2024-04-29

النموذج الكروي للكون كما رسمه شيخ الاسلام ابن تيمية

 

النموذج الكروي للكون  كما رسمه شيخ الاسلام ابن تيمية

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي/ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

تفرد القرءان الكريم  عن بقية الكتب السماوية  بذكره ووصفه لجميع مكونات هذا الكون من أراضين وكواكب وأقمار ونجوم وبروج وشهب وسموات وكرسي وعرش .  وقد حدد القرءان الكريم  وجود سبع سموات طباقا  ومن الأرض مثلهن  يحيط بها جميعها كرسي الرحمن والذي يحيط به العرش الذي استوى عليه الرحمن  سبحنه وتعالى المنزه عن التشبيه والتمثيل.  لقد قام شيخ الإسلام  تقي الدين ابن تيمية في كتابة الرسالة العرشية وفي بعض فتاويه  برسم صورة  لبنية هذا الكون بدأ بالتأكيد على كروية الأرض ومن ثم كروية السماء الدنيا التي تحيط بالأرض وبقية الأجرام السماوية وكروية بقية السموات السبهع بحيث تحيط كل سماء بما دونها من سموات.  وأكد شيخ الإسلام على كروية كرسي الرحمن وأنه يحيط بالسموات السبع وما فيهن ولكنه تردد في القول بكروية العرش رغم أن جميع الشرح حول تصوره لبنية الكون كان على افتراض أنه كروي الشكل  وأن الله عز وجل مستوي فوق عرشه بائن عن جميع مخلوقاته.  

السموات السبع في المعتقدات المختلفة

                رغم أن التوراة قد ذكرت في سفر التكوين أن الله عز وجل قد خلق في البدء السموات والأرض إلا أنها لم تذكر أي شيء عن عدد هذه السموات ولا عن طبيعتها ولا عن من يسكنها. فقد جاء ذكر هذه السموات  في التوراة في موضعين اثنين وذلك في الإصحاح الأول من سفر التكوين دون أن تحدد عدد هذه السموات (في البدء خلق السموات والأرض) .  ولكن جاء في التلمود ذكر لسموات متعددة تترواح بين سمائين وعشر سموات وذلك بناء على نصوص وردت في الكتب السماوية التي نزلت على أنبياء بني إسرائيل.  أما الأنجيل فلم يأتي أيضا على ذكر عدد السموات ولا يعتقد أغلب المسيحين بوجود سبع سموات ولكن يؤمنون بمكان علوي لله عز وجل ومسكن للأرواح. وقد جاء في الديانات الهندوسية والزرادشتية أو المجوسية ذكر لأكوان أخرى غير كوننا حيث حددت عدد العوالم العلوية بسبع والعوالم السفلية كذلك بسبع. ولم تأتي جميع هذه الديانات كذلك على ذكرالكرسي والعرش واستواء الله عز وجل عليه حيث تفرد بذكره القرآن الكريم وكذلك صحيفة إدريس السلوفاكية.

إن الكتاب المقدس الوحيد الذي يتوافق مع القرآن الكريم بوجود سبع سموات وسبع آراضين وأنها ظهرت إثر انفجار كوني عظيم وكذلك وجود عرشا للرحمن هو إحدى صحف إدريس عليه السلام وهي التي عثر عليها في سلوفاكيا في نهاية القرن التاسع عشر وهي غير صحيفة إدريس الأثيوبية. وهذه الصحيفة مترجمة عن أصل يوناني يعتقد أنه قد كتب في بداية القرن الأول الميلادي. وقد قام الباحث في الدراسات الروسية والسلوفاكية مورفيل (W. R. MORFILL) بترجمته إلى الإنجليزية ومن ثم قام بتحقيقه عالم اللاهوت في كلية الثالوث في دبلن روبرت شارلس (R. H. CHARLES). ولقد تم نشر الكتاب  في عام 1896م تحت عنوان كتاب أسرار إدريس (THE BOOK OF THE SECRETS OF ENOCH). وجدير بالذكر أن محقق كتاب أسرار إدريس قد قال بسبب هذا التوافق العجيب لهذه الصحيفة مع القرآن الكريم  أنه ربما قد وقعت نسخة من هذه الصحف في يد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام(Some form of the Slavonic Enoch seems to have been in Mohammed's hands ( وذلك على الرغم  من أنه سبق وأن قال في تحقيقه للصحيفة بأن هذه الصحف قد اختفت عن أيدي الدارسين لما يزيد عن ألف ومائتين عام!

                وفي هذه الصحيفة شرح إدريس عليه السلام رحلته من الأرض إلى السموات السبع بصحبة ملكين واصفا ما شاهده في كل سماء منها ففي وصف السماء السابعة قال (وانتزعني الرجلان فآخذاني من هناك إلى السماء السابعة فرأيت نورا عظيما وجميع جيوش النور اللاجسدية من رؤساء ملائكة وملائكة وأوفانيم يقفون مشعين فخفت وارتعبت فاقتداني الرجلان وسطهم وقالا لي: تشجع يا أخنوخ (ادريس) ولا تخف وأرياني من بعيد الرب جالسا على عرشه وكانت كل جيوش السماء المجتمعة درجات تتقدم وتخضع أمام الرب ثم تتراجع وتمضي إلى مواضعها بفرح وابتهاج وبنور لا يقاس وكان المجيدون يخدمونه فلا يبتعدون في الليل ولا يتراجعون في النهار يقفون أمام وجه الرب ويصنعون مشيئته وكان كل جيم الكروبيم حول عرشه لا يبتعد عنه وذوو الأجنحة الستة يغطون عرشه وينشدون أمام وجه الرب) 20-21. إن هذا الوصف الدقيق لمشهد الملائكة وهم يحيطون بعرش الرحمن ويمجدونه ويقدسونه ويسبحونه ويسجدون أمامه تجد تصديقا له في القرآن الكريم في آيات كثيرة كما في قوله تعالى "فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) " فصلت  وقوله تعالى "وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)" الأنبياء وقوله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)" الأعراف وقوله تعالى "الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)" غافر وقوله تعالى "وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)" الزمر. 

                وجاء في الصحيفة أيضا  شرح عن الأصل الذي خلقت منه السموات والأراضين حيث أن الله عز وجل قد أخبر إدريس عليه السلام عن أكبر أسرار  هذه الكون وهو  الكيفية التي نشأ بها الكون من العدم وهو سر لم يطلعه الله عز وجل حتى على أقرب ملائكته. ففي الفصل الخامس والعشرين شرح الله عز وجل لإدريس كيف أن الكون قد نشأ بعد أن أمر  سبحانه ما أسماه أدويل(Adoil) بأن ينفجر لتخرج المادة التي خلقت منها جميع أجرام الكون (1 وأمرت في الأعماق بأن تخرج الأشياء المرئية من اللامرئية ومنها خرج أدويل (Adoil) الكبير جدا فنظرت إليه وحقا كان لونه أحمر  بإشعاع عظيم 2. وقلت له: إنفجر  متباعدا يا أدويل وليكن ما يخرج منك مرئيا. 3. فانفجر متباعدا وخرج مباشرة نور عظيم وكنت في وسط النور العظيم وبعد أن خرج النور من النور هنالك خرج الكون العظيم كاشفا جميع  المخلوقات التي عزمت على خلقها ورأيت ذلك حسنا. 4. وصنعت لنفسي عرشا ثم استويت عليه وقلت للنور ارتفع عاليا فوق عرشي ولتكن أساسا لكل ما هو عالي 5. ولم يكن هناك ما هو أعلى من النور وعندما استويت رأيت النور من عرشي.). إن هذا النص لا يدع مجالا للشك بحدوث الإنفجار العظيم فهو نص واضح وصريح ومطابق لنظرية الإنفجار العظيم. ولا بد أن نشير إلى أن صحيفة إدريس السلوفاكية قد ظهرت وترجمت للغة الانجليزية قبل ظهور نظرية الانفجار العظيم بما يزيد عن ثلاثين عام مما يبعد أي شبهة حول محتوى الصحيفة.  ونرى في هذا النص التطابق بينه وبين ما جاء في القرآن الكريم حول العرش واستواء الرحمن عليه كما في قوله تعالى "الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) " الفرقان.

السموات السبع والكرسي والعرش في القرآن الكريم

لقد ورد في القرآن الكريم  آيات قرآنية كثيرة  تشير إلى كثير من الحقائق المتعلقة بنشأة هذا الكون وبنيته ومكوناته والظواهر التي تجري فيه ولم يتأكد صدق هذه الحقائق القرآنية لغير المسلمين إلا في هذا العصر الذي فتح الله فيه على البشر شتى أنواع المعارف ليتحقق بذلك قوله تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)" فصلت وقوله تعالى "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)" النمل. إن أول هذه الآيات هي التي بينت الطريقة التي نشأ بها  الكون  من العدم وهي قوله تعالى "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)" فصلت. إن هذه الآيات القرآنية مليئة بالحقائق العلمية المتعلقة بالأحداث التي مر بها خلق الكون منذ أن كان دخانا إلى أن أصبح على هذه الصورة التي هو عليها الآن. فلقد حدد القرآن الكريم المادة الخام التي بني منها هذا الكون وأطلق عليها اسم الدخان فقال عز من قائل "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ". ولقد تفرد القرآن دون بقية الكتب السماوية السابقة بذكر حقيقة أن مادة الكون الأولية كانت على شكل دخان وهو تعبير عن الجسيمات الأولية التي ملأت الفضاء الكوني بعد الإنفجار العظيم.

ولقد أشار القران الكريم بشكل واضح  في ثلاث آيات قرآنية إلى حقيقة الانفجار الكوني العظيم وإلى حقيقة التوسع الكوني وكذلك إلى حقيقة انهيار هذا الكون في النهاية. فقد أشار القرآن الكريم إلى أن السموات وما تحويه من أجرام  كانت كتلة واحدة ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة التي ملأت الكون بمادة دخانية وذلك مصداقا لقوله تعالى "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)" الأنبياء. وممّا يؤكد على أن مادة هذا الكون قد جاءت نتيجة انفجار كوني ضخم هو إشارة القران إلى أن الكون في توسع مستمر والتوسع لا يتأتى إلا إذا بدأ الكون من جرم صغير وبدأ حجمه بالازدياد وذلك مصداقا  لقوله تعالى "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)" الذاريات. أما الآية الثالثة التي تؤيد صحة هذه الفرضية هو قوله تعالى "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)" الأنبياء  فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى توسع الكون عند بدايته فإن هذه الآية تشير إلى انكماشه عند نهايته وسيعيد الله الكون إلى ما كان علية عند بدايته. لقد أجمع العلماء على حقيقة التوسع الكوني ولكنهم لم يتمكنوا  إلى الآن من البت في الحالة التي سيؤول إليها الكون حيث يقول بعضهم أن الكون سيبقى في حالة تمدد إلى الأبد بينما يقول آخرون أنه سيأتي يوم تتغلب فيه قوة الجذب بين مكوناته على قوة الاندفاع الناتجة عن الانفجار فيعود الكون من حيث بدأ وينهار على نفسه.

أما الحقيقة الكبرى التي ذكرها القرآن الكريم وجاءت نظرية الكون المنتفخ لتؤكدها فهي حقيقة وجود أكوان أخرى غير الكون الذي نشاهده بأعيننا أو تصل إليه مراصدنا وما يسميه العلماء بالكون المشاهد. ولقد حدد القرآن الكريم عدد هذه الأكوان بسبعة أكوان وأطلق عليها  اسم السموات السبع ولقد تكرر ذكر هذه السموات في آيات كثيرة في القرآن الكريم تبين بعض خصائصها. لقد كشف القرآن الكريم بعض خصائص هذه السموات السبع فذكر أولا أنها على شكل طبقات حيث تطبق كل سماء على السماء التي دونها ولا يكون ذلك إلا إذا كانت هذه السموات على شكل كرات مجوفة كل واحدة تحيط بالأخرى بحيث يكون مركز هذه الكرات هو المكان  الذي حدث فيه الانفجار الكوني العظيم  مصداقا لقوله تعالى "أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15)" نوح  وقوله سبحانه "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)" الملك  وقوله تعالى "وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)" المؤمنون. وذكر القرآن كذلك أن في كل سماء من هذه السموات السبع أجرامها الخاصة بها  لقوله تعالى "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)" الطلاق  والقائل سبحانه " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)" المائدة.

ولقد وصف القرآن الكريم  هذه السموات السبع بالشدة والمتانة وقد جاء هذا الوصف مطابقا تماما لما اكتشفه العلماء في نظرية الكون المنتفخ وهي أن الحواجز بين الأكوان المختلفة مكونة من أقطاب مغناطيسية أحادية القطبية وهي من أثقل الجسيمات التي تنبأ العلماء بوجودها ولكنهم  لم يعثروا على أيّ منها حتى الآن في أجرام الكون المشاهد  وصدق الله العظيم القائل "وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)" النبأ  والقائل سبحانه "أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)" النازعات والقائل سبحانه "لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)" غافر. إن هذه الأبنية الضخمة والتي يبلغ نصف قطر أصغرها وهي السماء الدنيا ما يقرب من أربعة عشر بليون سنة ضوئية قد تم بناؤها في منتهى الإحكام  بدون استخدام أعمدة تركتز عليها رغم ثقلها ورغم ما تحمل فوقها من أثقال لا يعلم ماهيتها إلا الله وصدق الله العظيم القائل  "اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)" الرعد  والقائل سبحانه "تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)" الشورى  والقائل سبحانه "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)" فاطر. وعلى الرغم من متانة هذه السموات فإنه سيأتي اليوم الذي تتشقق فيه هذه السموات عندما يأذن الله بذلك وذلك مصداقا لقوله تعالى "وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) " الحاقة  وقوله تعالى "يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)" المعارج.

                ولقد أتى القرآن الكريم أيضا على ذكر أجرام قد خلقها الله في هذا الكون وهي أكبر من السموات السبع ككرسي الرحمن الذي يحوي في داخله هذه السموات السبع مصداقا لقوله تعالى "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)" البقرة. إن حجم هذا الكرسي وما يحويه من السموات السبع لا تكاد تذكر مع حجم العرش الذي استوى عليه الرحمن سبحانه وتعالى فقال عز من قائل "قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)" المؤمنون . ولقد أشارت بعض الأحاديث النبوية الشريفة إلى الضخامة البالغة لهذا الكون الذي نعيش فيه ممّا جعل بعض الناس يشكك في صحة هذه الأحاديث بسبب المبالغة التي ذكرتها لأبعاد هذا الكون. فقد جاء في أحد هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على  الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة " سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني.  ولقد تبين لنا بعد الاكتشاف العلمية الحديثة في مجال الفلك أنه لا يوجد أيّ مبالغة في الصورة التي حاولت الأيات القرآنية والأحاديث النبوية أن تعطيها لحجم هذا الكون. بل إن أسلوب القرآن الكريم كان في غاية الدقة عندما حاول أن يبين للناس المسافات الشاسعة التي تفصل ما بين النجوم وذلك من خلال القسم بمواقعها ومن ثم أكد على أن هذا القسم عظيم فيما لو تمكن البشر من معرفة مقدار هذه المسافات  فقال عز من قائل "فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)" الواقعة. وللتدليل على ضخامة هذا الكون فقد أشار القرآن الكريم إلى أن سفر بعض مخلوقات الله كالملائكة عبر هذه السموات يحتاج إلى آلاف السنين رغم سرعتها الفائقة كما في قوله تعالى " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)"  السجدة   وقوله تعالى "تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)" المعارج.  وفي معراج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى السموات السبع لزم ركوب دابة سريعة جدا وهو البراق الذي اشتق اسمه من البرق لسرعته الفائقة كما جاء في الحديث الذي ورد في الصحيحين البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ ، طَوِيلٌ ، فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) وذلك للتدليل على ضخامة أبعاد هذا الكون.      

ابن تيمية وكروية الأرض والسموات السبع والكرسي والعرش

                كان شيخ الإسلام ابن تيمية  يعتقد بكروية الأرض والسموات السبع والكرسي وميالا إلى كون العرش كروي الشكل فقد قال  في مجموع الفتاوي- المجلد الخامس – الجزء الخامس - الأسماء والصفات- صفحة 150-151 ما نصه (اعْلَمْ أَنَّ "الْأَرْضَ" قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَهِيَ فِي الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِأَكْثَرِهَا؛ إذْ الْيَابِسُ السُّدُسُ وَزِيَادَةٌ بِقَلِيلِ وَالْمَاءُ أَيْضًا مُقَبَّبٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلْأَرْضِ وَالْمَاءُ الَّذِي فَوْقَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِمَّا يَلِي رُءُوسَنَا وَلَيْسَ تَحْتَ وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا وَسَطُهَا وَنِهَايَةُ التَّحْتِ الْمَرْكَزُ؛ فَلَا يَكُونُ لَنَا جِهَةٌ بَيِّنَةٌ إلَّا جِهَتَانِ: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْجِهَاتُ بِاخْتِلَافِ الْإِنْسَانِ. فَعُلُوُّ الْأَرْضِ وَجْهُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَأَسْفَلُهَا مَا تَحْتَ وَجْهِهَا - وَنِهَايَةُ الْمَرْكَزِ - هُوَ الَّذِي يُسَمَّى مَحَطَّ الْأَثْقَالِ فَمِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَالْمَاءُ مِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ إلَى الْمَرْكَزِ يَكُونُ هُبُوطًا وَمِنْهُ إلَى وَجْهِهَا صُعُودًا وَإِذَا كَانَتْ سَمَاءُ الدُّنْيَا فَوْقَ الْأَرْضِ مُحِيطَةٌ بِهَا فَالثَّانِيَةُ كُرَوِيَّةٌ وَكَذَا الْبَاقِي. وَالْكُرْسِيُّ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ كُلِّهَا وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْكُرْسِيِّ وَنِسْبَةُ الْأَفْلَاكِ وَمَا فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ وَالْجُمْلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرْشِ كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ. وَالْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ "الْفُلْكِ" يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي فَلْكَةٍ كَفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ. وَأَهْلُ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ.  وَأَمَّا "الْعَرْشُ" فَإِنَّهُ مُقَبَّبٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ؛ {أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ كَهَكَذَا} وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ. وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مُطْلَقًا بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ: كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك لَطَمَ وَجْهِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُوهُ فَدَعَوْهُ. فَقَالَ: لِمَ لَطَمْت وَجْهَهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مَرَرْت بِالسُّوقِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَلَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَقُلْت: يَا خَبِيثُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْته. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ} . وَفِي "عُلُوِّهِ" قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ} -. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا وَأَنَّهُ مُقَبَّبٌ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْأَفْلَاكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي غَايَةِ الصِّغَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْآيَةَ).

                ومن هذا النص نستخلص أن ابن تيمية مقتنع بكروية الأرض والسموات السبع وكرسي الرحمن وميالا ولكنه غير جازم بكروية العرش  حيث قال (وَإِذَا كَانَتْ سَمَاءُ الدُّنْيَا فَوْقَ الْأَرْضِ مُحِيطَةٌ بِهَا فَالثَّانِيَةُ كُرَوِيَّةٌ وَكَذَا الْبَاقِي. وَالْكُرْسِيُّ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ كُلِّهَا).  والصورة التي رسمها شيخ الاسلام لبنية الكون هو أن السماء الأولى أو الدنيا كروية الشكل وتحيط بالأرض الكروية وبالطبع ببقية الأجرام كالشمس والقمر والنجوم والكواكب  وهذا يؤكده قوله تعالى (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)) فصلت وقوله تعالى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)) الصافات.  والسماء الثانية كروية الشكل كذلك  وتحيط بالسماء الأولى وما في داخلها من أجرام وكذلك الحال مع بقية السموات السبع بحيث  تطبق كل سماء على ما  قبلها من سموات  من جميع الجهات مصداقا لقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)" الملك) وقوله تعالى "أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15)" نوح.  أما كرسي الرحمن فهو كما قال الشيخ كروي الشكل ويحيط بالسموات السبع وما فيهن من آراضين ومخلوقات مصداقا لقوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)" البقرة. 

                وقد أشار ابن تيمية في النص السابق إلى ضخامة مخلوقات  هذا الكون فقال (وَنِسْبَةُ الْأَفْلَاكِ وَمَا فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ وَالْجُمْلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرْشِ كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ.). فالسماء الدنيا بالنسبة إلى السماء الثانية ما هي إلا كحلقة ملقاة  في صحراء شاسعة وكذلك الحال مع كل سماء مع السماء التي فوقها والسموات السبع بالنسبة للكرسي هي كحلقة ملقاة في فلاة والكرسي بما حوى هو كحلقة ملقاة في فلاة بالنسبة للعرش.  والعرش بما حوى  يتلاشى ويصغر تماما أمام جلال وجبروت الرحمن سبحانه المنزه عن التشبيه والتمثيل حيث قال الشيخ ( فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي غَايَةِ الصِّغَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْآيَةَ). وقد استند ابن تيمية في تصوره لضخامة مخلوقات الكون إلى أحاديث نبوية شريفة منها حديث  أبي ذر الغفاري (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن فضل العرش على الكرسي  كفضل الفلاة على تلك الحلقة) .  وكذلك حديث العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ،قالَ (كُنّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ؟ قُلْنا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ. قالَ: بَيْنَهُما مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، ومِن كُلِّ سَماءٍ إلى سَماءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وكِثَفُ كُلِّ سَماءٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وفَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ بَحْرٌ، بَيْنَ أعْلاهُ وأسْفَلَهُ كَما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمانِيَةُ أوْعالٍ، بَيْنَ رُكَبِهِنَّ وأظْلافِهِنَّ كَما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ العَرْشُ بَيْنَ أسْفَلِهِ وأعْلاهُ كَما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى فَوْقَ ذَلِكَ، ولَيْسَ يَخْفى عَلَيْهِ مِن أعْمالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ) أخرجه الترذمي  وغيره.

