ومن نعمره ننكسه في الخلق
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة
العلوم والتكنولوجيا الأردنية
إن من
أدل البراهين على أن هذا القرآن الكريم ليس من تأليف بشر كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو حديثه عن
قضايا فكرية لم يكن لرسولنا الكريم أن يتطرق إليها وهو الذي كان مطاردا في مكة المكرمة لمدة ثلاثة
عشر سنة ومنشغلا في تأسيس دولة الاسلام وحروبه
مع أعداء الدين الجديد في المدينة المنورة لمدة عشر سنوات وهي المدة التي تنزل
فيها القرآن الكريم. ومن هذه القضايا تلك المتعلقة بالحياة والموت والأطوار التي
يمر بها الإنسان منذ بداية خلقه من خلية واحدة إلى أن يموت. ولقد أشار
القرآن الكريم إلى ظاهرة عجيبة تتعرض لها الكائنات الحية بشكل عام والإنسان بشكل خاص وهي ظاهرة الهرم أو الشيخوخة والتي أصبحت محط
اهتمام العلماء في هذا العصر لمعرفة
أسبابها وإمكانية التقليل من آثارها أو تأخيرها. لقد جاء ذلك في آيات عديدة كما في
قوله تعالى "وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ
(68)" يس. وسنشرح في هذه المقالة الأطوار المختلفة التي
يمر بها الإنسان من بداية خلقه إلى موته والتي أشار إليها القرآن الكريم في آيات
كثيرة.
ثم جعلناه نطفة
في قرار مكين
لقد
أشار القرآن الكريم إلى كثير من الحقائق
العلمية المتعلقة بخلق الإنسان وهو في رحم أمه فقد حدد المراحل الرئيسية لعملية الخلق فأشار إلى أن جسم الطفل المكون من
بلايين الخلايا يبدأ تصنيعه من خلية واحدة فقط وذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى "قُتِلَ
الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ
خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)" عبس وقوله
تعالى "وَأَنَّهُ
خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى
(46) " النجم وقوله تعالى "أَلَمْ
يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى
(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)" القيامة. وأشار إلى أن عملية تحول النطفة إلى إنسان
كامل تمر في مراحل مختلفةوذلك في قوله سبحانه "يَخْلُقُكُمْ
فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ (6)" الزمر وقوله تعالى "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ
أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
(11)" فاطر . والظلمات الثلاث التي ذكرت في هذه الآية هي ظلمة جدار البطن وظلمة جدار
الرحم ومن ثم ظلمة جدار الكيس الأمنيوني. ولقد أطلق القرآن الكريم أسماء لكثير من
المراحل الرئيسية التي تمر بها عملية خلق الإنسان فأطلق اسم النطفة الأمشاج
للبويضة الملقحة والناتجة من اتحاد كرموسومات البويضة مع تلك التي في الحيوان
المنوي وذلك في قوله تعالى "إِنَّا
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ
سَمِيعًا بَصِيرًا (2)" الإنسان.
وأطلق اسم العلقة والمضغة للمراحل الأولى
من عمر الجنين وهي من أخطر المراحل حيث أن نجاح الحمل يتوقف عليها وفيها يتم تعلق
البويضة الملقحة بجدار الرحم وتمتص غذائها منه إلى أن تتكون المشيمة والحبل السري
في مرحلة المضغة. وأشار القرآن الكريم إلى
أن عملية تصنيع الإنسان ابتداء من خلية واحدة تتم في مدة محددة فالبويضة الملقحة (fertilized egg or zygote) تتحول إلى جنين كامل في داخل رحم الأنثى في
مدة تبلغ 266 يوما أو ما يعادل تسعة أاشهر قمرية وذلك في المتوسط وذلك في قوله تعالى "أَلَمْ
نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)
إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)" المرسلات. وفي خلال هذه الفترة تقوم البويضة المخصبة وما ينتج
عنها من خلايا بالانقسام المتكرر والمحكوم
بأوامر تصدر من البرامج المخزنة على الأشرطة الوراثية الموجودة فيها بحيث
يتم تصنيع جميع أجهزة الجسم المختلفة وتكون جاهزة للعمل بشكل كامل مع انتهاء فترة
الحمل وولادة الجنين سالما من رحم أمه.
فمرحلة النطفة
الأمشاج (zygote or Germinal period) تمتد من لحظة الإخصاب إلى أن تنغرس النطفة في بطانة الرحم أي إلى
نهاية الأسبوع الثاني وفيها تقوم البويضة المخصبة خلال سيرها في قناة فالوب بعدد
من الانقسامات لتنتج ما متوسط مجموعه 36 خلية من الخلايا المتشابه تظهر على شكل
كتلة كروية تسمى التوتة (morula) لها نفس حجم البويضة الأصلية وتتغذى خلالها هذه الفترة على ما
في مح البويضة الأصلية من مواد غذائية.
