2024-12-24

وفي أنفسكم أفلا تبصرون- الجهاز الهضمي

 وفي أنفسكم أفلا تبصرون - الجهاز الهضمي 

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي - جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

من المؤسف أن كثيرا من الناس يأكلون ويشربون ولا يفكرون أبدا في ما يحدث للطعام الذي يأكلونه في داخل جهازهم الهضمي. ولو أنهم علموا ما الذي يجري للطعام الذي يأكلونه ابتداء من دخوله في الفم وانتهاء بخروجه من الشرج لحمدوا الله عز وجل عند كل لقمة طعام يطعمونها أو شربة شراب يشربونها. لقد أرشدنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى  الطريقة التي تجعلنا نتذكر هذه النعمة العظيمة فنقول كما قال صلى الله عليه وسلم عند أكل الطعام "الحمد لله الذي أطعمنيه وأسقانيه من غير حول مني ولا قوة" ونقول بعد خروجنا من الحمام "الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ قوته وأذهب عني أذاه" كنز العمال عن عبدالله ابن عمر. وقد حدد الحديث الذي رواه ابن عمر الوظائف الرئيسية الثلاث للجهاز الهضمي مما يؤكد أن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر إلا عن نبي ألهمه الله الحكمة. فالوظيفة الأولى هي التلذذ بطعم الطعام الذي يأكله الإنسان "أذاقني لذته" وهذه نعمة تفضل الله سبحانه وتعالى على البشر فالأصل أن الطعام  يؤكل لهدف تغذية الجسم وليس لهدف التلذذ به. ولو قدر الله عز وجل أن أخذ من البشر الشهوة للطعام أو الإحساس بالجوع أو العطش أو حاسة التذوق أو حاسة الشم لأجبروا أنفسهم جبرا على أكل الطعام كما يجبر المريض على أكل  طعامه أو شرب دوائه. أما الوظيفة الثانية وهي الأهم فهي استخلاص القوة التي في الطعام وتزويد الجسم بها "وأبقى فيَّ قوته" والمقصود بالقوة هنا المكونات المفيدة في الطعام والتي يتغذى عليها الجسم من  مواد عضوية وسعرات حرارية. أما الوظيفة الثالثة التي ذكرها الحديث فهي إخراج الفضلات المتبقية من هضم الطعام إلى خارج الجسم "وأذهب عني أذاه" رغم أنها تسير من خلال قناة يبلغ طولها تسعة أمتار وملتفة على بعضها البعض ولا يتجاوز قطرها في أغلبها الثلاث سنتيمترات مما قد يعرضها للانسداد وبالتالي هلاك الإنسان. 

وسنبين فيما يلي من شرح أن عملية هضم الطعام وامتصاصه تحتاج لتصاميم غاية في الإتقان لمكونات الجهاز الهضمي ولعشرات الأنزيمات والمركبات الكيميائية التي تعمل على تحليل الطعام إلى مكوناته الأساسية ولعشرات الهرمونات التي تحدد الأوقات التي تفرز فيها هذه الأنزيمات وأنواعها وكمياتها. وتحتاج كذلك لبرامج معقدة مخزنة في الدماغ وفي العقد العصبية تحدد الحركات المختلفة لمكونات هذا الجهاز وتشعر الإنسان كذلك  بالجوع والعطش وبالشبع والري إلى جانب الشعور بالمتعة واللذة عند أكل الطعام وشرب الشراب. إن القارئ بعد الانتهاء من قراءة هذه المقالة ويرى مدى التعقيد الموجود في مكونات الجهاز الهضمي وكثرة العمليات الكيميائية التي تجري في داخله قد ينتابه شيء من الخوف من أن يتعطل جهازه الهضمي لتعطل أحد مكوناته أو لفشل الغدد في إفراز أنزيماتها وهرموناتها. ولكن القارئ سيطمئن عندما يوقن أن هذا الجهاز المعقد قد تم تصميمه من قبل خالق خبير عليم سبحانه وتعالى وليس بالصدفة فهذا الجهاز يمكنه أن يعمل لما يزيد عن مائة عام بكل كفاءة رغم الكميات الضخمة التي تدخله من مختلف أنواع الأطعمة والأشربة ورغم المواد الكيميائية الخطرة التي تفرزها خلايا جدرانه الداخلية والتي تذيب وتحلل أقسى أنواع اللحوم ولكنها لا تذيب لحم جدرانه. وللأسف أن أكثر الناس لا يقدرون هذه النعمة العظيمة إلا بعد أن يتعرض جهازهم الهضمي لبعض الأمراض وصدق الله العظيم القائل "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)" فصلت. 

وظائف الجهاز الهضمي   

إن وظيفة الجهاز الهضمي هو تأمين الماء والبروتينات والكربوهيدرات والدهون والفيتامينات والمعادن والأملاح إلى كل خلية من خلايا الجسم وذلك لضمان تكاثرها لاستبدال ما يموت منها وكذلك للقيام بوظائفها الحيوية المختلفة. والخلايا الحية لا يمكن أن تتغذى إلا على أبسط أشكال المواد العضوية تركيبا وذلك لسببين رئيسين أولهما أن جدار الخلية لا ينفذ من خلاله إلا جزيئات صغيرة الحجم وثانيهما أن الخلايا الحية تنتج في داخلها المواد العضوية المعقدة الخاصة بها وبالقدر الذي تحتاجه ولا تستفيد أبدا من المواد العضوية المعقدة التي تحصل عليها من خارج أجسامها. والمواد العضوية الأساسية التي تحتاجها الخلايا هي إحدى ثلاثة أنواع فالنوع الأول هي الأحماض الأمينية العشرين (Amino acids) وهي وحدات البناء الأساسية التي تلزم لإنتاج مختلف أنواع البروتينات (Protein). أما النوع الثاني فهي السكاكر الأحادية (Monosaccharides) وهي سكر الجلوكوز (glucose) والفركتوز (fructose) والجالاكتوز (galactose) والتي تلزم لإنتاج مختلف أنواع الكربوهيدرات أو النشويات (Carbohydrates). وأما النوع الثالث فهي الأحماض الدهنية الحرة (Fatty acids) والجليسيرادات الأحادية (monoglycerides)  والجليسيرول (glycerol) والتي تلزم لإنتاج مختلف أنواع الدهون (Fats). وتحتاج الخلايا إلى جانب هذه المواد العضوية الأساسية مركبات كيميائية تسمى الفيتامينات (Vitamins) والتي تلعب دورا مهما في تمكين الخلايا الحية من القيام بوظائفها الحيوية المختلفة. ولقد تمكن العلماء من التعرف على ما يقرب من عشرين نوع من الفيتامينات إلا أن عدد المشهور منها ثلاثة عشر وهي فيتامينات (A) و(B1) و(B2) و(B3) و(B5) و(B6) و(B7) و(B9) و(B12) و(C) و(D) و(E) و(K). وباستثناء فيتامين (D) وفيتامين (K) التي يمكن للجسم أن يصنعها ولو بكميات قليلة فإن البقية يلزم توفيرها من الطعام الذي يتناوله الإنسان. إن الكميات التي يحتاجها جسم  الإنسان من الفيتامينات يوميا قليلة جدا لا تتجاوز المللي غرام الواحد لمعظمها وعدة عشرات من المللي غرام لقليل منها. ويحتاج الجسم كذلك إلى ما يزيد عن عشرين نوعا من العناصر الطبيعية غير العناصر الأربع التي تدخل في تركيب المواد العضوية وهي الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين  ولذا يطلق عليها  اسم المعادن أو الأملاح (minerals) وهي تدخل في تركيب أنواع مختلفة من مكونات الخلية والهرمونات والأنزيمات. ومن أهم هذه المعادن الصوديوم والمغنيسيوم والكالسيوم والفوسفور والحديد والكلور والكبريت والنحاس والزنك والكوبلت والنيكل واليود. وكما هو الحال مع الفيتامينات فإن الكميات التي يحتاجها الجسم من المعادن قليلة جدا نسبيا وتبلغ عدة غرامات لقليل منها وبعشرات الملليغرام لمجموعة منها وبكميات لا تذكر للبقية وكذلك لا بد للجسم أن يحصل عليها من الطعام. 

 يتكون جسم الإنسان من الماء بنسبة 65% ومن البروتينات بنسبة 16% ومن الكربوهيدرات بنسبة 10% ومن الدهون بنسبة 5% ومن المعادن والأملاح بنسبة 4%. وتستخدم البروتينات التي يحصل عليها الجسم بالكامل في عمليات البناء والقيام بالعمليات الحيوية بينما تستخدم الكربوهيدرات في تزويد الجسم بالطاقة بينما تستخدم الدهون في عمليات البناء والعمليات الحيوية وكذلك في تخزين كميات كافية من الطاقة في الجسم لحين الحاجة إليها. إن الطعام الذي يأكله الإنسان البالغ في اليوم الواحد يجب أن يكون محتواه الحراري في المتوسط 2000 كالوري وبحيث يكون نصيب الكربوهيدرات 50% والدهون 30% والبروتين 20% وذلك من حيث المحتوى الحراري حيث يحتوي الجرام الواحد من البروتينات والكربوهيدرات 4 كالوري بينما يبلغ 9 كالوري في الدهون. إن مهمة الجهاز الهضمي هو تحويل هذه المواد العضوية المعقدة إلى مواد عضوية بسيطة يسهل حملها بالدم وتوزيعها على جميع خلايا الجسم حيث تدخل بسبب صغر حجمها من خلال جدار الخلية بكل سهولة. وكما أن بناء المواد العضوية المعقدة من الوحدات الأساسية لا يمكن أن يتم إلا بوجود أنزيمات خاصة وكذلك فإن عملية  تحطيم أو هدم المواد العضوية المعقدة إلى الوحدات الأساسية لا يمكن أن يتم إلا بوجود أنزيمات خاصة وذلك لكل نوع منها. إن عملية هضم الطعام تتم على ثلاثة مراحل المرحلة الأولى عملية ميكانيكية يتم فيها تفتيت الطعام إلى قطع صغيرة ومن ثم خلطه بالسوائل وذلك لسببين أولهما تسهيل حركة الطعام في مكونات الجهاز الهضمي وثانيهما زيادة مساحة سطح الطعام المعرض للأنزيمات الهاضمة. أما المرحلة الثانية فهي كيميائية يتم فيها تذويب قطع الطعام باستخدام حامض الهيدروكلوريك للحصول على حبيبات صغيرة من الطعام عالقة بسائل مكون من الماء والحامض. أما المرحلة الثالثة فهي أيضا كيميائية يتم فيها تحطيم الروابط الكيميائية بين جزيئات المواد العضوية المعقدة والكبيرة للحصول على الوحدات الأساسية.     

مكونات الجهاز الهضمي

يتكون الجهاز الهضمي من أنبوبة أو قناة عضلية طويلة متعرجة تتسع في أماكن معينة وتضيق في أماكن أخرى. وتبدأ القناة عند الفم وتنتهي عند الشرج حيث يصل طولها في الإنسان البالغ ما يقرب من تسعة أمتار. وبما أن المسافة بين الفم والشرج لا تزيد عن المتر فإنه يلزم طي هذه الأنبوبة الطويلة في مناطق معينة منها بحيث يتم وضعها في حيز محدد وهو التجويف البطني. وتتألف القناة الهضمية من ستة أقسام رئيسية وهي الفم والبلعوم والمريء والمعدة والأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة. ويرتبط بالقناة الهضمية أربع مكونات تقع خارج القناة وتساعد الجهاز الهضمي على القيام بوظائفه من خلال العصارات التي تصبها فيه من خلال قنوات خاصة وهي الغدد اللعابية والبنكرياس والحويصلة الصفراوية ( المرارة ) والكبد. 

إن مكونات الجهاز الهضمي لا تقوم  بوظائفها المختلفة بطريقة عشوائية بل تتم بطريقة محكمة تحت سيطرة برامج مخزنة مسبقا في الدماغ أو في عقد عصبية مزروعة في جدران بعض هذه المكونات وكذلك تحت سيطرة النظام الهرموني. وباستثناء عملية تقطيع الطعام التي تتم في الفم بشكل إرادي والتي غالبا ما تكون غير متقنة بسبب أن الإنسان هو المسؤول عنها فإن بقية العمليات تتم بطريقة لاإرادية وبطريقة غاية في الإتقان. إن تحريك الطعام في قناة يبلغ طولها ما يقرب من تسعة أمتار مطوية على بعضها البعض ومحشوة في حيز ضيق وهو البطن لا يمكن أن يتم تحت تأثير الجاذبية بل يحتاج  إلى حركات معقدة  تقوم بها جميع مكونات الجهاز الهضمي وذلك من خلال تقلص وانبساط عضلات جدرانها بطريقة مدروسة. وكذلك فإن عشرات الأنواع من الإفرازات التي تصبها مكونات الجهاز الهضمي في القناة الهضمية يتم تحديد وقت إفرازها والكميات المفرزة منها بشكل بالغ الدقة يتناسب مع كمية ونوع الطعام الذي يدخل إليها. إن مكونات الجهاز الهضمي المختلفة تفرز في اليوم ما معدله ثمان لترات من الإفرازات يشكل الماء أغلبها وللقارئ أن يتخيل لو أن هذه الكمية يتم إفرازها دفعة واحدة على لقمة واحدة من الطعام. 

لقد خلق الله سبحانه وتعالى آليات مختلفة تدفع بالإنسان دفعا لأكل الطعام أو شرب الماء ولولا هذه الآليات لأجبر الإنسان نفسه جبرا على أكل طعامه وشرب شرابه كما يجبر المريض نفسه على شرب دوائه أو أكل طعام لا يشتيه. فالآلية الأولى هي الشعور بالجوع (hunger) حيث يقوم الجسم بإرسال إشارات مختلفة إلى الدماغ تبلغه بنقص الغذاء الذي يغذي خلاياه فيقوم الدماغ بإرسال إشارات إلى أماكن محددة في الجسم تنشئ الإحساس بالحاجة إلى الطعام أي الجوع. ورغم الأبحاث الكثيرة التي أجراها العلماء لدراسة ظاهرة الجوع وتحديد أماكن الجسم التي تصدر منها هذه الإشارات إلا أنهم لم يجمعوا على رأي واحد فمن قائل أنها صادرة عن المعدة إذا ما خلت من الطعام ومن قائل أنها صادرة من الكبد إذا قل مستوى سكر الجلوكوز ومن قائل أنها صادرة من الدماغ إذا بدأت درجة حرارة الجسم بالانخفاض مع نقصان كمية الطاقة التي تمد الجسم. وفي مقابل الجوع خلق الله عز وجل آلية الشبع ولولا هذه الآلية لأهلك الإنسان نفسه إذا ما ترك الأمر لشهوته ولم يحكم عقله وأكل كميات زائدة من الطعام قد تسبب في إرهاق أو تلف مكونات الجهاز الهضمي. أما الآلية الثانية فهي الشعور بالعطش (thirst) إلى الماء حيث يشكل الماء ما نسبته 65% من وزن الجسم وقد جعل الله من الماء كل شيء حي حيث أن جميع العمليات الحيوية والتفاعلات الكيميائية التي تجري في الخلايا لا تعمل إلا في وسط مائي. إن أي نقص في كمية الماء في الجسم ينعكس على كمية الماء الموجود في الدم ولذا فإن بعض المستقبلات الحسية الموجودة في جدران الأوعية الدموية تحس بزيادة تركيز الأملاح أو ارتفاع ضغط الدم عند نقصان الماء فتبعث بإشاراتها إلى الدماغ الذي يقوم بسحب كمية من الماء الموجود في الخلايا المبطنة للفم والحلق فيصيبها الجفاف فيحس الإنسان بالعطش. أما الآلية الثالثة فهي الشهية لأكل مختلف أنواع الطعام (appetite) رغم أن الإنسان قد يكون في حالة الشبع ولكن هذه الشهوة تزداد مع الجوع وهذه الآلية تزيد من تلذذ الإنسان بالطعام الذي يأكله والشراب الذي يشربه. وقد وجد العلماء أن رؤية بعض أنواع الأطعمة أو شم رائحتها ترسل إشارات إلى مركز الاستمتاع في الدماغ (Brain’s pleasure center)   فيقوم بإفراز هرمونات تجسد هذه الشهوة وقد تعمل على إسالة اللعاب.  