 

تعريف  ابن تيمية لمفهوم العلو والسفل في الأجرام الكروية

                من  المسائل التي  شرحها شيخ الإسلام ابن تيمية بتفصيل وإسهاب في الرسالة العرشية وفي بعض فتاويه مفهوم العلو (الفوق) والسفل  (التحت) في الأجرام الكروية.  وكان الدافع وراء ذلك هو لإقناع بعض المعترضين على الشكل الكروي  للعرش بأن الله عز وجل المحيط والمستوي على عرشه لن يكون تحتهم كما يتخيلون ويتوهمون. فقد شرح ابن تيمية في مجموع الفتاوي- المجلد الخامس – الجزء الخامس - الأسماء والصفات- صفحة 150-151 تعريف الفوق والتحت بالنسبة للأرض الكروية فقال (اعْلَمْ أَنَّ "الْأَرْضَ" قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَهِيَ فِي الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِأَكْثَرِهَا؛ إذْ الْيَابِسُ السُّدُسُ وَزِيَادَةٌ بِقَلِيلِ وَالْمَاءُ أَيْضًا مُقَبَّبٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلْأَرْضِ وَالْمَاءُ الَّذِي فَوْقَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِمَّا يَلِي رُءُوسَنَا وَلَيْسَ تَحْتَ وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا وَسَطُهَا وَنِهَايَةُ التَّحْتِ الْمَرْكَزُ؛ فَلَا يَكُونُ لَنَا جِهَةٌ بَيِّنَةٌ إلَّا جِهَتَانِ: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْجِهَاتُ بِاخْتِلَافِ الْإِنْسَانِ. فَعُلُوُّ الْأَرْضِ وَجْهُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَأَسْفَلُهَا مَا تَحْتَ وَجْهِهَا - وَنِهَايَةُ الْمَرْكَزِ - هُوَ الَّذِي يُسَمَّى مَحَطَّ الْأَثْقَالِ فَمِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَالْمَاءُ مِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ إلَى الْمَرْكَزِ يَكُونُ هُبُوطًا وَمِنْهُ إلَى وَجْهِهَا صُعُودًا).  فحسب تعريف ابن تيمية للفوق أو العلو  بالنسبة للبشر الذين يعيشون على  سطح الأرض  الكروية هو أن كل ما فوق سطح الأرض هو الفوق أو العلو بغض النظر عن  المكان الذي يقف فيه الشخص بينما عرف السفل أو التحت بأنه كل ما تحت سطح الأرض هبوطا باتجاه مركز الأرض.  ولقد اعتبر  ابن تيمية بعبقريته الفذة  سطح مياه البحار التي تتخذ شكل الأرض الكروي مرجعا لارتفاع الأشياء عن سطح الأرض فقال (وَالْمَاءُ أَيْضًا مُقَبَّبٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلْأَرْضِ وَالْمَاءُ الَّذِي فَوْقَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِمَّا يَلِي رُءُوسَنَا).

ولكي يزيل ابن تيمية اللبس أو التوهم عند البعض بأن سكان الأرض في الجهة المقابلة لهم على سطح الأرض هم تحتهم  شرح مع ضرب بعض الأمثلة  الفرق بين مفاهيم الاتجاهات بالنسبة للانسان وبالنسبة للأفلاك الكروية فقد قال في المقام الثالث من الرسالة العرشية ما نصه (وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يكون العرش كريا كَالْأَفْلَاكِ، وَيَكُونُ مُحِيطًا بِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوْقَهَا وليس هو كريا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا أَنَّ الأفلاك مستديرة كرية الشَّكْلِ، وَأَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا هِيَ جِهَةُ الْمُحِيطِ، وَهِيَ الْمُحَدَّبُ، وَأَنَّ الْجِهَةَ السُّفْلَى هُوَ الْمَرْكَزُ، وَلَيْسَ لِلْأَفْلَاكِ إلَّا جِهَتَانِ: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَقَطْ.  وَأَمَّا الْجِهَاتُ الست فهي الحيوان، فَإِنَّ لَهُ سِتَّ جَوَانِبَ، يَؤُمُّ جِهَةً فَتَكُونُ أَمَامَهُ، وَيُخْلِفُ أُخْرَى فَتَكُونُ خَلْفَهُ، وَجِهَةٌ تُحَاذِي يَمِينَهُ، وَجِهَةٌ تُحَاذِي شِمَالَهُ، وَجِهَةٌ تُحَاذِي رَأْسَهُ، وَجِهَةٌ تُحَاذِي رِجْلَيْهِ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ السِّتِّ فِي نَفْسِهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ، بَلْ هِيَ بِحَسَبِ النِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ، فَيَكُونُ يَمِينُ هَذَا مَا يَكُونُ شِمَالُ هَذَا، وَيَكُونُ أَمَامَ هَذَا مَا يَكُونُ خَلْفَ هَذَا، وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا مَا يَكُونُ تَحْتَ هَذَا. لَكِنَّ جِهَةَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لِلْأَفْلَاكِ  لَا تَتَغَيَّرُ، فَالْمُحِيطُ هُوَ الْعُلُوُّ وَالْمَرْكَزُ هُوَ السُّفْلُ، مَعَ أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ لِلْأَنَامِ، وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ وَالشَّجَرُ وَالنَّبَاتُ، وَالْجِبَالُ وَالْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ. فَأَمَّا النَّاحِيَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْأَرْضِ فَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَمَا يَتْبَعُهُمْ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هُنَاكَ أَحَدًا لَكَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلَا مَنْ فِي هَذِهِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُحِيطَةٌ بِالْمَرْكَزِ، وَلَيْسَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْفَلَكِ تَحْتَ الْآخَرِ، وَلَا الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ تَحْتَ الْجَنُوبِيِّ، وَلَا بِالْعَكْسِ.  وَإِنْ كَانَ الشَّمَالِيُّ هُوَ الظَّاهِرُ لَنَا فَوْقَ الْأَرْضِ وَارْتِفَاعُهُ بِحَسَبِ بُعْدِ النَّاسِ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، فَمَا كَانَ بُعْدُهُ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ ثَلَاثِينَ دَرَجَةً مَثَلًا كَانَ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ عِنْدَهُ ثَلَاثِينَ دَرَجَةً، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عَرْضَ الْبَلَدِ، فَكَمَا أَنَّ جَوَانِبَ الْأَرْضِ الْمُحِيطَةِ بِهَا وَجَوَانِبَ الْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرَةِ لَيْسَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَلَا تَحْتَهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَثْقَالِ لَا يُقَالُ: إنَّهُ تَحْتَ أُولَئِكَ، وَإِنَّمَا هَذَا خَيَالٌ يَتَخَيَّلُهُ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ تَحْتَ إضَافِيٍّ؛ كَمَا لَوْ كَانَتْ نَمْلَةٌ تَمْشِي تَحْتَ سَقْفٍ فَالسَّقْفُ فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهَا تُحَاذِيه.  وَكَذَلِكَ مَنْ عُلِّقَ مَنْكُوسًا فَإِنَّهُ تَحْتَ السَّمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهُ تَلِي السَّمَاءَ، وَكَذَلِكَ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ إذَا كَانَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْأَرْضِ، أَوْ الْفَلَكِ أَنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ تَحْتَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ اثْنَانِ، مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ). 

وفي هذا النص يشرح  شيخ الإسلام الفرق بين تعريف الاتجاهات بالنسبة للأجرام كروية الشكل وبالنسبة للإنسان فهي مطلقة في الأولى ولا يوجد إلا اتجهان وهما  الفوق والتحت ونسبية في الثانية حيث يوجد ستة اتجاهات كما هو معروف. ولقد أبدع شيخ  الإسلام أيما إبداع وهو يوضح مفهوم نسبية المكان والاتجاهات  فالنملة التي تمشي منكوسة على السطح الداخلي لسقف البيت  تظن أنها تمشي فوق السقف بينما المشاهد لهذه النملة يراها تمشي تحت السقف وليس فوقه كما قال (وَإِنَّمَا هَذَا خَيَالٌ يَتَخَيَّلُهُ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ تَحْتَ إضَافِيٍّ؛ كَمَا لَوْ كَانَتْ نَمْلَةٌ تَمْشِي تَحْتَ سَقْفٍ فَالسَّقْفُ فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهَا تُحَاذِيه. )! وكذلك هو الحال مع البشر الذين يعيشون على سطح الأرض الكروية فقد ينوهم بعض من يسكن في قارة آسيا أن سكان القارت الأمريكية يعيشون تحتهم والعكس كذلك أو أن يظن البعض أن القطب الشمالي يقع فوق القطب الجنوبي أو العكس.  والحقيقة أن جميع سكان الأرض  ليس أحدهم فوق الآخر أو تحته بل جميعهم في العلو سواء  حسب تعريف الفوق والتحت في الأجرام الكروية الشكل  حيث قال الشيخ (وَكَذَلِكَ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ إذَا كَانَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْأَرْضِ، أَوْ الْفَلَكِ أَنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ تَحْتَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ اثْنَانِ، مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ).

 

ابن تيمية وكروية العرش والتوجه إليه من جهة العلو

لقد افترض شيخ الإسلام ابن تيمية أن شكل العرش  إما ان يكون كرويا أو غير كروي وكان ميالا إلى كونه كروي الشكل مع تأكيده على أنه لا ينفي أن يكون شكله غير ذلك فقد قال في المقام الثالث من الرسالة العرشية ما نصه ( وَاسْتِدَارَةُ الْأَفْلَاكِ كَمَا أَنَّهُ قَوْل أَهْلِ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُنَادَى، وَأَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ، وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: ٣٣] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلْكَةٌ مِثْلُ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. الْفَلَكُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْمُسْتَدِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ، وَكُلُّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ الْعَالِي عَلَى الْمَرْكَزِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْفَلَكِ مِنْ نَاحِيَةٍ يَكُونُ تَحْتَهُ مَنْ فِي الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَهُوَ مُتَوَهِّمٌ عِنْدَهُمْ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ مُسْتَدِيرٌ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَانَ هُوَ أَعْلَاهَا، وَسَقْفَهَا وَهُوَ فَوْقَهَا مُطْلَقًا، فَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ، وَإِلَى مَا فَوْقَهُ الْإِنْسَانُ إلَّا مِنْ الْعُلُوِّ، لَا مِنْ جِهَاتِهِ الْبَاقِيَةِ أَصْلًا. وَمَنْ تَوَجَّهَ إلَى الْفَلَكِ التَّاسِعِ أَوْ الثَّامِنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْلَاكِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْعُلُوِّ، كَانَ جَاهِلًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، فَكَيْفَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْعَرْشِ أَوْ إلَى مَا فَوْقَهُ وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أن يكون كرى الشَّكْلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إحَاطَةً تَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إذا كان كريًا وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ مُحِيطٌ بِهِ بَائِنٌ عَنْهُ، فَمَا فَائِدَةُ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ حِينَ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ؟ فَيَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ، فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ وَقْتَ الدُّعَاءِ بَيْنَ قَصْدِ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي تُحِيطُ بِالدَّاعِي، وَمَعَ هَذَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا قَصْدًا يَطْلُبُ الْعُلُوَّ، لَا يلتفت يمنة ولايسرة، فَأَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا، وَقَدْ فُطِرْنَا عَلَيْهَا. فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا وَرَدَ لِتَوَهُّمِ الْمُتَوَهِّمِ أَنَّ نِصْفَ الْفَلَكِ يَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَتَحْتَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ كَانَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مِنْ جِهَةٍ لَكَانَ تَحْتَهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا، وَهَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، إذْ الْفَلَكُ هُوَ فَوْقَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا ).

                ويتبين من هذا النص أن شيخ الإسلام قد أكد على إجماع علماء المسلمين على كروية الأفلاك وأن محيطها من جميع الاتجهات هو اتجاه العلو  واتجاه الأسفل هو باتجاه  مركزها وأن ما فوق محيطها من جميع الجوانب ليس بعضهم فوق أو تحت  البعض الاخر فقال (وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْفَلَكِ مِنْ نَاحِيَةٍ يَكُونُ تَحْتَهُ مَنْ فِي الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَهُوَ مُتَوَهِّمٌ عِنْدَهُمْ).  ويؤكد الشيخ أن هذا التصور ينطبق أيضا على العرش والذي افترض أنه كروي الشكل ويحيط بجميع المخلوقات من كرسي وما حوى من السموات والآراضين  وأن  التوجه إلى أن من فوق العرش يكون  بالتوجه إلى الأعلى  بعيدا عن مركز  الجرم الذي يقف عليه الشخص المتوجه  أينما كان موقعه على سطح ذلك  الجرم. فالشخص الذي  يعيش في مكان ما على سطح الأرض يتوجه إلى  الله عز وجل إلى اتجاه السماء فوقه وكذلك الحال مع شخص آخر  يعيش في الجهة المقابلة رغم أن  اتجاهي التوجه لهما متعاكسان وهذا يؤكده قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)) البقرة.

الرحمن جل جلاله مستو على عرشه بائن عن خلقه

                ويكمل شيخ الإسلام ابن تيمية في المقام الثالث من الرسالة العرشية ويشرح  الحقيقة الكبرى وهي أن الله عز وجل مستو فوق عرشه محيط بجميع مخلوقات هذا الكون من عرش وكرسي وسموات وآراضين إستواء وإحاطة تليق بجلاله سبحانه وتعالى سواء كان العرش كروي الشكل أو غير ذلك  فقال (فَهَذَا كُلُّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كُرِّيَّ الشَّكْلِ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ أَوْ غَيْرُ الْفَلَكِ التَّاسِعِ، قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ سَطْحَهُ هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ الْعَالِي عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَوْقَهُ، وَأَنَّ الْقَاصِدَ إلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ بِهَذَا التَّقْدِيرِ إنَّمَا يُقْصَدُ إلَى الْعُلُوِّ، لَا يَجُوزُ فِي الْفِطْرَةِ وَلَا فِي الشِّرْعَةِ مَعَ تَمَامِ قَصْدِهِ أَنْ يُقْصَدَ جِهَةٌ أُخْرَى مِنْ جِهَاتِهِ السِّتِّ، بَلْ هُوَ أَيْضًا يَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ مَعَ كَوْنِهِ أَعْلَى مِنْهُ، كَمَا ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا مِنْ الْمَثَلِ بِالْقَمَرِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا إذَا جَازَ فِي الْقَمَرِ وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْخَالِقُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ. وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ لَيْسَ كُرِّيَّ الشَّكْلِ، بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ الْكُرِّيَّةِ، كَمَا أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الْمَوْضُوعَ لِلْأَنَامِ فَوْقَ نِصْفِ الْأَرْضِ الْكُرِّيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي يُقَدَّرُ فِيهَا أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ مَا سِوَاهُ وَلَيْسَ كُرِّيَّ الشَّكْلِ، فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا نَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ لَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِهَاتِ.  فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ إلَى اللَّهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ، مَعَ كَوْنِهِ عَلَى عَرْشِهِ مُبَايِنًا لِخَلْقِهِ، وَسَوَاءٌ قُدِّرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يُحِيطُ بِهَا إذَا كَانَتْ فِي قَبْضَتِهِ أَوْ قُدِّرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْبِضَهَا وَيُحِيطَ بِهَا، فَهُوَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ فَوْقَهَا مُبَايِنًا لَهَا، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي الْخَالِقِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي الْعَرْشِ، لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورِ وَالتَّنَاقُضِ، وَهَذَا يُزِيلُ كُلَّ شُبْهَةٍ، وَإِنَّمَا تَنْشَأُ الشُّبْهَةُ فِي اعْتِقَادَيْنِ فَاسِدَيْنِ.  أَحَدُهُمَا: أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْعَرْشَ إذَا كَانَ كُرِّيًّا وَاَللَّهُ فَوْقَهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كُرِّيًّا، ثُمَّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ كُرِّيًّا فَيَصِحُّ التَّوَجُّهُ إلَى مَا هُوَ كُرِّيٌّ كَالْفَلَكِ التَّاسِعِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَرْشَ كُرِّيٌّ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلْأَفْلَاكِ فِي أَشْكَالِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهَا فِي أَقْدَارِهَا، وَلَا فِي صِفَاتِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا بَلْ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ عِنْدَهُ  بِمَنْزِلَةِ دَاخِلِ الْفَلَكِ فِي الْفَلَكِ، وَإِنَّهَا عِنْدَهُ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ وَالْفَلْفَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي يَدِ أَحَدِنَا، فَإِذَا كَانَتْ الْحِمَّصَةُ أَوْ الْفَلْفَلَةُ. بَلْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ، أَوْ الْكُرَةُ الَّتِي يَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فِي يَدِ الْإِنْسَانِ أَوْ تَحْتَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، هَلْ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ إذَا اسْتَشْعَرَ عُلُوَّ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ وَإِحَاطَتَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالْفَلَكِ؟ وَاَللَّهُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَظُنُّهُ الَّذِينَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: ٦٧] .  َكَذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ فَلَكًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ مِنْ الْجِهَاتِ السِّتِّ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَقْلِ، الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْهَيْئَةَ، وَأَهْلُ الْعَقْلِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقَصْدَ الْجَازِمَ يُوجِبُ فِعْلَ الْمَقْصُودِ بحسب الإمكان.  لقد تَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ خَطَأٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَوَجَّهَ الْقُلُوبُ إلَيْهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ، لَا إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْجِهَاتِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُفْرَضُ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَرْشُ هُوَ الْفَلَكَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْفَلَكِ كُرِّيَّ الشَّكْلِ أَوْ كَانَ فَوْقَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ كُرِّيًّا، سَوَاءٌ كَانَ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ مُحِيطًا بِالْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يُحِيطُ بِهَا فِي قَبْضَتِهِ، أَوْ كَانَ فَوْقَهَا مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ مِنَّا التي تلي رؤوسنا، دُونَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى.  فَعَلَى أَيِّ تَقْدِيرٍ فُرِضَ، كَانَ كُلٌّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ السُّؤَالِ بَاطِلَةً، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا دَعَوْنَاهُ، إنَّمَا نَدْعُوهُ بِقَصْدِ الْعُلُوِّ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا فُطِرْنَا عَلَى ذَلِكَ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، والله أعلم. ).

                وفي هذا النص حاول شيخ الإسلام إزالة بعض التصورات الخاطئة عن استواء الله عز وجل على عرشه وإحاطته بمخلوقاته. فقد يظن البعض أن العرش إذا كان كروي الشكل والله عز وجل محيط به من كل الجوانب فيلزم أن يكون الله عز وجل المنزه  عن التشبيه كروي الشكل أيضا حيث قال (أَحَدُهُمَا: أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْعَرْشَ إذَا كَانَ كُرِّيًّا وَاَللَّهُ فَوْقَهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كُرِّيًّا).  وكان رد الشيخ على هذا التصور الخاطيء هو أن جميع  مخلوقات هذا الكون على ضخامتها بالنسبة للبشر هي بالنسبة للرحمن جل جلاله أصغر من الحمصة أو الدرهم بالنسبة ليد الإنسان بل هي في الحقيقة لا شيء بالنسبة لله عز وجل  القائل (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)) الزمر. وعلى هذا فمن  غير المقبول عقلا أن نتخيل شكل  الرحمن اللامحدود واللانهائي مع شكل الكون المحدود حجما مهما بلغ حجمه بالنسبة للإنسان فقال الشيخ (فَإِذَا كَانَتْ الْحِمَّصَةُ أَوْ الْفَلْفَلَةُ. بَلْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ، أَوْ الْكُرَةُ الَّتِي يَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فِي يَدِ الْإِنْسَانِ أَوْ تَحْتَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، هَلْ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ إذَا اسْتَشْعَرَ عُلُوَّ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ وَإِحَاطَتَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالْفَلَكِ؟ وَاَللَّهُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ بِهِ). وأما الإشكال الثاني فهو كيفية إحاطة الله عز وجل  بمخلوقاته إذا كان العرش ليس بكروي الشكل فقال الشيخ  (َأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ لَيْسَ كُرِّيَّ الشَّكْلِ، بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ الْكُرِّيَّةِ، كَمَا أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الْمَوْضُوعَ لِلْأَنَامِ فَوْقَ نِصْفِ الْأَرْضِ الْكُرِّيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي يُقَدَّرُ فِيهَا أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ مَا سِوَاهُ وَلَيْسَ كُرِّيَّ الشَّكْلِ، فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا نَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ لَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِهَاتِ.).  لقد كان رد شيخ الاسلام على هذا الإشكال مختصرا ومبهما  وذلك لقناعته التامة بكروية العرش حيث أن افتراض أن العرش يكون فوق جهة واحدة من الأرض وهو النصف المأهول بالسكان كما كان الاعتقاد السائد في عصره يتناقض مع حالة وجود بشر على الجهة المقابلة للجهة الأولى!!