ومن ثم يقوم قسم من هذه الخلايا بالاصطفاف لتكوين جدار بسمك خليتين يسمى الأريمة
الغاذية (trophoblast)
بحيث تصبح التوتة على شكل يشبه الكرة المفرغة وتحتوي على سائل يتخلله كتلة صغيرة
من الخلايا الجذعية (embryonic stem
cells) ويسمى الناتج بالكيس الأريمي
(blastocyst). وفي نهاية الأسبوع الأول تكون الأريمة قد نزلت
من قناة فالوب إلى الرحم والذي قد أعد مسبقا لاستقبال هذه الأريمة وتبدأ بالتخلص
من الجدار الشفاف الذي كان يحيط بالبويضة بما يشبه عملية التفقيس ولذا تسمى
الأريمة المفقسة (hatched
blastocyst) ومن ثم تبدأ
بمحاولات الدخول في ثنايا طيات بطانة الرحم في الثلث العلوي منه وهو غني بالغدد
والأوعية الدموية.
وإذا ما تمكنت
الأريمة من التعلق أو الانغراس (implantation) بهذا البطانة ضمن فترة زمنية محددة فإنها تكون قد نجت من الموت
جوعا وتبدأ باستمداد غذائها من البطانة من خلال الانتشار وهذه هي بداية الحمل
الفعلي وقد أطلق القرآن الكريم على هذه الأريمة المتعلقة بالبطانة اسم العلقة
لأنها تعلقت بجدار الرحم. وفي هذه المرحلة يتوالى انقسام الخلايا والتي تبدأ
بالتخصص فتقوم الأريمة الغاذية (trophoblast) بتصنيع
المشيمة (placenta) والحبل السري (umbilical cord) والتي ستمد
الجنين بما يحتاجه من غذاء طوال فترة الحمل فيما بعد وكذلك تصنيع الأغشية المغلفة
للجنين (extra-embryonic membranes) والذي يسمى الكيس الأمنيوني (amniotic sac) وما فيه من السائل الأمنيوني (amniotic fluid). أما الخلايا
الجذعية الموجودة في داخل الكيس الأريمي فستقوم بتصنيع الجنين (embryo) نفسه. وفي
نهاية هذه المرحلة تتشكل العلقة لتصبح على شكل قرص مفلطح مستطيل مكون من طبقتين من
الخلايا (bilaminar (two-layered) disc) يظهر في منتصفها ثلم بدائي (primitive streak) ينصفه إلي نصفين متماثلين ويسمى خط التماثل.
أما المرحلة الثانية فهي
مرحلة المضغة (embryonic period)
وتمتد من بداية الاسبوع الثالث الى نهاية الاسبوع الثامن وفيها تبدأ عملية التمضغ
(Gastrulation) حيث يتحول القرص إلى قرص بثلاثة طبقات من
الخلايا (trilaminar (three-layered) disc)
تمثل الطبقات الجرثومية الثلاث وهي الطبقة الداخلية (endoderm) والتي ينشأ منها الأعضاء الداخلية كالجهاز الهضمي والتنفسي
والدوري والبولي والتناسلي والطبقة
الخارجية (ectoderm) والتي ينشأ منها الجلد والجهاز االعصبي
والطبقة الوسطى (mesoderm)
والتي ينشأ منها العظام والعضلات. أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة الجنينية (fetal period)
وتمتد من بداية الاسبوع التاسع الى نهاية الاسبوع الثامن والثلاثين أو من بداية
الشهر الثالث إلى نهاية الشهر التاسع أي نهاية الحمل. ففي الشهر الثالث يبدأ الجسم
بالنمو بشكل متسارع ليظهر الجنين بشكله الآدمي وتنمو أعضاء الجسم الحيوية كالجهاز
الدوري والجهاز البولي والكبد بشكل أسرع من غيرها. وفي الشهر الرابع تكون المشيمة قد تطورت تماما
وتكون معظم أجهزة الجسم قد اكتمل تطورها وتظهر الأصابع بوضوح وتتكون فروة الرأس. وخلال الشهر
الخامس يبدأ شعر الزغب بالنمو على جميع أنحاء جسمه ويظهر شعر
الرأس والحواجب والرموش بلون أبيض ويمكن سماع دقات قلبه وتبدأ عملية تجدد الخلايا
أو ما يسمى بالأيض الجنيني. وفي الشهر السادس يكون جلد الجنين رقيقا وناعما وتبدأ
الجفون بالانفصال وتظهر بصمات أصابعه. وفي الشهر السابع يبدأ الدماغ بالتحكم
بالأعضاء ويتكون الشحم تحت الجلد ويكون الجلد متغضنا وشفافا ووردي اللون ويمكن
للجنين أن يعيش إذا ما ولد ولكن تحت العناية المركزة بسبب عدم اكتمال نمو الرئتين
تماما. وفي الشهر الثامن تبدأ أدمة الجلد بالتطور وتختفي تجاعيده ويتسارع تطور
الدماغ بحيث يمكن للجنين أن يسمع ويرى. وفي الشهر التاسع يكتمل تطور الرئتين وينمو
الشعر بشكل أسرع وفي نهاية الشهر يبلغ طوله 50 سم ووزنه 3 كيلوغرام وهو جاهز
للولادة وصدق الله العظيم القائل واصفا هذه الرحلة العجيبة "وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي
قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا
الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ
لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ (14)" المؤمنون
ثم يخرجكم طفلا
ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا
قسم القرآن