الفم 

يعتبر الفم أول محطة من محطات الجهاز الهضمي ومن خلاله يتم إدخال الطعام والشراب إلى الجهاز الهضمي. ويستخدم الإنسان يديه لإيصال الطعام إلى فمه ومن ثم التقاطها بالشفاه والقواطع وذلك على العكس من بقية الحيوانات التي تستخدم شفاهها وأسنانها ومناقيرها مباشرة لالتقاط وإدخال الطعام وهذا تكريم من الله عز وجل لهذا الإنسان. ويقوم الفم بما فيه من مكونات بوظائف كثيرة في عملية الهضم أولها قضم وتمزيق وتفتيت الطعام باستخدام الأسنان التي صممت ورتبت بطريقة بالغة الإتقان تؤكد على أن الذي صممها عليم خبير كما شرحنا ذلك في مقالة الأسنان. فأسنان القواطع مستطيلة وحادة الأطراف لكي تتمكن من تقطيع الطعام أما الأنياب فأطرافها مدببة وبارزة عن ما يجاورها من أسنان لكي تتمكن من تمزيق الطعام الذي يصعب قضمه أما النواجذ والأضراس فأطرافها مستعرضه ومقعرة بعض الشيء  لكي تتمكن من تكسير وطحن الطعام.

 أما الوظيفة الثانية فهي إفراز اللعاب (saliva) الذي يعمل على ترطيب الطعام الجاف باستخدام  السوائل البايكربونية (Bicarbonate Fluid) والمخاط (Mucins (mucous)) وكذلك الهضم المبدئي لبعض المواد الكربوهيدراتية باستخدام إنزيم الأميلاز اللعابي (Salivary Amylase) الذي يحول السكاكر المتعددة (polysaccharide) أي النشويات  إلى سكاكر ثنائية (disaccharide)  كالمالتوز (maltose). ويتم إفراز اللعاب بمعدل لتر ونصف في اليوم من مجموعة من الغدد اللعابية (salivary glands) موزعة في مناطق مختلفة حول وداخل الفم فالغدتان النكفيتان (parotid gland) تقعان جانب الفك السفلي أمام الأذن والغدد اللسانية (sublingual glands) تقع في أرضية الفم وتحت اللسان بينما تقع الغدد تحت الفكية (submandibular glands) تحت الفك السفلي أما بقية الغدد فهي غدد صغيرة (minor salivary glands) يبلغ عددها 600 غدة موزعة في أنحاء الفم. 

أما اللسان  فيقوم بأدوار بالغة الأهمية في عملية الهضم وهو مكون من سبعة عشر عضلة تمكنه من التحرك والتشكل بمرونة بالغة داخل تجويف الفم بحيث يلامس رأسه أي مكان في الفم وجميع سطح الأسنان من الداخل والخارج. ويقوم اللسان أولا بتحريك الطعام في داخل تجويف الفم بشكل متواصل وذلك لعدة أسباب أولها وضع الطعام تحت الأسنان ليتم تمزيقه وطحنه بشكل جيد وثانيها مزجه باللعاب بشكل جيد لترطيبه وهضم ما فيه من نشويات وثالثهما دفع اللقمة (bolus) إلى البلعوم بعد أن تصبح جاهزة للبلع.  ويقوم اللسان أيضا بتنظيف الفم والأسنان من بقايا الطعام بعد الانتهاء من الأكل فهو يصل إلى أماكن في الفم يصعب على يد الإنسان أن  تصل إليها. أما المهمة الأخيرة للسان فهي استخدامه كحاسة للتذوق من خلال براعم الذوق (taste buds) الموزعة على سطحه وذلك لكي يستمتع الإنسان بطعم الطعام الذي يأكله. ويوجد على سطح اللسان ما يقرب من عشرة آلاف برعم أو حلمة يحتوي كل منها على ما يزيد عن عشرة مستقبلات تذوق لها القدرة على الإحساس بالحلاوة والملوحة والحموضة والمرارة في الطعام. ويقوم الدماغ بمعالجة المعلومات التي ترسلها مستقبلات التذوق المختلفة عبر الأعصاب المتصلة بها ليعطي عدد لا يحصى من المذاقات والنكهات التي نشعر بها عند أكل مختلف أنواع الأطعمة. ولهذا السبب نجد أن الإنسان يستطيع التفريق بين طعم آلاف الأنواع من الفواكه والخضراوات وبذور وزيوت النباتات ولحوم وألبان الحيوانات. وبهذه الحاسة العجيبة نجد أن الإنسان لا يستطيع أن يصبر على طعام واحد وذلك على عكس بقية الحيوانات التي لا تمل أبدا من أكل نفس النوع من الطعام طوال عمرها. فهذه الحيوانات تأكل لتؤمن أجسمها بالمواد العضوية والطاقة التي تلزمها بينما يأكل الإنسان وهدفه الأول الاستمتاع بالطعام الذي يأكله والشراب الذي يشربه ولا يلقي بالا في الغالب للفائدة التي سيعود بها هذا الطعام والشراب على جسمه.

البلعوم

أما المحطة الثانية من محطات الجهاز الهضمي فهو البلعوم (pharynx) أو الحلق (throat) وهو أنبوب عضلي يبلغ طوله 12 سنتيمتر تقريبا يمتد من فتحتي الأنف الخلفيتين إلى ما دون فتحة الحنجرة. وتتصل بالبلعوم سبع فتحات وهي فتحة الفم وفتحتي الأنف وفتحتي قناتي أوستاكيوس المرتبطة بالأذن الوسطى وفتحة الحنجرة وفتحة المريء. والبلعوم بتصميمه العجيب يعتبر معجزة من معجزات الخالق سبحانه وتعالى فهو يخدم الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي في آن واحد حيث يمر الهواء من خلاله إلى الرئتين بينما يمر الماء والطعام  إلى المريء. ولو أن الأمر قد ترك للصدفة لكان هناك مجريان منفصلان فترتبط الحنجرة مباشرة بالأنف  بينما يرتبط المريء مباشرة بالفم حيث أن استخدام مجرى مشترك يتطلب تصميما بديعا  يضمن عدم دخول الماء والطعام إلى الرئتين. 


ويقوم لسان المزمار (epiglottis) بإغلاق مجرى التنفس عند فتحة الحنجرة بشكل تلقائي عندما يقوم الإنسان ببلع الطعام فيحول دون دخوله إلى الرئتين. وتتجلى حكمة الخالق سبحانه وتعالى في تصميم هذا المجرى المشترك حيث أنه يحقق غايتين بالغتي الأهمية الأولى استخدام الفم كبديل عن الأنف في عملية التنفس فعندما يصاب الإنسان بالزكام قد تنغلق فتحتا الأنف كليا بسبب تراكم الإفرازات فيهما وفي هذا الحال يقوم الفم مقامهما في إدخال الهواء إلى الرئتين. أما الغاية الثانية فهي استخدام الهواء الذي يخرج من الرئتين في عملية إحداث الأصوات التي تصدرها الحبال الصوتية والتي تمر على مكونات الفم لتنتج الكلام كما سنشرح ذلك في الجهاز التنفسي.  ويتكون البلعوم من ثلاثة أجزاء وهي الجزء البلعومي الأنفي  (nasopharynx) وهو عبارة عن أنبوبة متينة تفتح على فتحتي الأنف وفي هذا الجزء توجد فتحتا قناتي أوستاكيوس  في الجدار الجانبي فوق الحنك الرخو (soft palate). أما الجزء البلعومي الفمي  (oropharynx) فيقع مقابل فتحة الفم ويتكون من ثلاثة عضلات عاصرة  تعمل على التقاط لقمة الطعام التي يدفعها إليها اللسان ثم تقوم بدفعها بقوة باتجاه المريء. أما الجزء البلعومي الحنجري  (laryngopharynx) فيتكون جداره الخلفي من زوائد العاصرات الثلاث المتدلية حتى مستوى الحبال الصوتية وأما جداره الأمامي فيوجد فيه لسان المزمار  وفتحة الحنجرة وعلى كل جانب من لسان المزمار يمتد غشاء مخاطي حتى الجدار الجانبي للبلعوم. 

المريء

وأما المحطة الثالثة فهو المريء (esophagus) وهو أنبوب عضلي ضيق يبلغ طوله حوالي 30 سنتيمتر  وقطره 2.5 سنتيمتر ويتفرع من البلعوم عند الفقرة العنقية السادسة ثم يسير خلف القصبة الهوائية ومن ثم خلف القلب إلى أن يخترق الحجاب الحاجز عند الفقرة الصدرية العاشرة. يفتح المريء على المعدة على بعد يزيد قليلا عن سنتيمتر واحد من الحجاب الحاجز وتسمى هذه الفتحة بفتحة الفؤاد (Cardia). ويتكون جدار المريء من ثلاثة طبقات وهي الطبقة الليفية الخارجية والطبقة العضلية في الوسط وهي مكونة من عضلات دائرية وأخرى طولية والطبقة المخاطية الداخلية والتي تفرز سائلا لزجا لتسهيل مرور الطعام. وترتبط عضلات المريء بمجموعة من الأعصاب الودية التي تعمل على تحريكها بطريقة لاإرادية بحيث يتحرك جدار المريء على شكل حركة موجية (rhythmic waves) تنتشر من  أعلاه إلى أسفله لتدفع الطعام إلى المعدة وتسمى هذه الحركة بالحركة  الدودية أو التمعج (peristalsis). إن وجود مثل هذه الحركة الدودية للمريء تؤكد على أن  الذي صممه لطيف خبير فمن خلالها يمكن للإنسان أن يأكل وهو مستلق على ظهره أو حتى لو كان فمه في مستوى أخفض من معدته. وتوجد في جدار المريء حلقتين عضليتين قويتين أحدهما في أعلاه تسمى العاصرة المريئية العلوية (upper esophageal sphincter) والأخرى في أسفله قبل التقائه بالمعدة  وتسمى العاصرة المريئية السفلية (lower esophageal sphincter) أو العاصرة الفؤادية (cardiac sphincter). إن هذه العاصرات نعمل كصمامات تسمح بمرور الطعام من المريء إلى المعدة ولا تسمح بمرور محتويات المعدة إلى المريء والفم. وإذا ما أصاب  الصمام السفلي أي خلل فإن بعض العصارة المعدية الحامضة ستتسرب إلى المريء فتؤذي باطن جداره مسببا ما يسمى بالارتجاع المريئي (gastroesophageal reflux). 


المعدة

أما المحطة الرابعة فهي المعدة (stomach) وهي كيس عضلي قوي يبلغ متوسط طولها 25 سنتيمتر ومتوسط عرضها عند منتصفها 12 سنتيمتر ويبلغ حجمها وهي خاوية ما يزيد قليلا عن لتر واحد. وتقع المعدة في الجهة اليسرى من البطن أسفل الحجاب الحاجز والكبد وفوق القالون المستعرض والأمعاء الدقيقة والبنكرياس. وتتكون المعدة من ثلاثة أجزاء وهي الجزء العلوي وهو الأكبر ويسمى قاع المعدة (fundus) والجزء الأوسط ويسمى جسم المعدة (body) والجزء السفلي وهو الأصغر ويسمى غار المعدة (antrum). ويوجد في الطرف السفلي للمعدة فتحة البواب  (Pylorus) والتي تفتح على الأمعاء الدقيقة وتحيط بهذه الفتحة حلقة عضلية تسمى العضلة العاصرة البوابية (pyloric sphincter) تعمل كصمام يسمح بمرور الطعام من المعدة إلى الأمعاء الدقيقة. 


ويتألف جدار المعدة من ثلاثة طبقات فالطبقة الخارجية  طبقة ليفية مصلية رقيقة وملساء (serosa) مما يسهل من حركة المعدة داخل البطن بأقل احتكاك ممكن مع ما يحيط بها من أحشاء. وأما الطبقة الوسطى فمكونة من ثلاث طبقات عضلية فالداخلية منهما ذات عضلات  مائلة (inner oblique muscle layer) تليها  طبقة وسطى ذات عضلات دائرية (middle circular muscle layer) ومن ثم طبقة خارجية ذات عضلات طولية (outer longitudinal muscle layer). وأما الطبقة الداخلية لجدار  المعدة فهي الطبقة المخاطية وهي ذات تعرجات أو طيات كثيرة تبدو كالخميلة (rugae) وذلك لزيادة السطح الداخلي للمعدة وتحتوي هذه الطبقة على 35 مليون غدة معدية (gastric glands). 

إن في تصميم الغدد المعدية من المعجزات ما يجعل جهابذة العلماء يسلمون بأن الذي صممها خالق لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وتعالى. فهذه الغدة عبارة عن أنبوب بالغ الدقة مبطن بستة أنواع من الخلايا  تقوم بإفراز مكونات العصارة المعدية (gastric juice)  وهي الماء بنسبة 90 بالمائة  وحامض الهيدروكلوريك (Hydrochloric Acid) وخميرة الببسين أو الببسينوجين (Pepsinogen) والمخاط القلوي (Alkalytic mucous) وهرمون الجاسترين (gastrin)  وهرمون الهستامين (histamine) وهرمون السوماتوستين (somatostatin) والعامل الداخلي (intrinsic factor) وإنزيم الليبيز المعدي (lipase). إن المعدة لا تقوم بإفراز عصارتها إلا عند دخول الطعام إليها وبعد إثارة خلايا الإفراز فيها من قبل الهرمونات التي ذكرناها  وكذلك من قبل بعض ألياف العصب الحائر (vagus nerve). فعند دخول الطعام إلى المعدة تبدأ بالتمدد فتقوم مستقبلات التمدد (stretch receptors) بإرسال إشارات إلى الدماغ والذي يقوم بدورة بإرسال إشارات لغدد المعدة لإفراز هرموناتها. فهرمون الجاسترين يحفز إفراز العصارة المعدية بوجود الطعام بينما يعمل هرمون السوماتوستين  على إيقاف الإفراز عند غياب الطعام. ومن عجائب الخلايا التي تفرز حامض الهيدروكلوريك والببسين أنها لا تنتجها وهي في داخل هذه الخلايا وإلا لدمرتها ولكنها تنتج مركباتها ثم تفرزها إلى الأنبوب حيث تتحد هذه المركبات لتنتج هذه المواد الخطيرة,  

 تقوم المعدة بوظائف متعددة أولها استخدامها كمخزن لوجبة الطعام الذي يأكله الإنسان والذي يتم غالبا أكله في فترة زمنية قصيرة نسبيا. وعلى الرغم من أن سعة المعدة وهي فارغة لا تتجاوز اللتر الواحد إلا أن جدرانها قد صممت بحيث تتمدد بشكل كبير وتتسع لما يزيد عن خمسة لترات من الطعام. أما الوظيفة الثانية فهي وظيفة ميكانيكية حيث تعمل كخلاط يقوم بطحن وهرس الطعام وخلطه بعصارة المعدة ويتم ذلك من خلال الحركة التمعجية اللإرادية لجدار المعدة بمجرد دخول الطعام إليها. وتتجلى قدرة الخالق عز وجل في اختيار اتجاه العضلات في جدار المعدة فالعضلات الدائرية تعمل على انقباض جدار المعدة فيقوم بالضغط بقوة على الطعام الذي فيها بينما تقوم العضلات الطولية والمائلة بتحريك الجدار في جميع الاتجاهات مما يعمل على تفتيت الأجزاء الصلبة من الطعام. إن المعدة لا تقوم بحركاتها بطريقة عشوائية بل تتم بطريقة مبرمجة من قبل مجموعة من العقد العصبية المرتبطة بالعصب العاشر (الرئوي-المعدي) والعصب الودي الكبير الذي يشكل الضفيرة الشمسية (Solary Plexus )  والتي توجد عند وسط البطن  حيث يتم الشعور بالألم  في حالات أمراض المعدة.

 ويقوم حامض الهيدروكلوريك المخفف الذي تفرزه المعدة بمعدل لتر واحد في اليوم  بإذابة أجزاء الطعام إلى حبيبات بالغة الصغر لتحول العصارة المعدية المخلوطة بهذه الحبيبات إلى سائل كثيف القوام يسمى الكيموس (chyme) وهو شديد الحموضة حيث يبلغ المعامل الهيدروجيني له الرقم 2 أي بدرجة حموضة الليمون. ومن المهام المنوطة بحامض الهيدروكلوريك قتل جميع أنواع الكائنات الحية الدقيقة كالبكتيريا والفطريات التي تدخل مع الطعام لكي لا  يصاب الإنسان  بالتسمم جراء تكاثر هذه الكائنات في معدته. وإذا كان حامض الهيدروكلوريك قادر على إذابة اللحوم التي تدخل المعدة فهو قادر كذلك على إذابة جدار المعدة ولكن من لطف الله بمخلوقاته أن بعض الخلايا المبطنة للمعدة تقوم بإفراز مخاط قلوي يغطي جدار المعدة بطبقة رقيقة تحول دون وصول الحامض إلى خلاياه. أما الوظيفة الثالثة للمعدة فهي البدء بعملية الهضم المبدئي للبروتينات حيث يقوم أنزيم الببسين (Pepsin) بتحطيم جزيئات البروتينات الكبيرة إلى جزيئات أصغر حجما وهي عديد الببتيد (Polypeptides) وهي سلاسل قصيرة من الأحماض الأمينية تحتاج لأن تحطم لاحقا في الأمعاء الدقيقة  إلى الأحماض الأمينية. ويمكث الطعام في المعدة لمدة تتراوح بين الساعة والثلاث ساعات وذلك تبعا لطبيعة الطعام الموجود فيها وبمجرد إتمام عملية الهضم تقوم المعدة بتمرير الكيموس على دفعات إلى الأمعاء الدقيقة تحت سيطرة هرمونات تفرزها المعدة والأمعاء الدقيقة. 


الأمعاء الدقيقة

أما المحطة الخامسة من محطات الجهاز الهضمي فهي الأمعاء الدقيقة (Small intestine) وهو أنبوب عضلي ضيق يبلغ متوسط طوله في الإنسان ستة أمتار ونيف بينما يبلغ متوسط قطره ثلاثة سنتيمترات. تتصل الأمعاء الدقيقة بالمعدة من خلال فتحة البواب وبالأمعاء الغليظة عند الصمام الأعور (ileocecal valve) وبسبب طولها الكبير تم طيها إلى طيات كثيرة  ليتسنى وضعها في الحيز المخصص لها في منتصف البطن في داخل كيس من الشحم. وقد تم  تقسيم الأمعاء الدقيقة إلى ثلاثة أجزاء وهي الاثني عشر  أو العفج (duodenum) وهو الجزء المجاور للمعدة ويبلغ طوله 25 سنتيمتر  وهو على شكل الحذوة أو نصف دائرة يحيط برأس البنكرياس. أما الجزء الثاني فهو المعي الصائم (Jejunum) ويبلغ طوله متران ونصف  ثم يليه المعي اللفائفي (Ileum) ويبلغ طوله ثلاثة أمتار ونصف تقريبا. 


ويتكون جدار الأمعاء من ثلاثة طبقات رئيسية الخارجية منها طبقة مصلية ملساء والوسطى مكونة من طبقتين من العضلات الملساء أحدهما طولية والأخرى دائرية أما الداخلية فهي طبقة مخاطية ومن خلالها تتم عمليات الإفراز والامتصاص. إن السطح الداخلي للأمعاء  ليس أملسا بل يتكون من طيات أو ثنيات دائرية كبيرة (circular folds)  يبرز منها عدد كبير من النتوءات الدقيقة تسمى الزغب أو الفتائل (Villi)  يقدر عددها بخمسة ملايين فتيلة. ويغطي سطح كل فتيلة من هذه الفتائل نتوءات أخرى بالغة الصغر تسمى الزغب الدقيق  (Microvilli) يقدر عددها بعشرة بلايين ولا ترى إلا بالمجاهر الإلكترونية. إن هذا التصميم البديع ضروري جدا لزيادة مساحة سطح الأمعاء الملامس للطعام المهضوم وبالتالي زيادة معدل امتصاصها. وتبلغ مساحة الأمعاء الدقيقة من الداخل ما يزيد عن ثلاثمائة متر مربع أي بزيادة تبلغ ستين ألف ضعف عن مساحته فيما لو ترك أملسا. ويتغلغل داخل كل بروز من هذه الفتائل التي لا يتجاوز طوله الملليمتر الواحد شبكة كثيفة من الأوعية الدموية الدقيقة والقنوات اللمفاوية (lymphatic vessels) تقوم بنقل مكونات الطعام الذي تمتصه الأمعاء إلى الكبد. 

 تقوم الأمعاء الدقيقة بوظيفتين رئيسيتين أولهما القيام بعمليات الهضم النهائية لمكونات الطعام وثانيهما امتصاص مكونات الطعام المهضوم ونقله إلى الدم. تبدأ عملية الهضم في الأمعاء الدقيقة من خلال قيام الإثني عشر من خلال هرمون خاص بإعطاء الأمر لفتح صمام البواب وإدخال كمية محددة من الكيموس  الموجود في المعدة. ومن ثم يقوم الإثني عشر بإعطاء أوامر أخرى باستخدام الهرمونات  لكل من الكبد والبنكرياس والمرارة بإفراز كميات محددة من عصاراتها المختلفة والتي تصبها من خلال قناة مشتركة (common bile duct)  تسمى أنبوبة فاتر  (Ampulla of Vater)  تفتح عند منتصف الإثني عشر ويوجد في نهايتها صمام يسمى مصرة أودي (  sphincter of Oddi). يقوم جدار الإثني عشر بعد دخول الكيموس والعصارة بتقلصات خاصة تعمل على مزج الكيموس والعصارة بشكل جيد.

البنكرياس

 والبنكرياس  (pancreas) غدة ملساء ناعمة له شكل الجزرة يبلغ طوله 15 سم ووزنه 70 غرام ويقع ذيله خلف المعدة بينما يقع رأسه داخل حذوة الإثني عشر. ويعمل البنكرياس كغدة خارجية الإفراز (exocrine) حيث يفرز عصارات هاضمة تصب في الإثني عشر وكغدة صماء أي داخلية الإفراز (endocrine) تفرز مجموعة من الهرمونات التي تصبها في الدم. فالهرمونات التي يفرزها البنكرياس هي الأنسولين (insulin) والأملين (amylin) واللذان تفرزهما الخلايا البائية (Beta cells) والجلوكاغون (glucagon) والذي تفرزه الخلايا الألفية (Alpha cells) والسوماتوستاتن (somatostatin) والذي تفرزه الخلايا الدالية (Delta cells) والغريلين (ghrelin) والذي تفرزه خلايا إبسلون (Epsilon cells). 


ويصب البنكرياس عصارتة في الإثني  عشر من خلال قناتين أحدهما رئيسية وهي القناة البنكرياسية الرئيسية (primary pancreatic duct) والتي تتحد مع القناة الصفراوية الجامعة (common bile duct)  والأخرى ثانوية وهي القناة البنكرياسية المساعدة (secondary pancreatic duct).  ويقوم البنكرياس بإفراز البايكربونات  القاعدية عند إثارته بهرمون السيكريتن (Secretin) الذي تفرزه خلايا الإثني عشر عند تعرضها للكيموس الشديد الحموضة القادم من المعدة وذلك لمعادلة الحموضة  حيث أن الأنزيمات تعمل بكفاءة في الوسط المتعادل. وأما الأنزيمات التي يفرزها البنكرياس فهي أولا الأميلاز (Amylase) الذي يعمل على تحويل الكربوهيدرات إلى عديد السكاريد  وثانيا أنزيمات الليبيز (Lipases) والفوسفوليبز (phospholipase) وإستريز الكوليسترول (cholesterol esterase)  والتي تعمل على تحويل مختلف أنواع الدهون إلى أحماض دهنية وجليسيرول. وثالثا أنزيمات البروتياز (Proteases) والتريبسينوجين (trypsinogen) الخامل والذي يتم تحويله إلى التربسين الفعال بواسطة هرمون الإنتيروكيناز والذي يعمل على تحويل البروتينات إلى عديد الببتيد. ويتم التحكم بإفراز هذه الأنزيمات بالهرمونات التي تفرزها المعدة والإثني عشر وهي هرمونات الجاسترين (gastrin) و الكوليسيستوكينين (cholecystokinin) والسيكرتين (secretin).

الكبد والمرارة

يعتبر الكبد (liver) أحد مكونات الجهاز الهضمي وهو من أكبر أعضاء الجسم حجما ووزنا حيث يبلغ متوسط وزنه كيلوغرام ونصف وهو مكون من أربعة فصوص (lobes). ويقع الجزء الأكبر منه في الجهة اليمنى العلوية من البطن تحت الحجاب الحاجز مباشرة وتقابله المعدة في الجهة اليسرى من البطن حيث يقع فوقها أحد الفصوص. ويعتبر الكبد المحطة الرئيسية لما يسمى بالدورة البابية (Portal circulation) وهي إحدى ثلاث دورات دموية توجد في الجهاز الدوري. وفي هذه الدورة لا يذهب الدم الذي تحمله الأوردة الخارجة من مكونات الجهاز الهضمي إلى القلب مباشرة بل لا بد أن يمر على الكبد من خلال الوريد البابي  (portal vein). وهذا التعديل في مجرى الدم لا يصدر إلا عن عليم خبير سبحانه وتعالى فالدم الذي يخرج من أوردة الحهاز الهضمي محمل بمختلف أنواع المواد الغذائية والأملاح والسموم وحتى الميكروبات ولو دخل الدورة الدموية الرئيسية لهلك الإنسان على الفور. ويتم تزويد الكبد بالدم الغني بالأوكسجين من خلال الشريان الكبدي (hepatic artery). 


إن أهم وظيفة من وظائف الكبد هي معالجة المواد المختلفة التي تمتصها الأمعاء الدقيقة والغليظة وضخ المفيد منها عبر الوريد الكبدي (hepatic vein) الذي يذهب إلى القلب. ولا تقتصر وظيفة الكبد على هذه الوظيفة بل يقوم بوظائف لا حصر لها قد تصل إلى ما يقرب من أربعمائة وظيفة ولذا فإن تعطله يؤدي إلى الموت المحقق ومن لطف الله عز وجل أن مكن الكبد من إصلاح نفسه إذا ما أصاب التدمير أنسجته. ومن هذه الوظائف تخزين كثير من المواد الزائدة عن حاجة الجسم وإمداده بها حين الحاجة والتي أهمها السكر والأملاح والفيتامينات. ويقوم الكبد بتصنيع العصارة الهاضمة المسماة بالصفراء والتي تعمل على هضم الدهون. ويقوم كذلك بتحييد (Neutralizing) كثير من أنواع السموم حيث يقوم بإزالة سميتها (Detoxification) والإستفادة من بعض مكوناتها المفيدة كما في الكحول على سبيل المثال. ويقوم الكبد بتصنيع كثير من المواد التي لا يمكن للخلايا العادية تصنيعها كبعض أنواع البروتينات وخاصة بروتينات الدم والدهون ومانعات التجلط. ويقوم الكبد بمعالجة مخلفات الخلايا الميتة وإعادة استخدام بعض مركباتها وخاصة خلايا الدم الحمراء حيث يتم إعادة الحديد الذي فيها إلى العظام ليستخدم من جديد. ويقوم كذلك بتنظيم مستويات كثير من المواد في الجسم كمستوى السكر والكوليسترول والهرمونات والفيتامينات. ويقوم أيضا بوظيفة دفاعية حيث تلتهم بعض أنواع خلاياه أنواع مختلفة من الميكروبات وخاصة البكتيريا. 

ويتكون الكبد من ما يقرب من مائة ألف وحدة كبدية تسمى الفصيصة الكبدية (liver lobules) وهي أنابيب أسطوانية ومضلعة الشكل يبلغ طول كل منها سنتيمترين في المتوسط. ويتكون كل فصيص من عدد من الأقراص  الكبدية (hepatic plates) يحوي كل قرص منها على عدد من الخلايا الكبدية (liver cells). ويوجد بين الأقراص الكبدية ممرات متعرجة تسمى الجيوب الكبدية (hepatic sinusoids) ومن خلالها يمر الدم الذي يغذي الخلايا الكبدية. وتوجد على جدران الجيوب خلايا خاصة تسمى خلايا كوبفير (Kupffer cells) تقوم بأكل البكتيريا والأجسام الغريبة التي يحملها الدم. ويجبر الدم الذي يحمله الوريد البابي على المرور من خلال الأقراص الكبدية وملامسة الخلايا الكبدية والتي تقوم بمعالجة هذا الدم الغني بالمواد القادمة من الجهاز العظمي. وعند خروج الدم من نهاية الأقراص الكبدية يكون قد تم تنظيفه من المواد الضارة وتحميله بالمواد المفيدة ولذا يتم صبه في الدورة الدموية من خلال الوريد الكبدي. أما المخلفات الضارة فتقوم الخلايا بإفرازها في قنوات خاصة تسمى القنوات الصفراوية (bile duct) والتي تتجمع لتصب في القناة الكبدية.  


ويفرز الكبد عصارة تسمى الصفراء (bile) بمعدل لتر واحد في اليوم يقوم بتخزينها في كيس عضلي يلتصق بسطح الكبد السفلي يسمى الحويصلة أو المثانة المرارية (gallbladder) والتي تقوم بزيادة تركيز العصارة من خلال امتصاص الماء منها. ويصب الكبد عصارته في المرارة من خلال القناة الكبدية (hepatic duct) التي تتحد مع القناة المرارية (cystic duct) لتكون القناة الصفراوية الجامعة والتي تصب في الإثني عشر بعد أن تتحدد مع القناة البنكرياسية.  والمرارة كيس كمثري الشكل يبلغ طولها 8 سم وقطرها 4 سم وتبلغ سعتها 50 ملليلتر ويوجد في جدارها عضلات ملساء تعمل على تقلصها لإفراغ ما فيها من العصارة الصفراء عندما يعطى الأمر لها. والصفراء  سائل ثخين له لون أصفر مائل إلى الخضرة  مر الطعم  يتكون من الماء بنسبة 85% وبنسبة 10% من الأملاح أو الأحماض الصفراوية (bile salts) والتي يصنعها الكبد من  مادة دهنية وهي الكولسترول في داخل خلايا خاصة تسمى الخلايا الكبدية (hepatocytes). أما المتبقي من الصفراء فهي ما يسمى بالصبغات الصفراوية (bile pigments) وبعض الدهون والأملاح  التي تنتج عن فضلات العمليات الحيوية التي يقوم بها الكبد ومن أهمها صبغة البليروبين  (bilirubin) التي تنتج من تحطيم كرات الدم الحمراء في الكبد وهي التي تعطي البراز لونه البني بعد أن تحولها البكتيريا إلى ما يسمى الستركوبيلنوجين (strcobilinogen). 

وتعمل الأملاح الصفراوية بعد أن تصبها المرارة في الإثني عشر على تحويل الكتل الدهنية الموجودة في الكيموس إلى مستحلب يتكون من حبيبات دهنية بالغة الصغر يتم تغليفها بهذه الأملاح يطلق عليها اسم المذيلات (micelles). إن مثل هذا التفكيك للكتل الدهنية ضروري لكي تتمكن الإنزيمات الهضمية فى الأمعاء الدقيقة من هضمها بمعدلات عالية وكذلك لكي تتمكن الأمعاء الدقيقة من امتصاص الفيتامينات المذابة فى الدهون وهي فيتامينات (أ) و(د) و(هـ) و(ك). ومن عجائب تقدير الخالق سبحانه وتعالى أن معظم الأملاح الصفراوية التي استخدمتها الأمعاء الدقيقة في إذابة الدهون يتم امتصاصها من قبل الأمعاء الدقيقة وإعادتها إلى الكبد عن طريق الدم.  ويفرز الإثني عشر هرمون الكوليسيستوكينين (cholecystokinin (CCK)) إلى الدم عند دخول المواد الدهنية فيه فيصل هذا الهرمون إلى المرارة ومصرة أودي  فتقلص المرارة عضلاتها فتدفع بعصارة الصفراء إلى الإثني عشر بعد أن تسترخي عضلات مصرة أودي.

إن المرحلة النهائية من عملية الهضم وما يقرب من 90 % من عملية الامتصاص تتم في الأمعاء الدقيقة. وتقوم بعض الخلايا الموجودة على سطح الزغب الموجود في الأمعاء بإفراز الأنزيمات الخاصة بهضم المواد العضوية المختلفة وتحويلها إلى الوحدات الأساسية للبروتينات والكربوهيدرات والدهون.  إن إفراز هذه الخلايا لأنزيماتها يتم بالتحريض من قبل هرمونات خاصة تفرزها الأمعاء الدقيقة عندما  يمر الطعام من خلالها. فالكربوهيدرات المعقدة التي حولتها أنزيمات البنكرياس إلى السكاكر الثنائية (Disaccharides) كالسكروز (sucrose) واللاكتوز (lactose) والمالتوز (maltose) يتم تحويلها إلى السكاكر الأحادية (Monosaccharides) كالجلوكوز (Glucose) والفركتوز (Fructose) والجالاكتوز (galactose) من قبل عدد من الأنزيمات المعوية وهي اللاكتيز (lactase) والجلوكومايليز(Glucoamylase) والمالتيز (maltase)  والأيزومالتيز (Isomaltase) والسكريز (sucrase). 

أما البروتينات التي حولتها أنزيمات المعدة والبنكرياس وهي الببسين (Pepsin) والبروتياز (Proteases) إلى عديدات الببتيد  فيتم تحويلها إلى الأحماض الأمينية من قبل عدد من الأنزيمات المعوية تسمى الببتيديزات (Peptidases)  وهي التربسين  (trypsin) والكيموتريبسين (Chymotrypsin) والكاربوكسيببتيداز (Carboxypeptidase) والإيلاستاز (elastase) وذلك بعد تحريضها بهرمون الإنتيروكيناز(Entrokinase). أما الدهون فلا تفرز الأمعاء الدقيقة أنزيمات خاصة لهضمها حيث قد تم هضمها من قبل أنزيمات الليباز والكوليباز البنكرياسية وتم تحويلها من ثلاثيات الغليسريد (triglycerides) والفوسفوليبيدات (Phospholipid) إلى أحاديات الغليسريد (monoglycerides) والأحماض الدهنية الحرة (fatty acids) ومن ثم تم تحويلها باستخدام الأملاح الصفراوية إلى  مستحلب من المذيلات (Micelles). 

الإمتصاص

وبعد أن يتم تحويل المواد العضوية المعقدة إلى الوحدات الأساسية تبدأ أهم عمليات الجهاز الهضمي وهي عملية الإمتصاص (absorption) هذه الوحدات والتي تتم من قبل الخلايا التي تغطي سطح الزغب الموجود في الأمعاء الدقيقة والتي يطلق عليها اسم (brush border). إن عملية الامتصاص عملية بالغة التعقيد لا زال العلماء يعملون على كشف أسرارها فهذه الخلايا عليها أن تمتص هذه المواد من جدرانها الملامسة للسائل الذي يحمل هذه المواد وضخها إلى الدم الذي يلامس جدرانها المقابلة. ومما يزيد من تعقيد عملية الامتصاص أن هذه الخلايا عليها أن تتعامل مع ما يزيد عن مائة نوع من الجزيئات العضوية والأملاح والمعادن لها مواصفات كيميائية وفيزيائية غاية في التفاوت. 


إن دخول المواد إلى الخلية أو الخروج منها لا يتم إلا من خلال بوابات أو قنوات أيونية (ion channels) تبنى من أنواع معينة من البروتينات وهذا البوابات تعمل بطريقة محكومة فهي مبرمجة لإدخال وإخراج مواد محددة ولا تسمح لغيرها  بالمرور.   وتتم عملية انتقال المواد عبر جدار الخلية بطرق مختلفة أولها طريقة النقل السلبي (passive transport) أو ما يسمى بالانتشار البسيط (Simple Diffusion) حيث تنتقل المواد من وسط عالي التركيز إلى وسط أقل تركيزا بدون بذل أي طاقة. أما الطريقة الثانية فهي النقل الفعال (Active transport) وفيه تنتقل المواد من  وسط منخفض التركيز إلى وسط أعلى تركيزا بآليات مختلفة تعتمد على نوع المادة المنقولة ويلزم هذه الطريقة بذل كمية من الطاقة لإتمام عملية النقل. ومن الآليات الهامة والعجيبة المستخدمة في النقل الفعال ما يسمى بالنقل التشاركي (Co-transport) وفيها يمكن لمادة ما الانتقال من وسط أقل تركيزا إلى وسط أعلى تركيزا بارتباطها بمادة أخرى يكون تركيزها في الوسط الأول أعلى من الثاني. أما الطريقة الثالثة فهي النقل المسهل (Facilitated transport)  وفيه تنتقل المواد عبر جدار الخلية بمساعدة مواد أخرى كبعض البروتينات حيث أن البوابات تسمح بمرور بعض البروتينات ولا تسمح لتلك المادة بالمرور بمفردها بل بمعية الناقل. 

إن كل نوع من أنواع الجزيئات التي تمتصها الأمعاء يتم امتصاصه بآليات محددة تمكن العلماء من كشف بعض أسرارها بعد إجراء أبحاث مستفيضة حولها.  فالسكريات البسيطة وهي سكر الجلوكوز والجالاكتوز والفركتوز يتم امتصاصها باستخدام النقل الفعال بمساعدة البروتينات وكذلك الصوديوم  ومن خلال الانتشار البسيط لبعضها عندما يكون تركيزها عاليا في الأمعاء. أما الأحماض الأمينية فيتم امتصاصها من خلال آليات مختلفة تعتمد على نوع الحامض الأميني وخصائصه الفيزيائية والكيميائية ومن هذه الآليات النقل الفعال التشاركي بمساعدة أيونات الصوديوم. إن السكاكر البسيطة والأحماض الأمينية التي تمتصها الخلايا المبطنة للأمعاء الدقيقة يتم جمعها من قبل الشعيرات الدموية الدقيقة المنتشرة في الزغب لينقلها الدم إلى الكبد.  أما الأحماض الدهنية وأحاديات وثنائيات الغليسيريد فيتم امتصاصها من قبل الخلايا من خلال الانتشار البسيط أو ما يسمى النقل السلبي.  وتقوم هذه الخلايا بتحويلها في داخلها إلى ثلاثيات الغليسيريد ومن ثم تغليفها بالأبوليبروتينات (apolipoproteins) والفوسفوليبيدات(phospholipids) لتكون ما يسمى بالدقائق الكيلوسية  (chylomicrons). وبسبب كبر حجم هذه الدقائق الكيلوسية تقوم هذه الخلايا بإخراجها إلى السائل ما بين الخلوي (Interstitial fluid) بطريقة اللفظ الخلوي (Exocytosis). وتقوم القنوات اللمفاوية  (Lymphatic vessels) بسحبها ونقلها للجسم من خلال الجهاز اللمفاوي والذي يعيدها بدوره إلى الدم فيما بعد. أما الفيتامينات القابلة للذوبان في الدهن وهي فيتامينات (A, D, E, and K) فإنه يتم امتصاصها في الأمعاء مع الدهون الذائبة فيها. أما الفيتامينات الذائبة في الماء فيتم امتصاصها بآليات مختلفة تبعا لنوع الفيتامين فعلى سبيل المثال فإن فيتامين (B12) لا يمكن امتصاصه في الأمعاء الدقيقة إلا بمساعدة بروتين خاص تفرزه المعدة وهو العامل الداخلي (intrinsic factor). 

 يتم تغذية الشعيرات الدموية المنتشرة بكثافة في جدار القناة الهضمية وخاصة الأمعاء الدقيقة والغليظة من الشريان  الحشوي (mesenteric artery) المتفرع من الشريان الأورطي البطني (aorta Abdominal). وتقوم هذه الشعيرات الدموية بامتصاص المواد الغذائية المختلفة من خلايا الأمعاء ومن ثم تبدأ بالتجمع التدريجي لتكون الوريد الكبدي  البابي (portal hepatic vein) الذي يحمل هذه المواد إلى الكبد. إن مرور هذا الدم الغني بالمواد الغذائية من خلال الكبد ضروري جدا حيث أن ضخه بشكل مباشر إلى الدورة الدموية سيؤدي حتما إلى هلاك الإنسان وذلك بسبب أن تركيز هذه المواد في الدم يجب أن يكون ضمن حدود معينة. إن أحد أهم وظائف الكبد الكثيرة والتي سنشرحها في مقالة خاصة بالكبد هو معالجة المواد الغذائية القادمة من الأمعاء فيقوم أولا بالتخلص من أي مواد لا يحتاجها الجسم وخاصة السامة منها وثانيا تحديد المقادير التي يحتاجها الجسم من هذه المواد وضخها إلى الدورة الدموية من خلال الوريد الكبدي (hepatic vein) وثالثا تحويل المواد الزائدة عن حاجة الجسم إلى أشكال يمكن تخزينها في الكبد أو في أماكن أخرى من الجسم. وبما أن سكر الجلوكوز يشكل نسبة كبيرة من المواد الغذائية الممتصة من الأمعاء فإن الكبد لا يضخ إلى الدم إلا المقدار الذي يحتاجه الجسم ويقوم بتحويل المتبقي إلى مركب آخر وهو الجلايكوجين (glycogen) يتم تخزينه في الكبد والذي يقوم بتحويله إلى جلوكوز عند الحاجة. 

الأمعاء الغليظة

أما المحطة الأخيرة من محطات الجهاز الهضمي فهي الأمعاء الغليظة (Large intestine‏) أو القولون (colon) والتي يبلغ طولها مترا ونصف المتر في المتوسط بينما يبلغ متوسط قطرها 8 سم أي ثلاثة أضعاف قطر الأمعاء الدقيقة. وتقع الأمعاء الغليظة في مقدمة التجويف البطني وتمتد على شكل مستطيل يحيط بالأمعاء الدقيقة حيث يبدأ من أسفل الخاصرة اليمنى متجها إلى أعلى البطن ثم ينعطف إلى اليسار في أعلى البطن ثم ينزل إلى الأسفل حتى يصل إلى أسفل الخاصرة اليسرى ثم ينعطف إلى اليمين في أسفل البطن ثم ينزل بشكل مستقيم عند منتصف البطن ليصل فتحة الشرج.  ويتكون القولون من ستة أقسام فالقسم الأول هو المصران الأعور  (Caecum) وهو الجزء الذي يرتبط بالأمعاء الدقيقة من خلال الصمام الأعور (ileocecal valve) ويبلغ طوله 6 سم.  

ويوجد في مؤخرة المصران الأعور  الزائدة الدودية (Vermiform appendix) والتي يبلغ طولها 9 سم ووظيفتها لا زالت مجهولة في الجهاز الهضمي.  أما الأقسام الأخرى فهي على التوالي القولون الصاعد (Ascending colon) ويبلغ متوسط طوله 15 سم والقولون المستعرض (Transverse colon) ويبلغ متوسط طوله 50 سم والقولون النازل (Descending colon) ويبلغ متوسط طوله 25 سم والقولون الحوضي  (Pelvic or Sigmoid Colon‏) ويبلغ متوسط طوله 40 سم  والمستقيم (Rectum) ويبلغ متوسط طوله 12 سم والذي ينتهي بالقناة أو الفتحة الشرجية (Anal canal) ويبلغ متوسط طولها 3 سم وهي محاطة بعضلات قوية تعمل كصمام يسمى الصمام الشرجي (anal sphincters).

 يختلف تركيب جدار الأمعاء الغليظة بعض الشيء عنه في الأمعاء الدقيقة من حيث أن العضلات الطولية لا تغطي كامل سطح الجدار بل توجد على شكل أشرطة (taenia coli) يبلغ عرض الواحد منها نصف سنتيمتر ويوجد منها ثلاثة أشرطة. إن هذا التعديل يؤدي إلى تكون انتفاخات (sacculation)  في أجزاء الجدار الخالية من هذه العضلات مكونة عدد كبير من الجيوب (haustra) على طول القولون. أما الاختلاف الثاني فهو أن جداره المخاطي يخلو من الخمائل أو الزغب الموجود في الأمعاء الدقيقة وحل محلها تحززات دقيقة  تعمل على التصاق الكيموس بجدرانه وتبطيء كذلك من حركته. ويفرز القولون مخاط قاعدي (alkaline mucus) يعمل على تسهيل حركة محتوياته وكذلك لتحييد الأحماض التي تنتج من عملية التخمير التي تقوم بها البكتيريا. ويوجد نوعان من حركة القولون أولها التقلص الحلقي أو التشدف (Segmentation)  وهو انقباض موضعي لجدران الجيوب لكي يتم عصر محتواها وإخراج الماء منها ليتم امتصاصه. أما النوع الثاني من الحركة فهو التقلص التمعجي أو الدفعي (Propulsive)  حيث تنقبض جيوب القولون كل نصف ساعة ليتم نقل محتوى الجيب إلى الجيب الذي يليه باتجاه الشرج. وتستغرق رحلة الطعام من دخوله إلى الفم  إلى خروجه من الشرج ما بين  24 ساعة و 36 ساعة وذلك حسب نوع  الطعام. 


  إن الوظائف الرئيسية للأمعاء الغليظة هي أولا امتصاص ما تبقى من الماء الذي أفرزته المعدة والأمعاء الدقيقة والمرارة والبنكرياس مع عصاراتها إلى جانب الماء الذي يشربه الإنسان حيث تمتص الأمعاء الدقيقة والغليظة ما معدله ثمانية لترات من الماء في اليوم وتعيدها إلى الجسم من خلال الدم. ولولا هذه الطريقة في إعادة استخدام الماء لكان يلزم أن يشرب الإنسان ما يقرب من عشرة لترات من الماء يوميا بدلا من لترين من الماء. إن هذا المنحى في التقنين في استخدام الماء لا يمكن أن يصدر إلا عن عاقل فلا  يمكن للإنسان أن يصدق أن الصدفة قد تصل مهما بلغت محاولاتها للوصول لمثل هذا الأمر. أما الوظيفة الثانية فهي هضم وامتصاص المواد العضوية التي لم تتمكن الأمعاء الدقيقة من هضمها وامتصاصها ويتم ذلك بمساعدة البكتيريا التي تقطن بشكل دائم في الأمعاء الغليظة. 

ويوجد في الأمعاء الغليظة ما يزيد عن 500 نوع من البكتيريا النافعة تسمى الفلورا المعوية (intestinal microflora)  ويقدر عددها بمائة ألف بليون أي بعدد خلايا جسم الإنسان ويبلغ وزنها ما يزيد عن الكيلوغرام والنصف وهي تشكل ما نسبته 60% من وزن البراز الجاف. وتقوم هذه البكتيريا من خلال الأنزيمات التي تفرزها  بهضم المواد الكربوهيدراتية المعقدة الموجودة في ألياف الخضروات والفواكه كالسيليلوز (cellulose) وتحويلها إلى بعض أنواع الأحماض الدهنية الغنية بالطاقة ( short chain fatty acids) من خلال عملية التخمير (fermentation). إن هذه الدهون التي تنتجها البكتيريا من الألياف تعمل على امتصاص مزيد من المعادن التي لم يتم امتصاصها في الأمعاء الدقيقة كالكالسيوم والمغنيسيوم والحديد. وتقوم البكتيريا أيضا بتصنيع نوعين مهمين من الفيتامينات وهما فيتامين (biotin)  وفيتامين (K) وذلك كمكمل للكميات التي يحصل عليها الجسم من الطعام وكذلك إنتاج بعض أنواع الهرمونات. وتقوم البكتيريا النافعة كذلك بمنع أنواع البكتيريا الضارة من النمو داخل الأمعاء بل وتلعب دورا كبيرا في تدريب نظام المناعة في جسم الإنسان للتميز بين البكتيريا النافعة والضارة وكذلك تقليل حساسية الجسم غير الضرورية. أما الوظيفة الأخيرة للأمعاء الغليظة فهي إعداد المواد المتبقية من عملية الهضم لإخراجها من فتحة الشرج وذلك من خلال تحويلها إلى كتلة صلبة القوام لا تتجاوز نسبة الماء فيها 70 %. ويتم تخزين البراز (faeces) في الجزء الأخير من القولون وهو المستقيم والذي يتم إخراجه من فتحة الشرج بشكل إرادي من خلال استرخاء عضلات الصمام الشرجي وانقباض عضلات المستقيم بعد وصول إشارات من  الدماغ إلى النهايات العصبية المرتبطة بهذه العضلات.  إن عملية التخمير التي تتم في الأمعاء الغليظة ينتج عنها مزيج من غازات مختلفة كالميثان وثاني أكسيد الكربون والهيدروجين وهو ذو رائحة كريهة.  ومن لطف الله بعباده أن هذه الغازات تدفع إلى الأسفل باتجاه فتحة الشرج وليس إلى الأعلى باتجاه فتحة الفم وهو الاتجاه الطبيعي لحركة الغازات فسبحانه من لطيف خبير.


ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق