2015-06-21

لقد كان لسبأ في مسكنهم آية


لقد كان لسبأ في مسكنهم آية

الدكتور منصور أبو شريعة العبادي\جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية



 
 

إن آيات الله عز وجل أي معجزاته في هذا الكون لا تعد ولا تحصى ولكن أكثر الناس لا ينتبهون إليها ولا يتفكرون فيها وذلك مصداقا لقوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)) يوسف. وتتفاوت معجزات الله عز وجل في درجة وضوح أوجه إعجازها فبعضها يدركها المتعلم والأمي والعالم والجاهل كل حسب مقدار علمه كمعجزات خلق السموات والأرض والشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار والسحب والأمطار وظاهرة الحياة على الأرض مصداقا لقوله تعالى(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)) البقرة.  أما البعض الآخر من المعجزات فقد لا ينتبه كثير من الناس إلى أوجه إعجازها فلا يرون فيها ما يدل على أنها معجزة من معجزات الله عز وجل تدل على بديع صنعه. ومن هذه المعجزات تضاريس سطح هذه الأرض التي شكلها سبحانه وتعالى لتصبح الأرض مؤهلة لظهور الحياة عليها وبهذا التنوع الهائل في أشكال الكائنات الحية والتي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)) فصلت. إن ظهور القارات والمحيطات والبحيرات والأنهار والجبال والسهول والأودية وغيرها من تضاريس الأرض لم تترك للصدفة لتشكلها بل تشكلت بتقدير  من الله عز وجل وذلك مصداقا لقوله تعالى (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)) الأنبياء.

مسكن قوم سبأ

                لقد أكد القرآن الكريم على أن في مسكن قوم سبأ معجزة من معجزاته المتعلقة بتشكيل تضاريس الأرض التي تمكن البشر من السكن في جميع أرجاء الأرض بما فيها الصحاري القاحلة وذلك في قوله تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)) سبأ. من المعروف أن الحضارات الإنسانية لا تقوم إلا في الأماكن التي تتوفر فيها المياه بشكل وافر بحيث توفر  الغذاء لمجموعة بشرية كثيرة العدد يتفرغ بعضهم للزراعة وبعضهم للصناعة والتجارة والبناء والتعلم والتعليم والآداب والفنون والطب وغيرها من النشاطات الإنسانية. ولذلك قامت الحضارة الفرعونية على نهر النيل والبابلية على نهري دجلة والفرات وبقية الحضارات التي قامت على ضفاف الأنهار العظيمة في الشرق والغرب. وبسبب شح المياه في جزيرة العرب ووجودها فقط على شكل واحات متباعدة فقد تعذر قيام الحضارات فيها باستثناء حضارة السبأيين في اليمن والتي وصفها القرآن الكريم في قوله تعالى (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)) النمل. إن حضارة السبأيين لم تكن لتقوم لولا سد مائي أقيم على حافة صحراء الربع الخالي يجمع مياه الأمطار من الجبال الواقعة غربها. أقيمت مدينة مأرب عاصمة السبأيين على الحد الفاصل بين صحراء الربع الخالي وجبال اليمن الشرقية على بعد مائة وعشرة كيلومترات من مدينة صنعاء عند مصب وادي أذنة الذي يجمع الأمطار من هذه الجبال ويصبها في رمال الربع الخالي. وكان سكان تلك المنطقة قبل إنشاء السد يعيشون على المياه الجوفية التي تحتويها تلك الرمال كما هو الحال مع بقية واحات جزيرة العرب.

 
 
 
 

سد مأرب القديم

                إن مشاهدة كميات ضخمة من المياه التي تحملها السيول في موسم الأمطار  وتذهب هدرا في رمال الصحراء دفع السكان للتفكير في بناء سد على ذلك السيل الموسمي يحفظ المياه خلفه على طول العام ليزيد بذلك من رقعة المناطق الزراعية وبالتالي زيادة عدد السكان. وكما يظهر من الصورة المرفقة فإن وادي أذنة الذي يمتد لعشرات الكيلومترات يجمع مياه الأمطار من الجبال الشاهقة المحيطة به والتي قد تصل مساحتها إلى عدة آلاف من الكيلومترات المربعة من مناطق ذمار ورداع ومراد وخــولان. إن موقع السد جاء بين منطقتين أحدهما جبلية وعرة مكونة من صخور صماء لا تصلح للزراعة ولكنها غنية بمياه الأمطار والأخرى سهلية منبسطة مكونة من رمال لينة غنية بالمعادن التي يجلبها السيل معه من الجبال ولكنها في المقابل فقيرة بالمياه. وإذا ما أقيم سد بسعة تخزينية عالية في هذا المكان فسيحول رمال الصحراء القاحلة إلى جنات غناء تنتج من الطعام ما يكفي لأعداد كبيرة من الأناسي والأنعام وصدق الله القائل (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)) الفرقان.
 
 
 
 
 

                ومما دفع السبأيين لبناء السد هو وجود سد طبيعي يقع على منفذ السيل إلى رمال الصحراء وهو جبل بلق الذي يبلغ طوله ثلاثين كيلومتر ولا يتجاوز عرضه الثلاثة كيلومترات ولونه أبيض على عكس الجبال المحيطة به ويرتفع عن سطح المنطقة المحيطة به بأربعمائة متر. وتوجد في هذا الجبل عند مصب السيل فتحة بعرض أربعمائة متر وطول ثلاثة كيلومترات تسمح بمرور الماء إلى الصحراء ولولا هذه الفتحة لتكونت خلف هذا الجبل بحيرة طبيعية قد لا يستفاد من مياهها كثيرا بسبب الطبيعة الصخرية للمنطقة المحيطة بها. لقد بني السبأييون سدهم على مخرج هذه الفتحة أي جهة الصحراء بينما بني السد الحديث على مدخل الفتحة. لم يبني السبأييون السد على قدر الفتحة التي لا يتجاوز طولها أربعمائة متر بل قد تم مده من الجهة الشمالية ليصل إلى البوابة الشمالية التي تمد القناة الشمالية ليصبح طول السد ستمائة متر أو يزيد. لم يبنى السد بشكله النهائي منذ إنشائه في القرن العاشر قبل الميلاد بل بدأ بسد ترابي لا يزيد إرتفاعه عن أربعة أمتار ثم أجريت عليه تعديلات مع مر السنين ليصل إرتفاعه إلى أربعة عشر مترا وتم كذلك تلبيس السد الترابي بالحجارة وبعرض يزيد عن عشرة أمتار. إن أهم ما يميز السد هو البوابتان المبنية من الحجارة والتي تتحكم بتدفق المياه من السد إلى القناتان الشمالية والجنوبية. لقد تم تحديد موقع ومسار السد القديم من خلال الأجزاء القليلة جدا المتبقية منه وهي لحسن الحظ البواباتان الشمالية والجنوبية حيث تحددان بداية ونهاية السد وجزء لا يزيد طوله عن عشرين مترا من جسم السد يقع بجانب البوابة الشمالية كما هو واضح من صور الجوجل إيرث ومن الصور الطبيعية. يبلغ طول السد كما أخذ من الجوجل إيرث ستمائة وسبعون مترا وهذا يتوافق مع الروايات التاريخية التي تحدد طوله بما يزيد عن ستمائة متر. 

 
 
 
 

 
 





وقد قدرت مساحة الأرض التي كان يسقيها السد بما يزيد عن مائة كيلومتر مربع وهي على شكل شريط قد يصل طوله إلى ثلاثين كيلومتر في عمق الصحراء وبعرض قد يصل لخمسة كيلومترات ولا بد أنها مشابهة في الشكل للأرض التي يسقيها سد مأرب الحديث كما تظهر الصور. تتكون شبكة الري لهذه المزارع من قناتين رئيسيتين تخرجان من البوابتين الشمالية والجنوبية للسد وهما مبنيتان على سطح جدران حجرية لإيصال الماء إلى أقصى إرتفاع ممكن.  وتصب القناتان في خزان إسطواني الشكل  يقوم بتفريع المياه إلى قنوات فرعية كما يتضح من صور الجوجل إيرث. ولقد أشار القرآن الكريم إلى وجود منطقتين زراعيتين يسقيهما السد أحدهما على يمين وادي أذنة والأخرى على شماله وذلك في قوله تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)) سبأ.

 
 








سد مأرب الحديث

بني سد مأرب الحديث في عام 1986م بدعم من دولة الإمارات العربية وهو سد ترابي ارتفاعه أربعين متر وطوله عند القمة  سبعمائة وثمانين متر  وعرضه عند القمة ستة أمتار  وتبلغ السعة التخزينية القصوى له 389 مليون متر مكعب. ولم يتم بناء السد الحديث على مكان السد القديم وذلك للمحافظة على هذا التراث الإنساني والعربي العظيم. والسد الحديث لا يقارن مع السد القديم من حيث مساحة الأرض المروية حيث يفتقر السد الحديث للبوابات التي تتحكم بكميات المياه المتدفقة منه ونظام القنوات التي تقوم بتوزيع المياه بشكل مقنن على الأراضي المزروعة.   


 



 

وأوتيت من كل شيء

لقد قامت على الصحراء المحيطة بسد مأرب  حضارة عظيمة وهي الحضارة السبئية وهي من أعظم الدول اليمنية القديمة حيث بـدأت في الظهور في مطلع الألف الأول قبل الميلاد واستمرت لما يقرب من ألف وخمسمائة عام مع انهيار السد.  وقد شهدت المنطقة في القرون الممتدة من القرن التاسع إلى القرن السـابع قبل الميلاد وخاصة في عصر الملكة بلقيس نشاطا معماريا واسعا  شيدت خلالها المدن والمعابد  والسدود وقنوات الري. وقد أشارت الآيات القرآنية إلى الملكة بلقيس وإلى القوة والثراء التي كانت تتمتع بها الحضارة السبأية وذلك في قوله تعالى (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)) النمل. وبلقيس بنت شراحيل هي الملكة التي حكمت اليمن في القرن العاشر قبل الميلاد وقد عاصرت حكم النبي سليمان بن داوود عليهما السلام. وقد دعاها النبي سليمان هي وقومها للإيمان بالله عز وجل بدلا من عبادة الشمس والقمر فأجابته لذلك بعد أن رأت المعجزات التي أجراها الله عز وجل على يديه كإحضار عرشها من اليمن إلى فلسطين في طرفة عين وبناء القصر الزجاجي على يد الجن وغير ذلك من المعجزات كما جاء ذلك في قوله تعالى (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)) النمل.

ومن المعالم الباقية من الحضارة السبئية إلى جانب السد مدينة مأرب القديمة التي تقع إلى الشرق من السد على بعد ثمانية كيلومترات وإلى الجنوب من مدينة مأرب الجديدة على بعد أربعة كيلومترات. والمدينة مبنية على الحافة الشمالية لوادي أذنة على تلة مرتفعة ومحاطة بسور يبلغ قطره مائتي متر. ومن المعالم عرش بلقيس (بران) أو معبد الشمس  الذي يعتبر من أشهر آثار اليمن وهو عبارة عن قاعة مربعة الشكل مكشوفة تتوسطها البئر المقدسة وحوض ماء حجري يصل إليه الماء بواسطة مصب من فم الثور المقدس. والقاعة محاطة بعدد من الجدران من الشمال والغرب والجنوب وامام الجدار الغربي ينتصب عدد من المقاعد المرمرية وتوجد 12 درجة تؤدي إلى قدس الأقداس المكون من ستة أعمدة مستطيلة لها تيجان مزخرفة حيث يزن العمود 17 طن ويبلغ طوله 12 متر وأبعاد مقطعه 80 في 60 سم. وكذلك محرم بلقيس ( أوام ) أو معبد القمر والذي يقع إلى الجنوب من مدينة مأرب القديمة على الضفة الجنوبية لوادي أذنة وهو بناء كبير وضخم  بيضاوي الشكل تنتصب داخله ثمانية أعمدة كبيرة في صف واحد كما يوجد هيكل صغير من الحجر له أربعة أعمدة. ويرجع تاريخ بناء هذه المعابد إلى ما قبل القرن الثامن قبل الميلاد حيث كان السبأيون يعبدون الشمس والقمر  وتشير النقوش إلى أن المعابد قد استخدمت لفترة تقرب من ألف عام ولكنها أهملت كما أهملت آلهة سبأ عند أواخر القرن الرابع الميلادي بعد أن اعتنق ملوك حِميَر الديانات السماوية النصرانية واليهودية.

-
 
 
 
 

 

 

 

 




فأرسلنا عليهم سيل العرم

                تعرض سد مأرب منذ بنائه لإنهيارات جزئية في جسمه وذلك عند حدوث سيول ضخمة في المواسم المطرية الغزيرة  وكان يتم إعادة بناء الأجزاء المنهارة بعد هبوط مستوى مياه السد. وفي عام 450 ميلادي على أغلب الأقوال أي بعد مرور ألف وخمسمائة عام من بناء السد إنهار السد نتيجة إما  لزلال ضرب المنطقة أو لتعرضه لسيل عظيم نتيجة أمطار غزيرة سقطت على المنطقة المغذية للسد ولم يتمكن السبأيون من إصلاحة لأسباب قد تكون قلة الخبرة في بناء السدود في تلك الفترة أو ضعف الإمكانيات. ولم يتبقى من السد الآن إلا البوابتان وجزء قصير من جسم السد وبعض أجزاء من القنوات الرئيسية. ولقد أشار القرآن الكريم إلى حادثة إنهيار السد في قوله تعالى(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)) سبأ. وبعد إنهيار السد تحولت الجنتان إلى أراضي قاحلة لا تنبت إلى الشجيرات الصحراوية كشجر السدر الذي يتحمل الجفاف.








وكما هو واضح من سياق الآيات القرآنية فإن تدمير السد كان عقابا من الله عز وجل لأهل مأرب بسبب إعراضهم عن الإيمان بالله عز وجل بعد أن دعاهم لذلك الملك التبعي تبان أسعد أبو كرب الملقب بأسعد الكامل أو تبع كما سماه القرآن الكريم.   والملك تبع هو من أعظم ملوك التبابعة والذي حكم الامبراطورية الحميرية في الفترة من 378م إلى  420 م وقد بسط حكمه على عموم جزيرة العرب وقام بتمهيد عدد من الطرق في الصحراء العربية لتسهيل عبور القوافل وقد أطلق على نفسه لقب ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم في المرتفعات والتهائم كما تشير إلى ذلك النقوش.  لقد كان الملك تبع كما تبين من النقوش على دين توحيدي وهو دين الإله "رحمن" أي الرحمن واختلفت الروايات حول مصدر هذه الدين التوحيدي في أرض اليمن الذين كانوا يعبدون الشمس والقمر والأوثان قبل حكمه. فبعض الروايات تقول أنه نبي والبعض تقول أنه إعتنق اليهودية عند مروره بالمدينة المنورة في بعض غزواته حيث أخبره بعض أحبار اليهود في المدينة المنورة أن نبيا من العرب سيظهر في هذه المدينة بعد حين من الزمن وقد قام بكسو الكعبة عند مروره بمكة المكرمة. وقد ورد في بعض الأحاديث النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر تبع بخير وأشار إلى أنه أسلم ونهى عن سبه وأما القرآن الكريم فقد جاء ذكر تبع وهلاك قومه في قوله تعالى (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)) الدخان (وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)) ق.

ومزقناهم كل ممزق

إن إنهيار سد مأرب كان عقابا من الله عز وجل لهؤلاء القوم بسبب كفرهم وجحودهم بنعم الله الكثيرة التي أنعمها عليهم إبتداءا من المياه الوفيرة التي وفرها السد لهم والجنات التي تنبت شتى أنواع الطعام. ولم يكتفي أهل مأرب بالزراعة بل إشتغل أكثرهم بالتجارة فأصبحت مأرب مركزا تجاريا تمر بها البضائع من مختلف البلدان وكانوا يقومون بنقل البضائع إلى بلاد الشام. وقد أنعم الله عز وجل عليهم بأن أقام لهم قرى متقاربة توفر لهم الماء والطعام على طرق تجارتهم ولكنهم بطروا وطلبوا من الله عز وجل بلسان حالهم أن يباعد بين هذه القرى ليشعروا بالمشقة والتعب فقال عز من قائل (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)) سبأ. وبعد إنهيار السد وجفاف الجنتين أصبح الطعام شحيحا في أرض سبأ فبدأت القبائل بالهجرة منها ليس إلى مكان واحد بل إلى أماكن مختلفة ومتباعدة  في بلاد العرب تصديقا لقوله تعالى (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ). 
 
 

 

 


 

هناك تعليقان (2) :