2016-11-12

موقف الإمام أبي حامد الغزالي عند تعارض العلم مع الدين

موقف الإمام أبي حامد الغزالي عند تعارض العلم مع الدين
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

لقد كان الفهم أو النأويل الخاطيء لبعض نصوص الكتب المقدسة في جميع الأديان سببا في إعاقة التقدم العلمي على مر العصور والتسبب في تأخير نهضة الأمم. ومن أكبر  الأمثلة على ذلك موقف الكنيسة المسيحية من علماء الطبيعة في بداية القرن السادس عشر مع بوادر ظهور النهضة العلمية في أوروبا.  فلقد تعرض علماء  أفذاذ  للقتل والتعذيب والإستتابة من قبل رجال الكنيسة بسبب وضع نظريات علمية للظواهر الكونية قد تتعارض مع الفهم الخاطيء لبعض نصوص الكتب المقدسة. كما حدث مع كوبرنيكس وجاليليو عندما قالا بأن الأرض ليست مركز الكون و مع نيوتن عند اكتشافه لقانون الجذب العام ومع دارون عندما وضع نظربة التطور التي تفسر كيفية ظهور هذا العدد الهائل من أنواع الكائنات الحية. ولم يختلف موقف بعض علماء الدين المسلمين عن ذلك في العصر الذهبي العباسي حيث حاولوا إعاقة التقدم العلمي من خلال محاربة بعض العلماء والفلاسفة بسبب قولهم بكروية الأرض وتفسيرهم العلمي لظاهرتي الكسوف والخسوف وغيرها,
  لقد حذر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله قبل ألف عام علماء الدين من مغبة إنكار الحقائق العلمية اعتمادا على التأويلات الخاطئة لنصوص الكتب المقدسة لما في ذلك من ضرر على الدين. وعلى الرغم من أن الغزالي قام بتأليف كتابه تهافت الفلاسفة لدحض كثير من أراء الفلاسفة إلا أنه لم ينكر علومهم التي تعتمد على أسس علمية واضحة ومما قاله بهذا الشأن "القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر، عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وإن كسوف الشمس، وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض ومن ظن أن المناظرة في ابطال هذا من الدين فقد جنى على الدين، وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابيَّة لا يبقى معها ريبة. فمن تطلَّع عليها، ويتحقَّق أدلّتها، حتى يُخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقة. وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل. فان قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (( ان الشمس والقمر لآيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا الى ذكر الله والصلاة)) ، فكيف يلائم هذا ماقالوه؟ قلنا: وليس فى هذا ما يناقض ما قالوه ، اذ ليس فيه الا نفى وقوع الكسوف لموت احد او لحياته والامر بالصلاة عنده. والشرع الذى يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع من أين يبعد منه ان يأمر عند الكسوف بها استحباباً؟ فان قيل: فقد روُى انه قال فى آخر الحديث: (( ولكن الله اذا تجلىّ لشىء خضع له)) فيدلّ على ان الكسوف خضوع بسبب التجلى، قلنا: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها فيجب تكذيب ناقلها، وانما المروى ما ذكرناه كيف، ولو كان صحيحاً، لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية. فكم من ظواهر أُوّلت بالأدلة العقليَّة التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد. وأعظم ما يفرح به المُلحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا، وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع، ان كان الشرع امثال ذلك. وهذا: لأنّ البحث في العالم عن كونه حادثاً أو قديماً، ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة، أو بسيطاً، أو مثمناً، أو مسدّساً، وسواء كانت السماوات، وما تحتها ثلاثة عشرة طبقة، كما قالوه، أو أقلّ، أو أكثر، فنسبة النظر فيه الى البحث الالهىّ كنسبة النظر الى طبقات البصل وعددها وعدد حبّ الرمان. فالمقصود: كونه من فعل الله سبحانه وتعالى فقط، كيف ما كانت".
 إن الذي يتدبر كلام الإمام الغزالي يتأكد له مدى عبقريته وتفتح عقله وسعة فهمه للدين وكذلك فهمه لعلوم عصره فهو يفهم فهما صحيحا ظاهرتي الخسوف والكسوف ويصف آلية حدوثهما بشكل بالغ الدقة وهو موقن كذلك بكروية الأرض بينما نجد علماء دين في هذا العصر لا زالوا في شك من كروية الأرض وبالكاد يمكنهم فهم كيفة حدوث الخسوف والكسوف. وبناء على هذا الفهم الصحيح للحقائق الكونية فإن الغزالي لا يتردد في تكذيب بعض النصوص الدينية غير القطعية أو تأويل النصوص القطعية لكي لاتتعارض مع الحقائق العلمية القطعية . وعلى علماء الدين المسلمين أن يتخذوا من نصيحة هذا العلامة الفذ منارة يهتدون بها وهم يعيشون في عصر فتح الله به جميع أبواب المعرفة على البشر وأن لا يقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه علماء الدين من أهل الكتاب في العصور المظلمة من إنكار النظريات العلمية  بسبب تأويلات خاطئة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية.


ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق