2022-09-28

وفي أنفسكم أفلا تبصرون - الجهاز المناعي

 

الجهاز المناعي

يقوم الجهاز المناعي (Immune System) بحماية الجسم من جميع الكائنات الحية الدقيقة  أو الميكروبات (microorganisms or microbes) التي قد تسبب له المرض والتي يطلق عليها اسم المرضيات أو الممرضات (pathogen) أو الجراثيم (germs). ولا يقتصر دور الجهاز المناعي على حماية الجسم من الأعداء الخارجين بل يقوم أيضا بحمايته من الخلايا السرطانية التي تتولد في داخل الجسم بشكل مستمر لأسباب كثيرة وكذلك التخلص من بقايا الخلايا الميتة والسموم وغيرها. فالجو المحيط بالجسم مليء بالمرضيات المختلفة والتي لا حصر لعدد أنواعها كالفيروسات والبكتيريا والفطريات والطفيليات وغيرها. إن خلايا الجسم فريسة سهلة ومرتع خصب لمثل هذه  الكائنات الدقيقة ولذا فإنه بمجرد دخولها إلى الجسم تقوم بالتغذي على مكونات الخلايا وتتكاثر وتتضاعف أعدادها بطريقة فلكية وفي جيف الحيوانات الميتة وسرعة تحللها أكبر دليل على ذلك. ولهذا كان لا بد من وجود جهاز يقوم بحماية الجسم من مثل هذه الكائنات المسببات لمرضه. إن تعطل الجهاز المناعي يؤدي بالجسم إلى الموت المحقق خلال أيام معدودة بل إن أي تقصير ولو كان بسيطا في أداء وظائفه سيؤدي إلى إصابة الجسم بأمراض لا حصر لها وفي مرض نقص المناعة المكتسب أو الأيدز أكبر مثال.



وتصنف الجراثيم التي تسبب المرض للجسم إلى أربعة أنواع رئيسية وهي الفيروسات (viruses) والبكتيريا (bacteria) والفطريات (fungi) والطفيليات (parasites) إلى جانب بعض المرضيات الأخرى الأقل شيوعا. فالفيروسات التي لا حصر لعدد أنواعها هي الأصغر حجما والأكثر فتكا بالخلايا حيث يتراوح طولها بين 20 و 300 نانومتر ولذلك فهي الأسهل دخولا إلى الجسم ومن أشهر أمراضها الإنفلونزا والحصبى والجدري. أما البكتيريا فإن عدد أنواعها يزيد عن عدد أنواع الفيروسات وهي أيضا أكثر وجودا في تراب وماء وهواء الأرض ولكن لحسن الحظ أن الأنواع الضارة منها قليلة جدا. ويتراوح طول جسم البكتيريا  بين 1 و 5 ميكرومتر أي أن حجمها يزيد بمئات المرات عن حجم الفيروسات ولذلك فهي اصعب دخولا إلى أنسجة الجسم ومن أشهر أمراضها السل (tuberculosis) التيتانوس (tetanus) والدفتيريا (diphtheria) والسلفس (syphilis) والتيفوئيد (typhoid). أما الفطريات والتي يتراوح قطرها بين 1 و 40 ميكرومتر فهي الأقل خطرا على جسم الإنسان وتقتصر أمراضها على الجلد ولكنها قد تصل إلى أنسجة الجسم الداخلية في حالة نقص المناعة.   


ويتكون الجهاز المناعي من عدد قليل من المكونات موزعة في مختلف أجزاء الجسم كما هو الحال مع الجهاز الهرموني ولكنه في واقع الحال بالغ التعقيد بسبب أن عمله يعتمد على استخدام مركبات كيميائية لا حصر لعدد أنواعها. إن أهم مكونات هذا الجهاز هو نخاع العظام وهو المكان الذي يتم فيه إنتاج مختلف أنواع الخلايا المناعية وهي خلايا الدم البيضاء والتي يبلغ عدد أنواعها الرئيسية تسعة أنواع كما شرحنا ذلك سابقا. أما المكون الثاني فهو الطحال والذي يقوم بعملية إنضاج وتخصيص وتدريب الخلايا البائية والتائية إلى جانب وظائفه الأخرى.  وأما المكون الثالث فهو الغدة الزعترية والتي تقوم بإنضاج الخلايا التائية وتخصصها. أما المكون الرابع فهو العقد الليمفاوية والتي تقوم بتصفية السائل الليمفاوي من الميكروبات التي يحملها من أنسجة الجسم المختلفة وذلك باستخدام الخلايا المناعية المختلفةالتي تستوطن فيها. 


ويتبع الجهاز المناعي الخطوات التالية في محاربته للميكروبات التي تغزو الجسم  فالخطوة الأولى هي اكتشاف (Detection) وجود هذه الميكروبات في الجسم بمجرد دخولها فيه. أما الخطوة الثانية فهي التعرف (Identifying) على نوع الميكروب الداخل من خلال التفريق (distinguishing) بين خلية الميكروب وخلايا الجسم. أما الخطوة الثالثة فهي اتخاذ الإجراءات الكفيلة بقتل (Killing) أو تحيد (neutralization) هذا الميكروب والتخلص من بقاياه شريطة أن لا يقتل خلايا الجسم التي تتواجد فيها هذه الميكروبات. إن الصعوبة التي يواجها الجهاز المناعي في محاربة الميكروبات لا  تكمن في القدرة على قتل الميكروب بل تكمن في التعرف عليه وهو مندس بين خلايا الجسم فالمعركة معها أشبه بدخول جيش العدو في أحد المدن الآهلة بالسكان وعلى الجيش المقاوم محاربة وقتل أفراد جيش العدو بأقل الخسائر في صفوف السكان.



ويوجد طريقتين رئيسيتين للقضاء على الميكروبات وهي الاستجابة المناعية باستخدام الخلايا (Cell-mediated immune response) والاستجابة المناعية الخلطية (Humoral or antibody-mediated Immune Response (HIR)). ففي الطريقة الأولى يتم استخدام بعض الخلايا المناعية لقتل الميكروبات بشكل مباشر وهذه الخلايا هي الخلايا الملتهمة والخلايا القاتلة الطبيعية والخلايا التائية السمية. أما الطريقة الثانية فتستخدم الأجسام المضادة التي تنتجها الخلايا البائية وكذلك بروتينات النظام المكمل والتي تنتشر في سوائل الجسم أو الخلط (Humour) لتحييد الميكروبات عن عملها أو قتلها بطريقة غير مباشرة كموتها جوعا.

ويوجد في الجهاز المناعي خطان من خطوط الدفاع  عن الجسم ضد الميكروبات فخط الدفاع الأول يسمى الجهاز المناعي الفطري (Innate immune systems) أما خط الدفاع الثاني فهو الجهاز المناعي المتكيف أو المكتسب (adaptive or acquired immune system). فالجهاز المناعي الفطري يوجد في الإنسان منذ ولادته (inborn) حيث يقوم بمحاربة أي ميكروب يدخل الجسم بمجرد اكتشافه له وذلك بغض النظر عن نوع الميكروب (nonspecific) وهو سريع الإستجابة. أما الجهاز المناعي المكتسب فيظهر من خلال تدريب الخلايا المناعية على مقاومة ميكروبات بعينها (specific) ولا يعمل إلا بعد فشل خط الدفاع الأول عن صد هجوم الميكروبات. ويقوم هذا الجهاز أولا  بمحاولات متكررة للتعرف على هوية الميكروب الغازي وذلك لكي يستخدم الأسلحة المناسبة للقضاء عليه ولذلك فهو بطيء الاستجابة. وعلى العكس من الجهاز الفطري الذي لا يملك ذاكرة للميكروبات التي قامت بغزو الجسم في السابق فإن الجهاز المكتسب يحتفظ في ذاكرته أنواع الميكروبات التي تعامل معها في السابق والأسلحة التي استخدمها لمحاربته. ولذلك نجد أن الجسم الذي يتعرض لأول مرة لبعض الميكروبات كالحصبة مثلا  فإن الجهاز المناعي يستغرق وقتا طويلا وهو يحاربه وذلك لعدم معرفته الأسلحة المناسبة له وقد تكون الغلبة للميكروب فيموت الإنسان. أما إذا انتصر الجهاز المناعي المكتسب على الميكروب في المرة الأولى فإن أي غزو لهذا الميكروب للجسم في المرات اللاحقة سيتم صده بشكل سريع بسبب أن نوع الأسلحة التي تقضي عليه مخزنة في ذاكرته.  وينقسم الجهاز المناعي المكتسب بدوره إلى نوعين وهما النوع النشط (active) وهو أيضا إما طبيعي أو صناعي ففي الطبيعي يقوم الجهاز المناعي بإنتاج الأجسام المضادة بطريقة طبيعية أو ذاتية بعد تعرضه لمختلف أنواع الأمراض. وأما االصناعي فهو من خلال عملية التطعيم (vaccination) وفيها يقوم  الجسم بإنتاج الأجسام المضادة  كرد فعل لجرعة من مستضدات الميكروبات الميتة يزود بها الجسم  على شكل مطعوم (vaccine). أما النوع الثاني فهو النوع الخامل (passive) وفيه يتم تزويد الجسم بأجسام مضادة يتم تصنيعها خارج الجسم وهي أيضا إما من مصادر طبيعية كأجسام الكائنات الحية أو من مصادر صناعية أي كمواد كيميائية.

ويمكن تلخيص عمل الجهاز المناعي بشكل مجمل قبل الخوض في تفاصيل أنواعه وأنواع الخلايا المناعية والمركبات الكيميائية التي يستخدمها لمحاربة الميكروبات. فإذا ما تمكنت الميكروبات من تخطي الحواجز الميكانيكية كالجلد والمخاط  ودخول أنسجة الجسم ومن ثم القيام بالفتك ببعض خلايا الجسم فإن هذه الخلايا تقوم بإرسال نداءات استغاثة باستخدام جزيئات بروتينية تسمى الانترفيرونات فتقوم الخلايا الملتهمة الكبيرة الموجودة في تلك المنطقة بمهاجمة الميكروبات والعمل على ابتلاعها. وإذا ما عجزت هذه الخلايا من السيطرة على الموقف فإنها تقوم بإرسال إشارات استغاثة باستخدام جزيئات بروتينية أخرى تسمى  السايتوكينات والتي تحفز الجهاز المناعي الفطري للقيام بعدة مهام. وهذه المهام هي أولا العمل على التهاب المنطقة المصابة للحد من انتشار الميكروبات وثانيا إثارة النظام المكمل والذي ينتج أنواع معينة من البروتينات القادرة على قتل الخلايا المصابة وما فيها من ميكروبات. أما المهمة الثالثة فهي حث الخلايا المناعية التابعة لجهاز المناعي الفطري بمحاربة الميكروبات كل حسب اختصاصها وهي الخلايا الحبيبية المتعادلة والحامضية والقاعدية والخلايا القاتلة الطبيعية والخلايا الملتهمة الكبيرة والخلايا البدينة والخلايا المتفرعة. وفي حالة فشل الجهاز المناعي الفطري من التغلب على الميكروبات الغازية فإن بعض خلاياه المناعية تبدأ بإطلاق السايتوكينات التي تحفز الجهاز المناعي المكتسب. إن أول ما يحفز من خلايا هذا الجهاز هي الخلايا التائية المساعدة حيث تقوم بإفراز السايتوكينات  اللازمة لتحفيز الخلايا التائية السمية والخلايا البائية وهما أهم سلاحين من أسلحة هذا الجهاز. فالخلايا التائية السمية تقوم بقتل الخلايا المصابة بالميكروبات والخلايا السرطانية من خلال السموم التي تطلقها عليه.  وأما الخلايا البائية فتقوم بإطلاق الأجسام المضادة حيث يوجد لكل نوع من أنواع الميكروب جسم مضاد يمكنه التعرف على المستضد الذي يحمله ذلك الميكروب.

 


المستضدات ومجموعة النسيج المتوافق الأكبر

يوجد في كل خلية من خلايا الجسم نظام يسمى مجموعة النسيج المتوافق الأكبر (major histocompatibility complex (MHC) ) والذي يسمى أيضا بمستضد الخلايا البيضاء البشري  (Human Leukocyte Antigen (HLA)). ويوجد نوعان من هذا النظام وهما النوع الأول (class I MHC) وهو موجود في جميع خلايا الجسم والنوع الثاني (class II MHC) والموجود في بعض الخلايا المناعية. ويقوم النظام الأول بدمغ  كل خلية من خلايا الجسم بعلامة مميزة تسمى علامة سطح الخلية (Cell surface marker) تحدد أن هذه الخلية تنتمي لهذا الجسم فقط وهي نفسها لجميع خلايا الجسم وهو أيضا. وهذه العلامة هي عبارة عن جزيء بروتيني يطلق عليه اسم جزيء النسيج المتوافق الأكبر (MHC molecules) يتم إنتاجه من قبل  شيفرة جينية (genetic code) يتم توليدها من الاتحاد العشوائي لمجموعة من الجينات (genes) موجودة في الكروموسوم السادس من الشريط الوراثي. ومن النادر أن يمتلك جسمان بشريان نفس العلامة أو الدمغة إلا إذا كانا توأمين وبهذا فإنه يمكن التعرف على هوية أي  إنسان من خلال هذه العلامة. وعلى هذا الجزيء التعريفي يعتمد بالكامل عمل الجهاز المناعي فبدونه لا يمكن لخلايا هذا الجهاز التمييز بين خلايا الجسم وخلايا الميكروبات. ويقوم هذا الجزيء في الخلايا السليمة بعرض جزيء من الببتايد  (peptide) على سطح الخلية يحمل هوية الجسم وهو الببتيد الذاتي (self peptides) أو ما يسمى المستضد الذاتي (self antigen) تتعرف عليه الخلايا المناعية التي تحمل نفس الهوية ولا تتفاعل معها. أما إذا أصيبت إحدى الخلايا بالميكروبات فإن جزيء (MHC) يقوم على الفور باستبدال الببتيد الذاتي بالببتيد الخاص بالميكروب (foreign or nonself peptide) أو المستضد الغريب (nonself antigen) مما يمكن الخلايا المناعية من الاتحاد به فتقوم بقتل الخلية المصابة بما فيها من ميكروبات بإحدى الوسائل التي سنشرحها فيما بعد. وتقوم بعض أنواع من الخلايا المناعية بمهمة عرض مستضدات الميكروبات على سطحها وذلك لتحفيز الخلايا المناعية القاتلة على التكاثر وتسمى مثل هذه الخلايا بالخلايا عارضة المستضدات (antigen presenting cells (APC)).  وإذا ما أصاب الجهاز المناعي أي خلل في نظام التعرف هذا فإن الجسم يصاب بما يسمى مرض المناعة الذاتية (autoimmune disease) وفيه تهاجم الخلايا المناعية خلايا الجسم السليمة وتقوم قتلها.

الأجسام المضادة


الأجسام المضادة (Antibodies) والتي تسمى أيضا (immunoglobulin) هي عبارة عن بروتينات كبيرة الحجم لها شكل حرف الواي الإنجليزي (Y) وتستخدم للتعرف على الأجسام الغريبة كالميكروبات وذلك من خلال اتحادها بالمستضدات (antigen) الموجودة على سطوح خلايا الميكروبات والتي تحدد هويتها. ويبنى الجسم المضاد من أربعة سلاسل من عديد الببتديد (polypeptide) إثنتين منهما سلاسل خفيفة (light chains) تحتوي على 220 حامض أميني والأخريين سلاسل ثقيلة (heavy chains) تحتوي على ضعف العدد. ويوجد على رأس كل شعبة من شعبتي حرف الواي موقع ارتباط (binding site) له شكل مميز يسمى القفل (paratope) لا يرتبط إلا مع شكل مكمل له للمستضد الذي يتعامل معه والذي يسمى المفتاح (epitope). ويتم إنتاج الأجسم المضادة من قبل خلايا البلازما البائية (plasma B cells) وذلك على شكلين الأول منهما هو الشكل المذاب (soluble form) وفيه تتحرك هذه الأجسام بحرية في الدم وسوائل الأنسجة لتبحث عن الميكروبات. أما الشكل الآخر فهو الشكل المقيد بالأغشية (membrane-bound form) وفيه يلتصق الجسم المضاد بغشاء الخلايا البائية (B cells) ليكون ما يسمى (B cell receptor (BCR)) والتي تستخدم لأغراض الذاكرة المناعية (memory cell) ويمكن أن يلتصق بسطح الخلية البائية الواحدة ما بين 50 و 100 ألف جسم مضاد.


وعلى الرغم من أن الشكل الأساسي للأجسام المضادة هو حرف الواي إلا أنه يوجد خمسة أشكال مبنية من هذه الشكل الأساسي لتعطي خمسة عوائل من الأجسام المضادة (IgA, IgD, IgE, IgG and IgM) والتي تستخدم لأغراض مختلفة في الجهاز المناعي. ويعتبر  الجسم المضاد من نوع (lgG) الأكثر انتشارا في الجسم حيث يشكل ما نسبته 75% من مجموع الأجسام المضادة يليه النوع (lgM).  وفي كل عائلة من هذه العوائل تأخذ مواقع الارتباط بالمستضدات الموجودة على رأس البروتين  أشكالا تعد بالملايين حيث يتم اختيار هذه الأشكال من خلال مولد عشوائي (Random generator) موجود على جزء من الجين الذي يصنع هذه الأجسام المضادة. وهذا يعني أن الأجسام المضادة التي يصنعها الجسم  يمكنها التعامل مع ملايين الأنواع من الميكروبات والتي أيضا يمكنها أن تغير من أشكال مفاتيح مستضادتها.


 وتقوم الأجسام المضادة بمحاربة الميكروبات من خلال عدة آليات  فالآلية الأولى هي  من خلال  التحييد (neutralization) فعندما يتحد الجسم المضاد بمستضد الميكروب فإنه يمنعه من الاتحاد بخلايا الجسم. أما الآلية الثانية فهي من خلال ما يسمى  بالتلازن أو التكتل ( agglutination or clumping) حيث تقوم مجموعة من الأجسام المضادة بالإمساك بأحد الميكروب من خلال مستضداتها أو من خلال قيام واحد منها بالإمساك باثنين منها أو أي تشكيلة أخرى مكونة كتلة  من الأجسام المضادة  والميكروبات. وهذا التكتل يحد من حركة الميكروبات ويحول دون دخولها في خلايا الجسم فتموت جوعا أو قتلها من قبل الخلايا المناعية الملتهمة أو القاتلة. أما الآلية الثالثة فهي من خلال قيام الأجسام المضادة بعد اتحادها بالميكروب بتحفيز بروتينات النظام المكمل أو المساعد (complement system)  للحضور إلى الميكروب المقيد فيعمل بعضها على قتله من خلال إحداث ثقوب في أغشيتها بينما يقوم البعض الآخر على جذب الخلايا المناعية القاتلة إلى الموقع للقضاء على الميكروب. أما الآلية الرابعة فهي من خلال الترسيب (precipitation) وفيها يتسبب اتحاد الأجسام المضادة بعدم قابلية الميكروب للذوبان في السوائل فيتم ترسيها على جدران الأوعية.


السايتوكينات

السايتوكينات (cytokines) هي عبارة عن جزيئات بروتينة تستخدم لنقل الرسائل (signaling molecules) فيما بين الخلايا (intercellular communication) وهي أشبه ما تكون بالهرمونات إلا أن تأثيرها عادة ما يكون موضعيا.  وكما هو الحال في أي نظام اتصالات  فإن التراسل بالسايتوكينات يحتاج لمرسلات ومستقبلات فالمرسلات هي الخلايا التي تفرز هذه الجزيئات أما المستقبلات فموجودة على سطوح الخلايا التي سيقع عليها التأثير والتي تسمى مستقبلات سطح الخلية (cell-surface receptors).  ويوجد ثلاثة أصناف رئيسية من السايتوكينات وهي السايتوكينات الليمفاوية  (lymphokines)    والسايتوكينات البينية  (interleukines)والسايتوكينات الكيميائية (chemokines). فالسايتوكينات الليمفاوية يتم إفرازها من قبل الخلايا الليمفاوية وخاصة الخلية التائية (T cells) ومهمتها جلب الخلايا المناعية إلى موقع الإصابة وكذلك حث الخلايا البائية (B cells) على إفراز الأجسام المضادة والخلايا التائية القاتلة على نفث سمومها. أما السايتوكينات البينية فيتم إفرازها من قبل أنواع مختلفة من خلايا الدم البيضاء وذلك لأغراض مختلفة كحث الخلايا المناعية على النمو والتمايز (growth and differentiation) وضبط معدل الالتهابات وشفاء الجروح وغيرها  ويصل عدد أنواعها إلى ما يقرب من 40 نوعا (IL-1, IL-2,…etc). وأما السايتوكينات الكيميائية  فيتم إفرازها من قبل كثير من خلايا الجسم وتستخدم لتوجيهه حركة  أنواع مختلفة من الخلايا المناعية  نحو أهدافها وكذلك لحث بعض أعضاء الجسم كالدماغ والكبد ونخاع العظم للقيام بإجراءات متعلقة بمقاومة المرض. وعندما تحفز الخلية بأحد جزيئات االسايتوكينات فإنها تقوم بسلسلة من التفاعلات الخلوية التي تنتهي بإنتاج مركبات معينة تعمل على حماية الخلية قدر الإمكان من الميكروب الغازي أو القيام بقتل الميكروب أو وضع علامات مميزة على سطحة لتتمكن الخلايا المناعية من التعرف عليه.

 

الإنترفيرونات

وأما الإنترفيرونات (Interferons) فهي أيضا جزيئات بروتينية  تستخدم في الجهاز المناعي الفطري كجزيئات استغاثة أو تحذير (stress molecules)  تطلقها الخلايا المصابة عند تعرضها لهجوم من الميكروبات أو بعض أنواع الخلايا المناعية. وتصنف الإنترفيرونات تحت ثلاثة أنواع  رئيسية تطلق من أنواع مختلفة من الخلايا وهي نوع ألفا (Interferon-alpha) وتطلقها خلايا الدم البيضاء ونوع بيتا (Interferon-beta) وتطلقها الخلايا العادية ونوع جاما(Interferon-gamma  ) وتطلقها بعض أنواع الخلايا التائية. وعادة ما تطلق هذه الإنترفيرونات من خلايا الجسم الميتة إثر إصابتها بالميكروبات أو بالسرطان ويتم  التقاطها من قبل المستقبلات الخاصة بها الموجودة على سطوح الخلايا المختلفة. وتطلق الخلايا المحفزة بالانترفيرونات إنزيم خاص يسمى بروتين الكاينيز من نوع آر (protein kinase R (PKR)) والذي يحث الخلايا على القيام بسلسلة من العمليات التي تؤدي إلى إنتاج بعض البروتينات المسماة الجينات المحفزة بالإنترفيرون(interferon-stimulated genes (ISGs)—). وتقوم هذه البروتينات بقتل الخلايا المصابة بالفيروسات (virus-infected cells) من خلال  الموت المبرمج أو الحد من إنتاج البروتينات في داخل هذه الخلايا (inhibition of host protein synthesis) لوقف تكاثر الفيروسات فيها. ومن وظائف الإنترفيرونات أيضا رفع كفاءة جزيء مركب النسيج المتوافق الأكبر  (major histocompatibility complex molecules, MHC ) والتي يقوم بدوره برفع إمكانية التعرف على الميكروبات وعرضها للخلايا القاتلة من خلال الخلايا العارضة للمستضدات (antigen-presenting cells). وتقوم الإنترفيرونات كذلك بتفعيل بعض الخلايا المناعية كالخلايا الملتهمة والخلايا القاتلة الطبيعية وكذلك زيادة استعداد خلايا الجسم العادية لمواجهة الخطر من خلال إفراز أنزيمات معينة تحول دون دخول الميكروبات فيها.

 


الجهاز المناعي الفطري   

يقوم الجهاز المناعي الفطري (Innate immune systems) بالدفاع عن الجسم ضد الميكروبات والأجسام الغريبة بغض النظر عن هويتها (non-specific manner). ويبدأ هذا الجهاز بالعمل بعد أن يتمكن  أحد الميكروبات الضارة من  دخول أنسجة الجسم ويتخطي الحواجز السطحية الثلاث (Surface barriers)  والتي وضعت لصد هذه الميكروبات من دخول الجسم. فالحاجز الأول وهو حاجز ميكانيكي (mechanical barrier) يمنع دخول الميكروبات إلى أنسجة الجسم وهناك عدة حواجز منها في الجسم أهمها الجلد الذي تغطيه طبقة من الخلايا الميتة التي لا تمكن الميكروبات من العيش فيها.  وبما أن خلايا الطبقة المخاطية للجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والجهاز البولي وكذلك المهبل عند الأنثى  معرضة لغزو الميكروبات فقد تم حمايتها بالمخاط الذي تفرزه هذه الطبقة. أما الحاجز الثاني فهو كيميائي (Chemical barrier) يعمل على قتل الميكروبات باستخدام المواد الكيميائية كالأحماض أو أنواع معينة من الأنزيمات التي تفرزها بعض أعضاء الجسم كالقناة الهضمية ومجرى التنفس ودموع العين. أما الحاجز الثالث فهو حاجز بيولوجي (biological barrier) وفيه تقوم بعض أنواع من البكتيريا النافعة المستوطنة في الأمعاء بقتل الأنواع الضارة منها.



ويقوم الجهاز المناعي الفطري بعدة مهام فأول أولها جلب الخلايا المناعية إلى أماكن الإصابة بالميكروبات (sites of infection) من خلال إنتاج عوامل كيميائية (chemical factors) تسمى السايتوكينات (cytokines). أما المهمة الثانية فهي تفعيل (Activation) ما يسمى بالنظام المكمل (Complement system) وذلك لتحديد هوية الميكروبات وتنشيط خلايا الجسم لمقاومتها وحث الجسم على التخلص من الخلايا والميكروبات الميتة. أما المهمة الثالثة فهي تحديد المواد الغريبة الموجودة في الدم والسائل الليمفاوي والأنسجة ومن ثم التخلص منها من قبل خلايا دم بيضاء متخصصة. أما المهمة الرابعة فهي تفعيل الجهاز المناعي المتكيف من خلال ما يسمى بالخلايا عارضة المستضدات (antigen presentation cells (APC)). ويستخدم هذا الجهاز عدة أسلحة لمقاومة الميكروبات الغازية فالسلاح الأول هو الالتهابات (Inflammation)  أما السلاح الثاني فهو ما يسمى النظام المكمل (Complement system) وأما السلاح الثالث فهو ما يسمى بالحواجز الخلوية (Cellular barriers).  

 

سلاح الإلتهابات

تعتبر الإلتهابات (inflammation) أول ردود فعل الجهاز المناعي الفطري عند إصابة الجسم بالميكروبات  أو الأجسام الغريبة. وتحفز عملية الإلتهاب من خلال عوامل كيميائية تطلقها الخلايا المناعية المتواجدة في المنطقة المصابة ويكون القصد منها بناء حاجز مادي يحيط بالمنطقة المصابة ويحد من  إنتشار الميكروبات للمناطق المجاورة وكذلك العمل على شفاء (healing) المنطقة المصابة. ومن العوامل الكيميائية التي تطلقها الخلايا المناعية  الهيستامين (histamine) ووالبراديكينين (bradykinin) والسيروتينين (serotonin). وتقوم هذه العوامل أولا على إثارة مستقبلات الألم (pain receptors) ومن ثم توسعة الأوعية الدموية (vasodilation) في المنطقة المصابة وأخيرا البدء بجلب الخلايا المناعية الملتهمة إلى المنطقة المصابة وخاصة الخلايا الحبيبية المتعادلة (neutrophil cells) والتي قد تستدعي خلايا مناعية أخرى للحضور إلى المكان. ومن الأعراض (symptoms) التي تظهر في المنطقة الملتهبة الإحمرار (redness) والحرارة (heat) و التورم (swelling) والألم (pain).

 


سلاح النظام المكمل

          يقوم النظام المكمل (complement system) كما يتضح من اسمه على إكمال مهمة الخلايا المناعية والأجسام المضادة في القضاء على الميكروبات الغازية. ويتكون النظام المكمل من ما يقرب من 35 نوعا من البروتينات الصغيرة الحجم التي تنتشر في الدم ويتم تصنيعها معظمها في الكبد وهي البروتينات المصلية (serum proteins) ومستقبلات غشاء الخلية (cell membrane receptors) وهي تشكل ما نسبته  5 % من بروتينات الدم. وعندما تثار هذه البروتينات من قبل الأجسام المضادة فإنها تقوم بسلسلة من التفاعلات البيوكيميائبة (biochemical cascade) فيما بينها وبين أنواع مختلفة من بروتينات الخلية لتنتج مركبات معقدة تقوم بمهمة ما من مهام النظام المكمل. ويستخدم النظام المكمل ثلاثة أنواع من المسارات لإنتاج المواد القاتلة للميكروبات وهي المسار التقليدي (classical pathway) والمسار اللاكتيني (lectin pathway) والمسار البديل (alternative pathway) ويتم تحديد المسار تبعا لنوع الميكروب المراد محاربته.   وتقوم بروتينات النظام المكمل بعدة مهام فأول هذه المهام  هي وضع علامات على سطوح (Tag) الميكروبات لتتمكن الخلايا المناعية من التعرف عليها بسهولة وكذلك جذب هذه الخلايا إلى أماكن تواجد الميكروبات أو ما يسمى بالجذب الكيميائي (Chemotaxis). أما المهمة الثانية فهي ما يسمى بتسهيل بلعمة (Opsonization) الميكروبات من قبل الخلايا الملتهمة حيث تستخدم كمادة جاذبة أو فاتحة لشهيتها. أما المهمة الثالثة فهي العمل على تحلل (Lysis) أغشية الميكروبات مما يتسبب في موتها من خلال اتحادها بما يسمى مجموعة مهاجمة الغشاء (membrane attack complex (MAC)).

 

سلاح الحواجز الخلوية

يستخدم سلاح الحواجز الخلوية أنواع مختلفة من خلايا الدم البيضاء (white blood cells or Leukocytes) والتي تنتشر وتتحرك بحرية في جميع أنحاء الجسم وتتصرف  ككائنات وحيدة الخلية (single-celled organisms)  كالأميبيا (amoeba) تبحث عما تأكله من طعام كما هو الحال مع الميكروبات الغازية ولكنها لا تأكل إلا الأجسام الغريبة. وهي تشمل سبعة أنواع من الخلايا وهي الخلايا الملتهمة الكبيرة (phagocytes cells) والخلايا المتفرعة (dendritic cells) والخلايا القاتلة الطبيعية (natural killer cells) والخلايا البدينة (mast cells) والخلايا الحبيبية المتعادلة (neutrophil cells)  والخلايا الحبيبية الحامضية (eosinophil cells ) والخلايا الحبيبية القاعدية (basophil cells).

 

الخلايا الملتهمة

تقوم الخلايا الملتهمة أو الأكولة (Phagocytes) كما هو واضح من إسمها بالتهام الميكروبات  والأجسام الغريبة التي تدخل أنسجة الجسم. ويوجد في الجهاز المناعي نوعين من الخلايا الملتهمة وهي الملتهمات الكبيرة (macrophages) والخلايا الحبيبية المتعادلة (neutrophil cells). فالملتهمات الكبيرة هي عبارة عن خلايا دم بيضاء كبيرة الحجم حيث يصل قطرها إلى 20 ميكرومتر ويتم إنتاجها من خلال عملية تحول تقوم بها خلايا الدم البيضاء الأحادية (Monocyte) بمجرد خروجها من مجرى الدم ودخولها المنطقة المصابة. وتقوم الملتهمات الكبيرة من خلال قدرتها على تشكيل غشائها البلازمي بالإحاطة  بالجسم الغريب ثم إبتلاعه (ingestion) إلى داخل السيتوبلازم حيث تقوم بقتله من خلال الأنزيمات والمواد الكيميائية التي تفرزها ومن ثم لفظ مخلفاته. ويمكن للخلية الواحدة منها أن تبتلع ما يزيد عن مائة ميكروب قبل أن تموت بسبب تراكم بعض المواد الضارة في داخلها. ولا يقتصر دور الملتهمات  الكبيرة على التهام الميكروبات بل تقوم بالتهام الخلايا الميتة في الجسم وكذلك الأجسام الغريبة ومن ثم التخلص من مخلفات هضمها من خلال وسائل الإخراج المعروفة. وتقوم الخلايا الملتهمة الكبيرة إلى جانب وظيفتها القتالية بوظيفة ثانوية بالغة الأهمية للجهاز المناعي المكتسب وهي عرض مستضدات الميكروبات التي قامت بابتلاعها على سطحها ولذلك فهي من نوع الخلايا العارضة للمستضدات (antigen-presenting cells).

 


الخلايا الحبيبية المتعادلة

أما الخلايا الحبيبية المتعادلة (Neutrophils) وهي النوع الثاني من الخلايا الملتهمة فيتراوح قطرها بين 12 و 15 ميكرومتر  ومتوسط عمرها خمسة أيام وتشكل ما نسبته 60 % من مجموع خلايا الدم البيضاء حيث ينتج نخاع العظم ما مقداره مائة بليون خلية في اليوم الواحد ويزداد العدد إلى عشرة أضعاف في حالة الالتهابات الحادة. وتقوم هذه الخلايا بقتل الميكروبات وخاصة البكتيريا والفطريات من خلال ثلاثة آليات وهي أولا الالتهام (phagocytosis) وثانيا من خلال نفث دفقة من مواد سامة (Respiratory burst) نحو الميكروب وثالثا من خلال إنتاج بروتينات تكون شبكة من ألياف الكروماتين تعمل كمصيدة للميكروبات  (neutrophil extracellular traps (NETs)). وتخزن هذه الخلايا سمومها في داخل حبيبات (granules) تنتشر في السيتوبلازم ولذلك فهي تنتمى أيضا إلى عائلة الخلايا الحبيبية (granulocytes) والتي تشمل الخلايا الحبيبية الحامضية (eosinophil cells) والخلايا الحبيبية القاعدية (basophil cells). وتتكون المواد السامة التي تنفثها هذه الخلايا من عوامل مؤكسدة  (oxidizing agents) والجذور الأوكسيجينة الحرة (oxygen radicals) والهيبوكلورايت (hypochlorite). وهذه الخلايا هي أول الخلايا المناعية وصولا إلى منطقة الإصابة حيث تصلها خلال دقائق معدودة وهي التي تعطي القيح (Pus) لونه الأصفر حيث تشكل أكبر نسبة لمكوناته. وتتوجه هذا الخلايا نحو المناطق المصابة من خلال بعض أنواع من االسايتوكينات التي تطلقها الخلايا الموجودة فيها ومن أهمها الخلايا التائية المساعدة.

 


الخلايا المتفرعة

وأما الخلايا المتفرعة (dendritic cells) فهي خلايا يخرج من جسمها بروزات تشبه تفرعات الخلايا العصبية ولذلك سميت بهذا الاسم وهي من الخلايا المستوطنة التي تستوطن مكان معين من الجسم.  وتتواجد هذه الخلايا في الأنسجة المعرضة للمحيط الخارجي كالجلد وتسمى هذه الخلايا فيه بخلايا لانجيرهانز (Langerhans cells) وكذلك القناة الهضمية ومجري التنفس. إن الوظيفة الرئيسية لهذه الخلايا هي معالجة مستضدات الميكروبات وتزويد بقية الخلايا المناعية بها لكي تتمكن من قتلها ولذلك فهي من نوع الخلايا العارضة للمستضدات (antigen-presenting cells). فعندما تثار هذه الخلايا من قبل أحد الميكروبات فإنه تقوم بحمل مستضداته إلى العقد الليمفاوية حيث تتواجد الخلايا البائية والتائية (B and T cells) وذلك لكي ترسل الخلايا المناسبة لمكافحة هذا الميكروب. وتتعرف هذه الخلايا على الميكروبات من خلال المستقبلات المتعرفة على الأنماط (pattern recognition receptors (PRRs) الموجودة على سطحها. ولهذه الخلايا قبل تفعيلها أو نضوجها القدرة على التهام الميكروبات لغرض معالجة بروتيناتها والتعرف على هويتها ومن ثم وضع أجزاء من بروتينات الميكروب على سطحها لتقوم بنقله إلى العقد الليمفاوية.

 


الخلايا القاتلة الطبيعية  

الخلايا القاتلة الطبيعية (natural killer cells) هي إحدى أنواع الخلايا التائية (T cells) غير المتخصصة حيث لا تذهب إلى الغدة الزعترية للتخصص. وتقوم هذه الخلايا بقتل خلايا الجسم المصابة بالفيروسات (virus-infected cells) والخلايا السرطانية (tumor cells) من خلال إفراز بروتينات ستوبلازمية كالبروفيرين (perforin) والجرانزيم (granzyme) تعمل بعد دخولها إلى الخلايا المصابة على موتها بما يسمى موت الخلية المبرمج (programmed cell death) أو   الانتحار (apoptosis).  وتتمكن هذه الخلايا من التعرف على خلايا الجسم المصابة من خلال ما يسمى بفقدان الذات  (missing self) وذلك نتيجة لفقدانها العلامات التعريفية الموجودة على سطحها (cell-surface marker). وكان الإنطباع السائد أن هذا الخلايا لا تحتاج لمن يحفزها للقيام بمهمتها حيث أنها تقوم بقتل أي خلية مصابة تمر عليها ولذلك سميت بالخلايا القاتلة الطبيعية ولكن تبين فيما بعد أنها تحفز من قبل جزيئات الاستغاثة (stress molecules) التي تطلقها الخلايا المصابة والمسماة بالأنتيرفيرونات.

 

الخلايا البدينة

تستوطن الخلايا البدينة (mast cells or mastocyte) الأنسجة الضامة والأغشية المخاطية بشكل دائم وتحتوي على حبيبات كثيرة مملوءة  بمركبات الهستامين (histamine) والهيبارين (heparin) واالسايتوكينات المختلفة. إن الدور الذي تلعبه هذه الخلايا في الجهاز المناعي هو  إفراز المركبات  الكيميائية المخزنة في حبيباتها إلى المنطقة المصابة لتحفيز عملية الإلتهاب فيها. فالمركبات كالهيستامين مثلا تقوم بزيادة نفاذية جدران الشعيرات الدموية لتسهل عملية خروج خلايا الدم البيضاء بمختلف انواعها وكذلك بعض البروتينات الكبيرة الحجم والتي تعمل على محاربة الميكروبات. وقد تصاب الخلايا البدينة بحساسية مفرطة (hypersensitivity) بحيث تستجيب لأجسام غريبة ولكنها غير ضارة للجسم فتقوم بإفراز كميات كبيرة من الهستامين وغيرها من منشطات الالتهاب في مناطقة مختلفة من الجسم فتتعمل على التهابها  مسببة ما يسمى بالحساسية (Allergy). وتوجد في الجو بشكل عام أنواع كثيرة من الأجسام الغريبة قد تثير الحساسية لدى الأشخاص وتسمى هذه الأجسام المثيرة للخلايا البدينة بالأليرجينات أو المحسسات (allergens) والتي تسبب الحكة واحمرار الجلد وتورمه وسيلان دموع العين ومخاط الأنف والعطاس والمراجعة والإسهال وغير ذلك. وعادة ما تثار الخلايا البدينة بأنواع معينة من الأليرجينات تختلف من شخص إلى شخص ومن أمثلتها الأكزيما (eczema) وحمى القش (hay fever) والأزمة (asthma)  والشرية (hives) وبعض أنواع الأطعمة والأدوية وغبار الطلع (pollen) لبعض النباتات ولسعات بعض الحشرات وغير ذلك.

 

الخلايا الحبيبية الحامضية والقاعدية

الخلايا الحبيبية الحامضية (eosinophil or acidophils cells ) هي خلايا دم بيضاء يتراوح قطرها بين 12 و 17 ميكرومتر وتشكل ما نسبته 4 % من الخلايا المناعية. وكما هو الحال مع الخلايا الحبيبية فإن سيتوبلازم هذا الخلايا يحتوي على حبيبات مملوءة بمركبات مختلفة كالهيستامين (histamine) والمركبات ذات الطبيعة الحامضية كالفوق أكسيدات (peroxidase) والحامض الريبوني (ribonuclease) وغير ذلك الكثير. وتتميز هذه الخلايا على بقية الخلايا المناعية بقدرتها على قتل الكائنات الحية متعددة الخلايا كالطفيليات (multicellular parasites) إلى جانب قتل بقية أنواع الميكروبات وذلك من خلال إفراز المواد الحامضية القاتلة الموجودة في حبيباتها في السائل ما بين الخلوي المحيط بها. وعندما تلامس هذه الأحماض أجسام الميكروبات والطفيليات فإن تحدث خروقا في أغشيتها مما يؤدي بها إلى الموت وقد وجد أن هذه الأحماض قد تدمر بعض الخلايا السليمة الموجودة في منطقة الإصابة. ولا توجد هذه الخلايا في جميع أنسجة الجسم بل في مناطق معينة كالأمعاء الدقيقة والمهبل والرحم والطحال والعقد الليمفاوية.

أما الخلايا الحبيبية القاعدية (basophil cells) فهي أقل الخلايا المناعية عددا وتحتوي حبيباتها إلى جانب الهيستامين مركبات بروتينية مختلفة كالهيبارين (heparin) والكندروتين (chondroitin) والإلاستيز (elastase) وكذلك بعض أنواع السايتوكينات (cytokines). وتقوم هذه الخلايا بوظيفة مشابهة للخلايا الحبيبية الحامضية وهي قتل أنواع من الطفيلات متعددة الخلايا وكذلك الميكروبات. وتقوم المركبات التي تفرزها بمهام غير قتل الميكروبات فالهيبارين على سبيل المثال يعمل كمضاد للتجلط (anticoagulant) يقوم بمنع تجلط الدم في المناطق المصابة لتتمكن الخلايا المناعية بالتحرك والقيام بوظائفها على أكمل وجه.

 

الجهاز المناعي المتكيف أو المكتسب

الجهاز المناعي المتكيف أو المكتسب (adaptive or acquired immune system) هو خط الدفاع الثاني في الجهاز المناعي وهو جهاز عالي التخصص (highly specialized) يتم إثارته من قبل جهاز المناعة الفطري إذا ما فشل هذا الأخير في السيطرة على انتشار الميكروبات الغازية وإذا ما تجاوز عدد الميكروبات حد معين. والجهاز المناعي المكتسب على العكس من الفطري فإنه بطيء الاستجابة ولا يعمل إلا بعد فشل خط الدفاع الأول عن صد هجوم الميكروبات ويقوم هذا الجهاز أولا بمحاولات متكررة للتعرف على هوية الميكروب الغازي وذلك لكي يستخدم الأسلحة المناسبة للقضاء عليه. ولكنه في المقابل يتميز على الجهاز الفطري بأنه يحتفظ في ذاكرته بأنواع الميكروبات التي تعامل معها في السابق والأسلحة التي استخدمها لمحاربته وكذلك قدرته على التكيف ليواجه أنواع جديدة من الميكروبات. ومن أهم المهام التي يقوم  بها هذا الجهاز هو التعرف على ميكروبات معروفة بعينها (specific) وذلك لكي يستتخدم أسلحة مناسبة لقتلها في أسرع وقت ممكن. أما المهمة الثانية فهو تطوير ذاكرة مناعية (immunological memory) للميكروبات التي تعامل معها في السابق وذلك من خلال تخزين هوية هذه الميكروبات على أجسام مضادة تحملها الخلايا المناعية.

إن الخلايا التي يستخدمها الجهاز المناعي المتكيف هي نوع من خلايا الدم البيضاء تعرف بالخلايا  الليمفاوية (lymphocyte cells) والتي تنقسم إلى نوعين وهي الخلايا الليمفاوية البائية (B-cells) بنسبة 20 % والخلايا اللمفاوية التائية (T-cells) بنسبة 80%.  وتتراوح نسبة الخلايا الليمفاوية  بين 20 و 40 بالمائة من عدد خلايا الدم البيضاء حيث يقدر متوسط عددها بألفي بليون خلية مما يعني أن وزنها مجتمعة قد يساوي وزن الدماغ أو الكبد. وتتواجد معظم هذه الخلايا في الدم والسائل الليمفاوي والعقد الليمفاوية وعادة ما يحتوي السائل الليمفاوي على نسبة أكبر من الدم. ويتم إنتاج الخلايا الليمفاوية في نخاع العظم (bone marrow) من قبل الخلايا الجذعية (multipotent hematopoietic stem cells) وعندما تخرج هذه الخلايا من العظم تكون  الخلايا البائية والتائية غير ناضجة (immature) وغير متمايزة  (indistinguishable) حيث يتم إنضاجها وتمايزها في مكونات الجهاز الليمفاوي الأخرى وهي الغدة الزعترية  والعقد الليمفاوية والطحال. وعندما تنضج الخلايا الليمفاوية وتدخل في الدم أو في السائل الليمفاوي فإنها تمر في ثلاثة أطوار وهي الخلايا الساذجة (naive cells) والتي لم تتحد بالمستضد المعرف (cognate antigen) والخلايا الفعالة (effector cells) والتي تم تزويدها بأحد للمستضدات المعرفة وهي جاهزة لمحاربة الميكروبات وخلايا الذاكرة (memory cells) وهي التي تحمل أجسام مضادة تخص ميكروب معين وعادة ما تعود لنخاع العظم لتخزين هذه المعلومات.

 

الخلايا البائية

تلعب الخلايا البائية الدور الأكبر في الإستجابة المناعية الخلطية (humoral immune response) حيث تقوم بإنتاج  ما يسمي بالأجسام المضادة (Antibodies) أو الجلوبيولينات المناعية (immunoglobulin). ويتم إنتاج الخلايا البائية في نخاع العظام ومنه تهاجر بشكل غير ناضج إلى الدم والسائل الليمفاوي وإذا ما تم إثارتها فإنها تهاجر إلى الطحال حيث يتم إنضاجها لتصبح خلية بلازمية متخصصة (plasma cells). إن عملية الإنضاج تتعلق بتحديد هوية الأجسام المضادة التي ستقوم بأنتاجها هذه الخلايا ويتم ذلك في داخل  الجينات في مركز خاص بها يسمى  مركز الأجسام المضادة (antibody loci). وفي هذا المركز تقوم عدة سلاسل من الجينات بالإتحاد مع بعضها البعض  بطريقة مدروسة لتنتج الجين النهائي الذي ينتج الجسم المضاد المراد (Recombination activating gene (RAG)). وعادة ما يتم اختبار الخلايا البائية قبل خروجها إلى الجسم تخوفا من إنتاجها لأجسام مضادة متوافقة مع المستضدات الذاتية لخلايا الجسم (self antigens) مما يؤدي إلى قتل خلايا الجسم من قبل الخلايا الملتهمة. وإذا ما وجدت مثل هذه الخلايا أثناء الاختبار فإن الأوامر تصدر لمركز الأجسام المضادة لإعادة توليد جين جديد وإذا ما فشل في ذلك فإنها تأمر الخلية الشاذة بالانتحار (apoptosis). 


وعند إصابة إحدى الخلايا البائية غير المفعلة من قبل أحد الميكروبات  فإنه يتم تفعيلها من قبل الخلايا التائية المساعدة فتهاجر إلى الطحال والذي يقوم بتحويلها إلى  خلية بلازمية (plasma cell) قادرة على إنتاج نوع محدد من الأجسام المضادة بمعدل ألفي جسم مضاد في الثانية ولمدة عدة أيام. إن كل خلية بلازمية تنتج جسم مضاد فريد (unique antibody) لا يتعرف إلا على مستضد فريد (unique antigen) موجود على الميكروب ولذا فهي لا تتعامل إلا مع نوع محدد من الميكروبات. وعادة ما تقوم هذه الخلية البلازمية بالإنقسام المتكرر لتكون مستعمرة من هذه الخلايا  (clone of cells) لها نفس المواصفات وتتعامل مع نفس الميكروب الذي فعلها. وتقوم غالبية خلايا المستعمرة بوظيفة حربية حيث تبدأ بالانتشار في الجسم وإنتاج الأجسام المضادة التي تقوم بدورها في محاربة هذا النوع من الميكروبات. أما البقية القليلة منها فإنها تتخصص لتكون ما يسمى بخلايا الذاكرة البائية (B-Memory cells) والتي تقوم بتخزين معلومات عن الميكروب الذي تعاملت معه هذه الخلايا وذلك لاستخدامها في حالة تعرضها لنفس النوع من الميكروبات في المستقبل ولذا فإنها تعيش لفترة زمنية طويلة. وعند تعرض الجسم لمثل هذا الميكروب في المستقبل فإن خلايا الذاكرة البائية الخاصة بها تبدأ بالإنقسام على الفور لتنتج مستعمرة من الخلايا البائية التي تقوم بمكافحة هذا الميكروب بينما كان يلزم في المرة الأولى ذهاب خلية بائية غير ناضجة إلى الطحال للتخصص والذي يستغرق وقتا طويلا. إن وظيفة الأجسام المضادة التي تفرزها الخلايا البائية هو الإتحاد مع المستضدات الموجودة على سطح الميكروب مما يجعل الميكروب هدفا سهلا للخلايا الملتهمة وذلك من خلال التعرف على الجسم المضاد المتحد بالمستضد. والخلايا البائية لا تطلق أجسامها المضادة إلا بعد تحفيز مستقبل خاص بها (B cell receptor (BCR))) موجود على سطحها وذلك من خلال اتحاد مستضاد الميكروب بهذا المستقبل وذلك بالتزامن مع إشارة  كيميائية (lymphokines) ترسلها الخلية التائية المساعدة ( T helper cell) إلى الخلية البائية. 

 

الخلايا التائية

تلعب الخلايا التائية (T cells) الدور الأكبر في الاستجابة المناعية باستخدام الخلايا (cell-mediated immune responses). ويتم إنتاج الخلايا التائية غير الناضجة في نخاع العظم حيث يتحول قسم منها إلى الخلايا القاتلة الطبيعية (natural killer cells) بينما تهاجر البقية إلى الغدة الزعترية (thymus gland) حيث يتم إنضاجها بشكل نهائي لإنتاج عدة أنواع متخصصة منها. والخلايا التائية غير الناضجة التي تصل إلى الغدة الزعترية تسمى (Haematopoietic progenitors) وهي قليلة العدد ولكنها تبدأ بالإنقسام داخل هذه الغدة لتنتج خلايا تائية أكثر تطورا تسمى الخلايا الزعترية (thymocytes) ومن هذه الخلايا الزعترية تتطور الخلايا التائية. ولا ينجح أكثر من 2% من الخلايا الزعترية بالتحول إلى خلايا تائية فعالة بسبب الشروط الصارمة التي تضمن قدرة تعرف هذه الخلايا على مستضدات الذات (self antigens) لخلايا الجسم لكي تتجنب تدميرها. ويوجد أربعة أنواع من الخلايا التائية التي تنتجها الغدة الزعترية وهي الخلايا التائية المساعدة (Helper T cells)  والخلايا التائية السمية  أو القاتلة (Cytotoxic or killer T cells) وخلايا الذاكرة التائية (Memory T cells) والخلايا التائية المنظمة (Regulatory T cells).





فالخلايا التائية المساعدة هي التي تقوم بتنسيق عمل الجهاز المناعي المكتسب بشكل كامل فهي التي تعطي الأمر لكل من الخلايا البائية والخلايا التائية السمية بالنضوج والتخصص والانقسام بعد أن تحفز من الجهاز المناعي الفطري إذا ما فشل في صد هجوم الميكروبات. ويتم تحفيز الخلايا التائية المساعدة من قبل الخلايا العارضة للمستضدات (antigen-presenting cells) كالخلايا الملتهمة والمتفرعة حيث يتحد مستضد الميكروب  بمستقبل الخلية التائية  (T cell receptor (TCR))) الموجود على سطحها . إن الجهاز المناعي المكتسب يتم تعطيله بشكل كبير إذا ما تعطلت الخلايا التائية المساعدة عن القيام بمهامها كما هو الحال في مرض نقص المناعة المكتسب  او الأيدز(AIDS--HIV) الذي ينتج عن إصابة هذه الخلايا بفيروس الأيدز.

أما الخلايا التائية السمية والتي تسمى الخلايا التائية القاتلة ( killer T cells) فتقوم بقتل خلايا الجسم المصابة بالفيروسات (virus-infected cells) والخلايا السرطانية (tumor cells) كما هو الحال مع الخلايا القاتلة الطبيعية التابعة للجهاز المناعي الفطري.  وتقوم بذلك من خلال إفراز بروتينات ستوبلازمية كالبروفيرين (perforin) والجرانزيم (granzyme) تعمل بعد دخولها إلى الخلايا المصابة على موتها بما يسمى موت الخلية المبرمج (programmed cell death) أو   الانتحار (apoptosis). إن ما يميز الخلايا التائية القاتلة عن الخلايا القاتلة الطبيعية أنها لا تقتل إلا الميكروبات التي أنتجت من أجلها (specific) بينما تقتل الخلايا القاتلة الطبيعية الميكروبات دون تمييز (nonspecific).  والخلايا التائية القاتلة كبقية الخلايا المتخصصة لا تقوم بعملية القتل إلا بأمر من الخلايا التائية المساعدة.

أما خلايا الذاكرة التائية  فهي تقوم بتخزين معلومات عن الميكروب الذي تعاملت معه هذه الخلايا وذلك لاستخدامها في حالة تعرضها لنفس النوع من الميكروبات في المستقبل ولذا فإنها تعيش لفترة زمنية طويلة. وعند تعرض الجسم لمثل هذا الميكروب في المستقبل فإن خلايا الذاكرة التائية الخاصة بها تبدأ بالإنقسام على الفور لتنتج مستعمرة من الخلايا التائية التي تقوم بمكافحة هذا الميكروب بينما كان يلزم في المرة الأولى ذهاب خلية تائية غير ناضجة إلى الغدة الزعترية للتخصص والذي يستغرق وقتا طويلا. أما الخلايا التائية المنظمة والتي تسمى أيضا الخلايا التائية الكابتة (suppressor T cells) فمهمتها عكس مهمة الخلايا التائية المساعدة وهي وقف نشاطات الخلايا البائية والتائية المختلفة بعد إنتهاء المعركة مع الميكروبات الغازية وانتصارها عليها وذلك من خلال آليات محددة.