الكريم العمر الكامل الذي يعيشه الإنسان
إلى ثلاثة مراحل رئيسية وهي الطفولة (childhood) والأشد (adulthood) والشيخوخة (elderhood) وذلك في قوله تعالى "هَوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ
لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) " غافر. ولقد قام العلماء في العصر الحديث باعتماد نفس التقسيم لعمر الإنسان وقاموا بشكل تقريبي بتحديد الفترات
الزمنية لكل مرحلة من هذه المراحل, فمرحلة الطفولة تبدأ بالولادة وتنتهي بعمر يتراوح بين
ثمانية عشر وعشرين عاما وفيها تتم
عملية نمو جميع أجهزة جسم الإنسان فيزداد وزنه من عدة كيلوغرامات عند الولادة إلى
ما يزيد عن خمسين كيلوغرام وطوله من أقل
من خمسين سم إلى ما يزيد عن مائةوخمسين سم. ويتم تقسيم مرحلة الطفولة إلى مراحل فرعية
فمرحلة الرضاعه (babyhood) فتمدد إلى عامين بعد الولادة تليها مرحلة
الطفولة المبكرة (early childhood) لمدة اربعة اعوام ومرحلة الطفولة المتأخرة (late childhood) لمدة ستة أعوام ثم مرحلة المراهقة أو البلوغ (adolescence) والتي تبدأ عند سن 12 عام وتنتهي عند سن 18 سنة. وأما
مرحلة الأشد فتمتد من نهاية مرحلة الطفولة
حتى عمر قد يصل إلى ستين عاما ويمكن
تقسيمها إلى مرحلتين وهما مرحلةالشباب (youth) وتمدد من
عشرين إلى أربعين عاما ومرحلة الكهولة (middle aged) وتمدد من أربعين إلى
ستين عاما . وأما مرحلة الشيخوخة فتبدأ
من نهاية مرحلة الكهولة وتنتهي بالموت ويمكن كذلك تقسيمها إلى مراحل تبدأ
بالكبر (old aged وتنتهي
بالهرم (very old aged) أو ما سماه القرآن الكريم أرذل العمر . ولقد وصف القرآن الكريم مرحلتي الطفولة
والشيخوخة بالضعف بينما وصف مرحلة الكهولة بالقوة وذلك في قوله تعالى "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) " الروم. ويتمثل الضعف في مرحلتي الطفولة والشيخوخة
بتدني القدرات الجسمية والحسية والعقلية والنفسية للإنسان مقارنة بقدراته وهو في
مرحلة الكهولة. ويكون الإنسان في منتهى الضعف في بداية مرحلة الطفولة وفي نهاية
مرحلة الشيخوخة بحيث يحتاج لمن يعتني به وإلا تعرض للهلاك.
ومن
الجدير بالذكر أن ذروة قوة الإنسان الجسمية والعقلية تكون في
النصف الأول من مرحلة الشباب أي ما بين عشرين وثلاثين عاما. ولذلك نجد أن معظم
الإبداعات المهمة في مختلف المجالات قد تمت في هذا السن. فعلى سبيل المثال قام
اسحق نيوتن بوضع الأسس لمعظم نظرياته في
الرياضيات وحساب التفاضل والتكامل والبصريات وقانون الجاذبية وقد قال نيوتن عن
إنجازاته وهو في عمر الثالثة
والعشرين (وفي نفس السنة بدأت التفكير في الجاذبية التي تمتد إلى مدار القمر وقارنت
القوة المطلوبة لحفظ القمر في مداره مع قوة الجاذبية على سطح الأرض فوجدتهما
متقاربتان إلى حد كبير كل هذا كان في عامي
1665م 1666م حيث كنت في عنفوان عمري
للإختراع والتفكير في الرياضيات والفلسفة أكثر من أي وقت آخر. ). وكذلك قام ألبرت أينشناين بنشر ثلاثة من أشهر أبحاثه في النسبية والضوء وهو في
سن الخامسة والعشرين بينما وضع نيلز بور نموذج الذرة الحديث وهو في سن السابعة
والعشرين وأما الفيزيائي والرياضي الشهير باول ديراك فقد نال جائزة نوبل للفيزياء
في سن الواحد والثلاثين. وقام الفيزيائي الألماني الشهير ويرنر
هايزنبرغ بنشر ورقته المشهورة في
ميكانيكا الكم وعمره 24 عاما ونال جائزة نوبل للفيزياء في سن الثلاثين.
ومن نعمره ننكسه
في الخلق
إن حالة الضعف في الطفولة تتناقص تدريجيا مع زيادة العمر
بينما على العكس من ذلك يزداد
الضعف تدريجيا مع العمر في مرحلة
الشيخوخة. ولقد عبر القرآن الكريم بشكل
دقيق عن هذه الحقيقة في قوله تعالى "وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ
(68)" يس. والتنكيس (reversing) هو القيام بعملية عكسية
لعمل ما فتنكيس العلم هو إنزاله عن قمة السارية بعد رفعه. إن
التنكيس في خلق الإنسان الذي أشار إليه القرآن الكريم هو التدهور (degradation) التدريجي الذي بصيب جميع أجهزة الجسم بلا إستثناء مع تقدم العمر أو الهرم (aging) ولكن
بدرجات وأعمار متفاوته تبعا للشخص. والتدهور إما ظاهر وإما خفي فالظاهر يلحظه الشخص ومن حوله بشكل واضح كما هو الحال في
سمعه وبصره وجلده وشعره وأسنانه. ففي السمع وبسبب تناقص مرونة طبلة
الأذن وتصلب عظمات الأذن الوسطى يتناقص سماع الترددات العالية والأصوات المنخفضة.
وأما البصر وبسبب تناقص مرونة عدسة العين
وزيادة عتمتها يصعب رؤية الأشياء القريبة أو البعيدة وتقل درجة وضوح الصور, أما
الجلد فيبدأ بالتجعد والترهل والتبقع والتلون وذلك بسبب تناقص إنتاج بروتين
الكولاجين الذي يدعم طبقة الجلد الخارجية وكذلك تناقص معدل تجدد الخلايا وإفراز
المادة الدهنية. وأما الشعر وخاصة شعر
الرأس فيبدأ بالتسافط والتحول إلى اللون
الأبيض بسبب نقص تغذية بصيلات الشعر. وأما التدهور الخفي فيصيب جميع أجهزة الجسم الخفية ومن أهمها تناقص الكتلة
العضلية وزيادة الشحوم وترقق العظام وتضخم
القلب وتصلب الشرايين ونقص إفراز الهرمونات المنظمة لعمل الخلايا ونقص مناعة الجسم ليصبح فريسة لمختلف أنواع
الأمراض وكذلك تعرض الجينات للخلل محولة
بعض الخلايا إلى خلايا سرطانية. أما
القدرات العقلية فتبدأ بالتدهور بسبب موت الخلايا العصبية التي لا تعوض فتقل القدرة على التفكير والتذكر والتخيل والتكلم
وكذلك تقل قدرات جميح الحواس واستجابة العضلات بسبب موت الخلايا العصبية في مراكز
الحس والحركة في الدماغ. ولقد أشار القرآن
الكريم إلى مؤشرين رئيسين لظاهرة الهرم أحدهما ظاهر وهو الشيب وآخر باطن وهو ترقق العظام وذلك في
قوله تعالى على لسان زكريا عليه السلام (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) مريم 4.
ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا
لقد
أشار القرآن الكريم إلى حقائق علمية حول الدماغ البشري لم يسبق للبشر أن تطرقوا
لها فأكد على أن الدماغ البشري عند الولادة يخلو من أي علم ولكنه قابل لأن يبرمج
بأي علم من خلال قنوات إدخال المعلومات وهي السمع والبصر فقال عز من قائل (وَاللَّهُ
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ
لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)) النحل.
أما الحقيقة الثانية فهي أن الأدمغة البشرية يمكن أن تفقد ما جمعته من معلومات مع
تقدم العمر بسبب موت الخلايا العصبية فيه مصداقا لقوله سبحانه وتعالى (وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
قَدِيرٌ (70)) النحل وقوله
تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ
طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ
مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)) الحج.
فلقد وجد العلماء أن الدماغ البشري يحتوي على ما يقرب من مائة بليون خلية عصبية
يتكون معظمها قبل الولادة وتكتمل في مرحلة الطفولة وهي غير قابلة للتجدد. وبعد سن
العشرين يموت ما يزيد عن عشرة آلاف خلية عصبية في اليوم عند الإنسان السليم وقد
يرتفع الرقم إلى مائة ألف عند تعرض الجسم لبعض أنواع المواد السامة كاستنشاق
الدخان والروائح المنبعثة من المشتقات النفطية والمنظفات والغازات السامة. وعلى
العكس من الحاسوب الذي يتعطل بالكامل عند تعطل ترانزستور واحد أو خط توصيل واحد
فإن وظائف الدماغ لا تتأثر كثيرا عند موت بعض الخلايا العصبية فيه وذلك بسبب أن
الخلية العصبية الواحدة ترتبط بمئات الخلايا العصبية المجاورة مما يوفر مسارات
بديلة للإشارات العصبية. ولكن مع تقدم العمر وموت عدد كبير من الخلايا العصبية في الدماغ
فإن القدرات العقلية للإنسان تبدأ بالتناقص إلى أن يفقد الدماغ معظم المعلومات
التي كان يختزنها إذا ما امتد بالإنسان العمر مصداقا لقوله تعالى (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا
يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا). ونسأل الله عز وجل أن لا يردنا إلى أرذل العمر الذي أمرنا رسولنا الكريم
بالتعوذ منه.
كل نفس ذائقة
الموت
لقد كتب
الله عز وجل الموت على جميع أنواع الكائنات الحية لحكمة بالغة وهي أن الموت هو أحد
أهم الآليات التي تضمن استمرار حياة
الأنواع على سطح هذه الأرض لفترات زمنية طويلة تعد بعشرات الملايين من السنين. فمن
المعروف أن مساحة سطح الأرض محدودة وكذلك مواردها من ماء وهواء ومرعى وعليه فإن
جميع أنواع الكائنات الحية التي يزيد
عددها عن خمسة ملايين نوع لا بد أن تأخذ نصيبها من هذه الموارد بالقدر الذي يحفظ
التوازن بين أعداد كل نوع من هذه الأنواع.
وإلى جانب الموت الطبيعي يوجد آليات أخرى تضمن استمرار الحياة على الأرض بشكل
متوازن من أهمها افتراس الكائنات الحية
بعضها البعض بما يسمى بالسلاسل الغذائية وكذلك إصابتها بالأمراض من قبل
الميكروبات. وبما أن الإنسان يقع على رأس الهرم الغذائي ونادرا ما يتم افتراسه من
بقية الكائنات فقد كتب الله عز وجل عليه أن يكون أقل مقاومة للأمراض من بقية
الكائنات الحية مما يعرضه للموت غير الطبيعي بشكل أكبر. ولقد أكد القرآن الكريم في
آيات كثيرة على حتمية موت البشر كما في
قوله تعالى "كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)" آل عمران وقوله تعالى "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثًا (78) " النساء
وقوله تعالى "كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ (35) " الأنبياء.
الموت والهرم في
شعر العرب
لقد أكثر
العرب في شعرهم من ذكر الموت والقول بحتميته ووصف ظاهرة الهرم وما يصاحبها من
مشاكل ومتاعب فكان ذلك دافعا لشجاعتهم في
المعارك وعدم الخوف من الموت سواء في جاهليتهم أو بعد إسلامهم.
يقول لبيد بن ربيعة العامري (نجد ؟ - 661م)
أليس
ورائي إن تراخت منيّتي
|
لُزُومُ
العصا تُحنى عليها الأصابعُ
|
أخبّرُ
أخبار القرونِ التي مضت
|
أدب
كأنّي كُلّما قمتُ راكعُ
|
فأصبحتُ
مثل السيفِ غير جفنهُ
|
تقادُمُ
عهدِ القينِ والنّصلُ قاطعُ
|
فلا
تبعدن إنّ المنية موعد
|
عليك
فدان للطُّلُوعِ وطالِعُ
|
أعاذل
ما يُدريكِ إلاّ تظنيّا
|
إذا
ارتحل الفتيانُ من هو راجعُ
|
تُبكِّي
على إثرِ الشّبابِ الذي مضى
|
ألا
إنّ أخدان الشّبابِ الرّعارِعُ
|
أتجزعُ
مِمّا أحدث الدّهرُ بالفتى
|
وأيُّ
كريم لم تُصِبهُ القوارِعُ
|
لعمرُك
ما تدري الضّوارِبُ بالحصى
|
ولا
زاجِراتُ الطّيرِ ما اللّهُ صانِعُ
|
سلُوهُنّ
إن كذّبتموني متى الفتى
|
يذوقُ
المنايا أو متى الغيثُ واقِعُ
|
ويقول أمرؤ القيس الكندي (نجد
496-544م)
أراهُنّ لا يُحبِبن من قلّ
مالُهُ
|
ولا من رأين الشيب فيه وقوّسا
|
وما خفتُ تبريح الحياة كما
أرى
|
تضِيقُ ذِرِاعي أن أقوم
فألبسا
|
فلوأنها نفس تموتُ جميعة
|
ولكِنّها نفس تساقطُ أنفُسا
|
وبدلت قرحا داميا بعد صحة
|
فيا لك من نعمى تحوّلن أبؤسا
|
لقد طمح الطّمّاحُ من بُعد أرضِهِ
|
ليلبسني من دائه ما تلبسا
|
ألا إن بعد العُدم للمرء قنوة
|
وبعد المشيبِ طول عُمر وملبسا
|
ويقول السموأل بن عاديا (الحجاز ؟-560م)
وإِنّا
لقوم لا نرى القتل سُبّة
|
إِذا
ما رأتهُ عامِر وسلولُ
|
يُقرِّبُ
حُبُّ الموتِ آجالنا لنا
|
وتكرهُهُ
آجالُهُم فتطولُ
|
وما
مات مِنّا سيِّد حتف أنفِهِ
|
ولا
طُلّ مِنّا حيثُ كان قتيلُ
|
تسيلُ
على حدِّ الظُباتِ نُفوسُنا
|
وليست
على غيرِ الظُباتِ تسيلُ
|
ويقول
كيف
السلامة ُ إن أرد تُ سلامة
|
والموتُ
يطلُبُني ولستُ أفوتُ
|
وأقيلُ
حيثُ أُرى فلا أخفى لهُ
|
ويرى
فلا يعيا بحيثُ أبيتُ
|
ميتا
خُلِقتُ ولم أكُن مِن قبلها
|
شيئا
يموتُ فمُتُّ حيثُ حيِيتُ
|
وأموتُ
اخرى بعدها ولأعلمن
|
إن
كان ينفعُ أنّني سأموتُ
|
ويقول طرفة بن العبد البكري (البحرين
539-564م)
عقِيلة
مالِ الفاِحشِ اُلمتشدِّدِ
|
أرى
الموت يعتامُ الكِرام
ويصطفي
|
وما
تنقُصِ الأيّامُ والدّهرُ
ينفدِ
|
أرى
العيش كنزا ناقصا كلّ
ليلة
|
لكالطّولِ
اُلمرخى وثِنياهُ
بِاليدِ
|
لعمرُك
إِنّ الموت ما أخطأ
الفتى
|
ويقول شأس بن
نهار العبدي (الممزق) (البحرين ؟ - ؟)
هَل
لِلفَتى مِن بَناتِ الدَّهرِ مِن واقِ
|
أَم
هَل لَهُ مِن حِمَامِ المَوتِ مِن رَاقِ
|
قَد
رَجَّلُونِيَ وَما رُجِّلتُ مِن شَعَثٍ
|
وأَلبَسُونِي ثِياباً غَيرَ
أَخلاقِ
|
ورَفَعوني
وَقالوا أَيُّما رَجُلٍ
|
وأَدرَجوني كَأَنِّي طَيُّ
مِخراقِ
|
وَأَرسَلوا
فِتيَةً مِن خَيرِهِم حَسَباً
|
لِيُسنِدوا
في ضَريحِ التُّربِ أَطبَاقي
|
هَوِّن
عَلَيكَ وَلا تَولَع بِإِشفاق
|
فَإِنَّما
مالُنا لِلوارِثِ الباقي
|
كَأَنَّني
قَد رَماني الدَّهرُ عَن عُرُض
|
بِنافِذاتٍ بِلا ريشٍ وَأَفواقِ
|
ويقول عدي بن زيد العبادي التميمي (العراق ؟-587م)
أعاذِل
ما يُدريكِ أنّ منِيّتي إلى
|
ساعة في اليومِ أوفي ضُحى غدِ
|
أعاذِل
من يُكتب لِهُ الموتُ يلقهُ
|
كِفاحا
ومن يُكتب لهُ الفوزُ يسعدِ
|
أعاذِل
إِنّ الجهل مِن لذّةِ الفتى
|
وإِنّ
المنايا لِلرِجالِ بِمرصدِ
|
فذرني
فمالي غير ما أُمضِ إِن مضى
|
أمامِي
مِن مالي إِذا خفّ عُوّدي
|
وحُمّت
لِميقات إِليّ منِيّتي
|
وغودِرتُ
قد وُسِّدتُ أولم أُوسِّدِ
|
ولِلوارِثِ
الباقي مِن المالِ فاِترُكي
|
عِتابي
فإِنّي مُصلِح غيرُ مُفسِدِ
|
ويقول عبيد بن الأبرص الأسدي(نجد
؟-598م)
تزود
من الدنيا متاعا فإنه
|
على كل حال
خير زاد المزود
|
تمنى
مريء القيس موتي وإن أمت
|
فتلك سبيل
لست فيها بأوحد
|
لعل
الذي يرجو رداي وميتتي
|
سفاها وجبنا
أن يكون هو الردي
|
فما
عيش من يرجو هلاكي بضائري
|
ولا موت من
قد مات قبلي بمخلدي
|
وللمرء
أيام تعد وقد رعت
|
حبال
المنايا للفتى كل مرصد
|
منيته
تجري لوقت وقصره
|
ملاقاتها
يوما على غير موعد
|
فمن
لم يمت في اليوم لا بد أنه
|
سيعلقه حبل
المنية في غد
|
ويقول
يا عمرو ما راح من قوم ولا ابتكروا
|
إلا وللموت في
آثارهم حادي
|
يا عمرو ما طلعت شمس ولا غربت
|
إلا تقرب آجال
لميعاد
|
هل نحن إلا كأرواح تمر بها
|
تحت التراب
وأجساد كأجساد
|
فإن رأيت بواد حية ذكرا
|
فامض ودعني أمارس
حية الوادي
|
لأعرفنك بعد الموت تندبني
|
وفي حياتي ما
زودتني زادي
|
فإن حييت فلا أحسبك في بلدي
|
وإن مرضت فلا
أحسبك عوادي
|
إن أمامك يوما أنت مدركه
|
لا حاضر مفلت منه
ولا بادي
|
ويقول قس بن ساعدة الإيادي
(اليمن ؟ - 600م)
في
الذاهِبينَ الأَوَّلينَ
|
مِنَ
القُرونِ لَنا بَصائِر
|
لَمّا
رَأَيتُ مَوارِداً لِلمَوتِ
|
لَيسَ لَها
مَصادِر
|
وَرَأَيتُ
قَومي نَحوَها
|
تَمضي الأَصاغِرُ وَالأَكابِر
|
لا يَرجِعُ
الماضي وَلا
|
يَبقى مِنَ الباقينَ غابِر
|
أَيقَنتُ
أَنّي لا مَحا لَةَ
|
حَيثُ صارَ
القَومُ صائِر
|
ويقول عنترة بن شدّاد العبسي (نجد ؟-601م)
يخوضُ
الشّيخُ في بحر المنايا
|
ويرجعُ
سالما والبحرُ طامِ
|
ويأتي
الموتُ طِفلا في مُهود
|
ويلقى
حتفهُ قبل الفطام
|
فلا
ترضى بمنقصة وذُلّ
|
وتقنع
بالقليل من الحطام
|
فعيشُك
تحت ظلّ العزّ يوما
|
ولا
تحت المذلّة ِ ألف عام
|
ويقول
إذا
كشف الزّمانُ لك القِناعا
|
ومدّ
إليك صرفُ الدّهر باعا
|
فلا
تخش المنية وإقتحمها
|
ودافع
ما استطعت لها دفاعا
|
ولا
تختر فراشا من حرير
|
ولا
تبكِ المنازل والبقاعا
|
وحولك
نِسوة يندُبن حزنا
|
ويهتكن
البراقع واللقاعا
|
يقولُ
لك الطبيبُ دواك عندي
|
إذا
ما جسّ كفك والذراعا
|
ولوعرف
الطّبيبُ دواء داء
|
يرُدّ
الموت ما قاسى النّزاعا
|
ويقول
إذا
كان أمرُ الله أمرا يُقدّر
|
فكيف
يفرُّ المرءُ منه ويحذرُ
|
ومن
ذا يردُّ الموت أويدفعُ القضا
|
وضربتُهُ
محتُومة ليس تعثرُ
|
لقد
هان عِندي الدّهرُ لمّا عرفتُهُ
|
وإني
بما تأتي المُلمّاتُ أخبرُ
|
وليس
سباعُ البرّ مثل ضِباعِهِ
|
ولا
كلُّ من خاض العجاجة عنترُ
|
ويقول زهير بن أبي سلمى المزني (نجد ؟-609م)
ثمانِين حولا لا أبا
لكِ يسأمِ
|
سئِمتُ تكالِيف الحياةِ
ومن يعِش
|
ولكِنّني
عن عِلمِ ما
فِي غد عمِ
|
وأعلمُ
ما فِي اليومِ
والأمسِ قبلهُ
|
تُمِتهُ
ومِن تُخطِئ
يُعمّر فيهرمِ
|
رأيتُ المنايا خبط
عشواء من تُصِب
|
يُضرّس بِأنياب
ويُوطأ بِمنسِمِ
|
ومن
لم يُصانِع في
أمُور كثِيرة
|
يفِرهُ
ومن لا يتّقِ
الشّتم يُشتمِ
|
ومن
يجعلِ المعروف
مِن دُونِ عِرضِهِ
|
على
قومِهِ يُستعن
عنهُ ويُذممِ
|
ومن
يكُ ذا فضل
فيبخل بفضلِهِ
|
إِلى مُطمئِنِّ
البِرِّ لا يتجمجمِ
|
ومن
يُوفِ لا يُذمم
ومن يُهد قلبُهُ
|
وإِن
يرق أسباب
السّماءِ بِسُلّمِ
|
ومن
هاب أسباب
المنايا ينلنهُ
|
ويقول الحصين بن حمام
الفزاري(نجد ؟ - 612م)
لعمرُك ما
لام اِمرءا مِثلُ نفسِهِ
|
كفى لاِمرِئ
إِن زلّ بِالنفسِ لائِما
|
تأخّرتُ
أستبقي الحياة فلم أجِد
|
لِنفسي حياة
مِثل أن أتقدّما
|
فلستُ
بِمُبتاعِ الحياةِ بِسُبّة
|
ولا مُبتغ
مِن رهبةِ الموتِ سُلّما
|
ولكِن خُذوني
أيّ يوم قدرتُمُ
|
عليّ فحُزّوا
الرأس أن أتكلّما
|
ويقول قيس
بن الخطيم الأوسي(الحجاز ؟ -620م)
وكلُّ
شديدة نزلت بحيّ
|
سيأتي
بعد شدّتها رخاء
|
فقُل
للمُتّقي عرض المنايا
|
توقّ
وليس ينفعُك اتّقاء
|
فلا
يعطى الحريصُ غنى لحرص
|
وقد
ينمي لذي العجزِ الثّراء
|
غنيُّ
النّفسِ ما استغنى غنيّ
|
وفقرُ
النّفسِ ما عمِرت شقاء
|
ويقول أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي (الحجاز
؟ - 650م)
أمِن
المنُونِ وريبِها تتوجّعُ
|
والدّهرُ
ليس بِمُعتِب من يجزعُ
|
ولقد
حرصتُ بأن أُدافِعُ عنهمُ
|
فإِذا
المنيّةُ أقبلت لا تُدفعُ
|
وإِذا
المنِيّةُ أنشبت أظفارها
|
ألفيت
كلّ تمِيمة لا تنفعُ
|
وتجلُّدِى
لِلشّامِتِين أُرِيهِمُ
|
أنِّي
لِريبِ الدّهرِ لا أتضعضعُ
|
والنّفسُ
راغِبة إِذا رغّبتها
|
وإِذا
تُردُّ إِلى قليل تقنعُ
|
ويقول شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري
(مصر 1212 – 1296م)
إنى اتهمت نصيح الشيب في عـــــذلي
|
والشيب أبعد في نصح عن التهـــمِ
|
فإن أمارتي بالسوءِ ما
أتعظــــــــــــــت
|
من
جهلها بنذير الشيب والهــــرم
|
ولا أعدت من الفعل الجميل
قــــــــــرى
|
ضيف ألم برأسي غير محتشــــــم
|
لوكنت أعلم أني ما
أوقــــــــــــــــــــره
|
كتمت سرا بدا لي منه بالكتــــــــمِ
|
من لي برِّد جماح من
غوايتهـــــــــــــــا
|
كما يردُّ جماح الخيلِ باللُّجـــــــــُم
|
فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتهــــــــــا
|
إن
الطعام يقوي شهوة النهـــــــــم
|
والنفس كالطفل إن تهملهُ شب علــــى
|
حب
الرضاعِ وإن تفطمهُ ينفطــــم
|
ويقول قطري بن الفجاءة
المازني(قطر ؟ - 697م)
أقولُ
لها وقد طارت شعاعا
|
مِن
الأبطالِ ويحكِ لن تُراعي
|
فإِنّكِ
لوسألتِ بقاء يوم
|
على
الأجلِ الّذي لكِ لم تُطاعي
|
فصبرا
في مجالِ الموتِ صبرا
|
فما
نيلُ الخُلودِ بِمُستطاعِ
|
ولا
ثوبُ البقاءِ بِثوبِ عِزّ
|
فيُطوى
عن أخي الخنعِ اليُراعُ
|
سبيلُ
الموتِ غايةُ كُلِّ حيّ
|
فداعِيهُ
لِأهلِ الأرضِ داعي
|
ومن
لا يُعتبط يسأم ويهرم
|
وتُسلِمهُ
المنونُ إِلى اِنقِطاعِ
|
وما
لِلمرءِ خير في حياة
|
إِذا
ما عُدّ مِن سقطِ المتاعِ
|
ويقول إسماعيل بن القاسم العنزي (أبوالعتاهية)(العراق
747 – 826م)
هو
الموتُ فاصنع كلّ ما أنت صانعُ
|
وأنت
لِكأسِ الموتِ لا بُدّ جارِعُ
|
ألا
أيّها المرءُ المُخادِعُ نفسهُ!
|
رُويدا
أتدرِي من أراك تخادِعُ
|
ويا
جامِع الدُّنيا لِغيرِ بلاغِهِ
|
ستترُكُها
فانظُر لِمن أنت جامِعُ
|
وكم
قد رأينا الجامِعين قد اصبحت
|
لهم
بين أطباقِ التّرابِ مضاجعُ
|
لو
أنّ ذوِي الأبصارِ يرعُون كُلّما
|
يرون
لما جفّت لعين مدامِعُ
|
ويقول أبو الطيب أحمد بن الحسين الكندي (المتنبي) (العراق
915-965م)
ولو
أنّ الحياة تبقى لِحيّ
|
لعددنا
أضلّنا الشّجعانا
|
وإذا
لم يكُن مِن الموتِ بُدّ
|
فمِن
العجزِ أن تكُون جبانا
|
ويقول إبن الخياط أحمد بن محمد التغلبي(الشام 1058- 1123م)
نبيتُ
على وعد من الموتِ صادق
|
فمن
حائن يقضى وآخر يُمطلُ
|
وكُلّ
وإن طال الثّواءُ مصِيرُهُ
|
إلى
مورد ما عنهُ للخلقِ معدِلُ
|
فوا
عجبا مِن حازِم مُتيقِّن
|
بأن
سوف يردى كيف يلهُوويغفُلُ
|
ألا
لا يثِق بالدّهرِ ما عاش
ذُوحِجى
|
فما
واثِق بالدّهرِ إلاّ سيخجلُ
|
نزلتُ
على حُكمِ الرّدى في
معاشِرِي
|
ومن
ذا على حُكمِ الردى ليس ينزلُ
|
ويقول
صُروفُ
المنايا ليس يُودى قتيلها
|
ودارُ
الرّزايا لا يصِحُّ علِيلُها
|
مُنِيتُ
بِها مُستكرها فاجتويتُها
|
كما
يجتوِي دار الهوانِ نزيلُها
|
يُشهِّي
إليّ الموت عِلمِي بأمرِها
|
ورُبّ
حياة لا يسُرُّك طُولُها
|
وأكدرُ
ما كانت حياة ُ نُفُوسِها
|
إذا
ما صفت أذهانُها وعُقُولُها
|
ومن
ذا الذي يحلُو لهُ العيشُ
بعدما
|
رأت
كُلُّ نفس أنّ هذا سبِيلُها
|
ويقول عبدالملك بن شهيد القرطبي (الأندلس 935 -1003م)
ولما
رايت العيش ولى براسه
|
وأيقنت
أن الموت لا شك لاحقي
|
تمنيت
أني ساكن في غيابة
|
بأعلى
مهب الريح في راس شاهق
|
أذر
سقيط الحب في فضل عيشة
|
وحيدا
وأحسو الماء ثني المفالق
|
خليلي
من رام المنية مرة
|
فقد
رمتها خمسين قولة صادق
|
كأني
وقد حان ارتحالي لم أفز
|
قديما
من الدنيا بلمحة بارق
|
ويقول محمد إبن الحداد
القيسي (الأندلس ؟ - 1087م)
لا
بُدّ أن تتلُو الحياة منِيّة
|
من
شكّ أنّ اليوم يُزجِي
الموهِنا
|
لا
ترجُ إبقاء البقاءِ على امرىء
|
كُلُّ
النُّفُوسِ تحِلُّ أفنية الفنا
|
تجد
الحياة نفيسة ونفوسنا
|
غُرباءُ
ترغبُ عندها مُتوطّنا
|
لو
أنها شعرت لها وسقت درت
|
أن
الوفاة هي الحياة تيقنا
|
لكنّها
عمِيت ولم تر رُشدها
|
ما
كُلُّ من لحظ الأمور تبيّنا
|
ويقول إبراهيم طوقان (فلسطين 1905 – 1941م)
لي بِالحياة تعلق
وتشدد
|
والعُمر ما بعد
المدى فسينفد
|
نفس أُردده وأعلم
أنّهُ
|
لِلموت بين
جوانِحي يتردد
|
ويلمُّ بي ألم
أُخاتله بِما
|
يصف الطبيبُ
فيستكين ويخمد
|
ويسرني أني نجوتُ
مِن الأذى
|
ويلي كأني إِن
نجوت مخلد
|
وكأنّني ضلّلتُ
سير منيتي
|
إِن الطريق إِلى
الفناء معبّد
|
هيهات لستُ
بِخادع عينُ الردى
|
عين الردى يقظى
وعينك ترقد
|
أنا أنت بعد
الموت لا مُستعبد
|
حرّا فأحقره ولا
مُستعبد
|
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق