الجهاز العضلي: التحكم العصبي بالعضلات
إن الليفة العضلية الواحدة تعمل على مبدأ الوصل أو الفصل
(ON-OFF) فهي تنقبض
فقط عندما يتم إثارتها بنبضة كهربائية وتعود لحالة الارتخاء في غياب النبضة
الكهربائية وهي بذلك أشبه ما تكون بالمحرك الكهربائي الذي يشتغل فقط عندما يصله
التيار الكهربائي. ولكن يلزم لتحريك أعضاء الجسم
القابلة للحركة عضلات يمكن التحكم بدرجة شدها وذلك لكي تتوافق مع مقدار الحمل (load) الذي ستقوم
بتحريكه. وتتحدد درجات الشد اللازمة لأي عضلة تبعا لوظيفتها فهي كبيرة جدا في
عضلات العيون مثلا لكي تمكنها من النظر في الاتجاهات المختلفة بدقة عالية وقليلة
نسبيا في العضلات المحركة للفخذ والذراع. وعليه فإنه يلزم استخدام آليات مختلفة
تمكن العضلة من تغيير درجة شدها مع أنها مكونة من ألياف عضلية تشتغل على مبدأ
الوصل أو الفصل. وقد أبدع الخالق سبحانه وتعالى آليتين بديعتين تتمكن العضلات من
خلالهما من التحكم بدرجة شدها بما يتلائم مع وظائفها. فالآلية الأولى هي من خلال
التحكم بعدد النبضات الكهربائية التي تثير الليفة العضلية في الثانية الواحدة أو
ما يسمى تردد الإثارة (frequency of stimulation) وهذه الآلية يتبعها المهندسون اليوم في التحكم بسرعة المحركات
الكهربائية. فالليفة العضلية عندما تثار بالنبضة العصبية الواحدة فإنها تنقبض لفترة زمنية محددة لا تتجاوز عشر
الثانية ثم تعود فترتخي ولكي تبقى الليفة مشدودة بدرجة ما فإنه يجب إثارتها بشكل
متواصل بمعدل ثابت لتردد الإثارة. ومن
الواضح أنه كلما زاد تردد الإثارة كلما زادت درجة شد الليفة العضلية إلى أن يصل
التردد إلى معدل 50 دورة في الثانية تقريبا حيث يصل الشد إلى قيمته القصوى ولن
يزداد شدها بعد ذلك.
على الرغم من التعقيد البالغ في تصميم الليفة العضلية وكذلك عضلات الجسم التي تبنى منها إلا أن هذا التعقيد لا
يكاد يذكر مع التعقيد الموجود في تمديد الأعصاب التي تنقل النبضات الكهربائية من
الدماغ إلى عضلات الجسم أو التعقيد الموجود في مراكز الدماغ التي تخزن البرامج
التي تتحكم بحركة هذه العضلات. وكما ذكرنا سابقا فإن الليفة العضلية لا يمكن أن
تنقبض إلا إذا أثيرت بنبضة عصبية تأتيها من الدماغ إذا كانت في عضلة إرادية وعلى هذا فإن كل ليفة عضلية إرادية يجب أن ترتبط
بعصب محرك (motor nerve) ينقل لها النبضات العصبية من مراكز التحكم في الدماغ. إن العضلة
الواحدة من عضلات الفخذ تحتوي على ما يقرب من نصف مليون ليفة عضلية بينما تحتوي
العضلات الصغيرة على عدة مئات من الألياف وعليه فإن عدد الأعصاب المحركة المرتبطة
بعضلات الجسم الإرادية قد يصل إلى عشرات الملايين. ولكن عدد الأعصاب المحركة التي
تأتي من الدماغ وترتبط بالعضلات يتقلص إلى عدة ملايين بسبب أن الألياف العضلية
الموجودة في الوحدة الحركية الواحدة يلزمها عصب محرك واحد يأتيها من الدماغ والذي
يتفرع إلى أفرع بعدد الألياف الموجودة في الوحدة الحركية والذي قد يصل إلى ألفي
فرع في العضلات الكبيرة. إن عملية تحريك العضلات للقيام بمهامها المختلفة لا تتم فقط من خلال إرسال
النبضات العصبية من مراكز التحكم في الدماغ إلى العضلات بل تحتاج لتغذية راجعة (feedback) من العضلات إلى مراكز التحكم
وذلك لكي تحدد لها وضعية المفاصل المختلفة ومقدار شد العضلات في كل لحظة زمنية.
ويتم ذلك من خلال استخدام عدد كبير من
المستقبلات الحسية (sensory receptors)
التي يتم زرعها في داخل المفاصل والعضلات والأربطة والأوتار والتي تقوم بإرسال
نبضات عصبية إلى الدماغ باستخدام ألياف خاصة غير الألياف المحركة تسمى الألياف
الحسية (sensory nerves).
والمستقبلات الحسية المصممة خصيصا للقيام بهذه المهمة هي من نوع المستقبلات
الميكانيكية (mechanoreceptors)
والتي تستجيب للحركات الميكانيكة للعضلات والمفاصل والأوتار والتي توجد بأشكال
مختلفة حسب نوع المكون الموجودة فيه كالمغزل العضلي (muscle
spindle) الموجود في العضلات وجسم كوجلي الوتري (Golgi tendon organ) الموجود في الأوتار.
إن التحدي الأكبر هو في تمديد عدة ملايين من الأعصاب
المحركة والحسية بين مراكز التحكم في الدماغ وبين ما يزيد عن ستمائة عضلة موزعة في
جميع أنحاء الجسم تحتوي على عشرات الملايين من الألياف العضلية والتي يجب أن يتصل
كل منها بفرع من أفرع الأعصاب المحركة. إن هذه الملايين من
الألياف العصبية عليها أن تحدد مساراتها من تلقاء نفسها وذلك في مراحل النمو
الأولى للجسم فكل ليف منها قد نما من خلية واحدة في الدماغ أو في الحبل الشوكي
وبدأ يشق طريقه بين آلاف البلايين من خلايا الجسم
ليصل إلى هدفه المنشود وهو أحد الألياف العضلية ولمسافات قد تزيد عن المتر.
إن مهندسي الاتصالات الذين يعملون في مجال تمديد وربط الكوابل الكهربائية الخاصة
بالهواتف يدركون جيدا تعقيد هذه العملية
فهم يعانون من مشاكل جمة عند ربط أسلاك الكوابل بالأجهزة الطرفية فيعملون على
تلوينها أو ترقيمها رغم أن عددها لا يتجاوز عدة مئات في الكيبل الواحد. ويقدر
العلماء العدد الكلي للألياف العصبية التي تربط مراكز الدماغ بجميع أعضاء الجسم بأكثر من عشرة ملايين ليف
عصبي يوجد من بينها عدة ملايين من الألياف العصبية التي تتحكم بالعضلات الإرادية
بينما البقية تخص أعصاب الحواس الخمسة. ويربط كل واحد من هذه الألياف خلية عصبية
أو أكثر في أحد مراكز الدماغ مع خلية عصبية مناظرة لها في أحد أعضاء الجسم ويجب أن
تتم عملية الربط هذه بدقة متناهية لا مجال للخطأ فيها وإلا سيترتب على هذه الأخطاء
عواقب وخيمة تؤدي إلى فشل العضو في القيام بوظيفته. إن الألياف العصبية تخرج من مراكز
الدماغ المختلفة على شكل حزم يتم إعادة ترتيبها في مراكز متخصصة في قاع الدماغ تم
شرحها في الجهاز العصبي لتخرج على شكل كيبلات تذهب إلى مناطق الجسم المختلفة
وعندما يصل أحد هذه الكوابل إلى إحدى المناطق تتفرع منه الألياف الخاصة بها فقط
بينما تكمل بقية الألياف مسيرها حتى تصل إلى المنطقة التي تخصها.
لقد ذكرنا قبل قليل أن التعقيد الموجود في تركيب الليفة العضلية وفي
العضلات لا يكاد يذكر مع التعقيد الموجود في تمديد الأعصاب التي تحرك هذه العضلات.
ونؤكد هنا أيضا أن التعقيد الموجود في تمديد الأعصاب لا يكاد يذكر مع التعقيد
الموجود في تركيب مراكز الدماغ التي تولد النبضات العصبية التي ترسل عبر هذه
الأعصاب لتتحكم بحركة العضلات. فهذه المراكز تتكون من بلايين الخلايا العصبية أو
العصبونات التي يتم ربطها ببعضها البعض لتكون أنظمة معقدة جدا بعضها يستخدم لتخزين برامج التحكم بحركة كل
عضلة من العضلات وبعضها للتنسيق بين حركة العضلات المختلفة وبعضها لتوليد النبضات
العصبية وغير ذلك الكثير. وتقع المراكز العصبية المسؤولة عن الحركات الإرادية في
الجزء الخلفي من فص المخ الأمامي وهي تغطي مساحة واسعة منه ويتبين لنا من الشكل
المرفق كيف أن اليد واللسان والشفاه تحتل نسبة كبيرة من هذه المساحة بسبب كثرة العضلات فيها وبسبب دقة الحركات التي
تجريها.
ولا يدرك أكثر الناس حجم العمليات والمعالجات التي تجري في مراكز الحركة في
الدماغ وكذلك كمية المعلومات الذاهبة والقادمة بين العضلات والدماغ عند القيام
بتحريك أحد أعضاء الجسم لأداء مهمة معينة مهما بلغت بساطتها. فمعظم الناس يعتقد أن جميع خطوات عملية تحريك
أعينهم وأيديهم وأرجلهم وأفواههم وألسنتهم إنما تتم بشكل كامل تحت سيطرتهم وهي
ليست كذلك أبدا حيث أن جميع الخطوات تتم بشكل غير إرادي ما عدا الخطوة الأولى وهي
خطوة تحديد نوع الحركة ووقت ابتدائها. ولتقريب هذا الأمر إلى الأذهان فإننا عندما
نقوم بكبس أحد أزرار لوحة مفاتيح الحاسوب لإجراء عملية معينة فإن الدور الذي
لعبناه في إجراء العملية هو فقط كبس الزر والذي قمنا به بمحض إرادتنا أما بقية
الإجراءات المطلوبه لتنفيذ العملية المطلوبة فإنها تتم تحت إرادة الحاسوب من خلال
برامج مخزنة في ذاكرته. وبالقياس على هذا المثل فعندما ينوي الشخص تحريك يده في
وضعية ما فإن هناك برامج ضخمة مخزنة في مراكز الحركة في الدماغ يلزم تشغيلها لتحدد
سلسلة النبضات العصبية التي يجب أن ترسل لمختلف عضلات اليد وبتزامن منقطع النظير.
فعندما ينوي الشخص الإمساك بكوب من
الماء ليشرب منه فإن يلزم تحريك جميع عضلات اليد لنقلها من وضعها التي كانت عليه
إلى موضع الكوب فتقوم بالإمساك به بطريقة ما ثم تقوم بنقله إلى الفم. وخلال هذه
الفترة الزمنية يتم إرسال مئات الملايين من الإشارات العصبية من الدماغ لعضلات
اليد ومن عضلات اليد إلى الدماغ يتم من خلالها تحديد العضلات المراد تحريكها
ومقدار شدها في كل لحظة زمنية. وكيف يمكن للإنسان أن يعطي سلسلة الأوامر لتحريك
يده وهو يجهل أصلا تركيب يده وكم فيها من عضلات ومفاصل وألياف عصبية وغير ذلك وحتى
لو علم ذلك فإنه لا حول له ولا قوة في فعل ذلك. ويتضح ذلك جليا أنه إذا ما أصاب
أعصاب اليد أي خلل أو قطع فالشخص المصاب يعطي الأوامر لدماغه لتحريك يده ولكن اليد
لا تستجيب أبدا لعدم وصول الإشارات من الدماغ إلى عضلات اليد. وعندما يتكلم الشخص
بكلام قل أو كثر فإنه لا سبيل له أبدا للتحكم بالعضلات التي تحرك آلة الكلام
كعضلات الحجاب الحاجز والحنجرة والبلعوم والفكين واللسان والشفاه فدوره يقتصر فقط
على استحضار الجمل والكلامات التي ينوي أن ينطق بها في مركز الكلام في الدماغ. ومن
ثم يقوم مركز الكلام بإرسال الأوامر إلى مراكز حركة آلة الكلام ليقوم بتوليد
النبضات العصبية بتزامن منقطع النظير وبمعدلات لا يحصيها إلا الله عز وجل إلى العضلات المختلفة.
إن العلماء لا زالوا يجهلون تماما الآلية التي يستخدمها الدماغ لترجمة
إرادة الإنسان للقيام بتحريك أحد أعضاء جسمه رغم أنهم قد قاموا بتحديد مركز
الإرادة والتصور والتفكير والتي تقع في مقدمة الدماغ الواعي كما شرحنا في مقالة
الدماغ. ومن المفيد أن نذكر هنا أن البرامج التي تقوم بتحريك مختلف عضلات الجسم
يتم برمجتها وتخزينها في مراكز الدماغ المختلفة من خلال التدريب خلال حياة الإنسان
بما يسمى بالبرمجة العصبية. فعندما يولد الإنسان تكون هذه المراكز مبرمجة برمجة
مبدئية تمكن الإنسان من القيام بالحركات الأساسية ومن ثم يتم تحسين هذه البرامج من
خلال التدريب كما هو الحال في تدريب عضلات الفم واللسان على النطق بالأحرف
والكلمات وتدريب عضلات اليد على الكتابة وكذلك الحال مع بقية عضلات الجسم.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق