2014-11-12

ولقــــــد خلقنــــا الإنســــان من ســــــــــــــلالة مــــن طيـــــن


ولقــــــد خلقنــــا الإنســــان من ســــــــــــــلالة  مــــن طيـــــن
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
 

لقد شرحنا في المقالة السابقة مرحلتين من المراحل التي مر بها  التراب لكي يتحول إلى أول شكل من أشكال الحياة، وهما مرحلة الحمأ المسنون ومرحلة الصلصال الذي كالفخار. وذكرنا أن مرحلة الحمأ المسنون هي المرحلة التي تكونت خلالها المواد العضوية البسيطة  في جو الأرض الأولي  الذي كان يتكون من غازات الأمونيا والميثان وبخار الماء. وبسبب غياب الأوكسجين في هذا الجو بقيت هذه المواد العضوية البسيطة على حالها ولم تتحلل، وبدأت تتراكم بكميات كبيرة في المسطحات المائية مكونة ما أطلق عليه العلماء اسم الحساء البدائي. وقد ذكرنا أن توفر المواد العضوية البسيطة في مياه الأرض لا يكفي لتصنيع مكونات الكائن الحي الأولي، حيث أن تصنيعها يحتاج لمواد عضوية أكثر تعقيدا كالبروتينات والأحماض النووية. أما مرحلة الصلصال فهي المرحلة التي تكونت خلالها بعض المواد العضوية المعقدة على أسطح وحواف بعض المواد الصلصالية ذات الطبيعة البلورية التي تمتلك بعض التراكيب الدقيقة التي تتكرر بشكل دوري وبأنماط مختلفة. وقد قام هذا الصلصال البلوري مقام الأنزيمات في  تسهيل  التفاعلات الكيميائية بين المواد العضوية البسيطة لتنتج مواد عضوية أكثر تعقيدا. وقد ذكرنا أن اكتشاف علماء التطور للدور الذي لعبه الصلصال في عملية تطور الحياة على الأرض كان من أعجب وأغرب الاكتشافات العلمية، فلم يكن ليخطر على بال أحد أن يكون الصلصال الجاف كان أحد مراحل تطور الحياة. ولو أن هذا الاكتشاف العلمي الغريب  قد تم على أيدي علماء مسلمين لاتهمهم الناس بالتحيز لمعتقدهم، وأدخلوا مرحلة الصلصال هذه قسرا ضمن مراحل تطور الحياة.

وسنشرح في هذه الباب المرحلة الأخيرة من مراحل التطور الكيميائي للحياة، وهي مرحلة سلالة الطين التي ذكرها الله في كتابه الكريم كإحدى المراحل التي مر بها خلق الإنسان من التراب، وذلك في قوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" المؤمنون 12.  وسنبين بالاعتماد على ما توصل إليه علماء التطور من نتائج أن هذه المرحلة مسؤولة عن تصنيع أول شكل من أشكال الحامض النووي والتي أطلق عليها علماء التطور اسم "عالم الحامض النووي الرايبوزي". وهذا الحامض النووي الرايبوزي هو شريط يحمل معلومات وراثية، مثله مثل شريط الحامض النووي الديكسورايبوزي إلا أنه مكون من سلسلة واحدة بدلا من سلسلتين. وعلى شريط الحامض النووي هذا كتب الله بطريقة رقمية كامل تعليمات تصنيع أول كائن حي ظهر على وجه الأرض، حيث كان يتكون من خلية حية واحدة فقط تحتوي على معظم المكونات الموجودة في الخلايا الحية الحالية. ومن هذا الكائن الحي الأولي خلق الله جميع أنواع الكائنات الحية التي ظهرت على هذه الأرض، والتي تعد بعشرات الملايين وذلك من خلال إعادة كتابة برامج التصنيع المخزنة على أشرطة الحامض النووي الموجودة في الخلايا التي تبدأ منها عملية تصنيع مختلف أنواع الكائنات الحية. 

لقد أجمع علماء التطور بعد اكتشاف شريط الحامض النووي في منتصف القرن العشرين، ومعرفة الدور البالغ الذي يلعبه في ظاهرة  الحياة على أنه لا يمكن لأي شكل من أشكال الحياة أن يظهر على الأرض قبل أن يتم تصنيع هذا الشريط. ففي هذا الشريط يكمن سران من أهم أسرار الحياة، أولهما: قدرته على إنتاج نسخ طبق الأصل عن نفسه بنفسه وبهذا السر تستطيع الخلايا وكذلك الكائنات الحية أن تنتج نسخا عن نفسها بنفسها بدون تدخل أيّ قوة خارجية. أم السر الثاني: فهو قدرته على تخزين المعلومات اللازمة لتصنيع مختلف مكونات الكائنات الحية كمواصفات المواد العضوية البسيطة منها والمعقدة، ومواصفات مكونات الخلية الحية ومواصفات مختلف أنواع الخلايا الحية، ومواصفات أجسام الكائنات الحية. ولنفرض جدلا أن جميع المواد العضوية اللازمة لتصنيع أول كائن حي مكون من خلية واحدة قد تم تصنيعها في الطبيعة بالصدفة، ومن ثم اجتمعت الصدف لتصنيع جميع مكونات الخلية الحية، وأخيرا اجتمعت الصدف لتجمع هذه المكونات مع بعضها في حيز واحد لتصنع منها هذا الكائن الحي الأولي.  إن مثل هذا الكائن الأولي الذي اجتمعت مكوناته ومواده العضوية بالصدفة، لا يمكن اعتباره كائنا حيا بمعنى الكلمة حتى لو عاش لفترة طويلة من الزمن، طالما أنه لا يمتلك الآلية التي يستطيع من خلالها أن ينتج نسخة جديدة عن نفسه بنفسه. فهذا الكائن سيموت عاجلا أم آجلا، وعلينا أن ننتظر الصدف لتجتمع من جديد لتصنع كائن جديد من المؤكد أنه لن يكون على شكل الكائن القديم فالصدفة ليس لها ذاكرة تحتفظ بمواصفات الكائن القديم.

ولكي يتحقق تعريف الحياة على الكائن الحي الذي سيظهر للوجود لأول مرة يجب أن يمتلك خاصيتين أولهما: أن يكون قادرا على إنتاج نسخة طبق الأصل عن نفسه بنفسه بدون تدخل أيّ قوة خارجية، وذلك من خلال تخزين تعليمات تصنيعه في مكان ما في جسمه. وثانيهما: أن يكون قادرا على تأمين ما يحتاج إليه من مواد عضوية لبناء جسمه وجسم الكائن الجديد من خلال تحويل المواد غير العضوية المتوفرة في الطبيعة إلى مواد عضوية. ويتضح من هذا الشرح أن عملية تصنيع الكائن الحي تتطلب أولا: تخزين كامل تعليمات التصنيع في مكون ما من مكونات هذا الكائن وتحتاج ثانيا: إلى آلية تقوم بتنفيذ هذه التعليمات لتصنيع مختلف مكونات وأجزاء هذا الكائن. وهذا يعني أن عملية تصنيع أول كائن حي ظهر على وجه الأرض من المواد العضوية البسيطة التي تكونت في جو الأرض الأولي قد تم وفق خطة مدروسة بشكل بارع لا مجال للصدفة أن تكون قد تدخلت في أيّ خطوة من خطواتها. وكما ذكرنا سابقا فإن سر الحياة الأعظم  يكمن في قدرة الخلية الحية على إنتاج نسخة عن نفسها بنفسها دون تدخل أيّ قوة خارجية، وذلك بمجرد صدور الأمر لها ببدء هذه العملية من مكان ما في داخلها. وتقوم الخلية عند انقسامها بتوزيع محتوياتها الداخلية إلى مجموعتين متماثلتين ثم تقوم بوضع جدار فاصل بين هاتين المجموعتين، لتنتج خليتين، كل واحدة منهما نسخة طبق الأصل عن الخلية الأم التي أنتجتهما.

وقد تبين للعلماء بعد طول بحث وعناء أن الذي يقوم بإعطاء أمر الانقسام للخلية هو شريط الحامض النووي الموجود في داخلها من خلال تنفيذ برنامج معقد يحدد الخطوات التي تلزم لإجراء عملية الانقسام بكامل تفاصيلها. ومن المعروف أن أحد أهم الخطوات التي تتطلبها عملية انقسام الخلية هي الخطوة التي يتم فيها إنتاج نسخة طبق الأصل عن شريط الحامض النووي لكي يودعها لإحدى الخليتين الناتجتين عن الانقسام. وهذا يتطلب أن يعطي هذا الشريط  أمر إنتاج نسخة عن نفسه من تلقاء نفسه، وفي هذه الخاصية يكمن سر الحياة الأعظم الذي حول تراب الأرض الميت إلى هذا التنوع الهائل في أشكال الحياة. ولولا هذه الخاصية الفريدة لشريط الحامض النووي لما أمكن للحياة أن تظهر ولا أن تدوم على سطح هذه الأرض منذ آلاف الملايين من السنين وإلى أن يشاء الله. فالمعلومات الوراثية التي تلزم لتصنيع أيّ كائن حي يتم توارثها من خلال إنتاج نسخة طبق الأصل عن شريط الحامض النووي  في كل خلية قبل انقسامها إلى خليتين ووضع نسخة من هذا الشريط في كل من هاتين الخليتين. ولا يقتصر دور شريط الحامض النووي على هذه المهمة فقط، بل هو الذي يقوم بإدارة جميع العمليات الحيوية في داخل الخلايا الحية أيّ أن هذه الخلايا لا يمكن أن تعيش بدون وجود هذا الشريط في داخلها.

 وبناء على ذلك، فإن عملية تحويل التراب إلى كائن حي مهما بلغت بساطة تركيبه  يتطلب أولا تصنيع  شريط  الحامض النووي من التراب وذلك لكي يتولى بقية المهام اللازمة لخلق أول كائن حي ظهر على الأرض. ويقول علماء التطور أنه إذا  ما تم بطريقة ما تصنيع مادة عضوية تستطيع أن تنتج نسخة عن نفسها من تلقاء نفسها، فإن ذلك تحقيق لأهم سر من أسرار الحياة وهو سر التكاثر التلقائي. ويعتبر ظهور أول شريط حامض نووي على وجه الأرض ظهورا لأول شكل من أشكال الحياة عليها وبظهوره انتهت مرحلة التطور الكيميائي للحياة وبدأت مرحلة التطور الحيوي للحياة من خلال أخذ هذا الشريط لزمام الأمور، حيث بدأ في تصنيع مكونات الخلية ومن ثم تصنيع الخلية الحية التي انبثقت منها جميع أشكال الحياة التي نشاهدها على الأرض اليوم.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المرحلة البالغة الأهمية من مراحل تطور الحياة على الأرض في إحدى آياته، وذلك في قوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" المؤمنون 12. وسنبين من خلال الشرح التالي أن المقصود بسلالة الطين في هذه الآية هو أول شكل من أشكال شريط الحامض النووي الذي انبثقت منه الحياة على الأرض. ولكي نفهم معنى كلمة السلالة الواردة في هذه الآية لا بد من الاستعانة بمعناها في آية أخرى، وهي قوله تعالى "الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثمّ جعل نسله من سلالة من مآء مهين" السجدة 7-8.  وتبين الآية الكريمة الثانية أنه بعد أن تم خلق الإنسان من الطين لأول مرة أصبحت عملية إنتاج البشر وغيره من الكائنات تتم من خلال سلالة الماء المهين وليس من التراب مباشرة. وكلمة نسله  في قوله تعالى "ثمّ جعل نسله" يمكن فهم معناها من خلال إبدالها بكلمة نسخه، كأن نقول ثم جعل نسخه أما معنى السلالة في قوله تعالى "سلالة من مآء مهين"  فتعني أن عملية النسخ هذه تبدأ من مكون  يأتي على شكل سلسلة من الماء بالغة الضعف. وبعد أن اكتشف العلماء أن شريط الحامض النووي الموجود في نواة الخلية هو المسؤول عن عملية تصنيع جميع أنواع الكائنات الحية يتأكد لنا أن سلالة الماء المهين ما هي إلا هذا الشريط الضعيف، كما سنبين تفصيلات ذلك في باب قوله تعالى "ثمّ جعل نسله من سلالة من مآء مهين".

وبناء على هذا الشرح يمكن أن نفهم، ما المقصود  بسلالة الطين في قوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" فمن الواضح أن معنى السلالة في الآيتين واحد، إلا أن السلالة في وقت من الأوقات كانت مصنوعة من الطين ثم تحولت في وقت لاحق إلى سلالة مصنوعة من الماء. فسلالة الطين كانت إحدى المراحل التي مر بها خلق الإنسان الأول وهي  مراحل تحول التراب إلى أول شكل من أشكال الحياة أو ما يسمى بمرحلة التطور الكيميائي أما سلالة الماء فهو شريط الحامض النووي المستخدم حاليا في عملية نسخ وتصنيع الكائنات الحية من أصولها. وفي قول الله سبحانه وتعالى "أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة ثمّ سواك رجلا" تأكيد على وجود هاتين المرحلتين، وهما مرحلة تحويل التراب إلى أول خلية حية ظهرت على وجه الأرض أيّ مرحلة الخلق من التراب، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الخلق من النطفة، أيّ تحويل الخلية الحية الواحدة إلى كائن حي كامل  كالإنسان مثلا. وكما أن سلالة الماء أو شريط الحامض النووي هو المسؤول عن تحويل الخلية الواحدة إلى كائن حي بكامل تفصيلاته، فإن سلالة الطين هي المسؤولة عن تحويل التراب الميت إلى أول شكل من أشكال الحياة وهو الكائن الحي البدائي المكون من خلية واحدة. وقد أطلق القرآن الكريم اسم سلالة الطين على مرحلة تصنيع أول شريط حامض نووي ظهر للوجود بينما أطلق علماء التطور عليه اسم عالم الحامض النووي الرايبوزي. ومن الواضح أنه لا مكان لمرحلة السلالة الطينية في مراحل خلق الإنسان كما يتصورها بعض أنصار الخلق المباشر، فكل ما يحتاجه تصنيع الإنسان حسب تصورهم هو عجن التراب بالماء لينتج الطين ثم تشكيل الطين على هيئة إنسان ثم يترك ليجف في الشمس ليصبح صلصالا كالفخار ثم ينفخ الله فيه من روحه ليتحول إلى إنسان من لحم ودم. ولو أنك سألت أنصار الخلق المباشر عن المقصود بسلالة الطين، وكذلك عن مكانها في مراحل الخلق التي ذكرها القرآن لما استطاعوا أن يجيبوك على ذلك، فمن الواضح أن سلالة الطين هي مرحلة غير مرحلة الطين أو الطين اللازب التي بدأ الله خلق الإنسان منها.

وبعد أن أصبح علماء التطور على قناعة تامة بأن أحد أشكال شريط الحامض النووي هو أول ما ظهر من مكونات الخلية الحية بدأ البحث عن الشكل الذي كان عليه هذا الشريط، وذلك لكي يتوصلوا إلى معرفة الطريقة التي تم تصنيعه من خلالها. وقد استعان هؤلاء العلماء بالإنجازات العلمية المذهلة التي حققها علماء الأحياء في مجال تركيب الخلية الحية وما تحويه من مكونات بالغة التعقيد، فقاموا بدراسات معمقة لتركيب شريط الحامض النووي، وكذلك الطريقة التي يعمل بها في إدارة العمليات الحيوية في الخلية. وقد اكتشف علماء الأحياء أن شريط الحامض النووي الحالي يأتي على ثلاثة أشكال فالشكل الأول: هو شريط الحامض النووي الرئيسي الموجود في نواة الخلية والذي يحتوي على جميع المعلومات اللازمة لإدارة العمليات الحيوية في الخلية والمعلومات اللازمة لتصنيع أجسام الكائنات الحية. أما الشكل الثاني: فهو شريط الحامض النووي المراسل الذي يقوم بنقل المعلومات المخزنة على  الشريط الرئيسي إلى مصانع البروتينات المنتشرة في الخلية الحية خارج النواة. أما الشكل الثالث: فهو شريط الحامض النووي الناقل وهو الذي يقوم بنقل الأحماض الأمينية من أماكن تواجدها في الخلية إلى مصنع البروتينات حيث يتم ربطها حسب التسلسل الموجود على الشريط المراسل.

يتكون الشريط الرئيسي من سلسلتين جانبيتين طويلتين يتم بناء كل منهما من خلال ربط نوعين من الجزيئات أحدهما من السكر والأخرى من الفوسفات  بشكل متعاقب، ومن ثم يتم ربط الأحرف الوراثية بين السلسلتين على مسافات محددة وذلك على شكل درجات السلم. وتتكون كل درجة من درجات هذه الشريط من حرفين وراثيين يرتبط أحدهما بأحد جزيئات السكر الموجودة على إحدى السلسلتين بينما يرتبط الحرف الأخر  بجزيء السكر المقابل الموجود على السلسلة الأخرى ويرتبط هاذين الحرفين ببعضهما البعض عند منتصف الدرجة. أما الشريط المراسل فهو شريط أحادي السلسلة له تركيب يشبه تركيب إحدى سلسلتي شريط الحامض النووي الرئيسي باستثناء أن أحد أحرف التشفير الأربعة يختلف عن تلك الموجودة  في الشريط الرئيسي وهو شريط قصير نسبيا فيه من المعلومات ما يكفي لتصنيع نوع واحد من البروتينات. أما الشريط الناقل فهو شريط أحادي السلسلة قصير جدا يتكون من ثلاثة أحرف فقط وقد اكتشف العلماء أن لكل حامض أميني هنالك شريط حامض نووي ناقل خاص به لا يلتصق إلا به ويقوم بحمله إلى مصنع البروتينات عند تصنيع البروتينات.

وقد اكتشف العلماء أن الشيفرة الوراثية في جميع الكائنات الحية مكتوبة بنفس نوع الأحرف والتي يبلغ عددها أربعة أحرف فقط، وأن طول كلمة الشيفرة هو ثلاثة أحرف وهو الطول اللازم لتشفير الأحماض الأمينية العشرين التي تلزم لتصنيع مختلف أنواع البروتينات والأنزيمات التي تحتاجها الكائنات الحية. ويعتقد علماء التطور أن شريط الحامض النووي الذي صنعته الطبيعة لأول مرة في تاريخ الحياة لا بد وأن يكون بنفس مواصفات الأشرطة الحالية من حيث عدد أحرف التشفير وطول كلمة التشفير. ولقد ثبت للعلماء بما لا يدع مجال للشك أن جميع الكائنات الحية ابتداء بالفيروسات وانتهاء بالإنسان تستخدم نفس نظام التشفير ونفس المواد العضوية.  ولو لم يكن الأمر كذلك لظهر للوجود كائنات حية بأشرطة وراثية بأطوال كلمات مختلفة وعدد أحرف تشفير مختلفة وهذا الترتيب يدحض زعم أنصار التطور من أن الصدفة هي المسؤولة عن خلق الحياة على الأرض. فلو أن الصدفة كانت هي المسؤولة عن ذلك لظهر في مياه الأرض المتباعدة نظم حياة لها أنظمة تشفير مختلفة من حيث عدد الأحرف وطول الكلمات. ويعتقد علماء التطور بأن  تركيب شريط الحامض النووي الذي ظهر للوجود أول مرة كان في أبسط أشكاله أيّ أنه كان يتكون من  سلسلة جانبية واحدة قصيرة نسبيا وهو أقرب ما يكون في الشكل  لشريط الحامض النووي المراسل أو حتى الناقل. وقد زاد من قناعة العلماء بهذا الرأي أن بعض الفيروسات والتي هي أبسط الكائنات الحية تركيبا يتكون شريطها الوراثي من شريط حامض نووي أحادي السلسلة بينما تتكون الأشرطة الوراثية لبقية الكائنات الحية من أشرطة مزدوجة السلسلة. وبعد هذه الاكتشافات انصب جهد علماء التطور على البحث عن الكيفية التي تم بها تصنيع شريط الحامض النووي الذي كتب الله عليه المعلومات اللازمة لتصنيع أول كائن حي ظهر على وجه الأرض، والذي كان يتكون من خلية واحدة في أبسط أشكالها.

إن الأحماض النووية مثلها مثل البروتينات لا يمكن تصنيعها في الطبيعة إلا بوجود الأنزيمات ولكن بما أن الأنزيمات لا وجود لها في تلك الحقّبة من الزمن فلا بد من وجود عامل ما ساعد على عملية تصنيع أشرطة الأحماض النووية. وقد ذكرنا في الباب السابق أن علماء التطور، قد اهتدوا وبشكل غير متوقع إلى أن الصلصال قد لعب دورا رئيسيا في عملية تصنيع المواد العضوية المعقدة. ولم يتم اختيار العلماء للصلصال المتبلور من بين كثير من المواد البلورية بشكل اعتباطي بل كان نتيجة لدراسات معمقة أجراها العلماء على مختلف أنواع الأجسام البلورية. وقد وقع الاختيار على الصلصال لامتلاكه خاصيتين مهمتين أولهما:  أنه يتكون من طبقات رقيقة ودقيقة، تعيد نفسها بشكل متكرر وبأنماط متعددة لا توجد في غيره من المواد البلورية. أما الخاصية الثانية: التي يمتلكها الصلصال فهي قدرته على تفريغ الطاقة التي تحتويها جزيئاته  في جزيئات المواد العضوية الملتصقة به، ممّا يمكنها من الارتباط  ببعضها البعض، وذلك عند تعرض هذا الصلصال لسلسلة من دورات التجفيف والترطيب. وقد يكون في تأكيد القرآن على أن الصلصال الذي ساعد  في ظهور الحياة عند نشأتها الأولى هو النوع الذي يشبه الفخار إشارة إلى ضرورة أن يكون الصلصال بالشكل البلوري الذي يمتلك مثل هذه الخصائص التي يبحث العلماء عنها. وقد يسأل سائل عن السبب الذي دفع العلماء لأن ينحو هذا المنحى الغريب ويبحثوا عن المواد البلورية التي قد تكون ساعدت في تصنيع شريط الحامض النووي الأولي. ويعود السبب في ذلك إلى أن العلماء قد تأكدوا أولا أن تصنيع شريط الحامض النووي من مكوناته الأولية، لا يمكن أن يتم بدون الأنزيمات وبما أن الأنزيمات لم تكن موجودة في تلك الفترة من تطور الحياة فلا بد من وجود عامل آخر قد قام مقامها. وبما أن شريط الحامض النووي يتكون من وحدات أساسية مرتبطة ببعضها على شكل سلسلة وتعيد نفسها بتكرار معين فليس غريبا أن يبحث العلماء عن مواد بلورية فيها مثل هذا النمط من التكرار.

وقد ذهب علماء التطور مذاهب شتّى حول  الطريقة التي عمل من خلالها الصلصال على تصنيع أول شريط حامض نووي ظهر على الأرض. فقد قال بعض علماء التطور أنه على حواف وأسطح  قطع الصلصال المتبلور، بدأت الجزيئات العضوية البسيطة المكونة للشريط الوراثي بالالتصاق بالطبقات البلورية الدقيقة لهذا الصلصال، بحيث تحدد طبيعة الطبقة نوع الجزيء الذي يلتصق بها. وبعد أن يكتمل تكون سلسلة من هذه الجزيئات العضوية على  حواف وأسطح الصلصال الذي حدد ترتيب طبقاته ترتيب الجزيئات العضوية، تقوم هذه السلسلة بالانفصال عن الحافة الصلصالية وتبدأ بالانتشار بالماء. بينما قال فريق آخر من علماء التطور أن الجزيئات المكونة للحامض النووي أصغر من أن يتم ترتيبها على طبقات الصلصال الأكبر حجما ومن الممكن أن الجزيئات التي اصطفت على طبقات الصلصال هي جزيئات غير عضوية. وهذا يعني أن أول أشكال شريط الحامض النووي ليس بالضرورة أن يكون مصنوع من مواد عضوية بل هو مصنوع من مواد غير عضوية لها جزيئات كبيرة الحجم تتناسب وأبعاد طبقات الصلصال. وقد تم في مراحل لاحقة وبعد سلسلة معقدة وطويلة من التحولات استبدال السلاسل غير العضوية بالسلاسل العضوية الموجودة حاليا في الكائنات الحية. ومرة أخرى نقول لو أن العالم الذي اقترح أن شريط الحامض النووي في أحد أطواره قد صنع من مواد غير عضوية كان من المسلمين لشككنا حتى نحن المسلمين في نتائج أبحاثه واتهمناه بتزوير الحقائق، لكي تتوافق مع  قول الله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين". وبغض النظر عن الطريقة التي لعب الصلصال بها دوره في إنتاج أول شريط حامض نووي فإن الحقيقة التي أوردها القرآن من أن  الصلصال كان أحد الأطوار التي مر بها خلق الإنسان، قد أثبتها العلماء بما لا يدع مجالا للشك، وإذا كان هنالك من اختلاف بينهم فهو حول الكيفية التي تمكن بها الصلصال من فعل ذلك.

ونعود الآن لشرح الطريقة التي تم بها تصنيع شريط الحامض النووي الأولي بمساعدة الصلصال، وكيف تمكن هذا الشريط البدائي بعد تصنيعه من إلغاء دور الصلصال والقيام بنفسه بمختلف المهام التي أدت لتصنيع أول كائن حي ظهر على الأرض. ولا بد من التذكير هنا من أن جميع المواد العضوية البسيطة التي تلزم لتصنيع هذا الشريط قد سبق تصنيعها في جو الأرض الأولي، أيّ في مرحلة الحمأ المسنون، حيث كانت متوفرة بكميات كبيرة في مياه الأرض إلى جانب بقية المواد العضوية البسيطة. ويحتاج شريط الحامض النووي لتصنيعه ستة أنواع من الجزيئات وهي جزيء السكر وجزيء الفوسفات الذين يلزمان لتصنيع السلسلة الجانبية للشريط والجزيئات الأربعة المتبقية هي أحرف التشفير التي يتم  تثبيتها على هذه السلسلة الجانبية. ومن المناسب هنا أن نذكر القارئ بأنه على الرغم من توفر جميع مكونات شريط الحامض النووي في نفس الحيز إلا أنها غير قادرة على الارتباط ببعضها البعض لتصنع هذا الشريط، وذلك بسبب عدم توفر الأنزيمات في تلك الحقّبة من تطور الحياة. وهذا هو السبب الذي دفع علماء التطور للبحث عن شيء ما في الطبيعة يقوم مقام الأنزيمات لكي يساعد هذه الجزيئات للارتباط ببعضها وكان أن اهتدوا إلى الصلصال الذي كالفخار ليكون المنقذ لهم من هذه الورطة. ومن الطبيعي أن يكون هذا الصلصال موجودا في قاع المسطحات المائية المملوءة بمختلف أنواع المواد العضوية البسيطة التي قام جو الأرض الأولي بتصنيعها، وذلك لكي تتاح الفرصة لهذه الجزيئات بملامسة سطحه من خلال انتشارها في الماء. ويقول العلماء أنه على حواف وأسطح الصلصال بدأت أنواع مختلفة من المواد العضوية بالتكون وذلك حسب الأنماط البلورية الموجودة عليه. ولكن ليس كل ما ينتجه الصلصال من مواد عضوية  تصلح لأن تكون جزيئات مفيدة لعملية تطور الحياة على الأرض، حيث أن كثيرا من هذه المواد تبدأ بالتحلل بعد فترة وجيزة من مغادرتها للصلصال نتيجة لتفكك روابطها الكيميائية بسبب الحرارة.  

ويعتقد العلماء أن سلاسل الأحماض النووية هي الجزيئات الوحيدة التي يمكن لها أن تعيش لفترات طويلة بعد انفصالها عن الصلصال إذا ما توفرت فيها خاصية مهمة وهي قدرتها على إنتاج نسخ عن نفسها بنفسها. ومن المحتمل أن تكون السلسلة الجانبية لشريط الحامض النووي هي التي قام الصلصال بتصنيعها على حوافه وأسطحه فهي سلسلة سهلة التركيب حيث أنها مكونة من نوعين فقط من الجزيئات وهما جزيء السكر وجزيء الفوسفات يتم ترتيبهما على السلسلة بشكل متعاقب. وأثناء وجود هذه السلسلة الجانبية على حواف وأسطح الصلصال، تبدأ الجزيئات الوراثية الأربع بالارتباط بجزيئات السكر بطريقة عشوائية، مكونة أشرطة حامض نووي بأطوال مختلفة، وبالطبع بمعلومات لا معنى لها في البداية. ولقد تبين للعلماء أن النيوكليدات وهي الجزيئات المكونة لسلاسل الأحماض النووية والتي تأتي على أربعة أنواع تمتلك خاصية مميزة، وهي قدرة كل منها على الارتباط بنوع واحد فقط من هذا النيوكليدات، ممّا يعني أن لكل نيوكليد يوجد نيوكليد متمم له. وبهذه الخاصية العجيبة، يمكن لسلسلة حامض نووي أن تنتج سلسلة متممة لها من خلال ارتباط النيوكليدات الحرة بالنيوكليدات الموجودة على السلسلة الأصلية ثم تنفصل السلسلة المتممة بمجرد اكتمال تكونها.

 إن عملية النسخ هذه قد تمت في بادئ الأمر على سطح الصلصال، حيث أنه هو الذي يقوم بتوفير الطاقة اللازمة لربط هذه الجزيئات ببعضها البعض. وهذا ما يحدث تماما عندما  يقوم شريط الحامض النووي  المزدوج السلسلة الموجود في الخلايا الحية الحالية  بإنتاج نسخة عن نفسه، عند انقسام الخلية الحية ولكن بالطبع بمساعدة الأنزيمات. وبنفس هذه الطريقة تقوم السلسلة المتممة بإنتاج نسخة طبق الأصل عن السلسلة الأصلية التي أنتجتها وهكذا تعاد الكرة مرة بعد مرة لتنتج أعداد كبيرة من السلسلة الأصلية وكذلك متممتها. إن أهم ما في عملية النسخ هذه هو حفظ المعلومات الموجودة على النسخة الأصلية من شريط الحامض النووي إلى فترات زمنية طويلة. وبآلية النسخ هذه تحقق أحد أهم شروط الحياة وهو قدرة الحامض النووي بالاحتفاظ بالمعلومات المكتوبة عليه لفترات زمنية طويلة من خلال إنتاج نسخ جديدة عن نفسه تحول دون انقراضه هذا إذا ما توفرت المواد الخام والطاقة اللازمتين لعملية الإنتاج. فأما المواد الخام وهي النيوكليدات فإن جو الأرض الأولي هو الذي قام بإنتاجها وأما الطاقة فإنه يستمدها من الطاقة المخزنة في الصلصال الذي له القدرة على تفريغ طاقته في الجزيئات العضوية الملتصقة به. ومن الواضح أن شريط الحامض النووي الذي قام الصلصال  بتصنيعه لأول مرة هو سلالة الطين التي ورد ذكرها في الآية القرآنية التي تحمل عنوان هذا الباب. فهذا الشريط يختلف عن شريط الحامض النووي الموجود في خلايا الكائنات الحية الحالية والذي سماه القرآن الكريم سلالة الماء في أن تصنيعه يتم من قبل الصلصال الذي صنع من الطين بينما يتم تصنيع سلالة الماء في داخل الخلايا الحية.

إن ما تم تحقيقه في مرحلة سلالة الطين يعتبر إنجازا بالغ الأهمية في تاريخ تطور الحياة على الأرض، فقد توفر في الطبيعة مادة عضوية يمكنها الاحتفاظ بالمعلومات الرقمية التي تكتب عليها من خلال إنتاج نسخ جديدة عن نفسها بمساعدة الصلصال وجو الأرض الأولي. ولكن ما الفائدة من وجود شريط حامض نووي يحمل سلسلة طويلة من الأحرف الرقمية، ويقوم بتجديدها كل حين من خلال عملية النسخ التي شرحناها آنفا إن لم يكن بمقدوره الاستفادة من هذه المعلومات التي يحملها. ومن الطبيعي أن يدرك علماء التطور ما الذي يجب على هذا الشريط أن يفعله وهم يرون الأشرطة الموجودة في الخلايا الحية الحالية وهي تقوم بمهام  أقرب ما تكون للمعجزات. ولكن هؤلاء العلماء يدركون أيضا أن هذا الشريط مهما حمل من معلومات قد لا يستطيع عمل أيّ شيء بمفرده، فلو أن العلماء قاموا بسحب شريط حامض نووي من إحدى خلايا كائن حي وتم وضعه  في بركة ماء مليئة بالمواد العضوية المختلفة فلن يكون بمقدوره عمل أيّ  شيء. فشريط الحامض النووي يحتاج لمن يساعده في إنجاز مهامه المختلفة كما يفعل ذلك وهو في داخل الخلايا الحية، حيث يوجد فيها عشرات المكونات التي تقع تحت سيطرته وتقوم بتنفيذ أوامره. ومن الواضح الآن أن المطلوب من هذا الشريط الأعزل هو تصنيع مكونات الخلية المختلفة، وهذا يتطلب بدوره تصنيع المواد العضوية المعقدة التي تبنى منها هذه المكونات.

ولكي نبين مدى صعوبة هذه المهمة نذكر القارئ بأن تصنيع البروتينات في داخل الخلايا الحية الحالية لا يمكن أن يتم إلا من قبل مصانع البروتينات أو الرايبوسومات والتي لا يمكنها تصنيع البروتينات إلا بعد استلام تعليمات التصنيع التي تبين ترتيب الأحماض الأمينية في سلسلة البروتين المطلوب من شريط الحامض النووي القابع في نواة الخلية. ولكن مصانع البروتينات هذه تحتاج لتصنيعها عشرات الأنواع من البروتينات، وهي مصانع دقيقة لا ترى بالعين المجردة، وفيها من تعقيد التركيب ما لا يوجد في أعقد الأجهزة  التي صنعها الإنسان في هذا العصر. ومن الواضح أن شريط الحامض النووي قد وصل إلى طريق مسدود فلا هو قادر على تصنيع البروتينات اللازمة لتصنيع مصنع البروتينات ولا هو قادر على تصنيع مصانع البروتينات لأنها تحتاج للبروتينات لبناءها. ولكن هذا الشريط نجح في النهاية في حل هذه المعضلة الكبرى كما نشاهد ذلك على أرض الواقع، فهاهي الخلايا الحية تبني أعداد لا حصر لها من مصانع البروتينات في داخلها وهذه المصانع بدورها تقوم بإنتاج كميات ضخمة من مختلف أنواع البروتينات. والمطلوب الآن من علماء التطور أن يكتشفوا الطريقة التي تمكن من خلالها هذا الشريط البدائي من حل هذا المعضلة الكبرى. وسنبين في الشرح التالي أن الألغاز الموجودة في رحلة تحول التراب إلى أول شكل من أشكال الحامض النووي أو سلالة الطين لا تقاس مع الألغاز الموجودة في رحلة تحول هذا الشريط إلى أول خلية حية ظهرت للوجود.

من المنطقي أن يخمن علماء التطور بعد أن اكتشفوا كثيرا من تفصيلات تركيب الخلية الحية الحالية أن تكون المهمة الأولى لهذا الشريط هو إنتاج البروتينات فهي المواد العضوية الرئيسية التي تبنى منها مكونات الخلايا الحية، وبالتالي أجسام الكائنات الحية. لقد عرف العلماء أنه لكي يتمكن شريط الحامض النووي من تصنيع بروتين ما فلا بد من وجود علاقة تربط بين الأحماض الأمينية العشرين، التي تبنى منها سلاسل البروتين وبين النيوكليدات الموجودة على هذا الشريط. وفي علاقة الربط هذه يكمن أحد أهم أسرار الحياة وهي استخدام المعلومات لتصنيع الأشياء بشكل مباشر، دون تدخل من قوة خارجية، وهذه الفكرة الذكية لتصنيع الأشياء يستحيل أن تكون الصدفة قد وقفت وراء اختراعها.

لقد وجد العلماء أن عدد الأحماض الأمينية التي يحتاجها تصنيع مختلف أنواع البروتينات يبلغ عشرين حمضا، بينما يبلغ عدد أنواع الأحرف المستخدمة في كتابة المعلومات على  شريط الحامض النووي أربعة أحرف فقط. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يتم تمثيل  هذه الأحماض الأمينية العشرين باستخدام  هذه الأنواع الأربعة من الأحرف إلا باستخدام  شيفرة أو كلمة تتكون من عدة أحرف. فالشيفرة المستخدمة لتمثيل الأحماض الأمينية في الكائنات الحية الحالية، تتكون من ثلاثة أحرف، ولا بد  أن تكون هذه الشيفرة هي نفسها التي استخدمها  أول شريط حامض نووي ظهر للوجود. إن اختيار طول الشيفرة في أول شريط حامض نووي لم يتم بشكل اعتباطي، بل تم اختياره بشكل مدروس بحيث يزيد عدد توافيق كلماتها عن عدد الأحماض الأمينية العشرين، وذلك لكي تضمن أن يكون لكل حامض أميني شيفرة واحدة على الأقل تمثله. وبما أن طول الشيفرة أو الكلمة المستخدمة في الكائنات الحية يساوي ثلاث نيوكليدات وبما أن هنالك أربعة أنواع من النيوكليدات أو الأحرف فإن عدد الكلمات التي تنتج عن توافيقها يبلغ أربع وستون مجموعة وهذا يزيد عن عدد الأحماض الأمينة البالغ عشرين حمضا. ولو كان طول الشيفرة حرفين اثنين بدلا من ثلاثة لكان عدد التوافيق المكونة منها ستة عشر مجموع. وهذا العدد لا يكفي لتمثيل الأحماض الأمينية العشرين. ولا زال العلماء الذين يؤمنون بأن الصدفة هي التي وقفت وراء ظهور الحياة على الأرض في حيرة من أمرهم حول الطريقة التي تمكنت بها هذه الصدفة من أن تختار طول الشيفرة الصحيحة. وسنبين في باب قوله تعالى "ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى" أن اختيار هذه الشيفرة لا يمكن أن يتم إلا من قبل عليم خبير، قام بتصميم جميع مراحل خلق الكائنات ثم تركها لتعمل تحت سمعه وبصره.

ويتبين لنا بعد هذا الشرح أن المعلومات تكتب على شريط الحامض النووي على شكل شيفرات أو كلمات وتتكون كل شيفرة من ثلاثة أحرف، حيث يوجد لكل حامض أميني من الأحماض الأمينية العشرين التي تلزم لتصنيع مختلف أنواع البروتينات شيفرة واحدة أو أكثر. وقد يعجب القارئ إذا ما علم أن جميع المعلومات المكتوبة على أشرطة الحامض النووي الموجودة في جميع أنواع الكائنات الحية هي معلومات تحدد تسلسل الأحماض الأمينية في البروتينات. وباستخدام هذه المعلومات الرقمية المخزنة على الشريط الوراثي يتم  تصنيع جميع أنواع المواد العضوية المعقدة التي تبنى منها أجسام مختلف أنواع الكائنات الحية، والتي فيها من التعقيد ما يعجز البشر عن كتابة هذه المعلومات على ملايين الصفحات.

ونعود الآن للمعضلة التي لا زال العلماء يحاولون حلها، وهو كيف تمكن شريط الحامض النووي الأعزل من تصنيع البروتينات التي تلزم لتصنيع أول خلية حية وما فيها من مكونات، بعد أن علمنا أن البروتينات في الخلايا الحية الحالية، يتم تصنيعها في مصانع خاصة يتم التحكم بها من قبل شريط الحامض النووي. ولنفترض جدلا أن جهة ما قد تمكنت من كتابة المعلومات اللازمة لتصنيع بروتين ما على شريط الحامض النووي، فماذا ستكون الخطوة التالية التي يجب على الشريط القيام بها لكي يتمكن  من تصنيع هذا البروتين باستخدام هذه المعلومات.   لقد كان المخرج الوحيد للعلماء من هذا المأزق هو افتراض أن شريط الحامض النووي أحادي السلسلة يمكنه أن يعمل كإنزيم إلى جانب عمله كحامل للمعلومات. وقد عزز علماء التطور فرضيتهم هذه بدراسة خصائص شريط الحامض النووي المراسل الأحادي السلسلة المستخدم في نقل معلومات تصنيع البروتينات من الشريط الرئيسي إلى مصنع البروتينات في الخلايا الحية. وقد وجدوا أن لهذا الشريط القدرة على العمل كإنزيم يسرع من حدوث بعض التفاعلات الكيميائية ووجدوا كذلك أنه يدخل في تركيب مصنع البروتينات ممّا يرجح الرأي القائل بأن شريط الحامض النووي قد قام بنفسه بتصنيع بعض أنواع البروتينات في غياب مصانع البروتينات الموجودة حاليا في خلايا الكائنات الحية. وممّا يزيد من يقين العلماء بصحة هذه الفرضية أن شريط الحامض النووي الناقل الموجود في الخلايا الحية له القدرة على الارتباط بالأحماض الأمينية فهو الذي يقوم بنقل الأحماض الأمينية من مختلف أنحاء الخلية إلى مصنع البروتينات.

ولنفترض جدلا أن شريط الحامض النووي قد تمكن من تصنيع مختلف أنواع البروتينات بهذه الطريقة، وذلك على فرض أن هناك من يقوم بكتابة معلومات  تصنيع هذه البروتينات على هذا الشريط، فماذا عسى أن تكون الخطوة التالية التي يجب على الشريط القيام بها لإتمام عملية تصنيع أول خلية حية ستظهر للوجود. ولقد شرحنا في باب سابق تركيب الخلية وذكرنا أن فيها عدد كبير من المكونات وأن تركيب هذه المكونات من التعقيد ما عجز العلماء عن كشف كثير من أسرارها إلى يومنا هذا. ولكي نبين مدى الصعوبة التي سيواجهها شريط الحامض النووي لتصنيع هذه المكونات، نقدم شرحا مبسطا عن تركيب أحد أهم مكونات الخلية وهو الرايبوسوم أو مصنع البروتينات، الذي يتكون من ما يقرب من خمسين نوعا من البروتينات وعدد ممّاثل من الأحماض النووية، وهو مصنع جزيئي لا يمكن رؤيته بأقوى الميكروسكوبات الضوئية. وتأخذ هذه البروتينات والأحماض النووية مواقعها المحددة في هيكل هذا المصنع، بحيث تتكون في داخله فجوة يتم من خلالها تمرير شريط حامض نووي أحادي السلسلة  يحمل الشيفرات الرقمية التي تحدد ترتيب الأحماض الأمينية للبروتين المراد تصنيعه. إن فجوة التمرير يجب أن تصمم بشكل بالغ الدقة، بحيث تتسع لشيفرة واحدة فقط تتكون من ثلاثة أحرف، وعندما يتحرك المصنع على الشريط على شكل قفزات فإن كل قفزة يجب أن تساوي ثلاثة أحرف أيضا، وإلا فإن إزاحة خاطئة بحرف واحد أو حرفين  ستؤدي إلى تدمير كامل المعلومات الموجودة على الشريط. ولكي يقوم شريط الحامض النووي بتصنيع هذا المصنع المعقد عليه أن ينتج أولا جميع مكوناته من بروتينات وأحماض نووية ومن ثم يقوم بإعطاء الأوامر في وضع كل مكون من هذه المكونات في مكانه الصحيح في هيكل هذا المصنع.

