2020-03-19

فلسطين هي الأرض المقدسة والمباركة


فلسطين هي الأرض المقدسة والمباركة

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية



        ظهر في الآونة الأخيرة عدد من الكتاب الذين حاولوا أن يقنعوا العرب والمسلمين بأن اليهود لم يكونوا يوما من الأيام في فلسطين بل كانوا إما في جنوب الحجاز أو في الحبشة أو في شمال السودان وجنوب مصر. إن الهدف الظاهر لكتابتهم والذي لا ينطلي إلا على السذج من الناس هو أنه لا حق لليهود في فلسطين ولكن الهدف الخفي هو التشكيك في جميع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الأرض المقدسة والأرض المباركة والتي جاءت مرتبطة بالحديث عن بني إسرائيل والتي سأشرحها بالتفصيل. فإذا ما سلم المسلمون بافتراءات هولاء الكتاب فإن النتيجة هو نفي القدسية والمباركة عن فلسطين والقدس حيث المسجد الأقصى ويعتبروها أرضا كبقية الأراضي يمكن الاستغناء عنها. لقد أجمع المسلمون منذ إسراء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم إلى القدس عاصمة فلسطين على أن فلسطين هي الأرض المقدسة والمباركة وقد فسر جميع علماء التفسير الآيات القرآنية التي جاء ذكر الأرض المقدسة والمباركة فيها على أن المعني فيها هو فلسطين لا غيرها. بل لقد أجمع جميع المؤرخين  المسلمين والمسيحين وغيرهم على أن فلسطين كانت مسرح الأحداث لجميع ما حدث لليهود من حروب وعلو ومن ثم سبي وتشتيت بل كانت مسرح  لتصارع القوى الكبرى على مر التاريخ من الأشوريين والبابليين والفراعنه والفرس والروم واليونان وحتى في عصرنا هذا. ولقد ثبت بالتواتر من أن معظم أنبياء بني إسرائيل الذين ذكرهم القرآن الكريم قد عاشوا في فلسطين وصلوا في المسجد الأقصى وكان آخرهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ولا زال بعض المحاريب والأماكن في المسجد الأقصى تسمى بأسمائهم. بل إن قبور معظم هؤلاء الأنبياء موجودة في فلسطين والأردن ولقد أقام المسلمون منذ عهودهم الأولى المقامات والمساجد عند أضرحتهم ففي الحرم الأبراهيمي في الخليل توجد قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وفي القدس قبور داود وسليمان وفي البتراء جنوب الأردن قبر هارون وفي الخان الأحمر شرقي القدس قبر موسى وفي السلط قبر يوشع بن نون وفي عجلون قبر إلياس.     


وعندما أطلعت على كتاب أشهر هؤلاء الكتاب المفترين وهو (التوراة جاءت من جزيرة العرب) لكمال الصليبي وجدته في منتهى السخافة وحجته أوهى من بيت العنكبوت.  فلقد قال في مقدمة الكتاب ما نصه (وأساس الكتاب هو المقابلة اللغوية بين اسماء الاماكن المضبوطة في التوراة بالحرف العبري واسماء أماكن تاريخية او حالية في جنوب الحجاز وفي بلاد عسير). إن أسماء الأماكن التي ذكرتها التوراة موجودة في فلسطين بشكل صريح لا لبس فيه بينما حاول الصليبي بشكل متعسف تحوير الأسماء في عسير لتتطابق مع أسماء التوراة. وبناء على مبدأ المقابلة اللغوية الذي اعتمده الصليبي كان الأولى أن يختار فلسطين وليس عسير كموطن لليهود وتكون أسماء الأماكن العبرية في عسير إن صحت قد سميت من قبل اليهود الذين هاجروا إلى اليمن بعد الشتات. أما الحقيقة الثانية التي تثبت مدى جهله فهي قوله أن إبراهيم عليه السلام كان يقيم في مكة المكرمة وليس في فلسطين وذلك اعتمادا على قوله تعالى "وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى" البقرة.  لقد فسر الصليبي المقام في هذه الآية على أنه السكن وغاب عن ذهنه أن أطفال المسلمين يعرفون أن مقام إبراهيم هو حجر كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام عندما بنى الكعبة مع ابنه إسماعيل عليه السلام وهو أحد الآيات التي تركها الله عز وجل عند الكعبة مصداقا لقوله تعالى "فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ" آل عمران. وسنشرح فيما يلي جميع الآيات التي جاء فيها ذكر الأرض المقدسة والمباركة ليتبين للقاريء أنه لا يمكن التوفيق بينها إلا أن تكون هناك أرضا واحدة فقط مباركة ومقدسة وهي فلسطين وشرقي الأردن.


ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين

        تبدأ قصة بني إسماعيل وبني إسرائيل بهجرة نبي الله إبراهيم ابن آزر (4000ق.م إلى 1825 ق.م) وابن أخية نبي الله لوط ابن ناحور من مدينة أور في جنوب العراق بعد أنجاه الله عز وجل من بطش النمرود إلى أرض فلسطين التي وصفها الله عز وجل بالأرض التي بارك الله فيها لكافة البشر في قوله تعالى "وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)" الأنبياء. واستقر سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد مروره على سوريا في مدينة الخليل التي تقع جنوب فلسطين والتي سميت بمدينة خليل الرحمن نسبة للقب الذي اشتهر به في قوله تعالى "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)" النساء. وقد دفن إبراهيم عليه السلام بعد أن عاش 175 عاما في مغارة في الخليل والتي دفن فيها أيضا كل من زوجته سارة وابنه نبي الله إسحاق وحفيدة نبي الله يعقوب  (إسرائيل) عليهم السلام وزوجتيهما. وقد بنى نبي الله سليمان عليه السلام حول المغارة سورا عظيما بحجارة ضخمة ومصقولة وصل طول بعضها سبعة أمتار وذلك بأمر من الله عز وجل وبمساعدة الجن الذين قال الله عز وجل فيهم "يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)" سبأ.




وقد قام خلفاء بني أمية بعد بنائهم المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة ببناء مسجد فوق هذه المغارة على أساس بناء سليمان عليه السلام وسموه المسجد أو الحرم الابراهيمي واعتبره المسلمون رابع أقدس المساجد عندهم. وقد قام الصليبيون بعد احتلال فلسطين في عام 1099م بتحويله إلى كنيسة ويروى أن المغارة التي تحتوي قبور الأنبياء الثلاث قد انهارت أثناء العمل في المقام وذلك عام 1119م وقد اكتشفوا أن أجساد الأنبياء الثلاث لم تتغير أبدا بينما بليت أكفانهم ولا ريب في ذلك فقد حرم الله عز وجل أجساد الأنبياء على الأرض.  وبعد طرد الصليبين على يد القائد صلاح الدين الأيوبي  في عام 1187م قام بترميمه وإرجاعه كما كان وبقي على هيئته إلى هذا الزمن إلا أنه تم تقسيمه إلى قسمين قسم لليهود وقسم للمسلمين بعد احتلال اليهود لباقي فلسطين عام 1967م. ومن الطريف أن القرآن الكريم قد ذكر الأنبياء الثلاث ابراهيم واسحاق ويعقوب المدفونبن في هذه المغارة في آية واستثنى منهم إسماعيل عليه السلام رغم أنه الابن الأكبر لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى "وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)" ص. ولو أن هذا القرآن الكريم من عند غير الله عز وجل لأدخل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام اسم جده الأكبر في هذه الآية ليشمله هذا المديح العظيم من الله عز وجل.


وما قوم لوط منكم ببعيد

        أما لوط عليه السلام فقد استقر  في مدن المؤتفكات وهي سدوم وعمورة والتي تقع جنوب البحر الميت في غور الأردن وعلى بعد عدة عشرات من الكيلومترات إلى الجنوب الشرقي من مدينة الخليل حيث يسكن عمه إبراهيم عليه السلام. ولما أرسل الله عز وجل ملائكته لإنزال العذاب بقوم لوط مروا على ابراهيم عليه السلام ليبشروه باسحاق وليخبروه أيضا بإهلاكهم قوم لوط.  وحاول عليه السلام بما أودع  الله عز وجل في قلوب الأنبياء من رحمة أن يثنيهم عن ذلك كما جاء ذلك في قوله تعالى "فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)" هود. وقد أشار القرآن الكريم إلى المكان الذي كان يسكنه قوم لوط وأنه في فلسطين وليس بعسير أو الحبشة حيث ذكر أن تجار قريش كانوا يمرون على القرى الهالكة التي كانت في طريق تجارتهم و وذلك في قوله تعالى "وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)" الصافات. وكذلك ذكر شعيب عليه السلام أهل مدين التي تقع مدينتهم شمال الجزيرة العربية بالعذاب الذي حل بالأقوام السابقة  وكان أخرهم وأقربهم قوم لوط كما جاء في قوله تعالى "وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)" هود.


ربي إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع

        رزق الله عز وجل إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل (الغلام الحليم)  من هاجر المصرية وهو في عمر86 سنة وولده اسحاق (الغلام العليم) من ابنة عمه سارة بمعجزة ربانية وهو في عمر مائة سنة مصداقا لقوله تعالى "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)" ابراهيم وقوله تعالى "وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)" هود. وبأمر من الله عز وجل أخذ ابراهيم عليه السلام ابنه اسماعيل وأمه هاجر من فلسطين وأسكنهم في مكة المكرمة حيث يوجد أول مسجد بنته الملائكة للناس كما جاء ذلك في قوله تعالى "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)" ابراهيم. وكما هو واضح من نص الآية فإن إبراهيم عليه لم يسكن جميع ذريته في مكة المكرمة بل بعضا من ذريته وهو اسماعيل عليه السلام المذكور في قوله تعالى "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)" البقرة.


        تزوج إسماعيل عليه السلام زوجة من جرهم وهم من العرب العاربة (القحطانيون) والذين سكنوا مكة المكرمة بعد أن ظهرت عين زمزم فيها كمعجزة من الله عز وجل لسقي هاجر وابنها اسماعيل عليه السلام في هذا المكان القاحل. ورزق الله عز وجل اسماعيل عليه السلام اثني عشر ولدا وهم أصل جميع العرب المستعربة (الاسماعيليون أو العدنانيون).  ولقد أوردت التوراة أسماء أولاد اسماعيل الاثني عشر وهم  ﻨﺒﺎﻴﻭﺕ ﻭﻗﻴـﺩﺍﺭ ﻭﺍﺩﺒﺌﻴـل ﻭﻤﺒﺴﺎﻡ  ﻭﻤﺸﺎﻉ ﻭﺩﻭﻤﺔ ﻭﻤﺴﺎ ﻭﺤﺩﺍﺭ ﻭﺘﻴﻤﺎ ﻭﻴﻁﻭﺭ ﻭ ﻨﺎﻓﻴﺵ ﻭﻗﺩﻤﺔ. وقد انتشرت ذرية أولاد إسماعيل عليه السلام في مكة المكرمة وما حولها وفي شمال الجزيرة العربية وجنوب الشام وبادية العراق وأقاموا ممالك كثيرة كمملكة الأنباط نسبة إلى نبايوت الابن الأكبر ومملكة قيدار نسبة إلى الابن الثاني وكذلك سميت مدن في شمال الجزيرة  بأسمائهم  كمدينة تيماء ودومة الجندل. وعلى الرغم من أن القرآن الكريم  لم يذكر مباركة الله عز وجل لإسماعيل بينما ذكر مباركة إسحاق عليهما السلام إلا أن التوراة ذكرت هذه المباركة في سفر التكوين 17: 18-21 (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلَّهِ: «لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!» فَقَالَ اللهُ بَلْ سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْداً أَبَدِيّاً لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيراً جِدّاً. اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً يَلِدُ وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً.). وقد تعني المباركة للأشخاص التي ذكرت في التوراة والقران  هو أن يظهر أنبياء في ذريته وهو ما حصل مع إسماعيل عليه السلام حيث بعث الله عز وجل نبي واحد في ذريته وهو خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لدعاء أبائه إبراهيم واسماعيل عليهما السلام مصداقا لقوله تعالى "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)" البقرة. وفي عدم ذكر مباركة إسماعيل عليه السلام في القرآن الكريم وذكر مباركة إسحاق رغم ذكرها في التوراة حجة مفحمة للذين يقولون أن هذا القرآن أخذ معلوماته من التوراة فلو كان الأمر كذلك لكانت مباركة إسماعيل أول ما أخذه القرآن من التوراة. 



وباركنا عليه وعلى إسحاق

        عاش إسحاق مع أبيه إبراهيم عليهما السلام في مدينة الخليل ورزق بإبنين وهما عيسو (العيص) ويعقوب أو إسرائيل وبأمر من الله عز وجل بارك إسحاق ابنه يعقوب لتكون في ذريته النبوة والكتاب كما جاء في قوله تعالى "وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)" الصافات وقوله تعالى "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)" الأنبياء. ويعتبر يعقوب وليس إسحاق عليهما السلام أبا اليهود أو بني إسرائيل وهم ذرية أولاد يعقوب الأثني عشر بعدد أولاد إسماعيل عليه السلام. وتوفي إسحاق عليه السلام في الخليل ودفن مع أبيه بينما عاش يعقوب في الخليل إلى أن هاجر مع جميع أبنائه إلى مصر بعد أن أصبح ابنه يوسف عليه السلام عزيزا لمصر كما جاء في قوله تعالى "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)" يوسف. ومات يعقوب عليه السلام في مصر وأوصى بأن يدفن عند أبيه وجده عليهما السلام فأمر يوسف عليه السلام بتحنيطه ونقله إلى مدينة الخليل حيث دفن في نفس مغارة الحرم الابراهيمي.



يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة

        مكث بني إسرائيل في مصر ما يقرب من ثلاثمائة سنة وكانوا معززين مكرمين في زمن حكم يوسف عليه السلام ولكن بعد موته بدأ المصريون يضيقون بهم ذرعا ومن ثم بدأوا باستعبادهم وتعذيبهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهن كما جاء في قوله تعالى "وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) " الأعراف. لقد أنجى الله عز وجل بني إسرائيل من بطش فرعون مصر بقيادة موسى وهارون عليهما السلام وأهلك فرعون وجنوده في البحر والذي شقه الله عز وجل ليعبر منه بني إسرائيل سالمين كما جاء في قوله تعالى "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)" يونس. وبعد عبور بني إسرائيل بحر خليج السويس وربما خليج العقبة أمرهم موسى عليه السلام بالتوجه إلى فلسطين لقتال الجبابرة (الكنعانيون) الذين كانوا يعيشون فيها كما جاء في قوله تعالى "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)" المائدة. ولكن بني إسرائيل بعنادهم المعهود رفضوا أمر موسى عليه عليه السلام وطلبوا منه أن يذهب هو وربه لقتال جبابرة فلسطين وأنهم سيدخلونها بعد أن يخرجوا منها كما جاء في قوله تعالى  "قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)" المائدة وقوله تعالى "قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ (24)" المائدة. وبسبب هذا العناد والكفر من بني إسرائيل فقد حرم الله عز وجل  عليهم دخول الأرض المقدسة وهي فلسطين أربعين عاما وكتب عليهم التيه فانتقلوا من سيناء إلى شمال الجزيرة العربية وجنوب الأردن كما جاء في قوله تعالى "قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)" المائدة وكما جاء في سفر العدد الإصحاح 32 "13فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَتَاهَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حَتَّى فَنِيَ كُلُّ الْجِيلِ الَّذِي فَعَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ".


        وعند إنتهاء فترة التيه وموت معظم كبار بني إسرائيل الذين عصوا موسى عليه السلام سار عليه السلام بجيل جديد نحو الأرض المقدسة وعند وصوله مدينة مادبا وقف على جبل نيبو الذي يقع في الشمال الغربي منها حيث يمكن مشاهدة أريحا والبحر الميت وبيت المقدس وما حوله بكل وضوح. ولقد كتب الله عز وجل الموت على موسى عليه السلام قبل أن يدخل الأرض المقدسة مع قومه  فقد روى البخاري في صحيحه فقال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فسأل (موسى) الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر). قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر). وفي الحديث الذي رواه النسائي في السنن الكبرى قال: (عَنْ أَنَس  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت ليلة أسري بي على موسى عِنْدَ الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره). وقد قام القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي عند تحريره بيت المقدس من الصليبيين ببناء مقام على ما كان يعتقد أنه قبر النبي موسى عليه السلام بعد أن وجد البدو الذين يعيشون في تلك المنطقة يتبركون بقبر في الخان الأحمر على جانب طريق القدس من أريحا يعتقدون أنه قبر موسى عليه السلام  وفي رواية أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو في طريقه إلى تحرير بيت المقدس فأراه مكان القبر.


وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها

        ودخل بني إسرائيل الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون بعد هزيمة الجبارين في معركة وقعت في مدينة أريحا التي تقع غرب نهر الأردن وشرقي القدس وذلك في عام 1130 قبل الميلاد على أغلب الأقوال. وأسكن يوشع بن نون تسعة أسباط ونصف سبط في مناطق مختلفة من فلسطين وسبطين ونصف سبط في مادبا والسلط وإربد شرقي الأردن (مَشَارِقَ الْأَرْضِ) كما جاء في قوله تعالى "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)" الأعراف. وبعد موت يوشع بن نون عليه السلام تم دفنه في مدينة السلط وقد بنى الخلفاء العثمانيون مسجدا على هذا المقام والذي تم تجديده في عهد الملك عبدالله بن الحسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية. وكان يحكم كل سبط من اليهود رجل منهم يسمى قاضيا ولذلك سميت تلك الفترة بعهد القضاة والتي امتدت لمائة عام تقريبا. وخلال هذه الفترة لم يكن لليهود ملكا حقيقيا على فلسطين فقد سلط الله عليهم الأمم التي من حولهم وهم العمونيون والأدوميون والعمالقة والفلسطينيون والآراميون وذلك بسبب عودتهم للكفر وعبادة الأصنام بعد موت يوشع بن نون عليه السلام. إن سماح الله سبحانه وتعالى لليهود بدخول الأرض المقدسة ليس بسبب صلاحهم رغم وجود الأنبياء فيهم بل لأمر قد قدره الله سبحانه وتعالى كما جاء ذلك في سفر التثنية الإصحاح التاسع ما نصه 1(اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، أَنْتَ الْيَوْمَ عَابِرٌ الأُرْدُنَّ لِكَيْ تَدْخُلَ وَتَمْتَلِكَ شُعُوبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، وَمُدُنًا عَظِيمَةً وَمُحَصَّنَةً إِلَى السَّمَاءِ. 2قَوْمًا عِظَامًا وَطِوَالاً، بَنِي عَنَاقَ الَّذِينَ عَرَفْتَهُمْ وَسَمِعْتَ: مَنْ يَقِفُ فِي وَجْهِ بَنِي عَنَاقَ؟ 3فَاعْلَمِ الْيَوْمَ أَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ الْعَابِرُ أَمَامَكَ نَارًا آكِلَةً. هُوَ يُبِيدُهُمْ وَيُذِلُّهُمْ أَمَامَكَ، فَتَطْرُدُهُمْ وَتُهْلِكُهُمْ سَرِيعًا كَمَا كَلَّمَكَ الرَّبُّ. 4لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ حِينَ يَنْفِيهِمِ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ قَائِلاً: لأَجْلِ بِرِّي أَدْخَلَنِي الرَّبُّ لأَمْتَلِكَ هذِهِ الأَرْضَ. وَلأَجْلِ إِثْمِ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ يَطْرُدُهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِكَ. 5لَيْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ وَعَدَالَةِ قَلْبِكَ تَدْخُلُ لِتَمْتَلِكَ أَرْضَهُمْ، بَلْ لأَجْلِ إِثْمِ أُولئِكَ الشُّعُوبِ يَطْرُدُهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ، وَلِكَيْ يَفِيَ بِالْكَلاَمِ الَّذِي أَقْسَمَ الرَّبُّ عَلَيْهِ لآبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. 6فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْضَ الْجَيِّدَةَ لِتَمْتَلِكَهَا، لأَنَّكَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ).


وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض

وبعد دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة استقر بهم المقام فيها كما جاء ذلك في قوله تعالى "وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)" الإسراء. والأرض في هذه الآية هي أرض فلسطين التي سيقومون بالإفساد فيها مرتين كما جاء في بداية سورة الإسراء والأخرة في هذه الآية هو الإفساد الثاني الذي سيتم بعد جمع اليهود من الشتات (لفيفا). لقد تعرض اليهود لشتى أنواع العذاب من الأمم المحيطة بهم في غياب قيادة لهم بموت يوشع بن نون ولذلك طلبوا من نبيهم في ذلك العصر أن يجعل عليهم ملكا يقاتلون تحت رايته الأعداء الذين من حولهم فأوحى الله إلى نبيهم أن يملكوا طالوت عليهم فقبلوا هذا الأمر بعدد تردد طويل كعادتهم وكان ذلك في عام  1025 قبل الميلاد كما جاء في قوله سبحانه وتعالى "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)" البقرة. وبعد اختيار طالوت ملكا على اليهود قام بمحاربة الأقوام في المناطق المجاورة بقلة من بني إسرائيل بعد أن تقاعس أكثرهم عن القتال وانتصر على أعدائه وأصبح لليهود دولة قوية وبدأ بذلك ما يسمى بعهد الملوك. وحكم اليهود بعد طالوت داود عليه السلام وكان نبيا وملكا كما جاء ذلك في قوله تعالى "فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)" البقرة. 


ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها

وبعد موت داود عليه السلام استلم الحكم ابنه سليمان عليه السلام كما جاء في قوله تعالى "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)" النمل. وقد آتى الله عز وجل نبيه سليمان ملكا عظيما شمل معظم بلدان الشرق الأوسط وسخر له الجن والريح والطير كما جاء ذلك في آيات كثيرة كما في قوله تعالى "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)" ص وقوله تعالى "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)" الأنبياء. ومن الواضح أن الأرض المباركة التي كانت تجري الريح العاصفة إليها بأمر سليمان عليه السلام هي فلسطين حيث كانت عاصمة ملكه. ومما يؤكد على أن سليمان عليه السلام كان في فلسطين هو أنه كان يجهل وجود مملكة سبأ فلو أنه كان في عسير أو الحبشة كما يزعم البعض لعلم بها بسبب قربها منها ولكنه علم بها بعد أن أخبره به الهدهد وذلك في قوله تعالى "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ (22)" النمل. 


وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة

وجاء ذكر الأرض المباركة أيضا في سورة سبأ حيث إمتن الله عز وجل على قوم سبأ أن جعل بين قراهم والقرى المباركة التي كانوا يتاجرون معها قرى ظاهرة يستريحون فيها كما جاء ذلك في قوله تعالى "وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)" سبأ. فقوم سبأ كانوا يسكنون في مدينة مأرب في شرقي اليمن حول سد مأرب المعروف وكانوا يتبادلون التجارة مع معظم مدن الشام وخاصة مدن فلسطين المباركة وبسبب بعد المسافة بينها قام الناس ببناء قرى أو محطات على طرق التجارة لخدمة التجار والاستفادة منهم وهي القرى الظاهرة التي جاء ذكرها في الآية.


وقضينا إلى بني إسرائيل لتفسدن في الأرض مرتين

وبموت سليمان عليه السلام في عام 935 قبل الميلاد انتهت الفترة الذهبية والصالحة من حكم اليهود لفلسطين والتي دامت ما يقرب من تسعين عاما فقط. وبعدها انقسمت دولة اليهود إلى دولتين ضعيفتين بعد صراع فيما بينهم وبعد أن استعان كل طرف منهم على الآخر بالدول التي من حولهم كالمصريين والأشوريين والكلدانيين.  فظهرت دولة يهوذا في جنوب فلسطين وعاصمتها القدس وكان يسكنها سبطين من أسباط اليهود وكان ملكها الأول رحبعام ابن سليمان عليه السلام ودولة إسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة وكان يسكنها بقية أسباط اليهود. وقد تعاقب على كل من الدولتين تسعة عشر ملكا وقد بدأ الفساد يظهر في الدولتين وبدأ اليهود بالابتعاد عن شرع الله وقاموا بعبادة العجل والذي ما انفك اليهود يشتاقون لعبادته منذ أن عبدوه في أيام موسى عليه السلام مصداقا لقوله تعالى "وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)"البقرة.
 

وبنبذ اليهود لعهود الله عز وجل عليهم وبعبادتهم الأوثان وارتكابهم الفواحش وإفسادهم في الأرض المقدسة والمباركة بدأت العقوبات العظيمة التي وعدهم الله عز وجل إياها بالظهور. وهذا الإفساد هو الإفساد الأول الذي ذكره الله عز وجل في القرآن الكريم في قوله تعالى "وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)" الإسراء. وكان أول هذه العقوبات لهم هو تدمير دولة إسرائيل الشمالية بشكل كامل على يد الأشوريين في عام 722 قبل الميلاد بينما تم تدمير دولة يهوذا الجنوبية على يد البابليين في عام 586 قبل الميلاد وتم كذلك تدمير المسجد أو المعبد الذي بناه سليمان عليه السلام في بيت المقدس.  ولقد تم سبي كثيرا من يهود المملكتين على يد الأشوريين والبابليين واتخذوهم عبيدا لهم وذلك تحقيقا لما كتبه الله عز وجل عليهم. وبهذا السبي انتهى ملك اليهود على الأرض المقدسة بسبب علوهم وإفسادهم فصدقت بذلك نبوءة التوراة فيهم وكما أكد على ذلك القرآن الكريم في سورة الإسراء والذي ذكر أن الإفساد الأول وعقوبته قد تم قبل نزول القرآن "وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)" الإسراء. أما التوراة فقد تنبأت بهذا الإفساد الأول قبل وقوعه فقد جاء فيها "26أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ أَنَّكُمْ تَبِيدُونَ سَرِيعًا عَنِ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا. لاَ تُطِيلُونَ الأَيَّامَ عَلَيْهَا، بَلْ تَهْلِكُونَ لاَ مَحَالَةَ. 27وَيُبَدِّدُكُمُ الرَّبُّ فِي الشُّعُوبِ،" وكما جاء كذلك في سفر التثنية الاصحاح الثامن والعشرين ما نصه: 49يَجْلِبُ الرَّبُّ عَلَيْكَ أُمَّةً مِنْ بَعِيدٍ، مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ كَمَا يَطِيرُ النَّسْرُ، أُمَّةً لاَ تَفْهَمُ لِسَانَهَا، 50أُمَّةً جَافِيَةَ الْوَجْهِ لاَ تَهَابُ الشَّيْخَ وَلاَ تَحِنُّ إِلَى الْوَلَدِ، 51فَتَأْكُلُ ثَمَرَةَ بَهَائِمِكَ وَثَمَرَةَ أَرْضِكَ حَتَّى تَهْلِكَ، وَلاَ تُبْقِي لَكَ قَمْحًا وَلاَ خَمْرًا وَلاَ زَيْتًا، وَلاَ نِتَاجَ بَقَرِكَ وَلاَ إِنَاثَ غَنَمِكَ، حَتَّى تُفْنِيَكَ. 52وَتُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ حَتَّى تَهْبِطَ أَسْوَارُكَ الشَّامِخَةُ الْحَصِينَةُ الَّتِي أَنْتَ تَثِقُ بِهَا فِي كُلِّ أَرْضِكَ. تُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ، فِي كُلِّ أَرْضِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.


وقطعناهم في الأرض أمما

وبطرد الله عز وجل اليهود من فلسطين بعد إفسادهم الأول سبى الأشوريون والبابليون بعض اليهود إلى بابل ليتشتتوا بعد ذلك في ما وراءها من شعوب أسيا وسبي اليونانيون البطالسة بعضهم إلى مصر ليتشتتوا في ما وراءها من شعوب أفريقيا وسبى اليونانيون السلوقيون بعضهم إلى سوريا ليتشتتوا في ما وراءها من شعوب تركيا وأوروبا الشرقية وسبى الرومان ما تبقى منهم إلى روما ليتشتتوا في شعوب أوروبا وهرب بعض اليهود إلى الجزيرة العربية فسكنوا في المدينة المنورة وخيبر وبقي بعض منهم في فلسطين. ولا مجال في هذه المقالة لسرد ما تعرض له اليهود من قتل وتشريد ونفي على يد مختلف الشعوب على مدى ما يقرب من ألفي سنة بعد طردهم من فلسطين والتي لخصها القرآن الكريم في قوله تعالى "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)" الأعراف. أما في التوراة فقد ورد ذكر هذا الشتات في أكثر من سفر من أسفارها كما في سفر اللاويين "33وَأُذَرِّيكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ، وَأُجَرِّدُ وَرَاءَكُمُ السَّيْفَ فَتَصِيرُ أَرْضُكُمْ مُوحَشَةً، وَمُدُنُكُمْ تَصِيرُ خَرِبَةً." وفي سفر التثنية " فَتُسْتَأْصَلُونَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا. 64وَيُبَدِّدُكَ الرَّبُّ فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَائِهَا،". 



وعندما احتل الرومان فلسطين في عام 64 قبل الميلاد قاموا بمعاملة اليهود معاملة حسنة وفي تلك الفترة ولد يحيى بن زكريا عليهما السلام والمسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى أمه السلام وقام اليهود كعادتهم بتحريض الرومان على قتل يحيى عليه السلام ومن ثم عيسى عليه السلام فقتلوا يحيى ونجى الله عيسى عليه السلام ورفعه الله إليه لم يقتل ولم يصلب. وبسبب ثورتهم على الرومان في عام 66م  قام الرومان في عام 70 بعد الميلاد  بقتل عدد كبير من اليهود وبهدم هيكل سليمان الثاني وسبي ما تبقى من اليهود إلى روما. وعندما دخل المسلمون بيت المقدس عام 638 م بعد طرد الرومان منها عقدوا صلحا مع سكانها المسيحيين الذين اشترطوا على الخليفة عمر بن الخطاب أن لا يسكن بيت المقدس يهودي فأجابهم إلى ذلك.  ومع دخول المسلمين بيت المقدس بقي تحت حكمهم حتى عام 1967م باستثناء فترة احتلال الصليبيين لها وبهذا لم يخلف الله سبحانه وتعالى وعده لإبراهيم عليه السلام فقد أسكن بني إسماعيل عليه السلام في الأرض المقدسة بعد أن نكث بني إسرائيل عهدهم مع الله. 

فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا

لقد بدأ العلو الثاني والأخير لليهود على الأرض المقدسة في عام 1948م عندما قاموا باحتلال أجزاء كبيرة من فلسطين وجزءا من بيت المقدس ومن ثم احتلوا بقية أجزاء فلسطين وكامل بيت المقدس في عام 1967م. وبما أن الله قد كتب الذلة على اليهود فإنه ما كان باستطاعتهم أن يقيموا دولتهم في فلسطين بأنفسهم ولذلك قدر الله أن تدعمهم بريطانيا وبقية الدول الغربية لإنشاء دولتهم ومن ثم قامت أمريكا بحمايتهم من خلال إمدادها بالمال والسلاح وذلك تصديقا لقوله تعالى "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ" آل عمران وقوله تعالى "ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)" الإسراء. وقد ذكر القرآن الكريم عودة اليهود من شتاتهم إلى فلسطين في قوله تعالى "وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)" الإسراء.  وتعبر كلمة لفيف في هذه الآية تمام التعبير عن طريقة جمع اليهود من شتى بقاع العالم ويسكنهم في فلسطين رغم اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم فلفيف القوم هو من جاء من خارجهم وسكن معهم لقول الأعشى "وقد علمت بكر ومن لف لفها". أما التوراة فقد ذكرت عودة اليهود إلى فلسطين بعد شتاتهم في أكثر من موضع كما جاء في سفر التثنية الإصحاح الثلاثين ما نصه: 1« وَيَعُودُ فَيَجْمَعُكَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ بَدَّدَكَ إِلَيْهِمِ الرَّبُّ إِلهُكَ. 4إِنْ يَكُنْ قَدْ بَدَّدَكَ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ، فَمِنْ هُنَاكَ يَجْمَعُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَأْخُذُكَ، 5وَيَأْتِي بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي امْتَلَكَهَا آبَاؤُكَ فَتَمْتَلِكُهَا، وَيُحْسِنُ إِلَيْكَ وَيُكَثِّرُكَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِكَ.


وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة

أما النبوءة التي ذكرها القرآن الكريم ولم تذكرها التوراة فهو مصير اليهود في العلو الثاني فقد أكد القرآن الكريم على أن الأمم المحيطة باليهود وهم العرب والمسلمون سيهزمون اليهود شر هزيمة ويحطمون هذا العلو تحطيما كاملا مصداقا لقوله تعالى "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)" الإسراء. ودخول المسجد هو كناية عن استرجاع فلسطين من اليهود فالمسجد المعني هو المسجد الأقصى وهو الذي جاء ذكره في بداية سورة الإسراء في قوله تعالى "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)" الأسراء. وجاء في نهاية سورة الإسراء على أن بعضا من علماء اليهود عندما يرون ما سيحل باليهود في فلسطين سيوقنون بأن هذا القرآن لا بد أنه منزل من عند الله عز وجل وذلك في قوله تعالى  "قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)" الإسراء. ويتضح  من هذه الآية أن العلو الثاني لم يحدث قبل نزول القرآن وذلك لقوله تعالى عنه  "إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا" فاللام في كلمة لمفعولا تفيد حدوثها في المستقبل بينما كان التعقيب على العلو الأول " وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا".


2020-03-09

أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع


أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية



لقد سبق القرآن الكريم علماء البشر بما يزيد عن ألف عام في التأكيد على أن الذكر والأنثى في الكائنات الحية لم يتم خلقهما من التراب بشكل مستقل بل تم خلقهما من أصل مشترك أو نفس واحدة لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى أو ما يسمى بالكائن ثنائي الجنس أو المخنث (bisexual or Hermaphrodit). وتفرد  كذلك بالإشارة إلى أن هذا الأصل المشترك  كان يحمل في جسمه الأعضاء التناسلية الذكرية (المستودع) وكذلك الأعضاء التناسلية الأنثوية (المستقر) وذلك في قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)" الأنعام. وأشار القرآن كذلك إلى أن الله عز وجل خلق الزوجين الذكر والأنثى وهي كائنات أحادية الجنس (unisexual) كوسيلة للتكاثر الجنسي ليحل محل التكاثر اللاجنسي والتكاثر العذري والتكاثر الخنثوي في معظم الكائنات وذلك في قوله تعالى "فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)" الشورى فمعنى يذرؤكم في الآية هو يكثركم.  إن الذي أبدع هذه الطريقة العجيبة في التكاثر سبحانه وتعالى يعلم تمام العلم ما فيها من معجزات كبرى ويعلم أنها ستصدع رؤوس علماء البشر وهم يحاولون فك ألغازها كما اعترف بذلك أحدهم فقال (لقد حكحك علماء الأحياء رؤوسهم حول كيف ولماذا تم تطوير الجنسين الذكر والأنثى بشكل منفصل ) (biologists have scratched their heads over how and why the separate male and female sexes evolved). ونظرا لما في هذه الظاهرة العجيبة من معجزات أقسم الله عز وجل بها في آيات عديدة كما في قوله تعالى "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)" النجم وقوله تعالى "وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)" الليل وفي قوله تعالى "فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)" القيامة. 


ويعتبر التحول من التكاثر اللاجنسي (asexual) والخنثوي (hermaphroditism) والعذري (Parthenogenesis) إلى التكاثر الجنسي (sexual) في الكائنات الحية من أعقد ألغاز تطور الحياة على الأرض حيث لا يوجد مبررات مقنعة لترك طرق سهلة وسريعة ومضمونة للتكاثر إلى طريقة بالغة التعقيد وبطيئة وغير مضمونة. ولا زال علماء التطور حتى الان في حيرة من أمرهم من هذه الظاهرة التي تستلزم لإنتاج كائن حي جديد وجود ثلاث مستويات من التزاوج تبدأ بالتزاوج بين الذكر والأنثى ومن ثم ما بين الحيوان المنوي والبويضة وأخيرا فيما بين الكروموسومين الذكري والأنثوي كما سنشرح ذلك لاحقا. ولقد قال عالم الأحياء غراهام بل في كتابه الشهير (تحفة الطبيعة: تطور الجين والجنس) (The Masterpiece of Nature: The Evolution of Genetics and Sexuality) (إن ظاهرة الجنس هي ملكة المشاكل في الأحياء التطورية وربما لا يوجد أي ظاهرة طبيعية أخرى أثارت هذا الاهتمام الكبير وبالطبع لا غيرها سببت مثل هذا القدر الكبير من الإرباك) (Sex is the queen of problems in evolutionary biology.  Perhaps no other natural phenomenon has aroused so much interest; certainly none has sowed as much confusion).  


ولقد اعترفوا كذلك بأن هذا التحول كان أكبر مخاطرة في تاريخ تطور الحياة فالحفاظ على عمل هذه الطريقة لفترات زمنية طويلة يتطلب كلفة عالية مقابل معدل تكاثر منخفض  بالمقارنة مع طرق التكاثر الأخرى إلى جانب التعقيد البالغ في طريقة عملها والمشاكل الكثيرة التي ستواجه الذكر والأنثى عند إنتاج كائن جديد. بل إن علماء تطور الحياة أنفسهم قد اعترفوا بأن آليات الاختيار الطبيعي في نظرية التطور لا يمكنها بأي شكل من الأشكال تفسير هذا التحول فقالوا (إن الحفاظ على التكاثر الجنسي من خلال الاختيار الطبيعي في عالم شديد المنافسة كان أحد أكبر ألغاز علم الأحياء حيث أن كل من الطريقتين الأخريين المعروفتين وهما التكاثر اللاجنسي والخنثوي تمتلكان ميزات ظاهرة عليها) (The maintenance of sexual reproduction by natural selection in a highly competitive world has long been one of the major mysteries of biology, since both other known mechanisms of reproduction – asexual reproduction and hermaphroditism – possess apparent advantages over it). وسيتبين للقاريء في الشرح التالي أن نسبة نجاح هذه الطريقة في إنتاج كائن جديد نسبة بالغة الضآلة بل قد تكون مستحيلة لو لم يكن الذي أبدعها وصممها هو من لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وتعالى القائل "الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)" الفرقان. 


وفي المقابل يعترف علماء الأحياء بأن طريقة التكاثر الجنسي تعمل بكفاءة عالية في 99% من الكائنات متعددة الخلايا منذ ما يزيد عن بليون سنة وأنها أحدثت تنوع لا حدود في أشكال ملايين الأنواع من الكائنات بل وفي أشكال مئات الأصناف في نفس النوع. ومن الميزات المهمة للتكاثر الجنسي هو قدرة الخلايا على تصحيح الأخطاء التي قد تحصل في الكروموسومات عند انقسام الخلايا وعند تعرضها للمؤثرات الخارجية بسبب وجود نسختين من الكروموسومات فيها أحدهما من الذكر والأخرى من الأنثى. ولا شك أن إحداث التنوع في أشكال الكائنات الحية هو أحد أهداف التكاثر الجنسي ولكن في ظني أن الهدف الأهم هو أنه هدية ونعمة من الله عز وجل للبشر فالتزاوج بين ذكورهم وإناثهم هو من أكبر متع الحياة الدنيا والذي سيكون أيضا من أعظم المتع في الجنة التي وعدها الله عز وجل عباده المؤمنين في الحياة الأخره مصداقا لقوله تعالى  "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)" الروم.  ومما يبعث على العجب أن بعض علماء الأحياء رغم اعترافهم بالصعوبة البالغة لإمكانية نجاح عمل هذه الطريقة بالاعتماد على المقاييس البشرية واعترافهم في نفس الوقت بنجاحها الباهر إلا أنهم لا يريدون الاعتراف بأن الذي أبدع هذه الطريقة وصممها لا بد وأن يكون خالق لا حدود لعلمه وقدرته القائل سبحانه وتعالى "هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)" لقمان. 


لقد كان القرآن الكريم في غاية الدقة عندما تكلم عن الأصل المشترك الذي خلق منه البشر فلم يذكر أبدا أن أمنا حواء قد خلقت من أبينا آدم عليهما السلام كما جاء في التوراة بل أشار إلى أنهم قد خلقوا من نفس واحدة أي أصل مشترك واحد كما في قوله تعالى "خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا" الزمر 6. ومن الواضح أن خلق أمنا حواء من أبينا آدم عليهما السلام بشكل مباشر يتعارض مع قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)" الأنعام. فالنفس الواحدة المذكورة في هذه الآية تؤكد على أنها كانت تحمل في جسمها الأعضاء التناسلية الذكرية (المستودع) وكذلك الأعضاء التناسلية الأنثوية (المستقر) ومن المؤكد أن أبينا آدم عليه السلام لم يكن كذلك. ولقد قال علماء التفسير أن المستودع هو ما في أصلاب الذكور والمستقر هو ما في أرحام الإناث من خلايا التكاثر الجنسي وذلك عند تفسير قوله تعالى " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)" هود. ولكن المفسرين اختلفوا على معنى المستقر والمستودع في الآية الواردة في سورة الأنعام فلم يكن ليخطر على بالهم أبدا وجود كائنات مخنثة تحمل في أجسامها أعضاء تناسلية ذكرية وأنثوية في نفس الوقت. ولو افترضنا جدلا أن أمنا حواء قد خلقت من ضلع أبينا أدم بمعجزة ربانية فكيف لنا أن نفسر الحال مع ملايين الأنواع من الكائنات الحية التي لا بد وأن ذكورها وإناثها قد خلقت من أصل واحد كما هو الحال مع البشر. 
  

لقد اختار الله سبحانه وتعالى طريقة التكاثر اللاجنسي كوسيلة لتكاثر الكائنات البدائية التي خلقها سبحانه مباشرة من التراب ومن ثم في الكائنات الحية متعددة الخلايا التي تطورت منها. وفي التكاثر اللاجنسي يقوم الكائن الحي بمفردة بإنتاج كائن حي جديد على شكل نسخة طبق الأصل عنه دون الحاجة لتدخل كائن آخر. وتتميز هذه الطريقة بسهولتها وارتفاع معدل التكاثر فيها إلا أن عيبها الرئيسي هو أن الكائنات الناتجة هي نسخ طبق الأصل عن الكائن الأصل فهي بذلك لا تؤدي إلى التنوع المنشود في أشكال الكائنات الحية. إن هذه الطريقة اللاجنسية في التكاثر تستخدم في جميع الكائنات الحية الدقيقة وفي كثير من  أنواع النباتات وفي بعض أنواع الحيوانات وذلك باستخدم آليات مختلفة. ومن أهم هذه الأليات الانقسام (fission) والتبرعم (Budding) والتجزوء أو التشطر (fragmentation or splitting) والتبوغ (sporulation) والتجديد (regeneration) والإكثار الخضري (Vegetative Propagation) والتوالد العذري (Parthenogenesis)). وتستخدم آلية الانقسام للتكاثر في جميع الكائنات وحيدة الخلية وتستخدم أيضا في تصنيع جميع الكائنات الحية متعددة الخلايا ابتداءا من خلية تكاثر واحدة وكذلك تعويض الخلايا الميتة. ويوجد نوعان من الانقسام الخلوي وهما الانقسام  المتساوي أو الميتوزي (Mitosis) والذي يستخدم في التكاثر اللاجنسي  وفي تكاثر خلايا جسم الكائن (Somatic cells) والتي غالبا ما تحتوي على أزواج مرتبطة من  الكروموسومات ولذا تسمى الخلايا الضعفية (Diploid cells). وأما النوع الثاني فهو الانقسام الاختزالي أو الميوزي (Meiosis) والذي يحدث في خلايا التكاثر الجنسي وهي الحيوانات المنوية والبويضات والتي تحتوي على نصف عدد الكروموسومات أو ما يسمى بالخلايا النصفية  (Haploid cells). ففي الانقسام غير المباشر يتم  انقسام الخلية القديمة أو الأم (mother cell) إلى خليتين جديدتين شبيهتين  تماما بها يحتوي كل منهما على نفس العدد من الكروموسومات وكذلك بقية المكونات.


أما آلية التبرعم فتتم من خلال قيام خلية عادية في جسم الكائن متعدد الخلايا بالانقسام انقساما اعتياديا متكررا منتجة برعما بارزا خارج جسم الكائن وملتصقا به ومن ثم ينفصل البرعم عن الجسم مع تواصل خلاياه بالانقسام لتنتج كائن جديد بنفس مواصفات الكائن الأصل. وتستخدم هذه الطريقة في بعض أنواع المملكة الحيوانية كالخمائر والمرجان والاسفنج والهايدرا وأسماك الجلي.  وأما آلية التجزؤ أو التشطر (fragmentation or splitting) فتتم من خلال انفصال أي جزء أو أكثر من جسم الكائن ليبدأ كل جزء بالنمو لينتج كائن جديد بنفس مواصفات الكائن المنفصلة عنه وهي مستخدمة في بعض الحيوانات كنجوم البحر والديدان والاسفنج وفي بعض النباتات كأحد طرق التكاثر الخضري. وفي آلية التبوغ (sporulation) يقوم الكائن بإنتاج ما يشبه البذور لكنها وحيدة الخلية ولا تحتاج إلى تلقيح ويوضع عدد كبير منها في أكياس خارجة من جسم الكائن. وعندما ينفتح الكيس تتطاير الأبواغ (spores) ليتحول كل منها إلى كائن جديد بنفس مواصفات الكائن الأصل وهي مستخدمة في بعض أنواع الفطريات والطحالب والنباتات. أما آلية التجديد (regeneration) فتستخدمها بعض الكائنات لإعادة بناء بعض أعضائها إذا ما قطعت كما يحدث في السحالي والديدان وغيرها.  وأما الإكثار الخضري (Vegetative Propagation) فيتم بقطع بعض أجزاء النبات كجذورها وغصونها وأوراقها وزراعتها لتنتج نباتات بنفس مواصفات النبتة الأصلية وذلك إما بشكل طبيعي (natural) أو بشكل صناعي (artificial) كالتعقيل (cutting) والترقيد (layering) والتطعيم (grafting).



ويعتبر التوالد العذري (Parthenogenesis)) أغرب أنواع التكاثر اللاجنسي حيث تتحول البويضات التي تنتجها الإناث  إلى أجنة دون الحاجة إلى تلقيحها من الذكور وهذا الآلية مستخدمة في عدد لا بأس به من الحيوانات وخاصة الديدان والحشرات والزواحف والأسماك وغيرها. وغالبا ما يوجد التوالد العذري في كائنات يمكنها التكاثر جنسيا أو لاجنسيا حيث يمكنها اختيار نوع التكاثر وذلك حسب الحاجة وحسب جنس الكائن المراد توليده ذكرا أو أنثا. فالبويضات يتم إنتاجها في مبايض هذه الكائنات إما من خلال الانقسام  المتساوي أو الميتوزي (Mitosis) أو من خلال الانقسام الاختزالي أو الميوزي (Meiosis). وتتحول البويضات الناتجة عن الانقسام المتساوي إلى كائنات أنثوية تتكون أجسامها من خلايا ضعفية (Diploid cells) كما في جسم الأم وهي نسخة طبق الأصل (full clones) عنها . أما البويضات الناتجة عن الانقسام الاختزالي فتتحول في الغالب إلى كائنات ذكرية تتكون أجسامها من خلايا نصفية  (Haploid cells) وتختلف مواصفات أجسامها عن تلك التي للأم وتسمى نسخ نصفية (half clones). ويستخدم هذا النوع من التكاثر بكثرة في النحل والنمل فملكة النحل تقوم بإنتاج الذكور من خلال التوالد العذري من بيوض غير ملقحة من قبل الذكور. وعندما تقوم هذه الذكور بالتزاوج مع الملكة فإنها تنتج بيوض ملقحة يتولد منها إناث النحل والتي تبقى عقيمة تعمل كشغالات  إلا إذا غذيت بغذاء خاص فإنها تصبح ملكة قادرة على الإنجاب. إن هذا التوالد العذري يشرح لنا الكيفية التي خلق الله عز وجل الذكر والأنثى من أصل واحد وهو الأنثى في جميع الكائنات التي تتوالد بالتكاثر الجنسي كما جاء في قوله تعالى "خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا" الزمر 6. 
   



لقد ظهر أول أشكال التكاثر الجنسي في كائنات حية لا هي بالذكر ولا هي بالأنثى أو ما يسمى بالكائنات ثنائية الجنس أو المخنثة (bisexual or Hermaphrodites) حيث يحمل كل فرد منها في جسمه الأعضاء التناسلية الذكرية والأنثوية. ويتم التكاثر في هذا النوع من الكائنات المخنثة إما من خلال  التلقيح الذاتي (self-fertilization) حيث تنتقل الحيوانات المنوية من العضو التناسلي الذكري إلى العضو التناسلي الأنثوي في نفس الكائن وإما من خلال التلقيح التبادلي (cross-fertilization) بين كائنين يقوم أحدهما بدور الذكر والآخر بدور الأنثي وبالعكس كما يحدث حتى الآن في كثير من أنواع الديدان والحشرات والكائنات البحرية. ويوجد أشكال مختلفة من الخنوثة منها الكائنات المخنثة المتزامنة  (Simultaneous hermaphrodites) والتي يقوم الفرد فيها بدور الذكر والأنثى في نفس الوقت طول فترة حياته.  أما الكائنات المخنثة المتعاقبة  (Sequential hermaphrodites) فيولد  الكائن إما ذكرا ويقوم بدور الذكر لفترة من الزمن ثم يتحول إلى أنثى (Protandry) كما في الأسماك المهرجة  أو يولد كأنثى ثم يتحول ذكر (Protogyny) كما في أنواع أخرى من الأسماك. ومن أشكالها كذلك الكائنات متغيرة الجنس (Bidirectional Sex Changers) حيث يقوم الكائن المخنث بتغيير جنسه من ذكر لأنثى أو العكس وذلك حسب الحاجة كما في بعض أنواع الأسماك. إن الكائنات المخنثة موجودة في معظم أنواع النباتات حيث يوجد في أزهارها الأعضاء التناسلية الذكرية والأنثوية ويتم التلقيح إما ذاتيا في داخل نفس الزهرة أو متبادلا بين زهرتين. أما في الحيوانات فيوجد ما يزيد عن خمسين ألف نوع من الحيوانات المخنثة من أصل ما يزيد عن مليون نوع من الحيوانات المعروفة. وقد تظهر الكائنات المخنثة في الكائنات وحيدة الجنس (unisexual) بما فيها الإنسان نتيجة لخلل جيني أو هرموني ويحمل الكائن المخنث (intersex) في جسمه أعضاء تناسلية ذكرية وأنثوية مع تغير في شكله الخارجي. 

 

إن آخر ما أبدع الله عز وجل من طرق التكاثر هو التكاثر الجنسي والذي يعتمد على ما يسمى بالكائنات أحادية الجنس (unisexual organisms) التي خلقها الله عز وجل من الكائنات ثنائية الجنس (bisexual organisms) أو المخنثة (Hermaphrodites). وفي الكائنات أحادية الجنس يتم التكاثر بالتعاون بين كائنين اثنين أحدهما الذكر والذي يمتلك أعضاء تناسلية ذكرية فقط وينتج مشائج ذكرية (male gametes) والآخر هو الأنثى والتي تمتلك أعضاء تناسلية أنثوية وتنتج مشائج أنثوية (female gametes). إن هذا التنوع الهائل في أشكال عشرات الملايين من أنواع الكائنات الحية ما كان ليتحقق لولا إبداع الخالق سبحانه وتعالى لهذه الطريقة من التكاثر الجنسي. وتتطلب هذه الطريقة لتصنيع كائن جديد تعاون كائنين اثنين بحيث ينتج كل منهما خلية تحمل برنامج تصنيع كامل بمواصفات الكائن الذي أنتجها ولكن لا يمكن لأي منهما تنفيذ برنامج التصنيع الذي في داخله بمفرده. ولكن بمجرد دمج برنامجي التصنيع الموجودين في الخليتين في نواة إحداهما فإن الخلية الملقحة أو النطفة تبدأ بتنفيذ برنامج تصنيع الكائن إذا ما توفرت لها الظروف المناسبة. ولكي تحقق طريقة التكاثر هذه الهدف الذي صممت من أجله وهو زيادة التنوع في أشكال الكائنات الحية فعلى برنامج التصنيع الموحد أن يأخذ تعليمات تصنيع الأجزاء المختلفة للكائن من البرنامجين بحيث تكون بعض مواصفات الكائن الجديد مأخوذة من الكائن الذكر والبعض الآخر مأخوذ من الكائن الأنثى. وهذا التنوع أيضا لن يتحقق إلا بوجود اختلاف في برنامجي التصنيع المأخوذين من الذكر والأنثى مما يعني أن مواصفات جسم أول ذكر وجسم أول أنثى انحدر منهما كل نوع من أنواع الكائنات الحية لا بد وأن تكون مختلفة وإلا لما استدعى الأمر اختراع مثل هذه الطريقة البالغة التعقيد.



إن أول مشكلة تطلب حلها لإنجاح طريقة التكاثر الجنسي هو تصميم آلية لتصنيع كائن جديد  من كائنين اثنين بحيث يأخذ مواصفات جسمه من كل من مواصفات جسمي الكائنين المنتجين له وهما الذكر والأنثى. ففي التكاثر اللاجنسي والخنثوي يمكن لأي خلية من خلايا جسم الكائن أن تقوم بإنتاج كائن جديد بمجرد إعطاء إشارة بدء عملية التصنيع حيث أن كل خلية في الجسم تحتوي على كامل برنامج التصنيع الموزع على عدد من الكروموسومات الأحادية. أما في التكاثر الجنسي فإنه يلزم دمج خليتي تكاثر أحدهما من الذكر والأخرى من الأنثى لإنتاج الخلية أو النطفة التي يبدأ منها تصنيع الكائن الجديد والتي يجب أن تحتوي على جميع كرومسومات كل من الذكر والأنثى. إن هذه المشكلة قد تم حلها من قبل من لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وذلك باستخدام فكرة عجيبة لا يمكن أن تصدر إلا عن عليم خبير ولا يمكن للصدفة أن تهتدي إليها بطريقة التجربة والخطأ مهما أعطيت من زمن. وتتلخص هذه الفكرة العبقرية بأن يقوم كل من الكائن الذكر والكائن الأنثى بإنتاج خليتين تكاثريتين يحتوي كل منها على نصف عدد الكروموسومات الموجودة في خلايا الجسم العادية وعند اتحادهما لإنتاج النطفة فإن عدد الكروموسومات فيها سيكون بعدد الكروموسومات الموجودة في الخلايا العادية أيّ أن عدد الكروموسومات سيبقى ثابتا مهما تكررت عملية التكاثر. وقد يتبادر لذهن البعض أن خلايا التكاثر هذه تحتوي على نصف برنامج تصنيع الكائن الذي أنتجها وهذا ليس بصحيح حيث أن خلايا الجسم العادية تحتوي على أزواج من الكروموسومات كل زوج يتكون من كروموسوم ذكري وآخر أنثوي لهما نفس الطول ونفس الجينات مع اختلاف بسيط في محتوى بعض الجينات كما سنشرح ذلك بعد قليل. إن الخلية الملقحة أو النطفة وكذلك الخلايا العادية للكائن الحي تحتوي على برنامجين للتصنيع أحدهما مأخوذ من الخلية الذكرية والآخر من الخلية الأنثوية ولكن عندما تبدأ عملية تصنيع الكائن ابتداء من الخلية الملقحة فإن تعليمات التصنيع تؤخذ من كلا البرنامجين بطريقة مدروسة بحيث تكون مواصفات الكائن الناتج خليط من مواصفات الذكر والأنثى. 


يتم إنتاج خلايا التكاثر في التكاثر الجنسي باستخدام الانقسام الاختزالي أو الميوزي (Meiosis) والذي يختلف عن الانقسام  المتساوي أو الميتوزي (Mitosis) المستخدم في التكاثر اللاجنسي والخنثوي. ففي الانقسام الميتوزي تنقسم خلية التكاثر إلى خليتين متطابفتين تماما ويحتويان على نفس الكروموسومات ولذا فإن الكائنات الناتجة هي نسخ طبق الأصل عن بعضها البعض وعن الأصل الذي أنتجها. يعتبر إنقسام الخلية إلى خليتين معجزة من معجزات الخالق لا تقل في إعجازها عن إعجاز خلق أول خلية حية من التراب ولكن انقسام الخلية اختزاليا لأغراض إنتاج الخلايا التكاثرية فيها من المعجزات التي تثبت للبشر استحالة حدوثها بالصدفة. يختلف الإنقسام الاختزالي عن الانقسام المتساوي في عدة وجوه أولها أن الخلية العادية في الانقسام الاخنزالي الذي يحدث في الخصي والمبايض تنقسم إلى أربعة خلايا تكاثرية وليس إلى خليتين كما في الانقسام المتساوي ويتم ذلك على مرحلتين من الانقسام. أما الوجه الآخر والمعجز فهو أن كل كروموسوم من الكروموسومات الآحادية المودعة في خلايا التكاثر الأربع يتم اختيار جيناته كخليط من جينات الذكر والأنثى وبحيث لا تتشابه كروموسومات الخلايا الأربع أي أن الكائن الذي سيخلق من هذه الخلايا سيكون فريدا في مواصفاته. إن ظاهرة التبادل الكرموسومي (Chromosomal crossover) التي تتجلى أكثر ما تتجلى في البشر تعتبر من أكبر معجزات الخالق سبحانه وتعالى فمن المستحيل أن يتشابه فردان من أفراد البشر في أشكال أجسامهم وبصمات أصابعهم وقزحياتهم وصدق الله العظيم القائل "هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)" آل عمران. 




أما المشكلة الثانية في التكاثر الجنسي فهي حاجتها إلى ثلاث مستويات من التزاوج أولها وأبسطها نسبيا التزاوج بين الذكر والأنثى وثانيها التزاوج بين المشيجة الذكرية (الحيوان المنوي) والمشيجة الأنثوية (البويضة) وثالثهما التزاوج بين الكروموسومات الذكرية والأنثوية. إن أول أنواع التزاوج يتطلب تصميم أجهزة تناسلية في كل من الذكر والأنثى قادرة على إنتاج خلايا التكاثر وبحيث يتوافق تركيب كل منهما مع الآخر ليقوما بالوظيفة التي صمما من أجلها على أكمل وجه. وللقارئ أن يحكم بنفسه إن كان باستطاعة الصدفة أن تكتب برامج لتصنيع ملايين الأشكال من أجهزة التناسل الذكرية والأنثوية في ملايين الأنواع من الكائنات بحيث تكون أجهزة التناسل الذكرية متوافقة تمام التوافق مع أجهزة التناسل الأنثوية في كل منها. إن وجود أجهزة تناسل متوافقة في كل من الذكر والأنثى قادرة على إنتاج خلايا التكاثر لن تجدي نفعا في غياب آلية تجبر الذكر والأنثى للتزاوج لجمع خليتي التكاثر في حيز واحد. إن البشر لا زالوا يقفون عاجزين حتى اليوم عن زرع الشهوة في بعض أفراد بني جنسهم إذا ما فقدوها على الرغم من أنهم تمكنوا من معرفة الهرمونات المسؤولة عن إثارة الشهوة الجنسية لديهم. إن الدارس لطرق تكاثر الكائنات الحية يجد أن الذي قام باختراع طريقة التكاثر هذه سبحانه وتعالى قد كتب برامج معقدة أودعها جينات هذه الحيوانات بحيث تضمن تزاوجها في أوقات محددة لضمان تكاثرها بالأعداد المطلوبة مما يحول دون انقراضها من قبل بعضها البعض. 




أما المستوى الثاني من مستويات التزاوج فهو الذي يتم بين خليتي التكاثر الذكرية والأنثوية إذا ما تم جمعهما في حيز واحد وذلك بعد أن تتم عملية التزاوج بين الذكر والأنثى. وتتطلب عملية التزاوج هذه وجود آلية تدفع خلية التكاثر الذكرية للبحث عن خلية التكاثر الأنثوية ومن ثم تدفعها لاختراق جدارها وذلك لكي تقوم بتفريغ النصف الأول من برنامج التصنيع الذي تحمله في نواة الخلية الأنثوية حيث يوجد النصف الثاني من البرنامج. وبما أن هذا الخلايا التكاثرية لا تسمع ولا تبصر وليس لها أيدي وأرجل فقد زودها من صممها سبحانه وتعالى بآليات عجيبة تقوم مقام آلية الشهوة الموجودة في الذكر والأنثى تمكنها من الالتقاء ببعضها البعض. ففي النباتات يتم نقل حبوب اللقاح الذكرية من قبل الحشرات والرياح والمياه من الأزهار لتحطها في مبايض أزهار أخرى لتتم عملية التزاوج بينهما.  وفي الحيوانات تطلق الخلية الأنثوية مواد كيميائية في السائل المحيط بها في المبيض تعمل على اجتذاب الخلية الذكرية نحوها والتي تم تزويدها بذيل يدفعها للحركة نحو الخلية الأنثوية فتقوم بمجرد ملامستها بفرز مادة كيميائية تذيب غشاءها لتتمكن من الدخول فيها. ومن عجائب عملية التزاوج هذه أنه على الرغم من أن الخلية الأنثوية الوحيدة قد يصلها أعداد كبيرة من  الخلايا الذكرية إلا أنها لا تسمح إلا لواحد منها فقط بالدخول إلى نواتها وإلا لتم إفسادها إذا ما دخلها أكثر من واحد. 




إن كل هذه الآليات المستخدمة لجمع الذكر بالأنثى وإجبارهما على التزاوج ومن ثم جمع الخلية الذكرية بالخلية الأنثوية وإجبارهما على الاندماج ببعضهما لا تكاد تذكر من حيث صعوبتها مع عملية التزاوج الثالثة والأخيرة والتي تتم بين الكروموسومات الذكرية والأنثوية والتي ستنتج برنامج موحد لتصنيع الكائن الجديد. إن برامج تصنيع معظم أنواع الكائنات الحية من الضخامة بحيث يلزم كتابتها على عدد كبير من الكروموسومات والتي يحمل كل منها جزءا محددا من برنامج التصنيع الكلي. فالشريط الوراثي في الإنسان على سبيل المثال مكون من ستة وأربعين كروموسوما بأطوال مختلفة وكل زوجين منها مسؤولة عن تصنيع أجزاء محددة من جسم الإنسان تمكن العلماء في هذا العصر من كشف كثير من تفصيلاتها. ولكي يتم تجميع برنامج تصنيع الكائن الحي من الكروموسومات التي تحملها الخلية الذكرية وتلك التي تحملها الخلية الأنثوية بعد دمج الخليتين معا يجب على كل كروموسوم ذكري أن يبحث عن نظيره الأنثوي ويتحد معه ليكونا معا زوجاﹰ من الكروموسومات فيه نسختان متشابهتان إلى حد ما من تعليمات التصنيع. إن أكبر ما يحير العلماء هو الكيفية التي تتمكن بها الكروموسومات الذكرية من التعرف على نظائرها الأنثوية والاتحاد بها وهي أشرطة ليست كالكائن الذكري والأنثوي التي تتزاوج بدافع الشهوة وليست كذلك كالخلية الذكرية والأنثوية التي تتحد بواسطة المواد الكيميائية التي تفرزها.


ويتطلب نجاح طريقة التكاثر الجنسي أيضا أن تكون كروموسومات الذكر والأنثى متماثلة تمام التماثل من حيث الطول وعدد الجينات وهيكلهما العام وأن يكون لكل جين على الشريط الذكري جين مناظر على الشريط الأنثوي له نفس الطول ويقومان بنفس المهمة إلا أنه قد يوجد بعض الاختلاف في محتوى الشيفرات بحيث يكون ناتج التصنيع مختلفا بعض الشيء في مواصفاته. وفي حالة وجود اختلاف بين محتويات الجينيين المتناظرين فإن أحدهما يعطى الأولية على الآخر عند تنفيذ البرنامج وهذا ما أسماه علماء الأحياء بالجين السائد أو المسيطر بينما سمى الآخر بالجين المتنحي أو المنحسر. ومما يدل على صرامة هذه الشروط هو استحالة حدوث التكاثر بين فردين من نوعين مختلفين وإذا ما حدث مثل هذا بين نوعين شديدي القرابة فإن الكائنات الناتجة تكون في الغالب عقيمة كما نشاهد ذلك في البغال التي تنتج من تزاوج الخيل والحمير. إن منتهى الإبداع في طريقة الخلق هذه أن برنامجي التصنيع يتم خلطهما عند كل عملية تزاوج بين الذكر والأنثى وتتبادل الجينات السائدة والمتنحية أماكنهما في البرنامجين ولكن تبقى البرامج تعمل بكل كفاءة وتنتج كائنات لا يصيب أعضائها أي خلل وتحافظ على المظهر العام للكائن رغم التغيير الحاصل في بعض صفاته. فعلى الرغم من أن عدد أنواع الكائنات الحية يعد بالملايين ويوجد في كل نوع من هذه الأنواع أعداد متفاوتة من الأصناف إلا أنه لا يمكن أن يشتبه الأمر على الإنسان فلا يستطيع التفريق بين هذه الأنواع أو أنه ينسب الأصناف إلى غير أنواعها. 


إن الهدف من التكاثر الجنسي كما ذكرنا سابقا هو إحداث هذا التنوع المدهش في أشكال وألوان ملايين الأنواع من الكائنات الحية من خلال وجود نسختين مختلفتين من الكروموسومات التي تقوم بتصنيع الكائنات الحية في الخلية الوحيدة التي تبدأ منها عملية التصنيع. ولقد تمكن علماء الأحياء من تأكيد حقيقة وجود زوجين من برامج تصنيع جميع أنواع الكائنات الحية التي تتكاثر بالتزاوج حيث اكتشفوا أن برنامج تصنيع كل نوع منها يحتوي على نوعين فقط من الجينات لهما نفس الوظيفة العامة إلا أنه يوجد بعض الاختلاف في تركيبهما والذي يؤدي إلى اختلاف في أشكال بعض مواصفات الكائن المنتج. فقد لاحظ عالم النبات النمساوي جريجور مندل في منتصف القرن التاسع عشر بعد أن قام بسلسلة من عمليات التهجين لبعض أنواع النباتات أن أشكال وألوان معظم أجزاء النباتات تتحدد من صفتين تتناقلها هذه النباتات في جيناتها أحدهما صفة سائدة (dominant trait) والأخرى صفة متنحية (recessive trait). وقد لاحظ أنه إذا ما اجتمعت صفة سائدة وأخرى متنحية في برنامج التصنيع النهائي للكائن الجديد فإن الصفة السائدة هي التي ستظهر في بنية جسمه ولا تظهر الصفة المتنحية إلا عند اجتماع صفتين متنحيتين في برنامج تصنيعه.