدة. 


إن في التقنية الرقمية المستخدمة في الكائنات الحية من المعجزات الباهرات ما  صدعت رؤوس العلماء وهم يحاولون كشف أسرار طريقة تصنيع أجسام الكائنات الحية ابتداء من خلية واحدة. فالمعجزة الأولى وهي الأبسط تتعلق بالكيفية التي يتم بها تخزين أشكال وأبعاد المكونات المختلفة للجسم بطريقة رقمية على الشريط الوراثي. ففي جسم الإنسان على سبيل المثال يوجد أحد عشر جهازا يتكون كل منها من مكونات عديدة ويلزم كتابة أبعاد هذه المكونات بشكل دقيق على الشريط الوراثي.  ففي الجهازين العظمي والعضلي يوجد  206 عظمة و 640 عضلة جميعها لها أشكال غير منتظمة وفي داخل كل منها تراكيب دقيقة ويلزم لتصنيعها تحديد أبعادها الخارجية وكذلك مواصفات التراكيب الداخلية. إن علماء البشرحتى في هذا العصر لا زالوا يحاولون إيجاد طرق لتحديد أبعاد الأجسام غير المنتظمة لكي يتمكنوا من تخزينها في أجهزة الحاسوب. ولتوضيح الصورة  للقارئ فإن الطريقة التي يتبعها البشر إذا ما طلب منهم تصنيع إحدى هذه العظمات هو من خلال أخذ قوالب عنها كما يفعل طبيب الأسنان عند تصنيع الأسنان الصناعية. أما الخلية فإن شريطها الوراثي يحتوي على أبعاد هذه العظمة وبقية مواصفات تركيبها بشكل بالغ الدقة بحيث أنه عندما تقوم خليتان أحدهما في يمين الجسم والأخرى في يساره بتصنيع عظمتين من نفس النوع فإنهما تكونان متطابقتين تماما. وفي الجهازين الدوري والليمفاوي  يلزم تحديد مسارات آلاف الشرايين والأوردة والأوعية الليمفاوية وكذلك أقطارها وتراكيبها الداخلية. أما في الجهاز العصبي فيلزم تحديد أماكن بلايين الخلايا العصبية والوصلات التي تربط بينها وكذلك تحديد مسارات ملايين الألياف العصبية التي تربط بين الخلايا الحسية ومراكز الحس في الدماغ وكذلك تلك التي تربط مراكز التحكم في الدماغ مع عضلات الجسم. وكذلك الحال مع تحديد مواصفات مكونات الجهاز الهضمي والبولي والتنفسي والتناسلي والجلدي والمناعي والهرموني والسمعي والبصري.  


وأما المعجزة الثانية وهي الأصعب فتتعلق بطريقة تنفيذ البرامج الرقمية المخزنة على الشريط الوراثي وذلك لتصنيع أجسام الكائنات الحية ابتداءا من خلية واحدة فقط. إن على هذه الخلية الأم أن تنقسم إلى خليتين عليهما أيضا أن ينقسما إلى أربع وهكذا إلى أن يصل العدد إلى بلايين الخلايا وعلى كل خلية منها أن تتخذ مكانها المحدد في جسم الكائن فتلك الصلبة في العظام والمرنة في العضلات والشفافة في عدسات العين وتلك الحساسات للضوء واللمس والضغط والحرارة والبرودة وغير ذلك من الخلايا المتخصصة في أماكنها الخاصة بها. وإذا كان كامل الجسم يبدأ تصنيعه من خلية واحدة فلا بد وأن كل جهاز من أجهزته يبدأ أيضا تصنيعه من خلية واحدة وكذلك الحال مع كل عظمة وعضلة وشريان ووريد وليف عصبي وغيرها من مكونات الأجهزة المختلفة. إن أنقسام الخلايا وتحديد مواصفات ومهام الخلايا الناتجة عن الانقسام تتم من خلال الأوامر التي يصدرها الشريط الوراثي الموجود في كل خلية وذلك من خلال آليات معقدة سنبين بعض تفصيلاتها في الشرح التالي. وللقارئ أن يتخيل حتى يتقين من هذه المعجزة الكبرى منظر خلايا جسم جنين الإنسان وهي تعمل بكل صمت فتقوم بتصنيع جميع عظمات الجسم وعضلاته وشراينه وأوردته وأعصابه  وبقية مكونات أجهزته المختلفة بأبعادها الثلاثية المطلوبة لتنتج بعد مرور تسعة أشهر طفلا مكتمل النمو دون عيب في جسمه بعد أن كان خلية واحدة وسبحان الله العظيم الذي صور هذه المعجزة الكبرى بقوله "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)" المؤمنون. 

الأحرف والكلمات والجمل في الشريط الوراثي
إن المعلومات المخزنة على الشريط الوراثي في الكائنات الحية قد كتبت بنفس الطريقة التي تكتب بها المعلومات في اللغات البشرية والحاسوبية المختلفة فهي تتكون من أحرف  وكلمات وجمل. فلقد وجد العلماء أن المعلومات على الشريط الوراثي في جميع الكائنات الحية بلا استثناء قد تم كتابتها  بأربعة أحرف فقط  وبكلمات لها نفس الطول وهو ثلاثة أحرف. إن طريقة تمثيل الأحرف في الشريط الوراثي تختلف عن تلك المستخدمة في اللغات وفي الحواسيب  فالأحرف في اللغات البشرية تمثل بالرسوم وفي الأجهزة  الرقمية تمثل بالجهود الكهربائية. أما الأحرف الوراثية فقد تم تمثيلها بجزيئات عضوية ثلاثية الأبعاد وهي  الأدينين (Adenine (A)) والجوانين (Guanine (G)) والسايتوسين (Cytosine (C)) والثايمين (Thymine (T)) وذلك في شريط الدنا مع استبدال الثايمين باليوراسيل (Uracil (U)) في شريط الرنا. وهذه الجزيئات تسمى القواعد النيتروجينية وهي مبنية من ذرات الكربون والهيدروجين والأوكسجين والنيتروجين ويتراوح عدد الذرات في كل  جزيء منها بين ثلاثة عشر وستة عشر ذرة يتم تثبيتها على سلاسل عضوية. ولكي تبقى المسافة بين سلسلتي شريط  الدنا ثابتة فإن الحرفين المكونين لكل درجة من درجاته يجب أن يكون أحدهما جزيئا كبير الحجم والآخر صغير الحجم. وهذا لا يتم إلا إذا كان لكل جزيء كبير الحجم هنالك جزيء واحد فقط صغير الحجم يمكن أن يرتبط به فالأدنين لا يرتبط إلا مع الثايمين والجوانين لا يرتبط إلا مع السايتوسين وهو ما يسمى بإزدواج القواعد المتكاملة (complementary base pairing).  وبهذا فإن المعلومات التي تعطيها الأحرف المرتبطة بإحدى سلسلتي شريط الدنا هي نفسها التي تعطيها الأحرف المرتبطة بالسلسلة الأخرى. إن خاصية التكامل بين الأحرف هو السر الذي مكن الشريط الوراثي من إنتاج نسخ جديدة عنه فبمجرد فصل السلسلتين عن بعضهما يمكن لكل منهما تكوين السلسلة الأخرى المكملة لها من خلال جذب أحرف مكملة لأحرفها قد سبق للخلية أن قامت بتصنيعها بكميات تكفي لتصنيع النسخة الجديدة.

أما الكلمات الوراثية أو ما يطلق عليها الشيفرات الوراثية  (genetic codes or codons) فيبلغ طولها ثلاثة أحرف فقط في جميع الكائنات الحية.  وعند حساب عدد الشيفرات الوراثية التي يمكن الحصول عليها من توافيق هذه الأحرف الثلاث فإن عددها سيكون أربع وستون شيفرة وهو عدد الأحرف مرفوع لأس (power) هو طول الكلمة. لقد تم تحديد طول الشيفرة الوراثية بتقدير بالغ  ولم يتم بمحض الصدفة فلقد تبين للعلماء أن عدد الأحماض الأمينية التي تلزم لتصنيع جميع أنواع البروتينات في الكائنات الحية يبلغ عشرين حمضا. ولذلك يلزم وجود عشرين شيفرة على الأقل في قاموس الشيفرة الوراثية لتمثيل هذه الأحماض الأمينية. وإلى جانب الشيفرات المستخدمة لتمثيل الأحماض الأمينية يلزم وجود شيفرات لتحديد بداية ونهاية الجمل تسمى الشيفرات التنظيمية (regulatory codons ) والتي تساعد على تنفيذ برامج الشريط الوراثي فبدونها فإن حدوث إزاحة بمقدار حرف واحد عن البداية الصحيحة للجمل أي الجينات كفيل بتدمير كامل المعلومات الموجودة عليها. وقد تم تخصيص شيفرة واحدة وهي (AUG) لتحديد بداية (start) الجين وثلاث شيفرات وهي (UAA, UAG, UGA) لتحديد نهاية (stop) الجين إلى جانب شيفرات تنظيمية أخرى. وعلى الرغم من وجود فائض في عدد الكلمات التي توفرها الشيفرة ثلاثية الأحرف إلا أنه قد تم استغلال الكلمات الزائدة  بشكل بارع من خلال تخصيص أكثر من شيفرة  لبعض الأحماض الأمينية المهمة وذلك بهدف تقليل احتمالية الخطأ عند نسخ المعلومات عن الشريط.
إن من يعمل في تصميم أنظمة تشفير المعلومات يعلم أن أقل عدد ممكن لأحرف التشفير في التقنية الرقمية هو اثنان ويعتبر نظام التشفير الثنائي (binary) أبسط أنواع التشفير ولذلك تم استخدامه في الحواسيب وأنظمة الاتصالات الرقمية. وقد يتساءل القاريء لماذا لم  يتم اختيار نظام التشفير الثنائي أو الثلاثي (ternary) بدلا من النظام الرباعي (quaternary) المستخدم في الشريط الوراثي.  وللجواب على هذا التساؤل علينا أن نتذكر أن هنالك عوامل كثيرة يجب على مصمم نظام التشفير أن يأخذها في الاعتبار عند اختيار عدد أحرف التشفير. ويعتبر حجم الحيز الذي يحتله الشريط الوراثي في الخلية الحية من أهم هذه العوامل فلو تم اختيار النظام الثنائي لكان طول الشيفرة خمسة أحرف بدلا من ثلاثة أحرف في النظام الرباعي وهذا يعني زيادة طول الشريط وبالتالي الحيز الذي يحتله إلى ما يقرب من الضعف.  أما العامل الثاني فهو أن عملية نسخ الشريط الوراثي التي تحدث عند كل انقسام للخلية ستستغرق وقتا أطول مما هي عليه بسبب تضاعف طول الشريط.  وأما العامل الثالث فهو أن حجم مصانع البروتينات الموجودة في الخلايا سيتضاعف بسبب زيادة طول الشيفرة وهذا يتطلب زيادة حجم الخلية حيث يوجد الآلاف من هذه المصانع في الخلية الواحدة.

وقد يقول قائل عنده إلمام بأنظمة التشفير بأن طول الشيفرة في نظام الأحرف الثلاثي هو أيضا ثلاثة أحرف وهي تعطي 27 شيفرة كافية لتمثيل الأحماض الأمينية العشرين وشيفرات البداية والنهاية.  والجواب على ذلك أن عدد الأحرف المستخدمة في الشريط الوراثي يجب أن يكون زوجيا وليس فرديا مما يعني أن النظام الثلاثي لا يمكن استخدامه كنظام للتشفير. إن شرط التوافق أو التكامل بين أحرف التشفير الذي شرحناه آنفا يفسر لماذا  يجب أن يكون  عدد هذه الأحرف زوجيا وليس فرديا.  وفي شرط التكامل هذا يكمن سر عملية النسخ التلقائية التي يقوم بها الشريط الوراثي  للحفاظ على المعلومات اللازمة لتصنيع مختلف أنواع الكائنات الحية. ولا بد لنا هنا من أن نؤكد على أن استخدام نظام التشفير لحفظ المعلومات عملية عقلية بحتة لا يمكن أن تتم بأي حال من الأحوال من قبل الصدفة فأقصى ما يمكن للصدفة أن تعمله هو جمع بعض المكونات مع بعضها البعض لتنتج مكونا أكثر تعقيدا. فبما أن الصدفة تجهل عدد الأحماض الأمينية المستخدمة في بناء البروتينات وتجهل كذلك نوع وعدد الأحرف المستخدمة في بناء الشيفرات الوراثية ولهذا فلا سبيل لها أن تهتدي إلى تحديد طول الشيفرة. وكذلك فإن عملية النسخ التلقائية للمعلومات الوراثية لا يمكن أن تخترع إلا من قبل عاقل  يهمه أن يحتفظ  بهذه  المعلومات لأهداف لاحقة يريد تحقيقها.

أما الجمل في الشريط الوراثي فهي ما يسمى بالجينات (Genes) فالجين  في الشريط الوراثي  هو الجملة القادرة على تصنيع أحد البروتينات العشرين التي تحتاجها أجسام الكائنات الحية. وبما أن البروتين مكون من سلسلة من الأحماض الأمينية لها طول محدد وترتيب محدد فإن الجين المناظر لهذا البروتين يحتوي على الشيفرات التي تحدد تسلسل هذه الأحماض الأمينية والمأخوذة من جدول الشيفرة الوراثية. إن البروتينات لها أطوال تتراوح  بين عدة أحماض أمينية وما يزيد عن خمسين ألف حامض أميني وعليه فإن الجينات يجب أن تحتوي على عدد من الشيفرات يناظر أعداد الأحماض الأمينية في البروتينات المناظرة. ولكن لأسباب لم يتمكن العلماء من كشف كثير منها فإن الجينات  تحتوي على شيفرات إضافية لا تدخل في عملية تصنيع البروتينات حيث يتم قصها والتخلص منها عندما ينتهي الرنا المراسل من نسخ المعلومات عن الشريط الوراثي أو  الدنا. وقد أطلق العلماء على مناطق شريط الجين التي تحتوي على الشيفرات التي تحدد ترتيب الأحماض الأمينية اسم الإيكسونات (exons) واسم الإنترونات (introns)  على المناطق التي تحتوي على الشيفرات الفائضة (redundant).

وبما أن الشريط الوراثي يحتوي على عدد كبير من الجينات كان لا بد من وجود مناطق تنظيمية (regulatory regions) تقع في بداية ونهاية الجين. وتساعد هذه الشيفرات التنظيمية على نسخ الجينات من الشريط الوراثي بشكل صحيح وكذلك ترجمة الجينات بشكل صحيح من قبل الرايبوسومات التي تقوم بتصنيع البروتينات بعد أن يحملها إليها الرنا المراسل. وتتكون المناطق التنظيمية الموجودة في بداية الجين من المقدمة (Leader or promoter) ومن ثم شيفرة البدء (start codon) والتي تشير أن ما بعدها هي شيفرات الأحماض الأمينية. وأما تلك الموجودة في نهاية الجين فهي أولا شيفرة الوقف (stop codon) التي تشير إلى نهاية سلسلة شيفرات الأحماض الأمينية يتبعها سلسلة أحرف إشارة الإنتهاء (Trailer or terminator). وتحتوي المناطق التنظيمية أيضا على شيفرات للتحكم بعمل الجين أو ما يسمى بالتعبير الجيني (gene expression) من حيث معدل إنتاجه للبروتينات والأوقات التي يجب أن يعمل بها. ويوجد أنواع أخرى كثيرة من المواقع التنظيمية بعضها يقع في مقدمة الجين وبعضها يقع في أماكن مختلفة على الشريط الوراثي.  فأحد هذه المواقع هوما يسمى  بالمنظم (regulator)  وهو عبارة عن جين صغير ينتج بروتين صغير الحجم يمكنه الدخول إلى النواة ويتفاعل مع المواقع التنظيمية فيمنع الجين المتحكم به من إنتاج البروتينات البنائية (structural protein). ومنها أيضا ما يسمى بالمحفزات (activators) والمشجعات (promoters) والمشغلات (operators)  والمعززات (enhancers) وهي المواقع التي تتفاعل معها معاملات النسخ (transcription factors) كالأنزيمات والهرمونات ومعاملات النمو (growth factors) بحيث تحث الجين على إنتاج البروتين المطلوب أو منعه. ويوجد أيضا في المناطق التنظيمية ما يسمى بعمر الرنا المراسل (mRNA longevity) وهو طول الفترة الزمنية التي يقضيها في السيتوبلازم قبل أن يتحلل حيث أن عدد البروتينات التي ينتجها هذا الرنا يتناسب طرديا مع طول عمره.

يعتمد طول الشريط الوراثي في الكائنات الحية على نوع الكائن ومقدار التعقيد الموجود في تركيب جسمه. فطول الشريط في الفيروسات يعد بعدة عشرات من الأحرف وفي البكتيريا بعدة ملايين وفي النباتات والحشرات بعدة مئات من الملايين وفي الثديات بعدة بلايين من الأحرف.   أما الشريط الوراثي للإنسان فيبلغ عدد الأحرف فيه ثلاثة بلايين حرف ومثلها من الأحرف المكملة وإذا ما قسمنا هذا العدد على ثلاثة وهو طول الشيفرة فإن عدد الشيفرات أو الكلمات في هذا الشريط يبلغ بليون  شيفرة. إن المعلومات الموجودة على الشريط الوراثي مقسمة إلى عدة أنواع وهي الجينات المشفرة للبروتينات (protein-coding genes) ويبلغ عددها 23 ألف جين وتشكل واحد ونصف بالمائة من طول الجينوم البشري (human genome). أما بقية الأنواع فهي المتواليات التنظيمية (regulatory sequences) وجينات الرنا غير المشفرة (non-coding RNA genes) وجينات الدنا غير المشفرة (noncoding DNA) والإنترونات (introns). وكان العلماء يطلقون على هذه الجينات غير المشفرة اسم الدنا (junk DNA) لأنهم  يعتقدون أنه لا فائدة منها ولكن هذا الاعتقاد لا أساس له فهل يمكن لهذا العدد القليل من الجينات أن يخزن جميع مواصفات مكونات الجسم وبرامج تصنيعها. ومما يؤكد ذلك أنه لو طلب من علماء الحاسوب بتخزين أشكال وأبعاد عظمات وعضلات الجسم فقط في ذاكرة الحاسوب لكان الحيز التي تحتاجه يزيد كثيرا عن الحيز الموجود على الشريط الوراثي.

تركيب الأشرطة الوراثية وأنواعها
تتكون الأشرطة الوراثية من جزيئات تسمى  الأحماض النووية nucleic acids)) وهي على شكل سلاسل خطية غير متفرعة مبنية من جزيئات عضوية تسمى النيوكليوتيدات nucleotides)). وتعتبر من أكبر الجزيئات الموجودة في الكائنات الحية حجما حيث يبلغ عدد نيوكليوتيدات الكروموسوم الأول في الإنسان 247 مليون نيوكليوتيد بينما لا يتجاوز عدد الأحماض الأمينية في أكبر جزيئات البروتين حجما 50 ألفا. ويتكون جزيء النيوكليوتيد الواحد من ثلاثة جزيئات وهي جزئ السكر الخماسي (  5-carbon pentose sugar)  وجزي المجموعة الفوسفورية (phosphate group (P04)) وجزيء من مادة نيتروجينية قاعدية (nitrogenous base) تسمى القاعدة النووية (nucleobase) وهي التي تمثل أحرف التشفير. ويتحدد نوع النيوكليوتيد من نوع السكر الخماسي ومن نوع القاعدة النووية وكذلك من عدد المجموعات الفوسفورية المستخدمة فيه. فمن حيث نوع السكر يوجد نوعين من النيوكليوتيدات وهي النيوكليوتيدات الرايبونية (ribonucleotide) والتي تستخدم سكر الرايبوز (ribose) والنيوكليوتيدات الرايبونية منقوصة الأوكسجين (deoxyribonucleotides) والتي تستخدم  سكر الرايبوز منقوص الأوكسجين (deoxyribose). أما من حيث نوع القاعدة النووية فيوجد خمسة أنواع من القواعد المستخدمة في الأحماض النووية وهي الأدينين (adenine) والجوانين (guanine) والثايمين  (thymine) والسايتوسين (cytosine) واليوراسيل (uracil) ولكن لا يستخدم في الحامض النووي إلا أربعة أنواع منها وذلك حسب نوع الحامض النووي.

وتصنف الأحماض النووية إلى نوعين رئيسين فاالأول هو الحامض النووي الرايبوني منقوص الأوكسجين أو الدنا ((Deoxyribonucleic Acids (DNA) والذي يستخدم سكر الرايبوز منقوص الأوكسجين  وهو  مبنى من سلسلتين من النيوكليوتيدات. أما الثاني فهو الحامض النووي الرايبوني أو الرنا ((Ribonucleic Acids (RNA ) والذي يستخدم سكر الرايبوز  وهو مبنى من سلسلة واحدة فقط من النيوكليوتيدات.  وتمثل المعلومات في الأحماض النووية من أربعة أنواع من النيوكليوتيدات أو الأحرف  فشريط الدنا (DNA) يستخدم الأدينين والجوانين والثايمين والسايتوسين بينما يستخدم شريط الرنا (RNA) الأدنين والجوانين  والسايتوسين واليوراسيل حيث يقوم اليوراسيل في الرنا مقام الثايمين في الدنا. وتستخدم الأحماض النووية لتخزين ونقل المعلومات الوراثية (Genetic information) في كل خلية من خلايا الجسم.  فالمعلومات الوراثية تحتوي على كامل مواصفات الكائن الحي وهي مكتوبة على شكل برنامج  تصنيع كامل يمكنه عندما يعطى الأمر إليه القيام بتصنيع جسم الكائن الحي بأدق تفاصيله وذلك ابتداءا من خلية واحدة فقط. ولا يتوقف دور الشريط الوراثي على تصنيع أجسام الكائنات الحية بل يتحكم بشكل مستمر بجميع العمليات الحيوية التي تجري في داخل خلايا الجسم. أما الحامض النووي الرايبوني فيقوم بنقل المعلومات من الشريط الوراثي الذي لا يمكنه مغادرة نواة الخلية بسبب كبر حجمه إلى مصانع البروتينات الموجودة في سيتوبلازم الخلية.  وسنشرح فيما يلي تركيب كل نوع من أنواع الاحماض النووية والوظائف التي يقوم بها كل منها.
 
الحامض النووي الرايبوني منقوص الأوكسجين (الدنا)
يتكون الحامض النووي الرايبوني منقوص الأوكسجين أو الدنا من سلسلتين (double-stranded) جانبيتين مبنيتان من خلال ربط جزيء السكر الخماسي مع جزيء مجموعة الفوسفات بطريقة متعاقبة وربط جزيئات القواعد النيتروجينية أو الأحرف الوراثية على كل من السلسلتين على  مسافات محددة وذلك على شكل درجات السلم. وتتكون كل درجة من حرفين يرتبطان بجزيئات السكر الموجودة على السلسلتين ويرتبطان كذلك ببعضهما البعض عند منتصف الدرجة باستخدام روابط هيدروجينية (H-bonds). ويبلغ عرض شريط الدنا نانومترين إثنين فقط والنانومتر هو جزء من بليون جزء من المترأما المسافة الفاصلة بين الدرجات  فتساوي تقريبا ثلث نانومتر فقط أي أن السنتيمتر الواحد من هذا الشريط يحتوي على ما يقرب من ثلاثين مليون حرف وراثي. وهذه الكثافة في تخزين المعلومات غاية في الضخامة إذا ما تم مقارنتها  مع كثافة المعلومات الرقمية المخزنة على الأقراص المغناطيسية أو الضوئية الحديثة حيث تصل في أفضل أنواعها إلى نصف مليون حرف لكل سنتيمتر علما بأن عرض الشريط على القرص المغناطيسي يزيد بعشرين مرة عن عرض الشريط الوراثي.  إن الشريط الوراثي للإنسان يتكون من ستة بلايين حرف وراثي مخزنة في حيز لا يمكن رؤيته بالميكروسكوبات الضوئية ولو تمت كتابته على الورق باستخدام الأحرف الكتابية لاحتاج إلى مليون صفحة ورقية. وقد آوضح أحد علماء الأحياء  ضخامة هذه الكثافة بقوله إن الحيز الذي يمكن أن تحتله الأشرطة الوراثية لجميع أنواع الكائنات الحية التي تعيش على الأرض الآن وتلك التي انقرضت لا يتجاوز ملعقة شاي صغيرة. إن كتابة المعلومات الوراثية بهذه الطريقة الرقمية وبهذه الكثافة العالية تعتبر معجزة من معجزات الحياة ولكن هذه المعجزة لا تقارن بمعجزة قراءة هذه المعلومات عن الشريط الوراثي من قبل مكونات الخلية. إن هذه المعلومات لا يمكن قراءتها باستخدام الميكروسكوبات الضوئية حيث أن طول موجة الضوء المرئي الذي يتراوح بين خمسمائة وسبعمائة نانومتر يزيد كثيرا عن المسافة الفاصلة بين حرفين متجاورين وهو ثلث نانومتر. وباختراع الميكروسكوبات الإلكترونية والتي تستخدم الإلكترونات بدلا من الضوء كوسيلة لرؤية الأشياء تمكن العلماء من قراءة المعلومات المخزنة على الأشرطة الوراثية لمختلف أنواع الكائنات الحية وخاصة الإنسان الذي أكمل العلماء قراءة كامل شريطه الوراثي في ما يسمى مشروع الجينوم البشري. ولا بد من التأكيد هنا على أن كل ما قام به العلماء في مشروع الجينوم البشري هو تدوين تسلسل أحرف الشريط الوراثي وكذلك تحديد أماكن الجينات المختلفة أما البرامج والمعلومات المتعلقة بتحديد مواصفات الإنسان وطريقة تصنيع أعضائه ابتداء من خلية واحدة فلا زال أمامهم شوطا طويلا لكي يتمكنوا من فك ألغازه.


وفي شريط الدنا يرتبط كل حرف في إحدى السلسلتين بالحرف المكمل له فقط فالأدينين لا يرتبط إلا مع الثايمين والجوانين لا يرتبط إلا مع السايتوسين مما يعني أن كل سلسلة من سلسلتي الدنا تحمل نفس المعلومات الوراثية ولكن المعلومات على إحدى السلسلتين مكتوبة بأحرف مكملة لأحرف  السلسلة الأخرى. وعلى الرغم من أن كل من السلسلتين تحملان نفس المعلومات إلا أن عملية نسخ المعلومات عن  الشريط الوراثي تتم من أحدهما فقط وهي المسماة السلسلة التشفيرية أو الأساسية (coding strand) بينما تسمى الأخرى السلسلة غير التشفيرية أو المكملة (noncoding strand). ويتم التفريق بين السلسلتين من خلال الطريقة التي يتم بها ربط جزيء مجموعة الفوسفات بجزيء السكر ففي السلسلة الاساسية يتم ربط مجموعة الفوسفات العلوية بذرة الكربون الخامسة (5') في جزيء السكر الخماسي ويتم ربط المجموعة السفلية بذرة الكربون الثالثة (3') بينما تعكس هذه القاعدة في السلسلة المكملة. ولذا فإن عملية ربط الأحرف في كل من السلسلتين تتم بشكل غير متواز (anti-parallel) فالسلسلة الأساسية لها اتجاه خمسة إلى ثلاثة (5'-3') بينما السلسلة المكملة  لها اتجاه ثلاثة إلى خمسة (3'-5'). إن وجود سلسلتين تحملان نفس المعلومات على الشريط الوراثي ضروري لإنتاج نسخ جديدة عن الشريط الوراثي عند انقسام الخلايا حيث يتم وضع شريط وراثي جديد في كل خلية جديدة.

إن شريط الدنا لا يترك على شكل سلم مستقيم (straight ladder) بل يتم لفه ليصبح على شكل لولب مزدوج (double helix). وتبلغ طول الخطوة (pitch) في هذا اللولب المزدوج 3,4 نانومتر والخطوة هي المسافة بين قمتين متتاليتين تظهران على سطح اللولب. إن عملية اللف هذه تعطي الشريط متانة أعلى حيث ترتص الجزيئات المكونة للشريط ببعضها البعض كما هو الحال عند برم ألياف الحبل بشكل لولبي. وعند النظر إلى الشريط المبروم باتجاه محوره (axis) فإنه يظهر على شكل الوردة وتكون الأحرف في المنتصف والسلاسل الجانبية على المحيط. وتتكون نتيجة لعملية لف الشريط بشكل لولبي أخاديد (grooves) في السطح الخارجي للشريط حيث يوجد نوعين من الأخاديد وهما الأخاديد الكبرى (major grooves) والأخاديد الصغرى (minor grooves). وتلعب هذه الأخاديد وخاصة الكبرى منها دورا مهما في تسهيل عملية لف الشريط الوراثي على الأسطوانات البروتينية عند بناء الكروموسومات كما سنشرح ذلك لاحقا. 


الحامض النووي الرايبوني (الرنا)
أما شريط الرنا فهو شريط يتكون من سلسلة واحدة فقط  (single-stranded) من النيوكليوتيدات ويستخدم سكر الرايبوز ومجموعة الفوسفات بشكل متعاقب في بناء السلسلة الجانبية التي تثبت عليها الأحرف. ويستخدم  الرنا حرف اليوراسيل بدلا من حرف الثايمين في الدنا وذلك لحكمة بالغة  وعجيبة حيث أن وجود اليوراسيل في سلسلة الرنا يمنع تكون سلسلة مكملة ترتبط به كما هو الحال في الدنا. وهذا أيضا لغز من ألغاز الحياة فاستبدال حرف واحد فقط يمنع بقية الأحرف في السلسلة من الإرتباط بمكملاتها مما يحول من بناء سلسلة مكملة لسلسلة شريط الرنا وذلك لكي يقوم بوظائفه التي صمم من أجلها. ويوجد ثلاثة أنواع رئيسية من الرنا في الخلايا الحية  وهي الرنا المراسل (messenger RNA (mRNA)) والرنا الناقل (transfer RNA (tRNA)) والرنا الرايبوسومي (ribosomal RNA (rRNA)). فالرنا المراسل  يقوم بنسخ ونقل التعليمات من شريط الدنا الموجود في داخل النواة إلى مصانع البروتينات وهي الرايبوسومات الموجودة في الشبكة الإندوبلازمية خارج النواة. إن عملية النسخ (Transcription) هذه عملية بالغة التعقيد وملخصها أنه  عندما يعطي الشريط الوراثي الأمر لتصنيع بروتين معين فإن إنزيم خاص بهذا البروتين (RNA polymerase) يذهب إلى مكان محدد على الشريط الوراثي حيث يوجد الجين المنشود ثم يقوم  بفتح (unwound) سلسلتي الشريط الرئيسي في هذا المكان ومن ثم يقوم الشريط المراسل بأخذ نسخة عن الشيفرات التي تحدد سلسلة الأحماض الأمينية. وينسخ شريط الرنا المراسل التعليمات عن السلسلةالاساسية (coding strand) وليس عن السلسلة المكملة (noncoding strand) وعند انتهاء عملية النسخ يتحرر الشريط المراسل وتنغلق سلسلتي الشريط الوراثي على نفسها.  ويحتاج الشريط المراسل المنسوخ لبعض المعالجة حيث أنه يحتوي على أجزاء غير مشفرة (non-coding sequences) تسمى الإنترونات (introns) موجودة بين الأجزاء المشفرة والتي تسمى الإكسونات (exons) ويسمى هذا الشريط المراسل الأولي (pre-mRNA). وتتم معالجة الشريط المراسل الأولي من خلال قص الإنترونات ومن ثم ربط (splicing) الإكسونات ببعضها باستخدام أنزيمات الربط الخاصة بذلك (spliceosome). وأخيرا  يغادر الشريط المراسل الناضج أو المعالج (mature mRNA)  نواة الخلية متجها إلى سيتوبلازم الخلية (cytoplasm) حيث توجد الرايبوسومات وهي مصانع البروتينات.

          إن بنية الشريط المراسل تتطابق تماما مع بنية الحزم الناقلة للبيانات (data packages) في شبكات الاتصالات والحاسوب والإنترنت فهي مكون من سلسلة من الأحرف غير المشفرة تسمى المقدمة (Leader or promoter) ومن ثم شيفرة البدء (start codon) والتي تشير أن ما بعدها هي شيفرات الأحماض الأمينية ومن ثم شيفرة الوقف (stop codon) التي تشير إلى نهاية سلسلة شيفرات الأحماض الأمينية والتي يتبعها سلسلة أحرف إشارة الإنتهاء (Trailer or terminator). ويتم حماية الشريط المراسل عند أطرافه بسلسلة من الأحرف لضمان حماية إشارات الإبتداء والإنتهاء من أي تدمير قد يصيبها أثناء إنتقالها عبر مكونات الخلية  ويسمى هذا الجزء الحامي بالطاقية (cap). وعند وصول الشريط المراسل إلى الرايبوسوم تبدأ عملية تصنيع البروتين في داخله أو ما يسميه علماء الأحياء بعملية بالترجمة (Translation) حيث يتم تصنيع شريط من الأحماض الأمينية يحكم تسلسلها سلسلة الشيفرات التي يحملها الشريط المراسل.

أما شريط الرنا الناقل (tRNA) فهو الذي يقوم بنقل الأحماض الأمينية المنتشرة في سيتوبلازم الخلية إلى الرايبوسومات لتصنيع البروتينات. والرنا الناقل عبارة عن شريط حامض نووي قصير جدا يحمل على أحد جنبيه الشيفرة المكملة لشيفرة أحد الأحماض الأمينية وعلى الجانب الآخر الحامض الأميني المناظر ولهذا  يوجد لكل حامض أميني من الأحماض الأمينية العشرين شريط رنا ناقل خاص به. ويظهر شريط الرنا الناقل بعد إلتفافه على شكل إشارة الزائد (+) وتتشكل ثلاثة دوائر أو عرى (loops) عند ثلاثة رؤوس بينما يبقى الرأس الرابع مفتوحا. ويوجد على رأس العروة السفلى الشيفرة المكملة (anticodon) لشيفرة أحد الأحماض الأمينية العشرين وهذا الرأس هو الذي يمر على شريط الرنا المراسل من خلال إحدى فجوات الرايبوسوم وإذا ما تطابقت شيفرته مع شيفرة الرنا المراسل فإنه يتوقف لحين قيام الرايبوسوم بالإمساك بالحامض الأميني الذي يحمله وربطه ببقية الأحماض الأمينية التي أمسك بها. أما الرأس المفتوح من شريط الرنا الناقل فهو لا يرتبط إلا بنوع واحد فقط من الأحماض الأمينية وهو النوع الذي له شيفرة مكملة للشيفرة الموجودة على رأس العروة السفلية ويتم ذلك بمساعدة إنزيم مخصص لذلك الحامض وهو (aminoacyl tRNA synthetase (aaRS)). إن هذا التصميم البديع للرنا المراسل لا يقدر عليه إلا عليم خبير سبحانه وتعالى فكيف  يمكن لثلاثة أحرف موجودة على رأس العروة السفلى أن تنقل تأثيرها إلى الرأس العلوي المفتوح بحيث لا يمسك إلا بالحامض الأميني المناظر وكذلك كيف يسمح له بالانفصال عنه بمجرد وقوفه على الشيفرة المكملة له الموجودة على الرنا المراسل.

أما الرنا الرايبوسومي ( (rRNA فهي أشرطة حامض نووي تستخدم بالتعاون مع بعض أنواع البروتينات لبناء أجسام الرايبوسومات (ribosomes) وهي تعمل كالإنزيمات تسهل من عملية ربط الأحماض الأمينية ببعضها البعض في سلاسل البروتينات التي تصنعها الرايبوسومات. ويتكون الرايبوسوم من وحدتين أحدهما كبيرة الحجم (large subunit) والأخرى صغيرة الحجم (small subunit) وهما مفصولتان عن بعضهما في الوضع الطبيعي ولكن عند قدوم شريط الرنا المراسل فإنهما يتحدان مع بعضهما بعد الإطباق على الشريط. ويوجد في الوحدة الكبرى ثلاثة مواقع للإرتباط (binding sites) يرمز لها بالرموز الإنكليزية أي وبي وإي (A, P, and E). ويرتبط الرنا الناقل والمحمل بأحد الأحماض الأمينية في موقع الإرتباط الأول (A) إذا ما كانت الشيفرة التي يحملها مكملة لشيفرة الرنا المراسل الموجودة في ذلك الموقع ثم يتحرك الرايبوسوم ليدخل الرنا الناقل في موقع الإرتباط الثاني (P) حيث تتم عملية فصل الحامض الأميني عن الرنا الناقل وربطه بالأحماض الأمينية السابقة. أما الخطوة الأخيرة فهي أنه عند تحرك الرايبوسوم خطوة أخرى فينتقل الرنا الناقل في موقع الإرتباط الثالث (E) حيث ينفصل عن الرايبوسوم ليقوم بإحضار حامض أميني جديد إليه. إن من عجائب الرايبوسوم أنه هو الذي يتحرك على الشريط وليس العكس وذلك بسبب صغر حجمه مقارنة بحجم الرنا المراسل وهذا يوفر كمية كبيرة من الطاقة على الخلية. أما العجيبة الثانية فهي أن الرايبوسوم يتحرك على شريط الرنا المراسل على شكل قفزات حيث يبلغ طول القفزة ثلاثة أحرف وهو طول الشيفرة الوراثية وهذا لغز آخر يحاول العلماء حله لمعرفة الآلية التي يتبعها الرايبوسوم لضبط حركته على الشيفرات تماما. إن إزاحة بمقدار حرف واحد أو حرفين عند حركة الرايبوسوم على الشريط المراسل كفيلة بفشل عملية بناء البروتين بشكل كامل فسبحان الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا.


لف الشريط الوراثي في الكروموسومات
 يبلغ عرض الشريط الوراثي الدنا  في جميع الكائنات الحية نانومترين اثنين فقط أيّ أن قطر شعرة الإنسان البالغ 100 ميكرومتر يزيد بخمسين ألف مرة عن قطر هذا الشريط. أما طول الشريط فيختلف من كائن إلى كائن ويعتمد على عدد الأحرف الموجودة على الشريط والتي تتراوح بين عدة آلاف في الفيروسات (viruses) وعدة بلايين في الثديات (mammalian). ففي الإنسان الذي يحتوي شريطه الوراثي على ثلاثة بلايين حرف يبلغ طول الشريط مترا واحدا وهو حاصل ضرب عدد الأحرف في المسافة الفاصلة بين الأحرف وهي ثلث نانومتر. إن نسبة عرض الشريط إلى طوله نسبة متدنية جدا لا يمكن أن تجدها في أيّ شريط طبيعي أو صناعي مما يعني أنه شريط بالغ الضعف بحيث لو تم تكبيره ليصبح قطره بقطر شعرة الإنسان فإن طوله سيبلغ حينئذ مائة كيلومتر. وبما أن خلايا الجسم تحتوي على زوج من الأشرطة الوراثية أحدهما مأخوذ من أبيه والآخر مأخوذ من أمه فإن طولهما يبلغ المترين.  ولكي يتم وضع هذه الأشرطة الطويلة والدقيقة في داخل نواة الخلية التي لا يتجاوز قطرها عدة  ميكرومترات  فلا بد من طيها مئات الآلاف من المرات وذلك لأن طول الشريطين يزيد بنصف مليون مرة عن طول قطر نواة الخلية البالغ في المتوسط 4 ميكرومتر. ومن البديهي أن لا يتم لف هذا الأشرطة بطريقة اعتباطية وإلا لتشابكت أجزاؤها ولما تمكنت هذه الأشرطة من القيام بمهامها حيث أن كل جزء منها يحتوي على معلومات وراثية محددة  مسؤولة عن وظيفة محددة في عملية تصنيع جسم الكائن.

لقد تمكن علماء الأحياء بالاستعانة بالميكروسكوبات الإلكترونية من التعرف على الطريقة المستخدمة في لف الشريط الوراثي ووضعه في هذا الحيز الضيق وهو نواة الخلية. إن العقل يكاد أن يتصدع عندما يفكر الشخص في الطريقة التي تم بها لف هذا الأشرطة الطويلة والضعيفة ووضعها في نواة بالغة الصغر وبحيث يمكن الوصول لكل شيفرة من الشيفرات التي تحمل تعليمات تصنيع جسم الكائن. إن حدوث خطأ واحد فقط في إحدى شيفرات تصنيع البروتينات على سبيل المثال تؤدي في الغالب إلى فشل البروتين بالقيام بوظيفته وهذا يعني أن هذه الأشرطة قد تم لفها بطريقة بحيث لا مجال للخطأ في قراءة المعلومات المكتوبة عليها وإلا لما كان بالإمكان تصنيع ملايين الكائنات الحية كل يوم تطلع فيه الشمس بنفس مواصفات أصولها. لقد أصيب العلماء بدهشة كبيرة عندما اكتشفوا أن هذا الشريط قد تم لفه بطريقة بالغة الذكاء بحيث يمكن قراءة جميع التعليمات المكتوبة عليه بشكل مباشر. وسيتم الشرح فيما يلي لطريقة لف الشريط الوراثي للإنسان الذي يعد من أطول الأشرطة الوراثية في الكائنات الحية.
 إن أول إجراء لتقليص طول الشريطين الوراثيين المأخوذين من كل من الأب والأم هو تقطيع كل منهما إلى 23 شريط فرعي ومن ثم تم لف كل شريط فرعي بشكل منفصل عن البقية لتكون ما يسمى بالكروموسومات أو الصبغيات (chromosomes). وبهذا فإن محتويات الشريطين الوراثيين قد تم توزيعهما على 46 كرموسوم وسيتم ربط كل كرموسوم  مأخوذ من الأب مع الكرموسوم المناظر له المأخوذ من الأم  لينتج 23 زوجا من الكرموسومات (duplicated chromosomes) وذلك بعد لفها. ويتم ربط الكرموسومين والذي يسمى كل منهما الكروماتيد (chromatid)  في منطقة معينة تسمى السنترومير (centromere) ليظهر الكروموسوم كجسم بأربعة أذرع (four-arm structure). ومن الجدير بالذكر أن محتويات الشريط الوراثي المأخوذ من الأب هي نفس محتويات الشريط المأخوذ من الأم باستثناء اختلاف بسيط في بنية بعض الجينات (alleles) والتي تحدد الفروقات بين جسمي الأب والأم. وعند القيام الشريط الوراثي بتنفيذ تعليماته فإنه يأخذ بعضها من أحد الكروماتيدين المكونيين للكروموسوم والبقية من الآخر. ومن بين هذه الكرموسومات يوجد 22 كروموسوم جسدي تحدد المواصفات لجميع مكونات الجسم وكروموسوم واحد يحدد الصفات الجنسية ولذا يوجد منه نوعان وهما الذكري ويرمز له بالحرف واي (Y) والأنثوي ويرمز له بالحرف إكس (X). ويتحدد جنس المولود من زوج الكرموسومات الجنسية الموجودة في خلاياه فإذا كان كلاهما إكس (XX) فهي أنثى وإذا كان أحدهما إكس والآخر واي (XY) فهو ذكر. ولا تتوزع مكونات الشريط الوراثي بالتساوي على الكرموسومات بل يوجد تفاوت ملحوظ بعدد الأحرف وكذلك عدد الجينات في كل منها حيث يبلغ عدد الأحرف على الكروموسوم الأول 247 مليون حرف وعدد الجينات 4220 جين وهو الأكبر وعددها على الكرموسوم  الواحد والعشرين 47 مليون حرف و 578 جين وهو الأصغر من حيث عدد الأحرف حيث أن الكرموسوم الحادي عشر يتكون من 134 مليون حرف و379 جين وهو الأصغر من حيث عدد الجينات.

  إن عملية لف الأشرطة الفرعية لتتحول إلى كروموسومات بأطوال لا تتجاوز عدة ميكرومترات تمر في خمسة مراتب (hierarchies). ففي الأولى يتم لف الشريط بمقدار لفتين على أسطوانات بروتينية تسمى الهيستونات (histones) مكونة من ثمانية جزيئات (Octamer) ويبلغ قطرها 11 نانومتر  لتنتج ما يسمى بالنيوكلوسومات (nucleosomes) ويظهر الشريط بعد هذا اللف على  شكل خرزات المسبحة (beads-on-string). ويتم تثبيت أطراف الشريط الملفوف على الهيستون بهستون آخر (H1 histones) والذي يعمل أيضا كدعامة في المرتبة الثانية من اللف. ويبلغ طول  الشريط الملفوف على الهيستون الواحد 66 نانومتر ويحتوي على 200 حرف وهو مكون من جزيئين جزء ملفوف فعليا على الهيستون ويسمى الدنا القلبي (Core DNA) وجزء يمتد ما بين الخرزات ويسمى الدنا الرابط (linker DNA) وفي هذه المرتبة يتم تقليص طول الشريط بستة مرات. أما المرتبة الثانية من اللف فهي لف الشريط المكون من الخرزات على شكل بناء لولبي (  solenoid structure or coil) يبلغ قطره 30 نانومتر ولذا يسمى الليف ذي الثلاثين نانومتر (30 nm fiber). ويبلغ عدد الخرزات في كل لفة ستة خرزات أي أن اللفة الواحدة تحتوي على 1200 حرف وتبلغ عدد اللفات على كل ميكرومتر من طول اللولب مائة لفة وهذا المرتبة من اللف تقلص الطول بمقدار 40 مرة. أما المرتبة الثالثة فهي لف الليف ذي الثلاثين نانومتر على شكل عرى (loops) تخرج من سطح لولبي يسمى (Scaffold) له قطر يبلغ 300 نانومتر ويبلغ عدد الحروف في العروة الواحدة 60 ألف حرف وبهذا يصل مقدار التقليص إلى 680 مرة. أما المرتبة الرابعة فهي لف الطيات على لولب كبير (supercoils) بقطر 700 نانومتر ويبلغ معامل التقليص أو ما يسمى نسبة الترزيم (packing ratio) فيها  عشرة آلاف مرة. أما المرتبة  الأخيرة فهي ما يسمى المصفوفة الكروموسومية  (chromosomal matrix) ويتم فيه ترتيب اللفات بشكل مناسب وبدون أي زيادة في معامل التقليص عن المرتبة السابقة. وبعد هذه العمليات المتكررة من اللف يصبح الشريط الوراثي على الشكل المعهود للكروموسوم حيث يبلغ عرضه 1400 نانومتر أي ما يقرب من واحد ونصف ميكرومتر أما طوله فيعتمد على عدد الحروف فيه والذي يتراوح بين ميكرومترين وعشرة ميكرومترات.
إن عملية اللف هذه معجزة من معجزات الخلق التي لا ينكرها إلا جاحد فهي تتعامل مع شريط يبلغ عرضه 2 نانومتر لا يمكن رؤيته إلا بأقوي الميكروسكوبات الإلكترونية ويتم لفه على ما يزيد عن ثلاثين مليون أسطوانة بروتينية ثم يتم ربط الشريط على كل أسطوانة بمماسك بروتينية بنفس العدد. ويبلغ عدد اللفات في الشريط موزعة على جميع الكروموسومات 60 مليون لفة في المرتبة الأولى وعشرة ملايين لفة في المرتبة الثانية  ومائة ألف في المرتبة الثالثة و1400 لفة في المرتبة الرابعة. إن منتهى الإعجاز في هذه العملية هو أنها تتم بشكل تلقائي أو ذاتي  حيث يقوم الشريط بلف نفسه على هذه الملايين من الأسطوانات بمقدار لفتين فقط ثم يقوم تثبيت نفسه على هذه الأسطوانات بنفسه باستخدام المماسك ثم يقوم بإجراء المراتب  الأخرى من عمليات اللف دون أي تدخل خارجي. ومن المؤكد أن البشر أعجز من أن يقوموا بهذه المهمة بل هم أعجز من فك ألغازها فعلى الرغم من أنهم قد تمكنوا من معرفة تركيب الشريط إلا أنهم لا زالوا يتكهنون بالطريقة التي يتبعها الشريط للقيام بهذه المهمة من تلقاء نفسه. بل لو أننا قمنا بتكبير هذا الشريط ليصبح قطره بقطر الشعرة فإن طوله سيصبح 100 كيلومتر ولو طلب من جميع مهندسي العالم أن يقوموا بلف هذه الشعرة البالغة الطول بنفس الطريقة لأعجزهم ذلك.



نسخ الشريط الوراثي
إن سر الحياة الأعظم  يكمن في قدرة الشريط الوراثي أي الدنا على إنتاج نسخة عن نفسه بنفسه أو ما يسمى بنسخ أو مضاعفة الدنا (DNA replication or duplication). وبناء على عملية النسخ هذه تستطيع الخلايا الحية أن تنتج نسخا عن نفسها بنفسها وتستطيع الكائنات الحية أن تنتج نسخا عن نفسها بنفسها. ولولا هذه الخاصية الفريدة لهذا الشريط لما أمكن للحياة أن تدوم على سطح هذه الأرض منذ آلاف الملايين من السنين وإلى أن يشاء الله عز وجل.  وعندما يعطى الشريط الوراثي أوامره  إلى الخلية لكي تنقسم إلى خليتين عليه أولا أن يصدر الأمر إلى نفسه لكي ينتج نسخة طبق الأصل عن نفسه ليضعها في الخلية الجديدة. إن الإنسان لتعتريه رجفة وقشعريرة عندما يفكر في الكيفية التي يمكن بها لهذا الشريط الذي قد تم لفه عشرات الملايين من اللفات وبأشكال لولبية متعددة من أن ينتج نسخة عن نفسه. إن الشريط الوراثي عليه قبل أن يبدأ عملية الإنقسام أن يعطي الأوامر لتصنيع جميع الجزيئات اللازمة لبناء الشريط الجديد الذي سيودعه إحدى الخليتين. فعلى سبيل المثال فإن عملية تصنيع شريط جديد في أحدى خلايا جسم الإنسان يتطلب من الخلية أن تقوم بتصنيع ستة بلايين جزيء سكر وستة بلايين جزيء فوسفات وذلك لبناء السلسلتين الجانبيتين ومن ثم تصنيع ستة بلايين حرف وراثي بنسب محددة من أنواعه الأربعة إلى جانب تصنيع ثلاثين مليون هيستون وهي الأسطوانات البروتينية التي سيتم لف الشريط الجديد عليها. إن هذا العدد الضخم من الجزيئات يجب أن يتم تصنيعه وحفظه في داخل نواة الخلية التي لا يتجاوز قطرها عدة ميكرومترات. إن مجرد تصنيع الجزيئات التي يبنى منها الشريط الوراثي بالأنواع والأعداد المطلوبة يعتبر معجزة من معجزات الحياة ولكن هذه المعجزة لا تقاس أبدا بالمعجزات الموجودة في الطريقة التي يتم بها بناء الشريط من هذه الجزيئات.
 يبدأ الشريط عملية تصنيع نسخة جديدة عن نفسه وذلك بعد أن يتأكد تماما من توفر الأعداد اللازمة من جميع الجزيئات المكونة للشريط الجديد بالاستعانة بعدد من الأنزيمات المصممة لهذا الغرض. إن أول خطوات النسخ هي قيام إنزيم التوبوايسوميريز (Topoisomerase) بتحويل الشريط  في مكان محدد من شكله اللولبي إلى شكل مستقيم (unwinding or uncoiling). ومن ثم يقوم إنزيم آخر يسمى إنزيم الهيليكيس (helicase enzyme) بفتح الشريط من أحد جانبية ليفصل السلسلتين الجانبيتين بما تحملان من أحرف وراثية عن بعضهما البعض لينتج ما يسمى شوكة النسخ (replication fork). ومن ثم تقوم بروتينات رابطة على شكل سلسلة أحادية (single stranded binding proteins) بالإلتصاق بالسطح الخارجي للسلاسل الجانبية للشريط المفتوح لتمنعه من الانغلاق على نفسها لحين إتمام عملية النسخ. ومن ثم تتولى إنزيمات أخرى بناء السلسلتين الجديدتين وتثبيت الأحرف الوراثية عليهما بحيث تكون الأحرف الجديدة على كل سلسلة مكملة للأحرف القديمة المرتبطة بإحدى السلسلتين القديمتين. إن عملية النسخ لا تتم من أي مكان على الشريط بل تبدأ من أماكن محددة تسمى بدايات النسخ (replication origins) ويستطيع شريط رنا باديء (RNA primer) التعرف عليها تبعا للشيفرات المكتوبة عليها. إن عملية بناء سلسلة شريط دنا جديدة يجب أن تتم باتجاه ثلاثة إلى خمسة (3'- 5') أي أن عملية ربط جزيء الفوسفات لا تتم إلا ابتداء من ذرة الكربون الثالثة من جزيء السكر. وبما أن سلسلتي شريط الدنا القديم أحدهما لها اتجاه خمسة إلى ثلاثة (5'-3')  وهي السلسلة الأصلية فإن عملية بناء سلسلة مكملة جديدة تتم بشكل طبيعي وسهل باستخدام إنزيم البوليميريز (polymerase). إن السلسلة الجديدة تتم بشكل متصل وبدون تأخير ولذلك فقد سميت السلسلة السابقة (leading strand) وتتحد هذه السلسلة الجديدة مع السلسلة القديمة مكونة شريط دنا جديد لهذا الجزء من الشريط.

أما السلسلة المكملة القديمة فإن اتجاهها هو من ثلاثة إلى خمسة (3'- 5') وهو عكس الاتجاه المطلوب لبناء سلسلة جديدة عليها ولذا فإن عملية بنائها تحتاج لعدة خطوات وعدة أنزيمات لإتمامها وتحتاج كذلك لوقت أطول ولذا تسمى السلسلة المتأخرة (lagging strand). إن عملية بناء السلسلة الجديدة في هذه الحالة لا بد وأن تتم بالاتجاه المعاكس للاتجاه الذي تتم فيه عملية فتح شريط الدنا القديم وقد تمكن العالم الياباني أوكازاكي (Okazaki) من كشف سر عملية النسخ هذه. وفي هذه العملية يقوم إنزيم برايميز الدنا (DNA primase) من تحديد مكان معين على السلسلة المكملة القديمة بعد أن يكون قد تم فتحها بطول كافي ومن ثم يبدأ إنزبم البوليميريز (polymerase) ببناء قطع بطول محدد من السلسلة المكملة الجديدة تسمى قطع أوكازاكي (Okazaki fragments). ومن ثم يقوم أنزيم لقيز الدنا (DNA ligaze) بربط هذه القطع ببعضها البعض لينتج سلسلة متصلة تتحد مع السلسلة المكملة القديمة منتجة شريط  آخر من الدنا. ومن الواضح أن كل من شريطي الدنا الجديدين يحتوي كل منهما على سلسلة دنا قديمة وأخرى جديدة. إن الانزيمات المختلفة التي تقوم بعملية نسخ الشريط الوراثي هي عبارة عن جزيئات ثلاثية الأبعاد تحتوي على تجاويف بأبعاد محددة تتسع للسلسلة الجانبية للشريط وما تحمله من أحرف وراثية. إن تركيب هذه الأنزيمات هو أشبه ما يكون بتركيب الرايبوسومات (ribosomes) التي تقوم بتصنيع البروتينات من خلال تمرير أشرطة الرنا المراسلة (mRNA) في تجاويفها. أما الخطوة الأخيرة من خطوات نسخ الشريط فهي لف كل من الشريطين الجديدين  ثم فصلهما عن بعضهما البعض. وهذا يتطلب فك الشريط القديم عن الأسطوانات البروتينية أو الهيستونات التي سبق وأن لف عليها واستخدامها للف أحد الأشرطة الجديدة بينما يلزم وجود 30 مليون هيستون جديد للف الشريط الجديد الثاني.

ولمزيد من الحماية للشريط الوراثي فقد وجد في نهاية كل كروموسوم سلسلة طويلة من الشيفرات تسمى التيلوميرز (Telomeres) تتكون من شيفرة مكررة يعتمد تركيبها على نوع الكائن الحي فهي في الإنسان (TTAGGG). ويقوم إنزيم خاص وهو التيلوميريز (telomerase) بإضافة هذه السلسلة بعد الإنتهاء من نسخ معلومات الشريط. إن مهمة هذه السلسلة هو حماية المعلومات الوراثية في الكروموسومات  من الضرر حيث أن الشريط الوراثي أكثر ما يتعرض للخراب عند أطرافه. وقد وجد أن سلسلة التيلوميرز يقل طولها بمقدار معين بعد كل إنقسام للخلية مما يعني أنه بعد عدد محدد من الإنقسامات يسمى حد هيفلك  (Hayflick Limit) تختفي سلسلة الحماية هذه وتبدأ المعلومات الوراثية الموجودة في نهاية الشريط بالتعرض للخراب مما يؤدي إما إلى موت الخلية أو تحولها إلى خلية سرطانية. وقد تبين بما لا يدع مجالا للشك أن طول سلسلة التيلوميرز يلعب دورا رئيسيا في تحديد أعمار الخلايا وبالتالي أعمار الكائنات الحية حيث أن توقف الخلايا عن الانقسام بشكل صحيح  في أجهزة الجسم يؤدي إلى  توقف هذه الأجهزة عن القيام بوظائفها وبالتالي موت الكائن الحي. لقد حدد الخالق سبحانه وتعالى أعمار ملايين الأنواع من الكائنات الحية من خلال طول هذه السلسلة ومعدل نقصانها عند كل انقسام للخلية وهذا ضروري لكي تستمر ظاهرة الحياة على الأرض للمدى الذي أراده الله عز وجل. 

سرعة نسخ الشريط الوراثي وتصحيح الأخطاء
  إن عملية نسخ شريط وراثي جديد عن الشريط القديم تتم بسرعة تتراوح بين 50 حرف في الثانية في الإنسان وألف حرف في الثانية في البكتيريا. إن سرعة النسخ هذه سرعة عالية بكل المقاييس إذا ما عرف الإنسان أنها تتطلب وجود كميات كبيرة من أنواع الأحرف الأربعة حول جهاز النسخ ليختار منها الحرف المكمل للحرف الذي يقوم الجهاز بنسخه. إن إنخفاض سرعة النسخ في الإنسان بالمقارنة مع تلك في البكتيريا هي على عكس المتوقع حيث أن طول شريط الإنسان يزيد بملايين المرات عن طول شريط البكتيريا وكان يجب أن تكون العكس. ولكن الذي قام بتحديد سرعة النسخ هو من أحاط بكل شئ علما وليست الصدفة فهو يعلم سبحانه أن تقليل سرعة النسخ في الإنسان كان بهدف تقليل نسبة الخطأ في المعلومات المنقولة حيث من الطبيعي أن تزيد نسبة الخطأ مع زيادة سرعة النسخ. إن السرعة العالية للنسخ في البكتيريا كفيلة بإتمام عملية نسخ شريطه البالغ طوله مليون حرف في أقل من ساعة ولكن نسخ شريط الإنسان البالغ طوله ثلاثة بلايين حرف بمعدل 50  حرف في الثانية يحتاج لما يقرب من سنتين. ولكن تم تقليص هذه المدة إلى ساعة  واحدة من خلال استخدام عدة آليات أولها  أن عملية النسخ تتم بشكل متوازي لجميع الكروموسومات المكونة للشريط الوراثي أما الثانية فهي أن عملية نسخ الكروموسوم الواحد تتم في عدد كبير من المواضع أو ما يسمى بفقاعات النسخ (replication bubbles). وبهذه الطريقة الذكية تم تقليص مدة تصنيع إنسان جديد ابتداء من خلية واحدة من ثلاثمائة عام إلى تسعة أشهر فقط وصدق الله العظيم القائل "أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)" المرسلات.


لقد وجد العلماء أن معدل الخطأ في نقل المعلومات عند نسخ الأشرطة الوراثية في خلايا الإنسان قد يصل إلى خطأ واحد في كل ألف حرف أي أن عدد الأخطاء الكلية المحتملة في كامل الشريط قد يبلغ ثلاثة ملايين حرف. ولكن تصنيع الإنسان ابتداء من خلية واحدة يتطلب تكرار عملية النسخ عند انقسام كل خلية من خلاياه والتي يصل عددها في الإنسان الكامل إلى ما يقرب من مائة ألف بليون خلية. وعلى هذا فإن مجموع الأخطاء في الأشرطة الموجودة في خلايا جسم الإنسان سيبلغ عند اكتمال تصنيعه مائة وخمسين مليون خطأ أيّ ما نسبته خمسة بالمائة من مجموع عدد أحرف  الشريط وهذه النسبة العالية من الأخطاء كفيلة بفشل عملية تصنيع  الجسم بالكامل أو تشويهه. ولكن من لطف الله بهذا الإنسان وبغيره من الكائنات الحية أنه سبحانه قد أبدع نظام يعمل على تصحيح الأخطاء الناتجة أثناء عملية النسخ. فبعد أن يتم إنتاج نسخة جديدة من الشريط الوراثي تقوم مجموعة من الأنزيمات بالبحث عن الأخطاء الموجودة على الشريط الجديد ومن ثم تقوم بتصحيحها (proof reading). وقد وجد العلماء أن معدل الخطأ بعد التصحيح ينخفض إلى خطأ واحد لكل بليون حرف بدلا من خطأ واحد لكل ألف حرف قبل التصحيح أيّ أن مجموع الأخطاء في الأشرطة الوراثية يكاد يكون معدوما. إن وجود نظام لتصحيح الأخطاء في عملية نسخ الأشرطة الوراثية تدحض دحضا كاملا أن تكون الصدفة تقف وراء عملية خلق الحياة على الأرض كما يدعي الملحدون.

الأشرطة الوراثية كبرامج لتصنيع الكائنات الحية
إن الطريقة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتصنيع الكائنات الحية فيها من التعقيد والإبداع والإتقان والديمومة بحيث لا يمكن لإنسان عاقل أن ينسبها للصدفة بل يستحيل أن تنجز إلا من قبل صانع لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وتعالى. فهذه الطريقة في تصنيع الأشياء ما كانت لتخطر على بال البشر ابتداء ولا يمكنهم بأي حال من الأحوال أن يقلدوها لتصنيع ما يحتاجون من أشياء حتى لو عرفوا كامل تفصيلاتها. إن طريقة التصنيع البشرية تتطلب وجود إنسان له عقل يستخدمه ليتخيل ما سيكون عليه شكل الشيء المصنوع وأيدي وأعين تمكنه من وضع القطع المختلفة في الأماكن المخصصة لها في جسم ذلك الشيء. أما الطريقة الربانية في التصنيع فإنها تختلف تماما عن الطريقة البشرية ففيها اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يصنع نسخة واحدة فقط من كل نوع من أنواع الكائنات الحية وتم برمجة الأشرطة الوراثية في كل كائن بحيث يمكنه  القيام بتصنيع نسخة عن نفسه بطريقة تلقائية. وبما أن هذه الكائنات الحية تحتاج للطاقة لكي تعمل فقد تم برمجتها بحيث تقوم بتوفير الطاقة اللازمة لتشغيل أجسامها من المحيط الذي تعيش فيه سواء كانت هذه الكائنات نباتات لا يمكنها الحركة أو حيوانات تتحرك في البر والبحر والجو. إن مجرد اختيار هذه الطريقة الذكية لتصنيع الأشياء يدحض بشكل قطعي أيّ دور للصدفة في تصنيع الكائنات الحية فأقصى ما يمكن أن تفعله الصدفة هو أن تجمع مكونات شيء ما في حيز واحد ثم تبدأ هذه المكونات بالتراكب مع بعضها بطريقة عشوائية وقد تنجح بعد محاولات كثيرة في تصنيع بعض الأشياء البسيطة. أما أن تقوم الصدفة بالعمل على اختراع طريقة يمكن من خلالها إنتاج نسخ جديدة عن النسخة التي أنتجتها أول مرة بالصدفة فهذا ما لا يقبله أي عقل سليم.  ولولا أن طريقة التصنيع الذاتية هذه تحدث أمام أعين البشر كل يوم لما ترددوا في تكذيب فكرة أن يقوم شيء ما بإنتاج نسخة عن نفسه من تلقاء نفسه ولقالوا أن ذلك ضرب من الخيال!

وبما أن البشر في هذا العصر على دراية بطرق تصنيع الأشياء على خطوط الانتاج المحكومة بالحواسيب فليس من الصعب عليهم أن يحددوا الخطوات الرئيسية التي تلزم لتصنيع الكائنات الحية باستخدام هذه الطريقة الذاتية. فعملية التصنيع هذه تحتاج أولا تحديد مواصفات الشيء المراد تصنيعه ومن ثم يتم تخزين هذه المواصفات في ذاكرة ما كما يفعل البشر عندما يقومون بتخزين مواصفات الأشياء التي يصنعونها إما في عقولهم أو على الورق أو  في ذاكرات الحواسيب. أما الخطوة التالية فهي كتابة برنامج كامل يحدد الخطوات التي يجب أن يتم اتباعها لتصنيع الشيء المراد تصنيعه طبقا للمواصفات المخزنة في الذاكرة. أما الخطوة الثالثة فهي تنفيذ برنامج التصنيع بطريقة ما بحيث يتم تصنيع هذا الشيء باستخدام المواد الخام اللازمة إلى جانب توفير الطاقة اللازمة لعملية التصنيع. وهذا ما تم اكتشافه تماما من قبل علماء الأحياء فقد كتب الله سبحانه وتعالى مواصفات أجسام جميع أنواع الكائنات الحية بطريقة رقمية على أشرطة وراثية بالغة الصغر أودعها سبحانه داخل الخلايا الحية. وبمجرد وضع هذه الخلايا في الوسط المناسب فإن الشريط الوراثي  يقوم بتنفيذ برنامج التصنيع المخزن عليه ليصنع كائن حي كامل ابتداء من هذه الخلية. ولم يكتف سبحانه وتعالى  ببرمجة الخلية الحية بحيث يمكنها إنتاج كائن حي بكامل تفاصيله لمرة واحدة فقط بل قام ببرمجة خلايا الكائن الحي الناتج بحيث يمكنه إنتاج خلية حية تكاثرية تقوم بتصنيع كائن جديد يقوم بدوره بإنتاج خلية جديدة وهكذا دواليك. وبما أن هنالك ملايين الأنواع من الكائنات الحية تعيش على سطح الأرض وتعتمد على بعضها البعض  في توفير أسباب عيشها وضمان بقائها فإنه يلزم  وجود توازن بين أعداد هذه الكائنات بحيث لا يتعرض بعضها للانقراض وهذا يتطلب كتابة البرامج المتعلقة بأعمار ومعدلات تكاثر وأنواع طعام ملايين الأنواع من الكائنات. وتتم عملية تكاثر الكائنات الحية بشتى أنواعها بطريقة غريزية بحيث يقتصر دور الكائنات الحية بما فيها الإنسان على التزاوج بدافع الشهوة وكذلك رعاية بعض أنواع الكائنات حديثة الولادة لفترة قصيرة من الزمن. وباستثناء التزاوج والرعاية فإن جميع الكائنات الحية لا تتدخل أبدا في عملية التصنيع هذه فالإنسان وهو الوحيد بين الكائنات الحية القادر على تصنيع الأشياء يقف مكتوف الأيدي إذا ما فشل جسمه أو جسم زوجه في إنتاج خلايا التكاثر التي تنتج كائنا جديدا منهما.

لقد قام علماء الأحياء بجهود جبارة لمعرفة الآليات التي يستخدمها الشريط الوراثي لتصنيع الكائن الحي ابتداءا من خلية واحدة  وكان أول ما تبادر لذهنهم هي الطريقة التي ينفذ بها الحاسوب الرقمي برامجه. فالحاسوب يقوم بتنفيذ البرنامج من خلال تخزينه في الذاكرة وبمجرد إعطاء إشارة البدء لتنفيذ البرنامج فإن وحدة المعالجة المركزية تتولى تنفيذ البرنامج من خلال جلب الأوامر والبيانات من الذاكرة إليها ثم تقوم بمعالجتها وإصدار التعليمات للوحدات الطرفية لإظهار النتائج. ولقد خاب ظن العلماء عندما وجدوا أن الخلية الحية لا تحتوي على وحدة معالجة مركزية تقوم بتنفيذ التعليمات المخزنة على الشريط الوراثي بل وجدوا أن هذا الشريط  يقوم بكامل مهام الحاسوب فهو يعمل كوحدة معالجة مركزية ويعمل كذاكرة لتخزين المعلومات في نفس الوقت. ولقد تمكن علماء الأحياء من كشف بعض أسرار الآليات التي يستخدمها الشريط الوراثي  لتنفيذ البرامج المخزنة عليه ووجدوا أن فيها من التعقيد ومن الإتقان ما يجعل الإنسان العاقل يسلم بأن الذي صممها لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وتعالى. فالآلية الأولى هي قيام الشريط الوراثي أو الدنا بإعطاء الأوامر لتصنيع البروتينات في الرايبوسومات الموجودة في سيتوبلازم الخلية وذلك من خلال قيام أشرطة الرنا المراسل (mRNA) بنسخ ترتيب الأحماض الأمينية للبروتين عن الدنا بينما تقوم أشرطة الرنا الناقل (tRNA) بنقل الأحماض الأمينية إلى مصانع البروتينات أي الرايبوسومات. ومما حير العلماء أنه في داخل الخلية الواحدة يتم إنتاج آلاف الأنواع من البروتينات في نفس الوقت وبكميات كبيرة  ولكنها محسوبة بشكل بالغ الدقة. وللقارئ أن يتخيل منظر آلاف الأنزيمات وهي تفتح الشريط الرئيسي في مواقع مختلفة عليه ومنظر الأشرطة المراسلة وهي تقوم بنسخ تعليمات التصنيع من هذه المواقع ثم تتجه صوب الرايبسومات لتسلمها هذه التعليمات ومنظر الأشرطة الناقلة وهي تتجمع حول الرايبسومات لتزودها بالأحماض الأمينية اللازمة لها. وعلى الرغم من هذا التشابك المعقد الناتج عن حركة ملايين الجزيئات من الأشرطة المراسلة والناقلة والرايبوسومات ومزودات الطاقة في داخل الخلية التي  لا ترى بالعين المجردة إلا أنها تتم بشكل بالغ الانتظام بحيث لا يمكن لأي جزئ أن يخطأ الهدف الذي صنع من أجله. 
        

أما الآلية الثانية فهي أن السلاسل البروتينية أحادية البعد التي يصنعها الرايبوسوم  تلتف على نفسها بطريقة فريدة لتنتج جزيئات ثلاثية الأبعاد بأشكال وأحجام وخصائص فيزيائية وكيميائية محددة وذلك لكي تقوم بوظيفة محددة في جسم الكائن الحي. ولا زال علماء الأحياء في حيرة من أمرهم حول الآلية التي يتبعها البروتين  للالتفاف على نفسه حيث وجدوا أنه بمجرد أن ينتهي الرايبسوم من تصنيع سلسلة البروتين فإنه يقوم بالالتفاف على نفسه لينتج الشكل المطلوب في زمن لا يتجاوز جزء من ألف جزء من الثانية. وقد قام أحد العلماء بحساب الزمن اللازم لالتفاف سلسلة بروتينية بطول مائة حامض أميني فقط  فيما لو تمت بطريقة المحاولة والخطأ فوجده يساوي مائة بليون بليون بليون سنة! أما في داخل الخلية الحية فيوجد سلالسل بروتينية  يصل طولها إلى خمسين ألف حامض أميني ولكنها تلتف على نفسها في جزء لا يذكر من الثانية. ولا زال علماء الأحياء يجهلون سر طريقة الإلتفاف هذه رغم آلاف الأبحاث العلمية التي أجريت لحل هذه المشكلة ورغم استخدامهم لأضخم الحواسيب العملاقة لمحاكاة هذه العملية ولذلك أطلقوا عليها اسم "مشكلة طي البروتين" (protein folding problem). إن شكل البروتين الناتج عن التفاف السلسلة البروتينية يتحدد بشكل رئيسي من أعداد الأحماض الأمينية على هذه السلسلة وطريقة ترتيبها ولذلك فإن اختيار طول السلسلة البروتينية وكذلك طريقة ترتيب الأحماض الأمينية عليها لإنتاج بروتين يقوم بوظيفة معينة لا يمكن أن يتم إلا من قبل صانع لا حدود لعلمه وقدرته. فكيف يمكن لصانع محدود العلم كالإنسان أن يحدد تسلسل الأحماض الأمينية التي تنتج بروتينات شفافة للضوء وأخرى حساسة لترددات محددة في الطيف الضوئي أو إلى غير ذلك من البروتينات التي يصل عدد أنواعها في الكائنات الحية إلى مئات الآلاف! ولقد وجد العلماء أن كثيرا من الأمراض التي تصيب الكائنات الحية مردها إلى فشل بعض البروتينات من الالتفاف على نفسها وذلك بسبب حصول خطأ واحد فقط  في أحدى الشيفرات الوراثية التي أنتجتها.

أما الآلية الثالثة فهي قدرة بعض البروتينات للعمل كأنزيمات تعمل كمحفزات للتفاعلات الكيميائية التي تجري في داخل الخلايا الحية وفي هذه السر تكمن أسرار كثيرة لا يمكن لطريقة التصنيع الذاتية أن تنجح بدونها. أما أولها فهي أن التفاعلات الكيميائية تتم بين الجزيئات العضوية المختلفة عند درجات حرارة عادية بوجود هذه الأنزيمات أما في غيابها فلا يمكن لمثل هذه التفاعلات أن تتم إلا عند درجات عالية جداﹰ. وبهذه الخاصية الفريدة للأنزيمات تم تقليل الطاقة اللازمة لإتمام التفاعلات الكيمائية في أجسام الكائنات الحية وبالتالي تقليل كمية الطاقة التي تحتاجها الكائنات الحية لكي تعيش. أما ثانيها فهو إمكانية التحكم بأنواع التفاعلات الكيمائية التي تجري في داخل الخلية الحية حيث تبين للعلماء أن لكل تفاعل كيميائي هنالك إنزيم واحد فقط يمكنه تحفيز مثل هذا التفاعل. وبهذه الخاصية يمكن لآلاف الأنواع من الجزيئات أن تجتمع في نفس الحيز داخل الخلية الحية ولا تتفاعل في ما بينها إلا بوجود الأنزيمات. إن إحدى الآليات المقترحة لتنفيذ البرامج المخزنة على الشريط الوراثي هو في قيام أنزيم محدد بفتح شريط  الدنا لقراءة الجين الذي يحدد بداية هذا البرنامج ثم يقوم هذا الجين بإعطاء الأمر لتصنيع إنزيم يقوم بفتح الشريط في مكان آخر حسب الخطوات المحددة في البرنامج وهكذا تتوالى عمليات تصنيع البروتينات وتحفيز الجينات بالإنزيمات في داخل الخلايا إلى أن ينتهي تنفيذ كامل البرنامج. وإذا ما علمنا أن الشريط الوراثي للإنسان يحتوي على ما يزيد عن خمسة وعشرين ألف جين فإن عملية الوصول للمعلومات المخزنة عليه تحتاج لتحديد مواصفات عشرات الآلاف من الإنزيمات بحيث لا يمكن لأي إنزيم أن يخطئ أبدا في الوصول لمكان الجين الخاص به على الشريط.


أما الآلية الرابعة فهي أن مكونات الخلية المختلفة يتم تصنيعها من خلال إنتاج جميع البروتينات اللازمة لبنائها ومن ثم تقوم هذه البروتينات بالتراكب مع بعضها البعض بشكل تلقائي وبتسلسل محدد وذلك بمجرد التقائها في حيز واحد. ولا يمكن لهذه العملية أن تنجح إلا إذا تم تصنيع كل بروتين من البروتينات التي تدخل في تركيب هذا المكون بشكل فريد ومميز بحيث لا يمكنه الارتباط بجسم المكون أثناء عملية تصنيعه إلا في مكان محدد. ولتوضيح ذلك فإن عملية تصنيع المكون تبدأ بارتباط بروتينين لإنتاج شكل محدد لا يسمح إلا لبروتين ثالث محدد الشكل بالارتباط بهما لينتج شكلا جديدا لا يسمح بدوره إلا لبروتين محدد آخر للارتباط به وهكذا تستمر عملية البناء من خلال تسلسل محدد لعملية اتخاذ البروتينات لمواقعها المحددة في جسم المكون. وبعد أن تنتهي عملية تصنيع المكون بالشكل المطلوب لا يسمح لأي بروتين مهما كان نوعه بالارتباط بجسم المكون وإلا لتغير شكله ولفشل في القيام بوظيفته. إن هذه الطريقة في تصنيع مكونات الخلية أشبه ما تكون بالطريقة التي يبني بها الأطفال مكعبات الليغو أو الرسومات المبعثرة على قطع الكرتون أو ما يسميه العلماء طريقة المفتاح والقفل. ولولا أن العلماء يرون بأم أعينهم  الخلايا وهي تصنع جميع مكوناتها بكل سهولة ويسر ولا تكاد تخطئ في إنتاج هذه المكونات بأشكالها المطلوبة مهما تكررت عملية التصنيع لظن بعضهم أن عملية تصنيع المكونات هذه هي ضرب من الخيال.

أما الآلية الخامسة فهي أن الخلايا الحية تقوم بتوفير الطاقة اللازمة لعملية التصنيع إما بأخذها من الشمس مباشرة أو من مواد عضوية تحتوي على الطاقة التي سبق لبعض أنواع الخلايا أن قامت بأخذها من الشمس. ففي كل خلية من  خلايا النباتات والطحالب  توجد البلاستيدات الخضراء التي تعتبر أكبر مصنع لإنتاج المواد العضوية على وجه هذه الأرض حيث يقوم هذا المصنع الذي لا تتجاوز أبعاده عدة ميكرومترات بتزويد جميع الكائنات الحية بالمواد العضوية اللازمة لبناء أجسامها والطاقة اللازمة لإجراء عملياتها الحيوية من خلال عملية التركيب الضوئي. إن اختيار الطاقة الشمسية لتكون مصدرا للطاقة التي تحتاجها الكائنات الحية لا يمكن أن يتم إلا من قبل عليم خبير قادر على تصنيع المكونات التي تقوم بتحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية يتم تخزينها في الروابط الكيميائية بين عناصر المواد العضوية وقادر كذلك على تصنيع المكونات التي تقوم باستغلال هذه الطاقة الكيميائية لإجراء مختلف أنواع التفاعلات الكيميائية والحيوية في الخلايا. ويوجد في جميع خلايا الكائنات الحية مكون آخر يسمى الميتوكندريون يقوم بتحرير الطاقة من المواد العضوية بوجود الأوكسجين واستخدامها في العمليات الحيوية التي تجري في الخلية. إن عملية حرق السكر في الميتوكندريون تتم بشكل منظم وبارع حيث يتم تفكيك الروابط بين ذرات الكربون والهيدروجين ومن ثم يتم تحرير الطاقة الموجودة فيها وإيداعها في روابط كيميائية جديدة في جزيء صغير يسمى ثلاثي فوسفات الأدينوسين.

أما الآلية السادسة فتكمن في قدرة الخلية الحية على إنتاج نسخة عن نفسها بنفسها دون تدخل أيّ قوة خارجية وذلك بمجرد صدور الأمر لها ببدء هذه العملية من قبل الشريط الوراثي. إن أحد أهم الخطوات التي تتطلبها عملية انقسام الخلية هي الخطوة التي يتم فيها إنتاج نسخة طبق الأصل عن الشريط الوراثي لكي يودعها لإحدى الخليتين الناتجتين عن الانقسام. وهذا يتطلب أن يعطي هذا الشريط  أمر إنتاج نسخة عن نفسه من تلقاء نفسه وفي هذه الخاصية يكمن سر الحياة الأعظم الذي حول تراب الأرض الميت إلى هذا التنوع الهائل في أشكال الحياة. وتقوم الخلية عند انقسامها بتوزيع محتوياتها الداخلية بعد إنتاج عدد كاف منها إلى مجموعتين  ثم تقوم بوضع جدار فاصل بين هاتين المجموعتين لتنتج خليتين كل واحدة منهما نسخة طبق الأصل عن الخلية الأم التي أنتجتهما. وعلى الرغم من أن الخليتين الناتجتين قد تبدوان متماثلتين من حيث الشكل إلا أن البرامج المخزنة على أشرطتهما الوراثية والتي ستقومان بتنفيذها لاحقا ليس من الضروري أن تكون متماثلة وإلا لنتج عن عملية الانقسام المتكررة لهذه الخلايا كتلة من الخلايا المتشابهة وغير المتخصصة.


إن تصنيع أجسام الكائنات الحية يحتاج إلى مئات  الآلاف من التصاميم والرسومات الهندسية التي تبين الأشكال والأبعاد الثلاثية والتراكيب الداخلية لكل عضو من أعضاء الكائن الحي إلى جانب تحديد مختلف أنواع التفاعلات الكيميائية التي ستجري في داخلها. إن الطريقة التي يخزن بها الشريط الوراثي أشكال وأبعاد مكونات جسم الكائن لا بد وأن تكون نفس الطريقة الرقمية التي يتم بها تخزين رسوم ثلاثية الأبعاد في أجهزة الحاسوب مع فارق كبير جدا وهو أن الشريط الوراثي يحدد موقع كل خلية في داخل هذا الشكل الثلاثي الأبعاد بينما يكتفي الحاسوب بتحديد الشكل الخارجي لهذا الشكل. ويتطلب من برنامج  التصنيع  المخزن في الخلية الأم وضع كل خلية من الخلايا في المكان المخصص لها في جسم الكائن وهي مهمة في غاية الصعوبة حتى لو تم تصنيع الجسم  من نوع واحد فقط من الخلايا. وبما أنه لا يوجد قوة خارجية تقوم بحمل الخلايا ووضعها في الأماكن المخصصة لها في جسم الكائن كما يفعل البشر عندما تصنيع أشيائهم فإن هذه المهمة تقع على عاتق الخلية الأم وما تنتجه من خلايا أثناء عملية الانقسام المتكررة. ويقع على عاتق الخلية الأولى تحديد عدد الانقسامات التي ستلزم لإنتاج جميع الخلايا التي يحتاجها بناء جسم الكائن وبما أنها ستختفي بمجرد انقسامها إلى خليتين جديدتين فإن عدد الانقسامات التي ستجريها كل من هاتين الخليتين يجب أن يكون مسجل في داخلها ومع تكرار عمليات الانقسام يجب أن يوجد مؤشر في داخل كل خلية من الخلايا الناتجة يحدد عدد الانقسامات التي ستجريها في المستقبل. وعلى عاتق الخلية الأولى كذلك قبل أن تنقسم أن تحدد المهام التي ستقوم بها الخليتان الناتجتان عنها وهاتان بدورهما يجب أن تقوما بتحديد مهام الخلايا الأربع التي ستنتج عن انقسامهما وهكذا يتم توزيع المهام على بقية الخلايا التي ستنتج عن الانقسام المتكرر للخلية الأولى. ومن الواضح أنه بعد حدوث عدد معين من الانقسامات تبدأ الخلايا بتنفيذ مهامها المختلفة فخلية ستتولى تصنيع الهيكل العظمي وأخريات  للجهاز العضلي والعصبي والدوري والهضمي والجلدي والبصري والسمعي والتناسلي وغيرها. وبما أن هذه الخلايا تتلقى أوامر انقسامها من شريط الحامض النووي الذي في داخلها فهذا يستلزم أن تقوم كل خلية من هذه الخلايا بتنفيذ جزء محدد من برنامج تصنيع الكائن المخزن في الشريط الوراثي الكلي.

إن برنامج التصنيع الكلي مكون من عدد كبير من البرامج الأصغر حجماﹰ يتكفل كل واحد منها بتصنيع جزء معين من جسم الكائن وهذه البرامج بدورها مكونة من عدة برامج أصغر مسؤولة عن تصنيع مكونات هذه الأجزاء. إن المشكلة الأكبر في عملية التصنيع هذه فتكمن في طريقة ترتيب هذه البرامج في داخل البرنامج الرئيسي بحيث يتم تنفيذ هذه البرامج وفقاﹰ لخطة التصنيع وبحيث تضع أجزاء الجسم المختلفة في الأماكن المخصصة لها أولا بأول. ومما يزيد من صعوبة ترتيب وتنفيذ هذه البرامج التداخل الكبير بين الأجهزة المختلفة لجسم الكائن فبعض مكونات الجهاز الدوري والعصبي تمتد في داخل مكونات الأجهزة الأخرى والجهاز البصري والسمعي موجودة في داخل تجاويف الهيكل العظمي والجهاز العضلي يرتبط ارتباطا كبيرا بالهيكل العظمي. وهذا يتطلب ممن يقوم بكتابة برامج تصنيع الأجهزة المختلفة أن يراعي هذا التداخل الشديد بين هذه الأجهزة  ويضمن توافق أحجامها ووظائفها عند تصنيع جسم الكائن. وبما أن كل خلية من خلايا الجسم المراد تصنيعه تقوم بتنفيذ جزء البرنامج الخاص بها حسب موقعها من الجسم وبشكل مستقل عن بقية الخلايا فإن هذا يتطلب أن تكون الأوامر الصادرة عنها في كل لحظة من لحظات تصنيع الكائن على درجة عالية من التنسيق والتزامن ليظهر الكائن الحي بالشكل المطلوب. وبما أنه لا يوجد أيّ نظام تحكم مركزي يعمل على التنسيق بين الخلايا أثناء انقسامها لتصنيع الكائن فإن عملية التنسيق هذه تتم بشكل غير مباشر بين الخلايا من خلال الأوامر التي تصدرها أشرطتها الوراثية بشكل مستقل ولكن بتزامن منقطع النظير.

على الرغم من أن جميع خلايا الجسم تحتوي على نفس شريط الحامض النووي الذي يحمل جميع المعلومات اللازمة  لتصنيع أي جزء من أجزاء الجسم إلا أن هذه الخلايا قد تم برمجتها بحيث تنفذ إما كامل برنامج التصنيع المخزن في شريطها الوراثي أو جزء محدد من هذا البرنامج. فالخلية الجذعيه كاملة القدرة (Totipotent Stem Cell) وهي البويضة المخصبة يمكنها تصنيع جسم كائن كامل حيث تبدأ بإجراء انقسامات متتالية وعند كل انقسام تحدد للخلايا الناتجة أي جزء من برنامج التصنيع عليها تنفيذه وهكذا دواليك إلى أن تنتهي من تصنيع كامل الكائن. أما الخلايا الجذعية وافرة القدرة (Pluripotent Stem Cells) فهي مجموعة الخلايا التي تنتج من انقسام الخلية الجذعية كاملة القدرة في المراحل الأولى والتي تسمى الكتلة الخلوية الداخلية الموجودة في ما يسمى الحويصلة الجذعية (Blastocyst). إن كل واحدة من هذه الخلايا الجذعية وافرة القدرة قادرة على إنتاج أي خلية من الخلايا المتخصصة لتصنيع أجهزة الجسم المختلفة ولكنها غير قادرة على تصنيع مشيمة الجنين والذي يصنع من الخلايا الجذعية الموجودة في غلاف الحويصلة الجذعية. وعند انقسام الخلايا الجذعية وافرة القدرة فإنها تنتج ما يسمى بالخلايا الجذعية متعددة القدرة (Multipotent Stem Cells) وهذه الخلايا قادرة على إنتاج مجموعة محددة من الخلايا المتخصصة في تصنيع أحد أنسجة الجسم كخلايا الدم الجذعية وخلايا الجلد الجذعية وغيرها. أما الخلايا المتخصصة (Specialized cells) والتي تنتجها الخلايا الجذعية متعددة القدرة فلا يمكنها إنتاج إلا خلايا من نفس نوعها وذلك عند انقسامها. ويوجد في جسم الإنسان ما يزيد عن مائتي نوع من الخلايا المتخصصة التي تقوم بوظائف مختلفة في الجسم. وتأخذ الخلايا المتخصصة أشكالا عديدة وذلك حسب وظيفتها فهناك الخلايا الكروية (spherical) والبيضاوية (oval) كبعض خلايا الدم البيضاء والمستطيلة  (rectangular) والمكعبة (cuboidal) والعمودية (columnar) كخلايا الأنسجة الطلائية والخيطية (thread like) كالخلايا العصبية والعضلية ومقعرة الوجهين (biconcave) كخلايا الدم الحمراء ومتعددة الأضلاع (polygonal) والمغزلية (spindle shaped) كخلايا العضلات الملساء والنجمية (star shaped) كالخلايا العظمية والدهنية والعصوية (rod-shaped) كخلايا العضلات المخططة وغير المنتظمة (irregular).