من نطفة خلقه فقدره
الدكتور المهندس
منصور أبوشريعة العبادي
ـ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
إن عملية تحول
خلية واحدة فقط إلى كائنات حية بمختلف الأشكال والألوان والأحجام تحدث أمام أعين
البشر كل يوم تطلع فيه الشمس ولكن قل من يلقي لها بالا أو أن يتساءل عمن يقف وراء
عملية التحول هذه وصدق الله العظيم القائل
"وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ
عَنْهَا مُعْرِضُونَ" يوسف 105. فكم من بلايين البلايين
من البذور تنبت كل يوم لتخرج شتى أنواع الأعشاب والأزهار والزروع والأشجار يصعب حتى
على المختصين حصر عدد أنواعها؟ وكم من البيوض التي لا يعلم عددها إلا الله تفقس كل
يوم لتنتج حشرات وزواحف وأسماك وطيور لا يعلم إلا الله عدد أنواعها؟ وكم من ملايين
الحيوانات الثدية تلد إناثها كل يوم مواليد بمختلف الأشكال والأحجام؟ إن عملية
التحول هذه تتجلى في أوضح صورها في تحول بيوض الحشرات والزواحف والأسماك والطيور
إلى كائنات بالغة التعقيد في ساعات أو أيام معدودة. فالبذور تتحول إلى نباتات وهي
مغروسة في الأرض والنطف تتحول إلى حيوانات وهي مزروعة في أرحام أمهاتها ولذا فقد
يظن البعض أن الأرض أو الأرحام هي المسؤولة عن عملية التحول هذه. أما البيوض فلا
ترتبط بأي مصدر خارجي قد يظن أنه يلعب دورا في إجراء عملية التحول هذ ولهذا فلا
مجال للشك بأن هذه البيضة التي هي عبارة عن خلية واحدة قد تحولت من تلقاء نفسها إلى
كائن حي. إن الذي يشاهد بيضة الدجاجة وهي تتحول في ثلاثة أسابيع من مادة شبه
متجانسة لا حياة فيها إلى صوص يبدأ بالمشي بمجرد خروجه من البيضة لا بد وأن تصيبه
الدهشة ويعترف بأن هنالك معجزة في عملية التحول هذه. ولا بد لهذا الإنسان من أن
يتساءل عن الكيفية التي تمكنت بها هذه الخلية التي لا عقل لها من أن تعطي أوامر في
غاية الذكاء لبقية الخلايا التي انقسمت منها لكي تقوم بالمهمة المنوطة بها في
الزمان والمكان المناسبين! فأعضاء الطائر المختلفة تتطلب أنواعا مختلفة من الخلايا
التي تحتاج لأن تغير من خصائصها أثناء الانقسام لتنتج الخلايا التي يبنى منها هيكل
الطائر العظمي وعضلاته وجلده وقلبه وكبده ورئته ومعدته وريشه وغير ذلك من الأعضاء.
ومما يثير العجب أن كمية المادة الخام التي يحتاجها تصنيع الطائر قد تم حسابها بشكل
بالغ الدقة بحيث تتحول بكاملها إلى مكونات الطائر المختلفة فصوص الدجاج يحتاج
لتصنيعه لما يقرب من خمسين غرام من المواد العضوية الخام وصوص العصافير يحتاج
لتصنيعه أقل من عشرة غرامات من المادة بينما تحتاج الأسماك والحشرات لإنتاج صغارها
بيوض بأوزان أقل من ذلك بكثير.
إن الطريقة التي اختارها
الله سبحانه وتعالى لتصنيع الكائنات الحية فيها من التعقيد والإبداع والإتقان بحيث
لا يمكن لإنسان عاقل أن ينسبها للصدفة بل لا يمكن لها أن تنجز إلا من قبل صانع لا
حدود لعلمه وقدرته كما سنبين ذلك فيما بعد. فهذه الطريقة في تصنيع الأشياء ما كانت
لتخطر على بال البشر ابتداء ولا يمكنهم بأي حال من الأحوال أن يقلدوها لتصنيع ما
يحتاجون من أشياء حتى لو عرفوا كامل تفصيلاتها. فالبشر إذا ما أرادوا تصنيع شيء ما
فإنهم يقومون بالبحث عن المواد الخام المتوفرة في تراب الأرض فيستخرجونها
ويعالجونها ويشكلونها على شكل قطع وهياكل يستخدمونها في تصنيع مختلف أنواع الأدوات
والأجهزة والمعدات. ومن الواضح أن طريقة التصنيع البشرية هذه تتطلب وجود إنسان له
عقل يستخدمه ليتخيل ما سيكون عليه شكل الشيء المصنوع وأيدي وأعين يمكنه من خلالها
تصنيع ووضع القطع المختلفة في الأماكن المخصصة لها في جسم ذلك الشيء. أما الطريقة
الربانية في التصنيع فإنها تختلف تمام الاختلاف عن الطريقة البشرية حيث أن السر
الأعظم فيها هو في قدرة الأشياء المصنوعة على إنتاج نسخ طبق الأصل عن نفسها بنفسها
وذلك دون تدخل أيّ قوة خارجية. فقد اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يصنع نسخة واحدة
فقط من كل نوع من أنواع الكائنات الحية والتي تعد بعشرات الملايين وقد تم برمجة كل
نسخة بحيث يمكنها القيام بتصنيع نسخ عنها بطريقة تلقائية ودون توقف. وبما أن هذه
الكائنات الحية تحتاج للطاقة لكي تعمل فقد تم برمجتها بحيث يمكنها من تلقاء نفسها
توفير الطاقة اللازمة لتشغيل أجسامها من المحيط الذي تعيش فيه سواء كانت هذه
الكائنات نباتات لا يمكنها الحركة إطلاقا أو حيوانات تتحرك بكل حرية في البر والبحر
والجو. إن مجرد اختيار هذه الطريقة الذكية لتصنيع الأشياء يدحض بشكل قطعي أيّ دور
للصدفة في تصنيع الكائنات الحية فأقصى ما يمكن أن تفعله الصدفة هو أن تجمع مكونات
شيء ما في حيز واحد ثم تبدأ هذه المكونات بالتراكب مع بعضها بطريقة عشوائية وقد
تنجح بعد محاولات كثيرة في تصنيع بعض الأشياء البسيطة. أما أن تقوم الصدفة بالعمل
على اختراع طريقة يمكن من خلالها إنتاج نسخ جديدة عن النسخة التي أنتجتها أول مرة
وبالصدفة فهذا ما لا يقبله أي عقل سليم. فالصدفة لا وعي لها ولا عقل لها وليس لها
مصلحة في أن تخترع طريقة تضمن إنتاج نسخ جديدة عن الشيء الذي سبق أن صنعته. إن
الصدفة أعجز من أن تجمع مكونات أبسط الأشياء تركيبا كتصنيع كرسي في غابة مليئة
بالأشجار أو مسمار في منجم للحديد فكيف يمكن لها أن تجمع مكونات كائنات حية لها
أجسام بالغة التعقيد عجز العلماء عن فهم كثير من أسرارها. ولولا أن طريقة التصنيع
الذاتية هذه تحدث أمام أعين البشر كل يوم لما ترددوا في تكذيب فكرة أن يقوم شيء ما
بإنتاج نسخة عن نفسه من تلقاء نفسه ولقالوا أن ذلك ضرب من الخيال!
إن طريقة التصنيع
الربانية هذه تحتاج لوضع خطة محكمة لخطوات التصنيع لكي تعمل على الوجه الأكمل
ولفترات طويلة من الزمن كما نشاهد ذلك في الكائنات الحية التي ظهرت قبل بلايين
السنين ولا زالت تنتج نسخا طبق الأصل عن نفسها. وبما أن البشر في هذا العصر على
دراية بطرق تصنيع الأشياء على خطوط الانتاج تحت سيطرة الحواسيب فليس من الصعب عليهم
أن يحددوا ولو بشكل نظري الخطوات الرئيسية التي تلزم لتصنيع الكائنات الحية
باستخدام هذه الطريقة التلقائية. فعملية التصنيع هذه تحتاج أولا تحديد مواصفات
الشيء المراد تصنيعه ومن ثم يتم تخزين هذه المواصفات في ذاكرة ما كما يفعل البشر
عندما يقومون بتخزين مواصفات الأشياء التي يصنعونها إما في عقولهم أو على الورق أو
في ذاكرات الحواسيب. أما الخطوة التالية فهي كتابة برنامج كامل يحدد الخطوات التي
يجب أن يتم اتباعها لتصنيع الشيء المراد تصنيعه طبقا للمواصفات المخزنة في الذاكرة.
أما الخطوة الثالثة فهي تنفيذ برنامج التصنيع بطريقة ما بحيث يتم تصنيع هذا الشيء
باستخدام المواد الخام اللازمة إلى جانب توفير الطاقة اللازمة لعملية التصنيع. وهذا
ما تم اكتشافه تماما من قبل العلماء فقد كتب الله سبحانه وتعالى مواصفات أجسام جميع
أنواع الكائنات الحية بطريقة رقمية على أشرطة طويلة ودقيقة من الحامض النووي أودعها
سبحانه داخل الخلايا الحية. وبمجرد وضع هذه الخلايا في الوسط المناسب فإن شريط
الحامض النووي يقوم بتنفيذ برنامج التصنيع المخزن عليه ليصنع كائن حي كامل ابتداء
من هذه الخلية. ولم يكتف سبحانه وتعالى ببرمجة الخلية الحية بحيث يمكنها إنتاج كائن
حي بكامل تفاصيله لمرة واحدة فقط بل قام ببرمجة خلايا الكائن الحي الناتج بحيث
يمكنه إنتاج خلية حية تكاثرية تقوم بتصنيع كائن جديد يقوم بدوره بإنتاج خلية جديدة
وهكذا دواليك. وبما أن هنالك ملايين الأنواع من الكائنات الحية تعيش على سطح الأرض
وتعتمد على بعضها البعض في توفير أسباب عيشها وضمان بقائها فإنه من الضروري وجود
توازن بين أعداد هذه الكائنات بحيث لا يتعرض بعضها للانقراض وهذا يتطلب كتابة
البرامج المتعلقة بأعمار ومعدلات تكاثر وأنواع طعام ملايين الأنواع من الكائنات
بشكل بالغ الدقة. وتتم عملية تكاثر الكائنات الحية بشتى أنواعها بطريقة غريزية بحيث
يقتصر دور الكائنات الحية بما فيها الإنسان على التزاوج بدافع الشهوة وكذلك رعاية
بعض أنواع الكائنات حديثة الولادة لفترة قصيرة من الزمن. وباستثناء التزاوج
والرعاية فإن جميع الكائنات الحية لا تتدخل أبدا في عملية التصنيع هذه، فالإنسان
وهو الوحيد بين الكائنات الحية القادر على تصنيع الأشياء يقف مكتوف الأيدي إذا ما
فشل جسمه أو جسم زوجه في إنتاج خلايا التكاثر التي تنتج كائنا جديدا منهما.

لقد انصبت جهود علماء
الأحياء على كشف أربعة أسرار رئيسية في هذه الطريقة الربانية لتصنيع الأشياء فالسر
الأول يتعلق بالطريقة التي يتمكن بها الشريط الوراثي أحادي البعد لتصنيع البروتينات
وهي جزيئات ثلاثية الأبعاد تستخدم كلبنات لبناء مكونات الخلية وكأنزيمات للتحكم في
العمليات الحيوية ولقراءة المعلومات الوراثية. أما السر الثاني فيتعلق بالطريقة
التي يتم بها بناء مكونات الخلية البالغة الصغر والبالغة التعقيد من هذه البروتينات
في غياب أي قوة خارجية تقوم بوضعها في الأماكن المخصصة لها في جسم المكون. أما السر
الثالث فيتعلق بالطريقة التي تنقسم بها الخلية إلى خليتين متماثلتين وكذلك الشريط
الوراثي إلى شريطين. أما السر الرابع فيتعلق بالطريقة التي تصطف بها الخلايا
المنقسمة لتصنع كل جزء من أجزاء جسم الكائن الحي وذلك ابتداء من خلية واحدة. ولقد
تمكن علماء الأحياء من كشف بعض الآليات التي يستخدمها الشريط الوراثي لتنفيذ
البرامج المخزنة عليه ووجدوا أن فيها من التعقيد ومن الإتقان ما يجعل الإنسان
العاقل يسلم بأن الذي صممها لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وتعالى. إن كل آلية من هذه
الآليات يحتاج شرحها مقالة كاملة ولكن لكي لا تطول هذه المقالة سنكتفي بشرح الخطوط
الرئيسية لكل آلية من هذه الآليات.

أما الآلية الثانية فهي أن السلاسل البروتينية
أحادية البعد التي يصنعها الرايبسوم تلتف على نفسها بطريقة فريدة لتنتج جزيئات
ثلاثية الأبعاد بأشكال وأحجام وخصائص فيزيائية وكيميائية محددة وذلك لكي تقوم
بوظيفة محددة في جسم الكائن الحي. ولا زال علماء الأحياء في حيرة من أمرهم حول
الآلية التي يتبعها البروتين للالتفاف على نفسه حيث وجدوا أنه بمجرد أن ينتهي
الرايبسوم من تصنيع سلسلة البروتين فإنه يقوم بالالتفاف على نفسه لينتج الشكل
المطلوب في زمن لا يتجاوز جزء من ألف جزء من الثانية. وقد قام أحد العلماء بحساب
الزمن اللازم لالتفاف سلسلة بروتينية بطول مائة حامض أميني فيما لو تمت بطريقة
المحاولة والخطأ فوجده يساوي مائة بليون بليون بليون سنة! أما في داخل الخلية الحية
فيوجد سلالسل بروتينية يصل طولها إلى عدة آلاف من الأحماض الأمينية ولكنها تلتف على
نفسها في جزء لا يذكر من الثانية. ولا زال علماء الأحياء يجهلون سر طريقة الإلتفاف
هذه رغم آلاف الأبحاث العلمية التي أجريت لحل هذه المشكلة ورغم استخدامهم لأضخم
الحواسيب العملاقة لمحاكاة هذه العملية ولذلك أطلقوا عليها اسم "مشكلة طي
البروتين". إن شكل البروتين الناتج عن التفاف السلسلة البروتينية يتحدد بشكل رئيسي
من أعداد الأحماض الأمينية على هذه السلسلة وطريقة ترتيبها ولذلك فإن اختيار طول
السلسلة البروتينية وكذلك طريقة ترتيب الأحماض الأمينية عليها لإنتاج بروتين يقوم
بوظيفة معينة لا يمكن أن يتم إلا من قبل صانع لا حدود لعلمه وقدرته. فكيف يمكن
لصانع محدود العلم كالإنسان أن يحدد تسلسل الأحماض الأمينية التي تنتج بروتينات
شفافة للضوء وأخرى حساسة لترددات محددة في الطيف الضوئي لاستخدامها في عيون
الكائنات أو إلى غير ذلك من البروتينات التي يصل عدد أنواعها في الكائنات الحية إلى
مئات الآلاف! ولقد وجد العلماء أن كثيرا من الأمراض التي تصيب الكائنات الحية مردها
إلى فشل بعض البروتينات من الالتفاف على نفسها وذلك بسبب حصول خطأ واحد فقط في أحدى
الشيفرات الوراثية التي أنتجتها.


أما الآلية الخامسة فهي أن الخلايا الحية تقوم
بتوفير الطاقة اللازمة لعملية التصنيع إما بأخذها من الشمس مباشرة أو من مواد عضوية
تحتوي على الطاقة التي سبق لبعض أنواع الخلايا أن قامت بأخذها من الشمس. ففي كل
خلية من خلايا النباتات والطحالب توجد البلاستيدات الخضراء التي تعتبر أكبر مصنع
لإنتاج المواد العضوية على وجه هذه الأرض حيث يقوم هذا المصنع الذي لا تتجاوز
أبعاده عدة ميكرومترات بتزويد جميع الكائنات الحية بالمواد العضوية اللازمة لبناء
أجسامها والطاقة اللازمة لإجراء عملياتها الحيوية من خلال عملية التركيب الضوئي. إن
اختيار الطاقة الشمسية لتكون مصدرا للطاقة التي تحتاجها الكائنات الحية لا يمكن أن
يتم إلا من قبل عليم خبير قادر على تصنيع المكونات التي تقوم بتحويل الطاقة الضوئية
إلى طاقة كيميائية يتم تخزينها في الروابط الكيميائية بين عناصر المواد العضوية
وقادر كذلك على تصنيع المكونات التي تقوم باستغلال هذه الطاقة الكيميائية لإجراء
مختلف أنواع التفاعلات الكيميائية والحيوية في الخلايا. إن تركيب البلاستيدات
والآليات التي تستخدمها لإتمام عملية التركيب الضوئي من التعقيد البالغ بحيث لا زال
العلماء يجهلون كثيرا من أسرارها ويعتبرها العلماء الحد الفاصل بين عالم الموت
وعالم الحياة. ويوجد في جميع خلايا الكائنات الحية مكون آخر يسمى الميتوكندريون
يقوم بتحرير الطاقة من المواد العضوية بوجود الأوكسجين واستخدامها في العمليات
الحيوية التي تجري في الخلية. إن عملية حرق السكر في الميتوكندريون تتم بشكل منظم
وبارع حيث يتم تفكيك الروابط بين ذرات الكربون والهيدروجين ومن ثم يتم تحرير الطاقة
الموجودة فيها وإيداعها في روابط كيميائية جديدة في جزيء صغير يسمى ثلاثي فوسفات
الأدينوسين. وقد وجد العلماء أن الجزيء الواحد من سكر الجلوكوز ينتج عند تحليله ما
يقرب من خمس وثلاثين جزيئا من هذا الجزيء وبكفاءة تحويل تصل إلى ما يقرب من أربعين
بالمائة وهي كفاءة تحويل عالية إذا ما قارناها مع كفاءات التحويل في المحركات
الميكانيكية. إن التعقيد الموجود في تركيب الميتوكندريون لا يقل عن التعقيد الموجود
في تركيب البلاستيدة الخضراء وتحتاج عملية حرق السكر إلى عدد كبير من الأنزيمات لا
يقل عن تلك التي تحتاجها عملية التركيب الضوئي.
أما الآلية السادسة فتكمن في قدرة الخلية الحية على
إنتاج نسخة عن نفسها بنفسها دون تدخل أيّ قوة خارجية وذلك بمجرد صدور الأمر لها
ببدء هذه العملية من قبل شريط الحامض النووي. وتعتبر الخلية الحية وحدة البناء
الأساسية لأجسام جميع الكائنات الحية وقد أصيب علماء الأحياء بالدهشة من تعقيد
تركيبها على الرغم من صغر حجمها حيث لا يمكن رؤية معظم أنواع الخلايا بالعين
المجردة. وقد اكتشف العلماء في الخلية الحية من التراكيب الداخلية ما لا يوجد في
أعقد الأجهزة والمعدات الحديثة بحيث لا زال العلماء يجهلون كثيرا من أسرار تركيبها
وطرق عملها. إن أحد أهم مكونات الخلية هو شريط الحامض النووي الذي يقوم بالتحكم
بكامل العمليات الحيوية التي تجري في داخلها ويحتوي كذلك على جميع التعليمات التي
يتم على أساسها تصنيع كل جزء من أجزاء الكائن الحي. ولذلك فإن أحد أهم الخطوات التي
تتطلبها عملية انقسام الخلية هي الخطوة التي يتم فيها إنتاج نسخة طبق الأصل عن شريط
الحامض النووي لكي يودعها لإحدى الخليتين الناتجتين عن الانقسام. وهذا يتطلب أن
يعطي هذا الشريط أمر إنتاج نسخة عن نفسه من تلقاء نفسه وفي هذه الخاصية يكمن سر
الحياة الأعظم الذي حول تراب الأرض الميت إلى هذا التنوع الهائل في أشكال
الحياة.

وعلى الرغم من إكتشاف
العلماء لهذه الآليات التي ينفذ بها الشريط الوراثي برامجه عند تصنيعه الكائنات
الحية إلا أن عملية تحول خلية واحدة من تلقاء نفسها إلى كائن حي يحتوي جسمه على
بلايين الخلايا تبقى معجزة المعجزات التي ستصدع رؤوس العلماء في محاولاتهم لكشف
أسرارها. إن تصنيع أجسام الكائنات الحية يحتاج إلى مئات الآلاف من التصاميم
والرسومات الهندسية التي تبين الأشكال والأبعاد الثلاثية والتراكيب الداخلية لكل
عضو من أعضاء الكائن الحي إلى جانب تحديد مختلف أنواع التفاعلات الكيميائية التي
ستجري في داخلها. إن الطريقة التي يخزن بها الشريط الوراثي أشكال وأبعاد مكونات جسم
الكائن لا بد وأن تكون نفس الطريقة الرقمية التي يتم بها تخزين رسوم ثلاثية الأبعاد
في أجهزة الحاسوب مع فارق كبير جدا وهو أن الشريط الوراثي يحدد موقع كل خلية في
داخل هذا الشكل الثلاثي الأبعاد بينما يكتفي الحاسوب بتحديد الشكل الخارجي لهذا
الشكل. ويتطلب من برنامج التصنيع المخزن في الخلية الأم وضع كل خلية من الخلايا في
المكان المخصص لها في جسم الكائن وهي مهمة في غاية الصعوبة حتى لو تم تصنيع الجسم
من نوع واحد فقط من الخلايا. وبما أنه لا يوجد قوة خارجية تقوم بحمل الخلايا ووضعها
في الأماكن المخصصة لها في جسم الكائن كما يفعل البشر عندما تصنيع أشيائهم فإن هذه
المهمة تقع على عاتق الخلية الأم وما تنتجه من خلايا أثناء عملية الانقسام
المتكررة. ويقع على عاتق الخلية الأولى تحديد عدد الانقسامات التي ستلزم لإنتاج
جميع الخلايا التي يحتاجها بناء جسم الكائن وبما أنها ستختفي بمجرد انقسامها إلى
خليتين جديدتين فإن عدد الانقسامات التي ستجريها كل من هاتين الخليتين يجب أن يكون
مسجل في داخلها ومع تكرار عمليات الانقسام يجب أن يوجد مؤشر في داخل كل خلية من
الخلايا الناتجة يحدد عدد الانقسامات التي ستجريها في المستقبل. وعلى عاتق الخلية
الأولى كذلك قبل أن تنقسم أن تحدد المهام التي ستقوم بها الخليتان الناتجتان عنها
وهاتان بدورهما يجب أن تقوما بتحديد مهام الخلايا الأربع التي ستنتج عن انقسامهما
وهكذا يتم توزيع المهام على بقية الخلايا التي ستنتج عن الانقسام المتكرر للخلية
الأولى. ومن الواضح أنه بعد حدوث عدد معين من الانقسامات تبدأ الخلايا بتنفيذ
مهامها المختلفة فخلية واحدة فقط ستتولى تصنيع الهيكل العظمي وثانية للجهاز العضلي
وثالثة للجهاز العصبي وكذلك هو الحال مع بقية أجهزة الجسم كالجهاز الدوري والهضمي
والجلدي والبصري والسمعي والتناسلي. وبما أن هذه الخلايا تتلقى أوامر انقسامها من
شريط الحامض النووي الذي في داخلها فهذا يستلزم أن تقوم كل خلية من هذه الخلايا
بتنفيذ جزء محدد من برنامج تصنيع الكائن المخزن في الشريط الوراثي الكلي. إن برنامج
التصنيع الكلي مكون من عدد كبير من البرامج الأصغر حجماً
يتكفل كل واحد منها بتصنيع جزء معين من جسم الكائن وهذه البرامج الصغيرة بدورها
مكونة من عدة برامج أصغر مسؤولة عن تصنيع مكونات هذه الأجزاء. أما المشكلة العويصة
في عملية التصنيع هذه فهي في طريقة ترتيب هذه البرامج في داخل البرنامج الرئيسي
بحيث يتم تنفيذ هذه البرامج وفقاً للخطة التي سيتم بها
تصنيع جسم الكائن وبحيث تضع أجزاء الجسم المختلفة في الأماكن المخصصة لها أولا
بأول. ومما يزيد من صعوبة ترتيب وتنفيذ هذه البرامج التداخل الكبير بين الأجهزة
المختلفة لجسم الكائن فبعض مكونات الجهاز الدوري والعصبي تمتد إلى داخل مكونات
الأجهزة الأخرى والجهاز البصري والسمعي موجودة في داخل تجاويف الهيكل العظمي
والجهاز العضلي يرتبط ارتباطا كبيرا بالهيكل العظمي. وهذا يتطلب ممن يقوم بكتابة
برامج تصنيع الأجهزة المختلفة أن يراعي هذا التداخل الشديد بين هذه الأجهزة ويضمن
توافق أحجامها ووظائفها عند تصنيع جسم الكائن. فعلى سبيل المثال فإن خطأ بسيطا في
برنامج التصنيع قد يجعل من حجم العين أو المخ أو الأسنان أكبر من التجويف المخصص
لها في داخل الجمجمة. وبما أن كل خلية من خلايا الجسم المراد تصنيعه تقوم بتنفيذ
جزء البرنامج الخاص بها حسب موقعها من الجسم وبشكل مستقل عن بقية الخلايا فإن هذا
يتطلب أن تكون الأوامر الصادرة عنها في كل لحظة من لحظات تصنيع الكائن على درجة
عالية من التنسيق والتزامن ليظهر الكائن الحي بالشكل المطلوب. وبما أنه لا يوجد أيّ
نظام تحكم مركزي يعمل على التنسيق بين الخلايا أثناء انقسامها لتصنيع الكائن فإن
عملية التنسيق هذه تتم بشكل غير مباشر بين الخلايا من خلال الأوامر التي تصدرها
أشرطتها الوراثية بشكل مستقل ولكن بتزامن منقطع النظير.
لقد أنكر القرآن الكريم
على الإنسان الذي يرى هذه الطريقة العجيبة في تصنيع الكائنات الحية ابتداء من خلية
واحدة تنقسم بلايين المرات إلى أن تنتهي بكائنات حية في أجسامها من تعقيد التركيب
ما لا زال البشر يجهلون كثيرا من أسرارها ثم ينسب ذلك للصدفة فقال عز من قائل "قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ" عبس 17-19. وإن كان هناك من
عذر لكفر الجاهل بتفصيلات هذه المعجزة في خلق الكائنات، فإن العلماء الذين يعلمون
أسرار طريقة الخلق هذه ثم ينسبونها للصدفة هم أشد الناس كفرا لأنهم موقنون في قرارة
أنفسهم بأن الصدفة أعجز من أن ترتب أحرف جملة مفيدة فأنى لها أن تكتب بطريقة رقمية
الأشرطة الوراثية لملايين الأنواع من الكائنات الحية ولذلك فإنه يصدق قول الله فيهم
"وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ
ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" النمل
14. ولكي يتأكد الإنسان من وجود معجزة في هذه الطريقة الربانية في الخلق فقد
أشار القرآن الكريم إلى تفاصيل هذه الرحلة المعقدة والعجيبة للخلية الحية وهي تتحول
إلى إنسان كامل أو إلى غير ذلك من ملايين الأنواع من الكائنات الحية وذلك في قوله
تعالى "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ
سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا
آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" المؤمنون 12-14.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق