2017-09-16

وفي أنفسكم أفلا تبصرون - حاستي الشم والتذوق

وفي أنفسكم أفلا تبصرون - حاستي الشم والتذوق

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي- جامعة العلوم والتكنولوحيا الأردنية


لو أن البشر جميعهم قد خلقوا دون أن يمتلكوا حاستي الشم والتذوق لما خطر على بالهم أبدا وجود مثل هذه الحواس كما هو الحال مع بقية الحواس الخمس. وحاستي الشم والتذوق حاستان كيميائيتان (chemical senses) حيث تقوم الجزيئات المتطايرة في الهواء أو المذابة في اللعاب بإثارة خلايا عصبية متخصصة بعد إتحادها ببروتينات محددة موجود في نهاياتها العصبية. إن وظيفة حاسة الشم عند الحيوانات بشكل رئيسي هي لإرشادها لمصادر طعامها والتمييز كذلك بين أنواع الطعام المختلفة وكذلك للتعرف على شركائها عند التزاوج وكذلك مواليدها. وأما حاسة التذوق فهي مكملة لحاسة التذوق ومهمتها هي تحديد نوع الطعام وكذلك التمييز بين أنواعه المختلفة وذلك لكي تقوم بأكل المفيد منها إذا كان طعمه مرغوبا ولا تأكل الضار منها إذا كان طعمه غير مستساغ. ويوجد ارتباط قوي بين حاستي الشم والتذوق وذلك لكي تتمكنا من القيام بوظائفهما ويتم التعاون بين هاتين الحاستين من خلال التواصل بين مراكزهما في الدماغ. فقد وجد العلماء أن  75% من عملية تذوق الطعام تتم من خلال عملية الشم ولذلك نجد أن الإنسان يفقد الإحساس بمذاق كثير من المأكولات عند إصابته بالزكام أو عند تعطل حاسة الشم. ومن الجدير بالذكر أن حاسة الشم أقوى بعشرة آلاف مرة من حاسة التذوق فهي تستجيب لجزيئات معدودة يحملها الهواء الذي يمر على النسيج الشمي الموجود في سقف الأنف.

  إن الذي صمم حاستي الشم والتذوق لا بد أن يكون عليم خبير ولا يمكن أن تكونا قد ظهرتا بالصدفة فمثل هذا التصميم يحتاج معرفة مسبقة بمكونات مختلف أنواع الأطعمة والأشربة الموجودة في الطبيعة. وعلى المصمم أن يحدد أولا المكونات المفيدة والضارة لجسم الإنسان وكذلك بقية أنواع الكائنات الحية ومن ثم يقوم بتصميم نظام إحساس يعلم الجسم بما هو مفيد وبما هو ضار. ولقد اختار المصمم أن يتم إعلام الجسم بالمواد النافعة والضارة من خلال أولا شم روائح الجزيئات التي تتطاير من هذه المواد وثانيا من خلال تذوق الجزيئات التي تذوب في اللعاب عن الأكل. فالروائح الطيبة والمذاقات المستساغة مجتمعة تشير إلى أن المواد مفيدة ويمكن للإنسان أكلها أو شربها والروائح الكريهة والمذاقات غير المستساغة تشير إلى أن المواد غير مفيدة وعلى الإنسان تجنب أكلها أو شربها. فعلى سبيل المثال فإن الطعم العذب أو غير المالح للماء يدل على أنه مفيد للجسم بينما الماء المالح  يدل على أنه مضر بالجسم وفي غياب حاسة التذوق فإن الإنسان قد يشرب ماء البحر المالح دون أن يدري أنه مالح مما قد يؤدي إلى هلاك الجسم بسبب ارتفاع ضغط الدم.
  إن أوجه الإعجاز في حاستي الشم والتذوق لا تعد ولا تحصى فأولها قدرة المصمم سبحانه وتعالى على معرفة مكونات ملايين الأنواع من الأطعمة والأشربة ومن ثم تحديد ما هو نافع وما هو ضار لجميع أنواع الكائنات الحية. أما ثانيها فهو تصميم مستقبلات بالغة الدقة يمكنها أن تستجيب لكميات بالغة الصغر من جزيئات المواد بحيث تعطي نبضات عصبية عند إثارتها من قبل هذه الجزيئات. أما وجه الإعجاز الثالث فهو تحديد المكان المناسب لوضع هذه المستقبلات فتم وضع مستقبلات الشم في سقف التجويف الأنفي ليمر عليها الهواء المحمل بالجزيئات المتطايرة من مختلف أنواع المواد وتم وضع مستقبلات التذوق في أول مكونات الجهاز الهضمي وهو الفم. أما وجه الإعجاز الرابع فهو في تصميم مراكز للشم والتذوق في الدماغ تعطي الإحساس بعشرات الآلاف من الروائح والمذاقات والتي تحدد رد الفعل الذي سيقوم به الجسم نحو هذه الروائح والمذاقات. أما وجه الإعجاز الخامس فهو أن الإحساس بروائح ومذاقات المواد يشعر بها الإنسان في أنفه للأولى وفي فمه للثانية رغم أن عملية تحديد نوع الرائحة أو الطعم  تتم بالكامل في داخل الدماغ.  إن أبسط طريقة تبين وجوه الإعجاز في هاتين الحاستين العجيبتين هو عجز البشر عن تصميم أجهزة ومعدات يمكنها التعرف على روائح ومذاقات المواد المختلفة بنفس الكفاءة التي تقوم بها هذه الحواس.    
       

حاسة الشم
تتكون حاسة الشم (Olfactory or smelling sense) في الإنسان من عشرة ملايين خلية شم موزعة على رقعتين من النسيج الشمي (olfactory epithelium) موجودتين في سقف التجويف الأنفي. وتبلغ مساحة رقعة النسيج الشمي في كل أنف خمسة سنتيمترات مربعة ويميل لون النسيج إلى اللون الأصفر بسبب المادة المخاطية الصفراء التي تفرزها بعض خلايا هذا النسيج. وتتم عملية الشم من خلال مرور الهواء المحمل بالجزيئات المتطايرة أثناء عملية الشهيق على النسيج الشمى وتلعب القرينات الأنفية (turbinates or nasal conchae) دورا مهما في بعثرة الهواء المستنشق في جميع أنحاء التجويف الأنفي لكي تصل هذه الجزيئات إلى النسيج الشمي. ويتكون النسيج الشمي الذي يبلغ معدل سماكته 30 ميكرومتر من ثلاثة طبقات فالطبقة العلوية تحتوي على خلايا قاعدية (basal cells) والطبقة الوسطى تحتوي على أجسام الخلايا المستقبلة الشمية (olfactory receptor cells) والطبقة السفلية تتكون من خلايا داعمة (supporting cells) والمحاور والزوائد الشجرية للخلايا الشمية. وتقوم الخلايا القاعدية بإنتاج خلايا الشم الجديدة لتعوض ما يموت منها حيث يتراوح عمر خلايا الشم بين أربعة وثمانية أسابيع وبذلك فإن خلايا الشم هي الخلايا العصبية الوحيدة التي يتم تجديدها بينما لا يمكن تعويض بقية أنواع الخلايا العصبية في الجهاز العصبي. وأما الخلايا الداعمة فهي مجموعة من الخلايا التي تقوم بوظائف مختلفة ومن أهمها غدد بومان (Bowman’s glands) والتي تقوم بإفراز المخاط الأصفر (yellow mucus) الذي يغطي سطح النسيج الشمي وفيه تتم إذابة الجزيئات المتطايرة من المواد التي يتم شمها.

أما الخلايا الشمية فتتكون من عصبونات ثنائية القطبية (bipolar neurons) تتموضع أجسامها في الطبقة الوسطى من النسيج الشمي ويخرج من جسمها محورين أحدهما يذهب في إتجاه الطبقة الخارجية للنسيج الشمي والآخر يذهب في إتجاه البصلة الشمية (Olfactory bulb). ويتفرع من رأس المحور الأول وهو على شكل زر (knob) الزوائد الشجرية أو الأهداب (dendrites or cilia) والتي قد يصل عددها إلى عشرة زوائد تمتد خلال المخاط الذي يغطي سطح النسيج الشمي وهي التي تعمل كمستقبلات شمية. أما المحور العلوي فينقل النبضات العصبية من جسم الخلية الشمية إلى العصبونات الموجودة في البصلة الشمية وهي تمر من خلال ثقوب صغيرة (foramina) موجودة في الصفيحة الغربالية أو المصفوية (cribriform plate).  والصفيحة الغربالية هي جزء من العظمة الغربالية (ethmoid bone) المكونة للجمجمة وسميت بهذا الاسم لكثرة الثقوب فيها وهي بذلك تشبه الغربال. وتتم إثارة الخلايا الشمية من خلال ذوبان جزيئات الروائح المتطايرة (Vaporized or volatile odor molecules) في المخاط الذي يفرزه النسيج الشمي وذلك أثناء مرور الهواء الذي يحمل هذه الجزيئات من خلال التجويف الأنفي إلى الرئتين. ويتم اتحاد جزيئات الروائح ببروتينات خاصة (odorant-binding proteins) تنتشر في المخاط وتقوم هذه البروتينات بإثارة مستقبلات مزروعة في الغشاء الخلوي لأهداب الخلايا الشمية مما يحدث سلسلة من التفاعلات الكيميائية في داخلها تؤدي في نهايتها إلى فتح قنوات الكالسيوم والكلور الموجودة في الغشاء الخلوي. وعند تدفق أيونات الكالسيوم إلى داخل الخلية وخروج أيونات الكلور فإن استقطاب الغشاء الخلوي سيتغيير مما يؤدي إلى توليد نبضة من جهد الفعل (action potential) الذي ينتشر باتجاه جسم الخلية ومنه إلى المحور الذاهب إلى البصلة الشمية.  

أما المكون الثاني من مكونات جهاز الشم فهو البصلات الشمية (Olfactory bulbs) والتي لها شكل رأس البصلة الخضراء وتقع داخل الجمجمة فوق الصفائح الغربالية مباشرة وتحت الفصوص الجبهية  (frontal lobes) وتعتبر جزءا من الدماغ الأوسط. وتتكون البصلة الشمية من خمسة طبقات وهي من الأسفل إلى الأعلى الطبقة الكبيبية (glomerular layer) والطبقة الظفيرية الخارجية (external plexiform layer) وطبقة الخلايا التاجية  (Mitral cell layer) والطبقة الظفيرية الداخلية (internal plexiform layer) وطبقة الخلايا الحبيبية  (granule cell layer). إن مهمة البصلة الشمية هو معالجة الإشارات التي تحملها محاور الخلايا الشمية بحيث يتم إرسالها إلى الدماغ باستخدام عدد أقل من الألياف العصبية حيث أن عدد الألياف الشمية التي تدخل البصلة الشمية الواحدة يبلغ خمسة ملايين عصب. وتتم عملية التقليص هذه في الكبيبات الشمية حيث تتشابك في داخل الكبيبة الزوائد الشجرية لعدد قليل من الخلايا التاجية مع ما يزيد عن  ألفي ليف من الألياف القادمة من الخلايا الشمية وبذلك فإنه يوجد في البصلة الواحدة ما يقرب من ألفي كبيبة. إن الألياف الشمية التي تدخل الكبيبة الواحدة تكون في العادة من نفس النوع مما يعني أن كل كبيبة من الكبيبات قد تكون متخصصة في معالجة عدد محدد من الروائح. وتقوم الخلايا العصبية التاجية التي تستلم إشاراتها من الكبيبات بنقل هذه الإشارات إلى مراكز الشم في الدماغ ويبلغ عدد هذه الخلايا في كل بصلة 50 ألف خلية وتتحد محاور هذه الخلايا لتكون المسار الشمي الجانبي أو الوحشي (lateral olfactory tract) الذي يتكون من 50 ألف ليف.  أما الخلايا الحبيبة فهي عصبونات تتشابك زوائدها الشجرية مع بعض الزوائد الشجرية للخلايا التاجية وقد وجد أنها تستلم إشاراتها من الدماغ لتقوم بتثبيط عمل الخلايا التاجية فتتوقف عن إرسال إشاراتها إلى الدماغ رغم وجود الرائحة. ولهذا السبب نجد أن الإنسان يحس برائحة ما عند شمها لأول مرة في مكان ما ثم يضعف إحساسه بها مع مرور الوقت طالما هو في نفس المكان ورغم وجود الرائحة. أما طبقات الظفائر الخارجية والداخلية فمهمتها إعادة ترتيب وتوجيه الألياف والزوائد الشجرية بين الخلايا التاجية وفيما بين الالكبيبات والخلايا الحبيبية.

يذهب المسار الشمي الذي يخرج من البصلة الشمية إلى مجموعة من المراكز المتعلقة بالشم في القشرة المخية (cerebral cortex) وذلك دون المرور على منطقة المهاد (thalamus) وذلك بعكس بقية الحواس. والمراكز الشمية التي تتوزع عليها ألياف المسار الشمي هي القشرة الكمثرية أو الشمية (piriform or olfactory cortex) والقشرة ما حول اللوزة المخية (periamygdaloid area) واللتان تقعان ضمن الدماغ الأوسط والحديبة الشمية (olfactory tubercle) والتي تقع في قاعدة الفص الأمامي. ومن هذه المراكز الشمية تخرج أعصاب محركة إلى مناطق مختلفة من الدماغ من أهمها منطقة تحت المهاد (hypothalamus) وذلك لإنتاج ردود الفعل المناسبة للرائحة (odor) التي تم شمها كالهرب من أماكن الحريق أو الذهاب إلى مصدر الطعام أو غير ذلك. إن إحساس الإنسان برائحة محددة يتم من خلال تنفيذ برامج محددة مخزنة في مراكز الشم في الدماغ فالنبضات العصبية المنبعثة من مستقبلات الشم الموجودة في الأنف لا تختلف عن بعضها البعض من حيث الشكل ولكنها تثير عند وصولها لمراكز الشم الخاصة بها أحاسيس مختلفة في الدماغ.

إن حاسة الشم هي الحاسة الوحيدة التي لا زال العلماء يجهلون الطريقة التي تعمل من خلالها واقترحوا نظريات كثيرة حول طريقة عملها. فبعض النظريات تقول أنه يوجد ما يقرب من ألف نوع من خلايا الشم الحساسة لمختلف أنواع المواد الكيميائية وهي قادرة على تمييز ما يزيد عن عشرة آلاف رائحة مختلفة. بينما يقول علماء آخرون أن هناك سبعة أنواع من مستقبلات الشم تستجيب لسبعة أنواع من الروائح الأولية ويمكن لحاسة الشم من خلال مزج هذه الروائح الإحساس بعدد كبير جدا من الروائح المختلفة كما هو الحال مع حاسة البصر التي يمكنها إدراك عدد هائل من الألوان من خلال مزج ثلاثة ألوان أساسية فقط. ولهذا السبب فإنه لا يوجد أسماء للروائح الأساسية (odorants) كما هو الحال مع حاستي التذوق إلا أن يوجد تصنيفات عامة للروائح كالروائح العطرية (aromatic) والمنفرة (repulsive) والأثيرية (ethereal) والراتنجية (resinous) والتبولية (spicy) والمحترقة (burned) والنتنة أو العفنة (putrid).

إن مستقبلات الشم شديدة الحساسية وهي كما ذكرنا سابقا تزيد بعشرة آلاف مرة عن حساسية مستقبلات التذوق. فعلى سبيل المثال فإن حساسيتها لمادة إيثيل الكحول الكبريتي (ethyl mercaptan) تبلغ 40 جزء من ألف بليون جزء من الغرام لكل لتر من الهواء (4 x 10-8 mg per liter of air). ولقد وجد العلماء أن مستقبلات الشم يمكنها أن تستجب لجزيء واحد فقط لبعض المواد ولا تتجاوز عدة جزيئات لبقية المواد. إن حساسية مستقبلات الشم تكون أعلى ما يكون عند تعرضها لجزيئات المادة لأول مرة ثم تقل تدريجيا مع استمرار وجود رائحة تلك المادة وذلك بسبب وجود نظام التغذية الراجعة حيث يقوم الدماغ بإرسال إشارات إلى الخلايا العصبية في البصلة الشمية توقف مرور النبضات القادمة من المستقبلات الشمية لتلك الرائحة فقط بينما يمكنها الإستجابة لبقية الروائح. ويمكن لحاسة الشم عند الإنسان أن تفرق بين ثلاثة أنواع مختلفة من الروائح في نفس الوقت. 
إن حاسة الشم عند الإنسان رغم أنها ليست أكثر حساسية من تلك التي لبقية الحيوانات إلا أنه قد تم تصميمها بحيث يمكنها التمييز بين ما يزيد عن عشرة آلاف نوع من الروائح المختلفة وذلك من خلال وجود عشرة ملايين خلية شم مختلفة موزعة على رقعتين من النسيج الشمي موجودتين في سقف التجويف الأنفي. فحاسة الشم عند كثير من الحيوانات أقوي منها عند الإنسان فعلى سبيل المثال تبلغ مساحة النسيج الشمي عند الكلاب في كل أنف خمسين سنتيمتر مربع مقارنة بخمسة سنتيمترات مربعة عند الإنسان وكذلك تزيد كثافة الخلايا الشمية عندها في السنتيمتر المربع الواحد بمائة مرة  عن كثافتها عند الإنسان. وبما أن حساسية الشم عند الكلاب تزيد بمائة مرة عن تلك لدى الإنسان فإنه يمكنها إلتقاط بعض الجزيئات التي يتركها جسم المجرم في موقع الجريمة بعد مرور ما يزيد عن 24 ساعة ويمكنه تتبع آثار مسار المجرم بكل سهولة. إن القدرة الفائقة لحاسة الشم في التفريق بين مختلف أنواع الروائح تمكن الإنسان من الاستمتاع بمختلف أنواع الروائح العطرية التي تصدرها أزهار وثمار آلاف الأنواع من النباتات وكذلك الاستمتاع بأطايب الطعام من خلال تعاون حاستي التذوق والشم. وكذلك تساعد حاسة الشم الإنسان على تجنب مواقع المواد المتعفنة والتي تحتوي على أنواع كثيرة من الجراثيم الضارة بصحته وذلك من خلال إحساس الإنسان بروائح كريهة تنبعث من هذه المواقع.


حاسة التذوق
تتكون حاسة التذوق (gustatory or taste sense) من عشرة آلاف برعم تذوق (taste buds) غالبيتها موجودة على سطح اللسان (tongue) والبقية على سطح الحنك واللهاة وجوانب الفم. وبرعم التذوق هو عبارة عن كيس أو جراب (sac) يمتد داخل جسم اللسان وله فتحة صغيرة (Taste pore) بارزة عن مستوى سطح اللسان تظهر على شكل حلمة (papillae). ويحتوي برعم التذوق الواحد ما بين 50 و 150 خلية أو مستقبل التذوق (taste cells) وهي من مختلف الأنواع ولكن قد تزيد نسبة بعضها عن البقية وذلك حسب موقعها على سطح اللسان.  ويوجد في داخل برعم التذوق إلى جانب خلايا التذوق (Taste Cells) خلايا أخرى وهي الخلايا القاعدية (Basal Cells) والخلايا الداعمه (Supporting cells). فالخلايا القاعدية هي خلايا جذعية موجودة عند قاعدة البرعم وتقوم بإنتاج خلايا التذوق والتي لا يتجاوز عمرها العشرة أيام. أما الخلايا الداعمة فهي خلايا تمتد بشكل طولي ووظيفتها كما يتضح من اسمها توفير الدعم البنائي لخلايا التذوق. وخلايا التذوق مع الخلايا الداعمة مرتبة في داخل كيس البرعم على شكل حزوز البرتقال.  


أما خلايا التذوق فهي ليست خلايا عصبية كما هو الحال مع خلايا الشم بل هي خلايا تعمل كمستقبلات كيميائية تقوم بتحفيز خلايا عصبية حسية توجد عند قاعدة برعم التذوق. ويوجد على سطوح شعرات التذوق (Taste hairs or microvilli) التي تبرز من السطح العلوي لخلية التذوق مستقبلات تستجيب لجزيئات معينة من الطعام أو الشراب. وعند اتحاد جزيء الطعام المعني بالمستقبل فإن سلسلة من التفاعلات الكيميائية تحدث داخل الخلية تؤدي في النهاية إلى فتح قنوات الكالسيوم الموجودة في الجزء السفلي من الخلية ومن ثم يقوم الكالسيوم بتحفيز الحويصلات المشبكية (Synaptic vesicles) لتفريغ ما بداخلها من النواقل العصبية (neurotransmitters) في الفجوة الموجودة ما بين خلية التذوق والخلية العصبية. وتستجيب الخلية العصبية عند إثارتها بالناقل العصبي بتوليد جهد الفعل (action potential) الذي ينتقل عبر أعصاب الشم إلى مراكز الشم في الدماغ.   

وتقسم مستقبلات التذوق إلى خمسة أنواع رئيسية وهي مستقبلات الحلاوة  (sweet) والملوحة (salty) والحموضة  (sour) والمرارة (bitter) واللحومية (  umami or meaty). وقد وجد العلماء أنواع أخرى من مستقبلات التذوق كالمستقبلات الدهنية (fattiness) والتي تثار من قبل الأحماض الدهنية ومستقبلات القبوضة أو العفوصة (astringency) والتي تثار من قبل حامض التانين أو العفص (tannins) الموجود في الفواكه غير الناضجة. أما إحساس اللسان وكذلك بقية أجزاء الفم بالحرارة  (hotness) الناتجة من أكل الفلفل الحار وبقية أنواع التوابل فلا يعزوه العلماء لوجود مستقبلات تذوق خاصة بل تثار من قبل المستقبلات العامة الموجودة في الجلد كمستقبلات الألم والحرارة والبرودة.

 وعندما يقوم الإنسان بأكل طعام ما أو شرب شراب ما فإن جميع المستقبلات الموجودة في اللسان ستثار بالجزيئات المكونة لهذا الطعام أو الشراب وذلك  بدرجات متفاوتة وذلك حسب تركيزها. ويقوم الدماغ بمعالجة المعلومات التي ترسلها مستقبلات التذوق المختلفة عبر الأعصاب المتصلة بها ليعطي عدد لا يحصى من المذاقات والنكهات التي نتذوقها عند أكل وشرب مختلف أنواع الأطعمة والأشربة. ولهذا السبب نجد أن الإنسان يستطيع التفريق بين طعوم آلاف الأنواع من الفواكه والخضراوات وبذور وزيوت النباتات ولحوم وألبان الحيوانات بل له القدرة على التميز بين طعم ثمار النوع الواحد من النباتات كما نرى عند تفريقنا بين طعم مئات الأنواع من التمور أو التين والعنب والتفاح والبرتقال وغيرها.
 ويتم إثارة مستقبلات الحلاوة من قبل الأطعمة التي تحتوي على المواد الكربوهيدراتية (carbohydrates) وخاصة السكريات البسيطة (saccharides) ومن قبل بعض المواد الصناعية غير الكربوهيدراتية كالسكارين (saccharin) والسكرالوز (sucralose). والطعم الحلو مرغوب بشدة من قبل البشر وهذا ضروري للجسم حيث أن المواد الكربوهيدراتية هي التي تزود الجسم بالطاقة اللازمة التي تحتاجها خلاياه. ويتكون مستقبل الحلاوة من بروتينات خاصة موجودة في الغشاء الخلوي لخلية التذوق يسمى المستقبل المرتبط ببروتين جي (G-protein-coupled receptors). وتثار هذه المستقبلات من خلال اتحاد جزيئات السكر البسيطة بالجزء الخارجي للمستقبل مما يؤدي إلى سلسلة من التفاعلات في داخل خلية التذوق تنتهي بإثارة نبضه عصبية في العصبون المرتبط بقاعدة خلية التذوق.
 أما مستقبلات الملوحة فيتم إثارتها  من قبل أيونات الصوديوم  التي تنشأ من تحلل ملح الطعام في اللعاب وهي أبسط المستقبلات تركيبا حيث يتم دخول أيونات الصوديوم من خلال قنوات موجودة في أهداب خلايا التذوق. ولا يقتصر الإحساس بالملوحة على الصوديوم بل إن أيونات البوتاسيوم والكالسيوم والكلور والليثيوم وغيرها تثير مثل هذا الإحساس ولكن بدرجة أقل من الصوديوم. والطعم المالح مرغوب أيضا من قبل الأشخاص وهذا ضروري جدا لتزويد الجسم بما يحتاجه من أملاح تلعب دورا كبيرا في إتمام وظائف الخلايا المختلفة. أما مستقبلات الحموضة فتثار من قبل مختلف أنواع المواد الحامضية ويتم ذلك من خلال دخول أيونات الهيدروجين (H+ ions) الموجودة في تلك الأحماض من خلال قنوات خاصة بها موجودة في أهداب خلايا التذوق. والطعم الحامض غير مرغوب به بشكل عام وهذا ضروري جدا للجسم حيث أن معظم الأطعمة الفاسدة (spoiled foods) ذات طعم حامض وبذلك فإنه يمكن للمرء تجنب أكلها إذا ما أحس بحموضتها. وقد يستسيغ المرء أكل بعض المأكولات ذات الطعم الحامض إذا ما تيقن أن سبب حموضتها ليس بسبب فسادها كما هو الحال مع كثير من أنواع الفواكه كالبرتقال والليمون والألبان والأجبان بعد تخميرها.
 وأما مستقبلات المرارة وهي من نوع المستقبلات المرتبطة ببروتين جي فتثار من قبل الأطعمة التي تحتوي على بعض أنواع الجزيئات العضوية النيتروجينية (nitrogenous organic molecules) كالكفايين (caffeine) والنيكوتين (nicotine) والسترايكينين (strychnine) وغيرها الكثير. والطعم المر غير مستساغ من قبل البشر وهذا يلزم لتجنب أكل المواد التي تحتوي على مثل هذه المركبات حيث أن معظمها تعتبر مواد سامة وقد تضر بالجسم ولكن قد يعتاد بعض الناس على تناول بعض الأطعمة والأشربة ذات الطعم المر كالقهوة والدخان.  أما الطعم اللحومي (umami taste) فقد تم اكتشافه حديثا ولم يكن معروفا لدى الأولين وتثار مستقبلاته التي هي أيضا من نوع المستقبلات المرتبطة ببروتين جي من قبل بعض أنواع الأحماض الأمينية (amino acids) وهي الوحدات الأساسية للبروتينات وخاصة حامض الجلوتاميك  (glutamic acid). إن الطعم اللحومي طعم مستساغ جدا من قبل البشر كما هو الحال مع الطعم الحلو ووجود مستقبلات لمثل هذا الطعم ضروري جدا لكي يأخذ الإنسان كفايته من المواد البروتينية الضرورية لبناء خلايا الجسم.

وعلى الرغم من أن كل برعم من براعم الذوق المنتشرة على جميع سطح اللسان تحتوي على مستقبلات جميع أنواع الطعوم إلا أنه قد وجد أن بعض مناطق اللسان أكثر حساسية لأنواع معين منها. فمنطقة الطعم الحلو تقع على مقدمة أو رأس اللسان ومنطقة الطعم المالح تقع على جوانب السطح الأمامي للسان  ومنطقة الطعم الحامض تقع على جوانب السطح الخلفي للسان وأما منطقة الطعم المر فتقع  على الجزء الخلفي من ظهر اللسان أما الطعم اللحومي فلم يتم تحديد منطقة خاصة به. وتتفاوت مستقبلات التذوق المختلفة تفاوتا كبيرا في شدة حساسيتها والحساسية هي أقل تركيز للمادة المعنية يمكنه أن يثير مستقبلات التذوق ويستطيع الإنسان الإحساس بطعم هذه المادة عند ذوبانها في اللعاب. فعلى سبيل المثال فإن حساسية مستقبلات الحلاوة لسكر السكروز هي 10 مللي مول لكل لتر وقد استخدم السكروز كمرجع لقياس درجة حلاوة بقية المواد وأعطي له الرقم واحد كمعامل للحلاوة (sweetness index). أما مستقبلات المرارة فهي أشد المستقبلات حساسية حيث تبلغ حساسيتها لمادة الكواينين (quinine) 8 ميكرو مول لكل لتر وقد استخدمت هذه المادة كمرجع لقياس درجة مرارة بقية المواد وتعتبر مادة الديناتونيوم (denatonium) الصناعية أشد المواد مرارة حيث يبلغ معامل مرارتها 1000 أي أنها تزيد بألف مرة عن الكواينين. أما مستقبلات الملوحة فتبلغ حساسيتها لملح الطعام 35 مللي مول لكل لتر بينما تبلغ حساسية مستقبلات الحموضة لحامض الهيدروكلوريك (hydrochloric acid) 2 مللي مول لكل لتر.


ويتم نقل إحساسات التذوق (taste sensations) إلى مركز الشم في الدماغ باستخدام ألياف عصبية موزعة على ثلاثة أعصاب قحفية (cranial nerves) وهي العصب القحفي السابع أو ما يسمى بالعصب الوجهي (facial nerve) وهو ينقل إشارات خلايا التذوق الموجودة في الثلثين الأماميين من سطح اللسان. ويتم نقل الإشارات من الثلث الخلفي من سطح اللسان من خلال العصب القحفي التاسع أو ما يسمى بالعصب اللساني البلعومي (glossopharyngeal nerve). أما الإشارات التي تنتجها بقية خلايا التذوق والموزعة في الحلق وجوانب الفم والحنك فيتم نقلها من خلال العصب القحفي العاشر أو ما يسمى بالعصب الحائر (vagus nerve). وتنتهي محاور عصبونات التذوق الأولية الموجودة في هذه الأعصاب الثلاثة في  نواة السبيل المفرد (nucleus tractus solitarius) الموجودة في البصلة السيسيائية في جذع الدماغ (brain stem). ومن هذه النواة تنشأ ألياف عصبونات التذوق الثانوية والتي تنتهي في النواة البطنية الخلفية الانسية للمهاد (medial part of the ventral thalamus) ومنها تنشأ ألياف عصبونات التذوق الثالثة والتي تنتهي في منطقة التذوق الأولية (primary gustatory region) الواقع في التلفيف خلف المركزي في قشرة الفص الجداري المخي (temporal lobe). وترتبط منطقة التذوق الأولية بمناطق مختلفة من الدماغ والتي تنتج ردود فعل مختلفة لمختلف أنواع الأطعمة فالطعام المر يتم لفظه من الفم مباشرة أما الأطعمة المستساغة  كالحلوة واللحمية فتثير إفراز اللعاب في الفم. ويتم إثارة اللعاب من قبل النواتين اللعابيتين العلوية والسفلية الموجودة في جذع الدماغ والتي ترسل إشارات عصبية حركية تؤدي لإفراز اللعاب من الغدد اللعابية الموجودة تحت الفك وتحت اللسان والغدة النكفية.
إن أهمية حاسة التذوق عند الإنسان وكذلك عند كثير من الكائنات تفوق بكثير أهمية حاسة الشم حيث أن حياته قد تكون مهددة في حالة غيابها. فقد يشرب الإنسان الماء المالح أو الكاز أو بعض السوائل الأخرى التي لا لون لها على أنها ماء عذبا مما يؤدي إلى هلاكه. وقد يأكل الإنسان الأطعمة الفاسدة أو النباتات السامة دون أن يحس بحموضتها  أو مرارتها فيصاب بالتسمم الذي يؤدي به إلى الموت. وعلى الرغم من أن مستفبلات التذوق يمكنها الإحساس بخمسة أنواع رئيسية من المذاقات وهي الإحساس بالحلاوة والملوحة والحموضة والمرارة واللحومية إلا أن الدماغ يقوم بمعالجة المعلومات التي ترسلها مستقبلات التذوق المختلفة عبر الأعصاب المتصلة بها ليعطي عدد لا يحصى من المذاقات والنكهات التي نتذوقها عند أكل وشرب مختلف أنواع الأطعمة والأشربة. ولهذا السبب نجد أن الإنسان يستطيع التفريق بين طعم آلاف الأنواع من الفواكه والخضراوات وبذور وزيوت النباتات ولحوم وألبان الحيوانات بل له القدرة على التميز بين طعم ثمار النوع الواحد من النباتات كما نرى عند تفريقنا بين طعم مئات الأنواع من التمور أو التين والعنب والتفاح والبرتقال وغيرها. وبهذه الحاسة العجيبة نجد أن الإنسان لا يستطيع أن يصبر على طعام واحد وذلك على عكس بقية الحيوانات التي لا تمل من أكل نفس النوع من الطعام طوال عمرها فهذه الحيوانات تأكل لتؤمن أجسمها بالمواد العضوية والطاقة التي تلزمها بينما يأكل الإنسان وهدفه الأول الاستمتاع بالطعام الذي يأكله والشراب الذي يشربه ولا يلقي بالا في الغالب للفائدة التي سيعود بها هذا الطعام والشراب على جسمه.




2017-09-10

ومن نعمره ننكسه في الخلق

ومن نعمره ننكسه في الخلق
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

إن من أدل البراهين على أن هذا القرآن الكريم ليس من تأليف بشر  كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو حديثه عن قضايا فكرية لم يكن لرسولنا الكريم أن يتطرق إليها وهو  الذي كان مطاردا في مكة المكرمة لمدة ثلاثة عشر  سنة ومنشغلا في تأسيس دولة الاسلام وحروبه مع أعداء الدين الجديد في المدينة المنورة لمدة عشر سنوات وهي المدة التي تنزل فيها القرآن الكريم. ومن هذه القضايا تلك المتعلقة بالحياة والموت والأطوار التي يمر بها الإنسان منذ بداية خلقه من خلية واحدة إلى أن يموت.  ولقد أشار  القرآن الكريم إلى ظاهرة عجيبة تتعرض لها الكائنات الحية بشكل عام  والإنسان بشكل خاص  وهي ظاهرة الهرم أو الشيخوخة والتي أصبحت محط اهتمام العلماء في هذا العصر  لمعرفة أسبابها وإمكانية التقليل من آثارها أو تأخيرها. لقد جاء ذلك في آيات عديدة كما في قوله تعالى  "وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)" يس.  وسنشرح في هذه المقالة الأطوار المختلفة التي يمر بها الإنسان من بداية خلقه إلى موته والتي أشار إليها القرآن الكريم في آيات كثيرة.
ثم جعلناه نطفة في قرار مكين
لقد أشار القرآن الكريم إلى كثير  من الحقائق العلمية المتعلقة بخلق الإنسان وهو في رحم أمه فقد حدد المراحل الرئيسية  لعملية الخلق فأشار إلى أن جسم الطفل المكون من بلايين الخلايا يبدأ تصنيعه من خلية واحدة فقط وذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى "قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)" عبس  وقوله تعالى "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) " النجم وقوله تعالى "أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)" القيامة. وأشار إلى أن عملية تحول النطفة إلى إنسان كامل تمر في مراحل مختلفةوذلك في قوله سبحانه "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)" الزمر وقوله تعالى "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)" فاطر  . والظلمات الثلاث التي ذكرت في هذه الآية هي ظلمة جدار البطن وظلمة جدار الرحم ومن ثم ظلمة جدار الكيس الأمنيوني. ولقد أطلق القرآن الكريم أسماء لكثير من المراحل الرئيسية التي تمر بها عملية خلق الإنسان فأطلق اسم النطفة الأمشاج للبويضة الملقحة والناتجة من اتحاد كرموسومات البويضة مع تلك التي في الحيوان المنوي وذلك في قوله تعالى "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)" الإنسان. وأطلق  اسم العلقة والمضغة للمراحل الأولى من عمر الجنين وهي من أخطر المراحل حيث أن نجاح الحمل يتوقف عليها وفيها يتم تعلق البويضة الملقحة بجدار الرحم وتمتص غذائها منه إلى أن تتكون المشيمة والحبل السري في مرحلة المضغة. وأشار  القرآن الكريم إلى أن عملية تصنيع الإنسان ابتداء من خلية واحدة تتم في مدة محددة فالبويضة الملقحة (fertilized egg or zygote) تتحول إلى جنين كامل في داخل رحم الأنثى في مدة تبلغ 266 يوما أو ما يعادل تسعة أاشهر قمرية وذلك في المتوسط وذلك في قوله تعالى "أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)" المرسلات.  وفي  خلال هذه الفترة تقوم البويضة المخصبة وما ينتج عنها من خلايا بالانقسام المتكرر والمحكوم  بأوامر تصدر من البرامج المخزنة على الأشرطة الوراثية الموجودة فيها بحيث يتم تصنيع جميع أجهزة الجسم المختلفة وتكون جاهزة للعمل بشكل كامل مع انتهاء فترة الحمل وولادة الجنين سالما من رحم أمه.

فمرحلة النطفة الأمشاج (zygote or Germinal period) تمتد من لحظة الإخصاب إلى أن تنغرس النطفة في بطانة الرحم أي إلى نهاية الأسبوع الثاني وفيها تقوم البويضة المخصبة خلال سيرها في قناة فالوب بعدد من الانقسامات لتنتج ما متوسط مجموعه 36 خلية من الخلايا المتشابه تظهر على شكل كتلة كروية تسمى التوتة (morula) لها نفس حجم البويضة الأصلية وتتغذى خلالها هذه الفترة على ما في  مح البويضة الأصلية من مواد غذائية. ومن ثم يقوم قسم من هذه الخلايا بالاصطفاف لتكوين جدار بسمك خليتين يسمى الأريمة الغاذية (trophoblast) بحيث تصبح التوتة على شكل يشبه الكرة المفرغة وتحتوي على سائل يتخلله كتلة صغيرة من الخلايا الجذعية (embryonic stem cells) ويسمى الناتج بالكيس الأريمي (blastocyst).  وفي نهاية الأسبوع الأول تكون الأريمة قد نزلت من قناة فالوب إلى الرحم والذي قد أعد مسبقا لاستقبال هذه الأريمة وتبدأ بالتخلص من الجدار الشفاف الذي كان يحيط بالبويضة بما يشبه عملية التفقيس ولذا تسمى الأريمة المفقسة (hatched blastocyst) ومن ثم تبدأ بمحاولات الدخول في ثنايا طيات بطانة الرحم في الثلث العلوي منه وهو غني بالغدد والأوعية الدموية.

وإذا ما تمكنت الأريمة من التعلق أو الانغراس (implantation) بهذا البطانة ضمن فترة زمنية محددة فإنها تكون قد نجت من الموت جوعا وتبدأ باستمداد غذائها من البطانة من خلال الانتشار وهذه هي بداية الحمل الفعلي وقد أطلق القرآن الكريم على هذه الأريمة المتعلقة بالبطانة اسم العلقة لأنها تعلقت بجدار الرحم. وفي هذه المرحلة يتوالى انقسام الخلايا والتي تبدأ بالتخصص فتقوم  الأريمة الغاذية (trophoblast) بتصنيع المشيمة (placenta) والحبل السري (umbilical cord) والتي ستمد الجنين بما يحتاجه من غذاء طوال فترة الحمل فيما بعد وكذلك تصنيع الأغشية المغلفة للجنين (extra-embryonic membranes) والذي يسمى الكيس الأمنيوني (amniotic sac) وما فيه من السائل الأمنيوني (amniotic fluid). أما الخلايا الجذعية الموجودة في داخل الكيس الأريمي فستقوم بتصنيع الجنين (embryo) نفسه. وفي نهاية هذه المرحلة تتشكل العلقة لتصبح على شكل قرص مفلطح مستطيل مكون من طبقتين من الخلايا (bilaminar (two-layered) disc)  يظهر في منتصفها ثلم بدائي (primitive streak) ينصفه إلي نصفين متماثلين ويسمى خط التماثل. 
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة المضغة (embryonic period) وتمتد من بداية الاسبوع الثالث الى نهاية الاسبوع الثامن وفيها تبدأ عملية التمضغ (Gastrulation) حيث يتحول القرص إلى قرص بثلاثة طبقات من الخلايا (trilaminar (three-layered) disc) تمثل الطبقات الجرثومية الثلاث وهي الطبقة الداخلية (endoderm) والتي ينشأ منها الأعضاء الداخلية كالجهاز الهضمي والتنفسي والدوري والبولي والتناسلي  والطبقة الخارجية (ectoderm) والتي ينشأ منها الجلد والجهاز االعصبي والطبقة الوسطى (mesoderm) والتي ينشأ منها العظام والعضلات.  أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة الجنينية (fetal period) وتمتد من بداية الاسبوع التاسع الى نهاية الاسبوع الثامن والثلاثين أو من بداية الشهر الثالث إلى نهاية الشهر التاسع أي نهاية الحمل. ففي الشهر الثالث يبدأ الجسم بالنمو بشكل متسارع ليظهر الجنين بشكله الآدمي وتنمو أعضاء الجسم الحيوية كالجهاز الدوري والجهاز البولي والكبد بشكل أسرع من غيرها. وفي الشهر الرابع تكون المشيمة قد تطورت تماما وتكون معظم أجهزة الجسم قد اكتمل تطورها وتظهر الأصابع  بوضوح وتتكون فروة الرأس. وخلال الشهر الخامس  يبدأ شعر  الزغب بالنمو على جميع أنحاء جسمه ويظهر شعر الرأس والحواجب والرموش بلون أبيض ويمكن سماع دقات قلبه وتبدأ عملية تجدد الخلايا أو ما يسمى بالأيض الجنيني. وفي الشهر السادس يكون جلد الجنين رقيقا وناعما وتبدأ الجفون بالانفصال وتظهر بصمات أصابعه. وفي الشهر السابع يبدأ الدماغ بالتحكم بالأعضاء ويتكون الشحم تحت الجلد ويكون الجلد متغضنا وشفافا ووردي اللون ويمكن للجنين أن يعيش إذا ما ولد ولكن تحت العناية المركزة بسبب عدم اكتمال نمو الرئتين تماما. وفي الشهر الثامن تبدأ أدمة الجلد بالتطور وتختفي تجاعيده ويتسارع تطور الدماغ بحيث يمكن للجنين أن يسمع ويرى. وفي الشهر التاسع يكتمل تطور الرئتين وينمو الشعر بشكل أسرع وفي نهاية الشهر يبلغ طوله 50 سم ووزنه 3 كيلوغرام وهو جاهز للولادة وصدق الله العظيم القائل واصفا هذه الرحلة العجيبة "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)" المؤمنون


ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا
قسم القرآن الكريم العمر  الكامل الذي يعيشه الإنسان إلى ثلاثة مراحل رئيسية وهي الطفولة (childhood) والأشد (adulthood) والشيخوخة (elderhood) وذلك في قوله تعالى "هَوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) "  غافر. ولقد   قام العلماء في العصر الحديث  باعتماد نفس التقسيم لعمر  الإنسان وقاموا بشكل تقريبي بتحديد الفترات الزمنية لكل مرحلة من هذه المراحل, فمرحلة الطفولة تبدأ بالولادة وتنتهي بعمر  يتراوح بين  ثمانية عشر  وعشرين عاما وفيها تتم عملية نمو جميع أجهزة جسم الإنسان فيزداد وزنه من عدة كيلوغرامات عند الولادة إلى ما يزيد عن خمسين كيلوغرام  وطوله من أقل من خمسين سم إلى ما يزيد عن مائةوخمسين سم.  ويتم تقسيم مرحلة الطفولة إلى مراحل فرعية فمرحلة الرضاعه (babyhood) فتمدد إلى عامين بعد الولادة تليها مرحلة الطفولة المبكرة (early childhood) لمدة اربعة اعوام  ومرحلة الطفولة المتأخرة (late childhood) لمدة ستة أعوام ثم مرحلة المراهقة أو البلوغ (adolescence) والتي تبدأ عند سن 12 عام وتنتهي عند سن 18 سنة.    وأما مرحلة الأشد  فتمتد من نهاية مرحلة الطفولة حتى عمر  قد يصل إلى ستين عاما ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين وهما مرحلةالشباب (youth) وتمدد من عشرين إلى  أربعين  عاما ومرحلة الكهولة (middle aged) وتمدد من أربعين إلى  ستين  عاما .  وأما مرحلة الشيخوخة  فتبدأ  من نهاية مرحلة الكهولة وتنتهي بالموت ويمكن كذلك تقسيمها إلى مراحل تبدأ بالكبر (old aged وتنتهي  بالهرم (very old aged) أو ما سماه القرآن الكريم أرذل العمر .  ولقد وصف القرآن الكريم مرحلتي الطفولة والشيخوخة بالضعف بينما وصف مرحلة الكهولة بالقوة وذلك في قوله تعالى "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) " الروم.  ويتمثل الضعف في مرحلتي الطفولة والشيخوخة بتدني القدرات الجسمية والحسية والعقلية والنفسية للإنسان مقارنة بقدراته وهو في مرحلة الكهولة. ويكون الإنسان في منتهى الضعف في بداية مرحلة الطفولة وفي نهاية مرحلة الشيخوخة بحيث يحتاج لمن يعتني به وإلا تعرض للهلاك. 

ومن الجدير  بالذكر   أن ذروة قوة الإنسان الجسمية والعقلية تكون في النصف الأول من مرحلة الشباب أي ما بين عشرين وثلاثين عاما. ولذلك نجد أن معظم الإبداعات المهمة في مختلف المجالات قد تمت في هذا السن. فعلى سبيل المثال قام اسحق  نيوتن بوضع الأسس لمعظم نظرياته في الرياضيات وحساب التفاضل والتكامل  والبصريات وقانون الجاذبية وقد قال نيوتن عن إنجازاته وهو في عمر  الثالثة والعشرين  (وفي نفس السنة بدأت التفكير  في الجاذبية التي تمتد إلى مدار القمر وقارنت القوة المطلوبة لحفظ القمر في مداره مع قوة الجاذبية على سطح الأرض فوجدتهما متقاربتان إلى حد كبير  كل هذا كان في عامي 1665م 1666م حيث كنت في  عنفوان عمري للإختراع والتفكير في الرياضيات والفلسفة أكثر من أي وقت آخر.  ). وكذلك قام ألبرت أينشناين بنشر  ثلاثة من أشهر أبحاثه في النسبية والضوء وهو في سن الخامسة والعشرين بينما وضع نيلز بور نموذج الذرة الحديث وهو في سن السابعة والعشرين وأما الفيزيائي والرياضي الشهير باول ديراك فقد نال جائزة نوبل للفيزياء في سن الواحد والثلاثين. وقام الفيزيائي الألماني الشهير  ويرنر  هايزنبرغ بنشر  ورقته المشهورة في ميكانيكا الكم وعمره 24 عاما ونال جائزة نوبل للفيزياء في سن الثلاثين.

ومن نعمره ننكسه في الخلق
 إن حالة الضعف في الطفولة  تتناقص تدريجيا  مع زيادة العمر  بينما على العكس من ذلك  يزداد الضعف تدريجيا مع العمر في  مرحلة الشيخوخة. ولقد عبر  القرآن الكريم بشكل دقيق عن هذه الحقيقة في قوله تعالى  "وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)" يس. والتنكيس (reversing) هو القيام  بعملية عكسية لعمل ما فتنكيس العلم هو إنزاله عن قمة السارية بعد رفعه.   إن التنكيس في خلق الإنسان الذي أشار إليه القرآن الكريم هو التدهور (degradation) التدريجي الذي بصيب جميع أجهزة الجسم بلا إستثناء مع تقدم العمر  أو الهرم (aging) ولكن بدرجات وأعمار  متفاوته تبعا للشخص.  والتدهور إما ظاهر   وإما خفي فالظاهر  يلحظه الشخص ومن حوله بشكل واضح كما هو الحال في سمعه وبصره  وجلده وشعره  وأسنانه. ففي السمع وبسبب تناقص مرونة طبلة الأذن وتصلب عظمات الأذن الوسطى يتناقص سماع الترددات العالية والأصوات المنخفضة. وأما البصر وبسبب  تناقص مرونة عدسة العين وزيادة عتمتها يصعب رؤية الأشياء القريبة أو البعيدة وتقل درجة وضوح الصور, أما الجلد فيبدأ بالتجعد والترهل والتبقع والتلون وذلك بسبب تناقص إنتاج بروتين الكولاجين الذي يدعم طبقة الجلد الخارجية وكذلك تناقص معدل تجدد الخلايا وإفراز المادة الدهنية. وأما الشعر  وخاصة شعر الرأس فيبدأ بالتسافط  والتحول إلى اللون الأبيض  بسبب نقص تغذية بصيلات الشعر.  وأما التدهور الخفي فيصيب جميع  أجهزة الجسم الخفية ومن أهمها تناقص الكتلة العضلية  وزيادة الشحوم وترقق العظام وتضخم القلب وتصلب الشرايين ونقص إفراز الهرمونات المنظمة لعمل الخلايا  ونقص مناعة الجسم ليصبح فريسة لمختلف أنواع الأمراض وكذلك تعرض  الجينات للخلل محولة بعض الخلايا إلى خلايا سرطانية.  أما القدرات العقلية فتبدأ بالتدهور بسبب موت الخلايا العصبية التي لا  تعوض فتقل القدرة على التفكير والتذكر والتخيل والتكلم وكذلك تقل قدرات جميح الحواس واستجابة العضلات بسبب موت الخلايا العصبية في مراكز الحس والحركة في الدماغ.  ولقد أشار القرآن الكريم إلى مؤشرين رئيسين لظاهرة الهرم أحدهما ظاهر  وهو الشيب وآخر باطن وهو ترقق العظام وذلك في قوله تعالى على لسان زكريا عليه السلام (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) مريم 4.

ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا
لقد أشار القرآن الكريم إلى حقائق علمية حول الدماغ البشري لم يسبق للبشر أن تطرقوا لها فأكد على أن الدماغ البشري عند الولادة يخلو من أي علم ولكنه قابل لأن يبرمج بأي علم من خلال قنوات إدخال المعلومات وهي السمع والبصر فقال عز من قائل (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)) النحل. أما الحقيقة الثانية فهي أن الأدمغة البشرية يمكن أن تفقد ما جمعته من معلومات مع تقدم العمر بسبب موت الخلايا العصبية فيه مصداقا لقوله سبحانه وتعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)) النحل وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)) الحج. فلقد وجد العلماء أن الدماغ البشري يحتوي على ما يقرب من مائة بليون خلية عصبية يتكون معظمها قبل الولادة وتكتمل في مرحلة الطفولة وهي غير قابلة للتجدد. وبعد سن العشرين يموت ما يزيد عن عشرة آلاف خلية عصبية في اليوم عند الإنسان السليم وقد يرتفع الرقم إلى مائة ألف عند تعرض الجسم لبعض أنواع المواد السامة كاستنشاق الدخان والروائح المنبعثة من المشتقات النفطية والمنظفات والغازات السامة. وعلى العكس من الحاسوب الذي يتعطل بالكامل عند تعطل ترانزستور واحد أو خط توصيل واحد فإن وظائف الدماغ لا تتأثر كثيرا عند موت بعض الخلايا العصبية فيه وذلك بسبب أن الخلية العصبية الواحدة ترتبط بمئات الخلايا العصبية المجاورة مما يوفر مسارات بديلة للإشارات العصبية.  ولكن مع تقدم العمر  وموت عدد كبير من الخلايا العصبية في الدماغ فإن القدرات العقلية للإنسان تبدأ بالتناقص إلى أن يفقد الدماغ معظم المعلومات التي كان يختزنها إذا ما امتد بالإنسان العمر مصداقا لقوله تعالى (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا). ونسأل الله عز وجل أن لا يردنا إلى أرذل العمر الذي أمرنا رسولنا الكريم بالتعوذ منه.

كل نفس ذائقة الموت
لقد كتب الله عز وجل الموت على جميع أنواع الكائنات الحية لحكمة بالغة وهي أن الموت هو أحد أهم الآليات التي تضمن استمرار  حياة الأنواع على سطح هذه الأرض لفترات زمنية طويلة تعد بعشرات الملايين من السنين. فمن المعروف أن مساحة سطح الأرض محدودة وكذلك مواردها من ماء وهواء ومرعى وعليه فإن جميع  أنواع الكائنات الحية التي يزيد عددها عن خمسة ملايين نوع لا بد أن تأخذ نصيبها من هذه الموارد بالقدر الذي يحفظ التوازن بين أعداد كل نوع  من هذه الأنواع. وإلى جانب الموت الطبيعي يوجد آليات أخرى تضمن استمرار الحياة على الأرض بشكل متوازن من أهمها افتراس  الكائنات الحية بعضها البعض بما يسمى بالسلاسل الغذائية وكذلك إصابتها بالأمراض من قبل الميكروبات. وبما أن الإنسان يقع على رأس الهرم الغذائي ونادرا ما يتم افتراسه من بقية الكائنات فقد كتب الله عز وجل عليه أن يكون أقل مقاومة للأمراض من بقية الكائنات الحية مما يعرضه للموت غير الطبيعي بشكل أكبر. ولقد أكد القرآن الكريم في آيات كثيرة على حتمية موت  البشر كما في قوله تعالى "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)" آل عمران وقوله تعالى "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) "  النساء وقوله تعالى "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) " الأنبياء.
الموت والهرم في شعر العرب
لقد أكثر العرب في شعرهم من ذكر الموت والقول بحتميته ووصف ظاهرة الهرم وما يصاحبها من مشاكل ومتاعب  فكان ذلك دافعا لشجاعتهم في المعارك وعدم الخوف من الموت سواء في جاهليتهم أو بعد إسلامهم. 
يقول  لبيد بن ربيعة العامري (نجد ؟ - 661م)
أليس ورائي إن تراخت منيّتي
لُزُومُ العصا تُحنى عليها الأصابعُ
أخبّرُ أخبار القرونِ التي مضت
أدب كأنّي كُلّما قمتُ راكعُ
فأصبحتُ مثل السيفِ غير جفنهُ
تقادُمُ عهدِ القينِ والنّصلُ قاطعُ
فلا تبعدن إنّ المنية  موعد
عليك فدان للطُّلُوعِ وطالِعُ
أعاذل ما يُدريكِ إلاّ تظنيّا
إذا ارتحل الفتيانُ من هو راجعُ
تُبكِّي على إثرِ الشّبابِ الذي مضى
ألا إنّ أخدان الشّبابِ الرّعارِعُ
أتجزعُ مِمّا أحدث الدّهرُ بالفتى
وأيُّ كريم لم تُصِبهُ القوارِعُ
لعمرُك ما تدري الضّوارِبُ بالحصى
ولا زاجِراتُ الطّيرِ ما اللّهُ صانِعُ
سلُوهُنّ إن كذّبتموني متى الفتى
يذوقُ المنايا أو متى الغيثُ واقِعُ
ويقول أمرؤ القيس الكندي (نجد 496-544م)
أراهُنّ لا يُحبِبن من قلّ مالُهُ
ولا من رأين الشيب فيه وقوّسا
وما خفتُ تبريح الحياة كما أرى
تضِيقُ ذِرِاعي أن أقوم فألبسا
فلوأنها نفس تموتُ جميعة
ولكِنّها نفس تساقطُ أنفُسا
وبدلت قرحا داميا بعد صحة
فيا لك من نعمى تحوّلن أبؤسا
لقد طمح الطّمّاحُ من بُعد أرضِهِ
ليلبسني من دائه ما تلبسا
ألا إن بعد العُدم للمرء قنوة
وبعد المشيبِ طول عُمر وملبسا
ويقول السموأل بن عاديا (الحجاز ؟-560م)
وإِنّا لقوم لا نرى القتل سُبّة
إِذا ما رأتهُ عامِر وسلولُ
يُقرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنا لنا
وتكرهُهُ آجالُهُم فتطولُ
وما مات مِنّا سيِّد حتف أنفِهِ
ولا طُلّ مِنّا حيثُ كان قتيلُ
تسيلُ على حدِّ الظُباتِ نُفوسُنا
وليست على غيرِ الظُباتِ تسيلُ
ويقول
كيف السلامة ُ إن أرد تُ سلامة
والموتُ يطلُبُني ولستُ أفوتُ
وأقيلُ حيثُ أُرى فلا أخفى لهُ
ويرى فلا يعيا بحيثُ أبيتُ
ميتا خُلِقتُ ولم أكُن مِن قبلها
شيئا يموتُ فمُتُّ حيثُ حيِيتُ
وأموتُ اخرى بعدها ولأعلمن
إن كان ينفعُ أنّني سأموتُ
ويقول طرفة بن العبد البكري (البحرين 539-564م)
عقِيلة مالِ الفاِحشِ اُلمتشدِّدِ
أرى الموت يعتامُ الكِرام ويصطفي
وما تنقُصِ الأيّامُ والدّهرُ  ينفدِ
أرى العيش كنزا ناقصا كلّ ليلة
لكالطّولِ اُلمرخى وثِنياهُ بِاليدِ
لعمرُك إِنّ الموت ما أخطأ الفتى
ويقول شأس بن نهار العبدي (الممزق) (البحرين ؟ - ؟)
هَل لِلفَتى مِن بَناتِ الدَّهرِ مِن واقِ
أَم هَل لَهُ مِن حِمَامِ المَوتِ مِن رَاقِ
قَد رَجَّلُونِيَ وَما رُجِّلتُ مِن شَعَثٍ
وأَلبَسُونِي ثِياباً غَيرَ أَخلاقِ
ورَفَعوني وَقالوا أَيُّما رَجُلٍ
وأَدرَجوني كَأَنِّي طَيُّ مِخراقِ
وَأَرسَلوا فِتيَةً مِن خَيرِهِم حَسَباً
لِيُسنِدوا في ضَريحِ التُّربِ أَطبَاقي
هَوِّن عَلَيكَ وَلا تَولَع بِإِشفاق
فَإِنَّما مالُنا لِلوارِثِ الباقي
كَأَنَّني قَد رَماني الدَّهرُ عَن عُرُض
 بِنافِذاتٍ بِلا ريشٍ وَأَفواقِ
ويقول عدي بن زيد العبادي التميمي (العراق ؟-587م)
أعاذِل ما يُدريكِ أنّ منِيّتي إلى
 ساعة في اليومِ أوفي ضُحى غدِ
أعاذِل من يُكتب لِهُ الموتُ يلقهُ
كِفاحا ومن يُكتب لهُ الفوزُ يسعدِ
أعاذِل إِنّ الجهل مِن لذّةِ الفتى
وإِنّ المنايا لِلرِجالِ بِمرصدِ
فذرني فمالي غير ما أُمضِ إِن مضى
أمامِي مِن مالي إِذا خفّ عُوّدي
وحُمّت لِميقات إِليّ منِيّتي
وغودِرتُ قد وُسِّدتُ أولم أُوسِّدِ
ولِلوارِثِ الباقي مِن المالِ فاِترُكي
عِتابي فإِنّي مُصلِح غيرُ مُفسِدِ
ويقول عبيد بن الأبرص الأسدي(نجد ؟-598م)
تزود من الدنيا متاعا فإنه
 على كل حال خير زاد المزود
تمنى مريء القيس موتي وإن أمت
 فتلك سبيل لست فيها بأوحد
لعل الذي يرجو رداي وميتتي
 سفاها وجبنا أن يكون هو الردي
فما عيش من يرجو هلاكي بضائري
 ولا موت من قد مات قبلي بمخلدي
وللمرء أيام تعد وقد رعت
 حبال المنايا للفتى كل مرصد
منيته تجري لوقت وقصره
 ملاقاتها يوما على غير موعد
فمن لم يمت في اليوم لا بد أنه
 سيعلقه حبل المنية في غد
ويقول
يا عمرو ما راح من قوم ولا ابتكروا
 إلا وللموت في آثارهم حادي
يا عمرو ما طلعت شمس ولا غربت
 إلا تقرب آجال لميعاد
هل نحن إلا كأرواح تمر بها
 تحت التراب وأجساد كأجساد
فإن رأيت بواد حية ذكرا
 فامض ودعني أمارس حية الوادي
لأعرفنك بعد الموت تندبني
 وفي حياتي ما زودتني زادي
فإن حييت فلا أحسبك في بلدي
 وإن مرضت فلا أحسبك عوادي
إن أمامك يوما أنت مدركه
 لا حاضر مفلت منه ولا بادي
ويقول قس بن ساعدة الإيادي (اليمن ؟ - 600م)
في الذاهِبينَ الأَوَّلينَ
مِنَ القُرونِ لَنا بَصائِر
لَمّا رَأَيتُ مَوارِداً لِلمَوتِ
لَيسَ لَها مَصادِر
وَرَأَيتُ قَومي نَحوَها
 تَمضي الأَصاغِرُ وَالأَكابِر
لا يَرجِعُ الماضي وَلا
 يَبقى مِنَ الباقينَ غابِر
أَيقَنتُ أَنّي لا مَحا لَةَ
حَيثُ صارَ القَومُ صائِر
ويقول عنترة بن شدّاد العبسي (نجد ؟-601م)
يخوضُ الشّيخُ في بحر المنايا
ويرجعُ سالما والبحرُ طامِ
ويأتي الموتُ طِفلا في مُهود
ويلقى حتفهُ قبل الفطام
فلا ترضى بمنقصة  وذُلّ
وتقنع بالقليل من الحطام
فعيشُك تحت ظلّ العزّ يوما
ولا تحت المذلّة ِ ألف عام
ويقول
إذا كشف الزّمانُ لك القِناعا
ومدّ إليك صرفُ الدّهر باعا
فلا تخش المنية  وإقتحمها
ودافع ما استطعت لها دفاعا
ولا تختر فراشا من حرير
ولا تبكِ المنازل والبقاعا
وحولك نِسوة  يندُبن حزنا
ويهتكن البراقع واللقاعا
يقولُ لك الطبيبُ دواك عندي
إذا ما جسّ كفك والذراعا
ولوعرف الطّبيبُ دواء داء
يرُدّ الموت ما قاسى النّزاعا
ويقول
إذا كان أمرُ الله أمرا يُقدّر
فكيف يفرُّ المرءُ منه ويحذرُ
ومن ذا يردُّ الموت أويدفعُ القضا
وضربتُهُ محتُومة  ليس تعثرُ
لقد هان عِندي الدّهرُ لمّا عرفتُهُ
وإني بما تأتي المُلمّاتُ أخبرُ
وليس سباعُ البرّ مثل ضِباعِهِ
ولا كلُّ من خاض العجاجة  عنترُ
ويقول زهير بن أبي سلمى المزني (نجد ؟-609م)
ثمانِين حولا لا أبا لكِ يسأمِ
سئِمتُ تكالِيف الحياةِ ومن يعِش
ولكِنّني عن عِلمِ ما فِي غد عمِ
وأعلمُ ما فِي اليومِ والأمسِ قبلهُ
تُمِتهُ ومِن تُخطِئ يُعمّر فيهرمِ
رأيتُ المنايا خبط عشواء من تُصِب
يُضرّس بِأنياب ويُوطأ بِمنسِمِ
ومن لم يُصانِع في أمُور كثِيرة
يفِرهُ ومن لا يتّقِ الشّتم يُشتمِ
ومن يجعلِ المعروف مِن دُونِ عِرضِهِ
على قومِهِ يُستعن عنهُ ويُذممِ
ومن يكُ ذا فضل فيبخل بفضلِهِ
إِلى مُطمئِنِّ البِرِّ لا يتجمجمِ
ومن يُوفِ لا يُذمم ومن يُهد قلبُهُ
وإِن يرق أسباب السّماءِ بِسُلّمِ
ومن هاب أسباب المنايا ينلنهُ
ويقول الحصين بن حمام الفزاري(نجد ؟ - 612م)
لعمرُك ما لام اِمرءا مِثلُ نفسِهِ
كفى لاِمرِئ إِن زلّ بِالنفسِ لائِما
تأخّرتُ أستبقي الحياة فلم أجِد
لِنفسي حياة مِثل أن أتقدّما
فلستُ بِمُبتاعِ الحياةِ بِسُبّة
ولا مُبتغ مِن رهبةِ الموتِ سُلّما
ولكِن خُذوني أيّ يوم قدرتُمُ
عليّ فحُزّوا الرأس أن أتكلّما
ويقول قيس بن الخطيم الأوسي(الحجاز ؟ -620م)
وكلُّ شديدة  نزلت بحيّ
سيأتي بعد شدّتها رخاء
فقُل للمُتّقي عرض المنايا
توقّ وليس ينفعُك اتّقاء
فلا يعطى الحريصُ غنى  لحرص
وقد ينمي لذي العجزِ الثّراء
غنيُّ النّفسِ ما استغنى  غنيّ
وفقرُ النّفسِ ما عمِرت شقاء
ويقول أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي (الحجاز ؟ - 650م)
أمِن المنُونِ وريبِها تتوجّعُ
والدّهرُ ليس بِمُعتِب من يجزعُ
ولقد حرصتُ بأن أُدافِعُ عنهمُ
فإِذا المنيّةُ أقبلت لا تُدفعُ
وإِذا المنِيّةُ أنشبت أظفارها
ألفيت كلّ تمِيمة لا تنفعُ
وتجلُّدِى لِلشّامِتِين أُرِيهِمُ
أنِّي لِريبِ الدّهرِ لا أتضعضعُ
والنّفسُ راغِبة إِذا رغّبتها
وإِذا تُردُّ إِلى قليل تقنعُ
ويقول شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري (مصر 1212 – 1296م)
إنى اتهمت نصيح الشيب في عـــــذلي
 والشيب أبعد في نصح عن التهـــمِ
فإن أمارتي بالسوءِ ما أتعظــــــــــــــت
 من جهلها بنذير الشيب والهــــرم
ولا أعدت من الفعل الجميل قــــــــــرى
 ضيف ألم برأسي غير محتشــــــم
لوكنت أعلم أني ما أوقــــــــــــــــــــره
 كتمت سرا بدا لي منه بالكتــــــــمِ
من لي برِّد جماح من غوايتهـــــــــــــــا
 كما يردُّ جماح الخيلِ باللُّجـــــــــُم
فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتهــــــــــا
 إن الطعام يقوي شهوة النهـــــــــم
والنفس كالطفل إن تهملهُ شب علــــى
 حب الرضاعِ وإن تفطمهُ ينفطــــم
ويقول قطري بن الفجاءة المازني(قطر ؟ - 697م)
أقولُ لها وقد طارت شعاعا
مِن الأبطالِ ويحكِ لن تُراعي
فإِنّكِ لوسألتِ بقاء يوم
على الأجلِ الّذي لكِ لم تُطاعي
فصبرا في مجالِ الموتِ صبرا
فما نيلُ الخُلودِ بِمُستطاعِ
ولا ثوبُ البقاءِ بِثوبِ عِزّ
فيُطوى عن أخي الخنعِ اليُراعُ
سبيلُ الموتِ غايةُ كُلِّ حيّ
فداعِيهُ لِأهلِ الأرضِ داعي
ومن لا يُعتبط يسأم ويهرم
وتُسلِمهُ المنونُ إِلى اِنقِطاعِ
وما لِلمرءِ خير في حياة
إِذا ما عُدّ مِن سقطِ المتاعِ
ويقول إسماعيل بن القاسم العنزي (أبوالعتاهية)(العراق 747 – 826م)
هو الموتُ فاصنع كلّ ما أنت صانعُ
وأنت لِكأسِ الموتِ لا بُدّ جارِعُ
ألا أيّها المرءُ المُخادِعُ نفسهُ!
رُويدا أتدرِي من أراك تخادِعُ
ويا جامِع الدُّنيا لِغيرِ بلاغِهِ
ستترُكُها فانظُر لِمن أنت جامِعُ
وكم قد رأينا الجامِعين قد اصبحت
لهم بين أطباقِ التّرابِ مضاجعُ
لو أنّ ذوِي الأبصارِ يرعُون كُلّما
يرون لما جفّت لعين مدامِعُ
ويقول أبو الطيب أحمد بن الحسين الكندي (المتنبي) (العراق 915-965م)
ولو أنّ الحياة تبقى لِحيّ
لعددنا أضلّنا الشّجعانا
وإذا لم يكُن مِن الموتِ بُدّ
فمِن العجزِ أن تكُون جبانا
ويقول إبن الخياط أحمد بن محمد التغلبي(الشام 1058- 1123م)
نبيتُ على وعد من الموتِ صادق
فمن حائن يقضى وآخر يُمطلُ
وكُلّ وإن طال الثّواءُ مصِيرُهُ
إلى مورد ما عنهُ للخلقِ معدِلُ
فوا عجبا مِن حازِم مُتيقِّن
بأن سوف يردى كيف يلهُوويغفُلُ
ألا لا يثِق بالدّهرِ ما عاش ذُوحِجى
فما واثِق بالدّهرِ إلاّ سيخجلُ
نزلتُ على حُكمِ الرّدى في معاشِرِي
ومن ذا على حُكمِ الردى ليس ينزلُ
ويقول
صُروفُ المنايا ليس يُودى قتيلها
ودارُ الرّزايا لا يصِحُّ علِيلُها
مُنِيتُ بِها مُستكرها فاجتويتُها
كما يجتوِي دار الهوانِ نزيلُها
يُشهِّي إليّ الموت عِلمِي بأمرِها
ورُبّ حياة  لا يسُرُّك طُولُها
وأكدرُ ما كانت حياة ُ نُفُوسِها
إذا ما صفت أذهانُها وعُقُولُها
ومن ذا الذي يحلُو لهُ العيشُ بعدما
رأت كُلُّ نفس أنّ هذا سبِيلُها
ويقول عبدالملك بن شهيد القرطبي (الأندلس 935 -1003م)
ولما رايت العيش ولى براسه
وأيقنت أن الموت لا شك لاحقي
تمنيت أني ساكن في غيابة
بأعلى مهب الريح في راس شاهق
أذر سقيط الحب في فضل عيشة
وحيدا وأحسو الماء ثني المفالق
خليلي من رام المنية مرة
فقد رمتها خمسين قولة صادق
كأني وقد حان ارتحالي لم أفز
قديما من الدنيا بلمحة بارق
ويقول محمد إبن الحداد القيسي (الأندلس ؟ - 1087م)
لا بُدّ أن تتلُو الحياة  منِيّة
من شكّ أنّ اليوم يُزجِي الموهِنا
لا ترجُ إبقاء البقاءِ على امرىء
كُلُّ النُّفُوسِ تحِلُّ أفنية  الفنا
تجد الحياة نفيسة ونفوسنا
غُرباءُ ترغبُ عندها مُتوطّنا
لو أنها شعرت لها وسقت درت
أن الوفاة هي الحياة تيقنا
لكنّها عمِيت ولم تر رُشدها
ما كُلُّ من لحظ الأمور تبيّنا
ويقول إبراهيم طوقان (فلسطين 1905 – 1941م)
لي بِالحياة تعلق وتشدد
والعُمر ما بعد المدى فسينفد
نفس أُردده وأعلم أنّهُ
لِلموت بين جوانِحي يتردد
ويلمُّ بي ألم أُخاتله بِما
يصف الطبيبُ فيستكين ويخمد
ويسرني أني نجوتُ مِن الأذى
ويلي كأني إِن نجوت مخلد
وكأنّني ضلّلتُ سير منيتي
إِن الطريق إِلى الفناء معبّد
هيهات لستُ بِخادع عينُ الردى
عين الردى يقظى وعينك ترقد
أنا أنت بعد الموت لا مُستعبد
حرّا فأحقره ولا مُستعبد