وعلى القارئ أن يتذكّر أن شريط الحامض النووي ليس له أيدي ولا أرجل، بحيث يقوم بحمل هذه المكونات ويضعها في المكان المخصص لها في جسم الرايبوسوم،  بل على هذه المكونات أن تتحرك من تلقاء نفسها وتأخذ مكانها في جسم هذا المصنع. وقد يبادر قائل ويقول أن عملية تصنيع هذا المصنع وبهذه الطريقة أقرب ما تكون إلى المستحيل، وأنه ضرب من الخيال ولكن لا بد له أن يتراجع عن هذا القول إذا ما علم أن شريط الحامض النووي الموجود في الخلايا الحية الحالية يعمل ما هو أعقد من هذا، فهو يستطيع أن يصنع كائنات حية تتكون أجسامها من بلايين الخلايا ابتداء من خلية واحدة، بحيث تأخذ كل خلية من هذه الخلايا المكان المخصص لها في جسم الكائن. إن عملية تصنيع الرايبوسوم تحتاج لكتابة جميع تعليمات تصنيعه على شريط الحامض النووي،  كتحديد أنواع البروتينات والأحماض النووية التي يحتاجها وتحديد ترتيب الأحماض الأمينية والنيوكليدات لهذه الأنواع المختلفة من المواد العضوية المعقدة. ولكن السر الذي لا زال  يحير العلماء هو في الكيفية التي تتمكن فيها هذه البروتينات من أخذ مواقعها في جسم الرايبوسوم من تلقاء نفسها، وبدون مساعدة من أحد يقوم بحملها ويضعها في الأماكن المخصصة لها كما يفعل البشر عند صنع ما يصنعون من أشياء. إن الحل الوحيد لهذه المعضلة هو في تصميم أشكال البروتينات بحيث لا يمكنها أن تتراكب في جسم الرايبوسوم إلا بطريقة واحدة ينتج عنها الشكل الوحيد الذي يجب أن يكون عليه الرايبوسوم. إن هذا الأسلوب العجيب في تصنيع مكونات الخلية، هو نفسه المتبع في تصميم أشكال البروتينات، حيث أن أنواع ومواقع الأحماض الأمينية في سلسلة البروتين هي التي تحدد شكل البروتين النهائي فبعد أن يتم تصنيع سلسلة البروتين في الرايبوسوم فإنها تبدأ بالالتفاف حول نفسها من خلال التجاذب بين جزيئات أحماضها الأمينية، لتنتج شكلا واحدا فقط لهذا البروتين.

إن هذه الطريقة العجيبة في تصنيع الرايبوسوم تحتاج لمصمم لا حدود لعلمه، حيث تتطلب عملية التصميم أولا تحديد كامل تركيب جسم الرايبوسوم بحيث يقوم بالوظيفة التي صنع من أجلها، ومن ثم تحديد أنواع البروتينات التي تلزم لتصنيع هذا الجسم، بحيث يمكنها أن تتخذ مواقعها في جسم الرايبوسوم من تلقاء نفسها. وهذا يتطلب بالتالي تحديد سلسلة الأحماض الأمينية لكل نوع من هذه البروتينات بحيث يكون لكل منها شكله المميز الذي يمكنه من احتلال الموقع المخصص له بدون أيّ مساعدة من أحد. وبنفس هذه الطريقة تمكن هذا الشريط من تصنيع مختلف المكونات التي تلزم لتصنيع الخلية الحية والتي اجتمعت فيما بعد في داخل غشاء لتنتج أول كائن حي ظهر على الأرض مكون من خلية حية واحدة. ويتضح من هذا الشرح أن كل ما تحتاجه عملية تصنيع مكونات الخلية الحية وما تحتاجه من مواد عضوية مختلفة، هو كتابة معلومات التصنيع على شريط الحامض النووي ومن ثم تترك المهمة لهذا الشريط للقيام ببقية خطوات التصنيع بما أودعه الله من قدرة على حفظ المعلومات، وقدرة على العمل كإنزيم يسهل من حدوث التفاعلات الكيميائية. إن هذه الطريقة البالغة الذكاء التي يستخدمها شريط الحامض النووي لتصنيع مكونات الحياة هي نفسها التي يستخدمها الشريط الوراثي الموجود في خلايا الكائنات الحية الحالية لتصنيع كامل أجزاء أجسام الكائنات الحية ابتداء من خلية واحدة، كما سنشرح ذلك في باب قوله تعالى "صنع الله الذي أتقن كلّ شيء".

وبغض النظر عن صحة التفاصيل التي توصل إليها العلماء حول الكيفية التي صنع بها أول كائن حي ظهر على وجه الأرض، فإن هنالك اتفاقا قد يصل إلى حد التطابق بين المراحل التي ذكرها القرآن، والمراحل التي توصل إليه العلماء من خلال دراساتهم وأبحاثهم حول الكيفية التي تحول بها التراب إلى هذا  الكائن الحى الأولي. فلا خلاف بين ما ذكره القرآن وما توصل إليه علماء التطور من أن  بداية خلق الإنسان وغيره من الكائنات الحية كانت من الطين، مصداقا لقوله تعالى "الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين". ولا خلاف بينهم على أن هذا الطين قد تحول إلى نوع آخر من الطين، وهو الحمأ المسنون أو ما سماه العلماء الحساء البدائي، وذلك نتيجة لتراكم كميات كبيرة من المواد العضوية البسيطة في المسطحات المائية مصداقا لقوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون". ولا خلاف بينهما أيضا على أن المواد العضوية البسيطة في هذا الحمأ المسنون قد تحولت إلى مواد عضوية معقدة على سطوح وحواف المواد الصلصالية التي تشبه الفخار في تركيبها مصداقا لقوله تعالى "خلق الإنسان من صلصال كالفخار".  ولا خلاف بينهم كذلك على أن بداية الحياة كانت بعد ظهور أول شريط حامض نووي له القدرة على تخزين المعلومات الوراثية وله القدرة على التكاثر الذاتي وقد تكون هذا الشريط على أسطح وحواف الصلصال الذي كالفخار وذلك مصداقا لقوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين".

ومن الجدير بالذكر هنا أنه على الرغم من أن رحلة تحول التراب إلى أول كائن حي بدائي قد دارت أحداثها قبل ما يقرب من أربعة آلاف مليون عام، إلا أن العلماء بإصرارهم العجيب على كشف الحقيقة، تمكنوا من حل كثير من ألغاز هذه الرحلة المثيرة. وقد يشكك البعض في أن ما توصل إليه علماء التطور من نظريات حول نشأة الحياة على الأرض  هو ضرب من التكهنات والتخرصات التي لا مجال لإثباتها. وقد يكون لهذا الشك ما يبرره، إذا ما صدر عن من لا يمتلك مرجعية صحيحة يتأكد من خلالها من صحة ما يدعيه هؤلاء العلماء. أما بالنسبة لمن يؤمن بأن هذا القرآن منزل من لدن عليم خبير، فلا بد له من أن يقدّر جهود هؤلاء العلماء وهو يراهم يتوصلون لنتائج حول نشأة الحياة على الأرض، تتطابق بشكل كبير مع ما جاء به القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا. وإن أكثر ما يدلل على صحة المنهج الذي اتبعه العلماء للوصول إلى الحقائق المتعلقة بنشأة الحياة وصحة بعض النتائج  التي توصلوا إليها هو اكتشافهم للدور الذي لعبه الصلصال في نشأة الحياة الأولية. فالحياة  كما نشاهدها اليوم تقوم على الماء، ولا بد أنها نشأت في الماء، مصداقا لقوله تعالى "وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ"، وقوله تعالى "والله خلق كلّ دآبّة من مآء" فما الذي دعا العلماء لاختيار الصلصال الجاف كأحد المراحل التي مرت بها الحياة أثناء تطورها، رغم أن العقل قد لا يتقبل مثل هذه الفكرة. وكذلك هو الحال مع مرحلة الحمأ المسنون، فالطين لا يكون آسنا إلا إذا اختلط بأنواع مختلفة من المواد العضوية فيتغير لونه وتنبعث منه روائح كريهة وهذا بالضبط ما توصل إليه علماء التطور في وصف هذه المرحلة.  ولحسن الحظ أن هذا الاكتشافات قد تمت على أيدي علماء من غير المسلمين فلو كانوا من المسلمين  لظن الناس أن مرحلة الحمأ المسنون ومرحلة الصلصال قد أدخلت قسرا في مراحل الخلق لكي تتوافق مع ما جاء في القرآن الكريم من حقائق حول تطور الحياة على الأرض. إن علماء التطور بما توصلوا إليه من نتائج حول مراحل نشأة الحياة على الأرض إنما قاموا بطريقة غير مباشرة بتفسير كثير من الأيات القرآنية المتعلقة بهذه الموضوع، ولولا ذلك لبقي تأويل هذه الأيات في طي الغيب. وعلماء التطور ليس هم وحدهم من قام بتفسير مثل هذه الأيات القرآنية فقد قام علماء الفلك قبلهم بتفسير بعض الأيات القرآنية المتعلقة بخلق الكون وما فيه من أجرام كتفسير قوله تعالى "ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان"، وقوله تعالى "فلا أقسم بمواقع النجوم"، وقوله تعالى "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب" وكذلك قام علماء الجيولوجيا بتفسير قول الله سبحانه وتعالى "والجبال أوتادا" وقوله تعالى "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم".

وبعد هذا الشرح للمراحل التي مر بها التراب لكي  يتحول إلى أول كائن حي بدائي ظهر على الأرض يتبين لنا لماذا أهتم القرآن الكريم هذا الاهتمام البالغ  بذكر المراحل التي مر بها خلق الإنسان، وكذلك بقية أنواع الكائنات الحية. ولو أن هذه المراحل كانت على الصورة التي يتخيلها  بعض أنصار الخلق المباشر، وهي أن الله قد قام بعجن التراب بالماء ليجعل منه طينا، ثم قام بتشكيل هذا الطين ليكون على صورة إنسان،  ثم تركه في الشمس ليجف  فيصبح صلصالا كالفخار، ومن ثم نفخ فيه الحياة، لما استدعى الأمر أن يأمر الله البشر للسير في الأرض لكي يكتشفوا كيف بدأت عملية الخلق وذلك في قوله تعالى "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق". وعلى من يؤمن بأن الله قد خلق الإنسان بهذه الطريقة البسيطة أن يسأل نفسه عن مكان مرحلة الحمأ المسنون وكذلك مرحلة سلالة الطين في المراحل التي مر بها خلق الإنسان حسب هذا التصور البسيط. فالله لم يحث البشر لمعرفة الكيفية التي بدأت بها الحياة على الأرض إلا لكي  يكتشفوا مدى التعقيد الموجود في الكائنات الحية ومدى الصعوبة التي يتطلبها تحول التراب الميت إلى أول كائن حي ظهر على الأرض. إن مراحل خلق الإنسان لم تذكر في القرآن إلا لكي يوقن البشر عندما يكتشفوا مدى التطابق بين ما أخبرهم الله به وبين ما توصل إليه العلماء، بأن الله على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيئا علما "لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكل شيء علما".

ومن السهل على العاقل أن يقرر أيّ الطريقتين في الخلق أقدر على إظهار مدى علم الله وقدرته في خلق الأشياء عامة، وخلق الحياة على الأرض خاصة. فلا يوجد في عجن التراب ليكون طينا ثم تشكيله ليكون على شكل إنسان أو أيّ كائن حي آخر ثم يتركه ليجف ليصبح صلصالا كالفخار، ما يظهر مدى علم الله وقدرته على الخلق. أما عملية تصميم جو الأرض الأولي بشكل بالغ التقدير لكي تتهيأ الظروف المناسبة لتصنيع المواد العضوية البسيطة  اللازمة لبناء الكائنات الحية فتدل على وجود قوة عاقلة لا حدود لعلمها وقدرتها تقف وراء عملية التصميم هذه. وكذلك فإن استخدام الصلصال لتصنيع  مواد عضوية معقدة من هذه المواد العضوية البسيطة الذي أنتجها جو الأرض الأولي تؤكد على أن الله خلق مخلوقاته وفق أسس علمية واضحة، يمكن للبشر كشفها ولكنهم يقفون عاجزين عن تقليدها لما فيها من تعقيد. وأما عملية تصنيع أول شريط حامض نووي وكتابة المعلومات عليه بطريقة رقمية بحيث تمكن هذا الشريط من تصنيع المكونات المعقدة التي تلزم لتصنيع أول كائن حي ظهر الأرض والذي كان على شكل خلية حية بدائية فإنها تنفي نفيا قاطعا أن يكون هذا الأمر قد تم بالصدفة. ولولا هذه الحكمة الربانية في خلق الحياة بهذه الطريقة لكان الأولى أن يخلق الله الإنسان وبقية الكائنات الحية  بقوله للتراب كن فيكون وهو القادر على ذلك "إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون".  ولكن حكمة الله اقتضت أن يتم خلق هذه الكائنات الحية بشكل تدريجي، وعلى فترة طويلة من الزمن ووفق القوانين التي تحكم عمل جميع الأشياء في هذا الكون والتي يمكن للبشر فهمها وحل ألغازها، وذلك لكي يستدلوا بعد اكتشافها على  مدى علم وقدرة وحكمة من أبدعها وصدق الله العظيم القائل "وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها" والقائل سبحانه "سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن  لهم أنّه الحقّ".

 

 

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق