2013-09-17

أيام الخلق في التوراة والقرآن


أيام الخلق في التوراة والقرآن  

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي  \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

 
لا يوجد اختلاف بين الكتب السماوية الثلاث وهي التوراة والانجيل والقرآن على أن الله قد خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام. ولكن في المقابل يوجد اختلاف كبير في طبيعة الأحداث التي حصلت خلال هذه الأيام وكذلك ترتيبها. وسنبين في هذه المقالة أوجه الاتفاق والاختلاف بين ما ورد في القرآن الكريم والتوراة من الأحداث التي جرت في أيام الخلق الستة حيث أن الانجيل لم يأتي على ذكر هذه الأحداث وذلك على اعتبار أنه جاء مصدقا لما جاء في التوراة. وسنبين أن القرآن الكريم وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة أتت على ذكر أحداث  لم يسبق للكتب السماوية السابقة أن ذكرتها وأن ترتيب الأحداث المذكورة في القرآن قد جاءت متوافقة مع ترتيب الأحداث التي توصل إليها العلماء في هذا العصر وذلك على عكس ترتيب الأحداث المذكورة في التوراة. ولكي لا تتجاوز هذه المقالة الطول المسموح به فقد يجد القاريء بعض الاختصار في شرح الأحداث التي مر بها الكون ولكن يمكنه الرجوع إلى مزيد من التفصيل في مقالة "خلق الأرض في يومين" ومقالة "وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام" المنشورتين على موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

ولكي نتمكن من شرح النصوص الواردة في القرآن والتوراة والمتعلقة بأيام الخلق لا بد من شرح رأي العلم الحديث في الأحداث الرئيسية التي مر بها الكون إلى أن أصبح على الصورة التي هو عليها الآن. لقد نشأ هذا الكون طبقا للنظريات العلمية الحديثة نتيجة لانفجار كوني عظيم انبثقت منه جميع مادة هذا الكون حيث كان الكون عند ساعة الصفر على شكل نقطة مادية غاية في الصغر لها درجة حرارة وكثافة غاية في الكبر. ويقول العلماء أن مادة الكون كانت عند بداية الانفجار مادة صرفة ذات طبيعة واحدة وتحكمها قوة طبيعية واحدة وكانت على شكل كرة نارية متجانسة بدأت تتمدد وتتسع بصورة مذهلة لتملأ الفضاء من حولها. وعندما وصلت درجة حرارة الكرة إلى 1015 درجة مطلقة بعد مرور أقل من ميكروثانية من لحظة الإنفجار بدأت الجسيمات الأولية البسيطة  كالكواركات واللبتونات والفوتونات بالتشكل من هذه المادة الصرفة وبدأت كذلك قوى الطبيعية الأربعة التي كانت موحدة في قوة واحدة  بالانفصال عن بعضها البعض. ومع استمرار تناقص درجة حرارة هذا الكون الناشئ  إلى تريليون درجة مطلقة بعد مرور ما يقرب من ثانية واحدة، بدأت مكونات الذرة الأساسية من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات بالتشكل من خلال اندماج أنواع الكواركات والليبتونات المختلفة مع بعضها البعض نتيجة  لتأثير القوى الطبيعية المختلفة. وقد أودع الله هذه الجسيمات أربعة أنواع من القوى لكي تحكم تفاعلاتها مع بعضها البعض وهي القوة النووية القوية والقوة النووية الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية وقوة الجاذبية. فالقوتان النوويتان القوية والضعيفة تفوق شدتها بشكل كبير شدة القوتين الأخريين ولكنهما في المقابل لا تعملان إلا على مدى بالغ القصر وهما مسؤولتان عن تقييد البروتونات والنيوترونات في داخل نوى الذرات.  وتأتي القوة الكهرومغناطيسية بعد القوتين النوويتين من حيث الشدة وهي المسؤولة عن ربط الإلكترونات  بنواة الذرة من خلال الدوران حولها أما قوة الجاذبية وهي أضعف هذه القوى فهي المسؤولة عن ربط المجرات والنجوم والكواكب ببعضها البعض.

أما المرحلة الثانية من مراحل خلق الكون فهي مرحلة تكون النجوم والمجرات من هذه السحابة المكونة من البروتونات والنيوترونات والإلكترونات والفوتونات.  فبعد أن برد الكون إلى ما دون ثلاثة آلاف درجة بدأت الإلكترونات بالارتباط بالبروتونات نتيجة لتأثير القوة الكهرومغناطيسية لتشكل ذرات الهيدروجين المكونة من بروتون واحد وإلكترون واحد. ومع اتحاد البروتونات مع الإلكترونات أصبحت جميع مكونات الكون متعادلة كهربائيا معطية المجال لقوة الجاذبية لكي تعمل على بناء أجرام هذا الكون. لقد بقي الكون حتى هذه اللحظة متجانسا أيّ أن السحابة المكونة من ذرات الهيدروجين  والنيوترونات تتوزع على جميع أنحاء الكون بنفس الكثافة. ولكن في لحظة ما بدأت كثافة مادة الكون بالاختلال لسبب لم يجد العلماء له تفسيرا قاطعا وتكونت نتيجة لهذا الاختلال مراكز جذب موزعة في جميع أنحاء الكون وبدأت قوة الجاذبية تلعب دورها من خلال جذب مزيد من الهيدروجين المحيط بهذه المراكز إليها منشئة بذلك كتل ضخمة من الهيدروجين. وعندما وصل حجم هذه الكتل الهيدروجينية إلى حجم معين ونتيجة للضغط الهائل على الهيدروجين الموجود في مراكزها ارتفعت درجة حرارته إلى الحد الذي بدأت فيه عملية الاندماج النووي بين ذرات الهيدروجين منتجة ذرات الهيليوم بالإضافة إلى كميات كبيرة من الطاقة فتكونت بذلك النجوم. وتتفاوت أحجام النجوم المتكونة حسب كمية الهيدروجين الذي سحبته من الفضاء الكوني وحسب موقعها في إطار هذا الكون فكلما ازداد حجم النجم كلما ازدادت درجة حرارة باطنه بسبب ازدياد الضغط الواقع عليه. فالنجوم التي هي بحجم شمسنا لا يمكنها أن تحرق إلا الهيدروجين في باطنها ولذلك فهي لا تصنع إلا عنصر الهيليوم في داخلها. ولتصنيع عناصر أثقل من الهيليوم قدّر الله وجود نجوم أكبر حجما من الشمس وفي داخل هذه النجوم العملاقة بدأت عمليات اندماج نووية أكثر تعقيدا بين ذرات الهيليوم منتجة بذلك ذرات عناصر الليثيوم والكربون والنيتروجين والأكسجين وانتهاء بالعناصر الثقيلة كالحديد والرصاص واليورانيوم. وكما أن الاختلال الذي حصل في كثافة مادة الكون قد أدى إلى تكون النجوم بشكل منتظم في أرجاء الكون فإن اختلال آخر قد حصل في كثافة هذه النجوم بحيث أن النجوم المتجاورة بدأت بالانجذاب نحو مراكز ثقلها وبدأت بالدوران حول هذه المراكز مكونة المجرات. ويقدّر العلماء عدد المجرات في ما يسمى بالكون المشاهد بما يزيد عن ألف بليون مجرة ويبلغ متوسط عدد النجوم في المجرة الواحدة مائة بليون نجم. وعلى الرغم من أن دراسات وأبحاث العلماء قد اقتصرت على الأجرام الموجودة في الكون المشاهد إلا أن بعض علماء الفيزياء قد تمكنوا من وضع نظرية جديدة  معدلة لنظرية "الانفجار العظيم" أطلق عليها اسم نظرية  "الكون المنتفخ". فعندما قام العلماء بإعادة حل المعادلات الفيزيائية التي حكمت تفاعلات مادة وقوى الكون في اللحظات الأولى لنشوئه اكتشفوا حقائق عجيبة تدعم الصورة  التي رسمتها الكتب السماوية وخاصة القرآن الكريم عن تركيب هذا الكون. وملخص هذه النظرية أنه في خلال الثانية الأولى من الانفجار العظيم ونتيجة لحدوث ظاهرة فيزيائية غريبة يطلق عليها اسم التأثير النفقي بدأ الكون بالتمدد بمعدلات أكبر بكثير من المعدلات التي نصت عليها نظرية الانفجار العظيم. وقد نتج عن هذا التمدد المفاجئ للكون في لحظاته الأولى  ظهور عدة مناطق مادية على شكل فقاعات متلاحقة يفصل بينها حواجز قوية وشكلت كل فقاعة من هذه الفقاعات كونا خاصا بها.

أما المرحلة الثالثة من مراحل تكون هذا الكون فهي مرحلة تكون الكواكب حيث لم يجمع العلماء على رأي واحد حول الكيفية التي تكونت بها الكواكب حول نجومها بل تم طرح عدة نظريات لتفسير ذلك. ومن أشهر هذه النظريات تلك التي تقول أن المواد الخام المكونة لكواكب المجموعة الشمسية قد جاءت من خارج هذه المجموعة وتستند هذه النظرية إلى حقيقة مهمة وهي أن عدد وكمية العناصر الطبيعية الموجودة في الكواكب وخاصة الأرض لا يمكن للشمس أن تنتجها. ويرجح العلماء فكرة أن مادة الكواكب قد جاءت نتيجة انفجار عدد كبير من النجوم الضخمة بعد  نضوب وقودها وقد وقعت المواد المتطايرة من هذه النجوم في أسر جاذبية الشمس فأخذت تدور حولها مكونة الكواكب المختلفة. وقد كانت الأرض عند بداية تكونها كرة ملتهبة نتيجة التصادمات العنيفة بينها وبين النيازك التي تقع عليها من هذا الحطام المتناثر ومع تضاؤل كمية هذا الحطام بدأت الكميات  التي تقع منه على الأرض تقل بشكل تدريجي. وبدأ سطح الكرة الأرضية يبرد شيئا فشيئا نتيجة الإشعاع الحراري للفضاء الخارجي ولكن لا زال  باطنها يغلي ويفور بالمواد المنصهرة والتي كانت الأرض تقذف بها على شكل براكين رهيبة إلى خارج سطحها. ومع تواصل الإشعاع الحراري من سطح الأرض الملتهب بدأ سطحها يبرد شيئا فشيئا إلى أن بدأ بالتجمد مكونا قشرة صلبة ولكنها رقيقة نسبيا ولكن سمكها بدأ بالازدياد مع مرور الزمن إلى أن وصل لعدة عشرات من الكيلومترات في الوقت الراهن. وقد كانت الأرض في هذه الفترة على شكل كرة ملساء جامدة وقاحلة كما هو الحال مع أسطح كثير من كواكب المجموعة الشمسية في الوقت الراهن. وعندما أصبح سمك القشرة الأرضية بالقدر الكافي بدأت المواد التي تقذف بها البراكين من جوف الأرض بالتراكم فوقه ليبدأ بذلك تكون الجبال. وبعد أن تكونت القشرة الأرضية بدأ بخار الماء بالخروج من باطن الأرض من خلال تفجر البراكين وبدأ بالتراكم بكميات كبيرة فوق سطح الأرض أو في جوها. وبسبب ضغط الماء الكبير على قشرة الأرض التي كانت طرية ورقيقة في بداية نشأة الأرض فقد بدأ جزء من سطح الأرض بالانخفاض تحت وطأة هذا الضغط ممّا جلب مزيدا من الماء لهذا الجزء وقد توالت هذه العملية حتى تجمع الماء في جهة واحدة من سطح الأرض وانحسر عن الجزء المتبقي من السطح الذي ارتفع مستواه بسبب الضغط المعاكس على القشرة من  داخل الأرض مكونا اليابسة. ولقد تبين للعلماء من خلال أبحاثهم في هذا المجال أن المحيطات التي نراها اليوم كانت محيطا واحدا وكذلك القارات فقد كانت قارة واحدة ولكن وبسبب حركة الصفائح التي تتكون منها القشرة الأرضية بدأت القارة الأولية بالانقسام إلى عدة قارات بشكل بطيء جدا بما يسمى ظاهرة انجراف القارات. وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي. وبعد أن وفر الله  كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات ومن ثم خلق الله الإنسان.

وسنبدأ أولا بشرح أحداث أيام الخلق كما ذكرت في التوراة والتي لا يوجد فيها إلا نصا واحدا يتعلق بالأحداث التي مر بها الكون أثناء خلقه فقد جاء في الإصحاح الأول من سفرالتكوين ما نصه: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ.  وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ.  وَرَأَى اللهُ النُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَفَصَلَ اللهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ.  وَدَعَا اللهُ النُّورَ نَهَارًا، وَالظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلاً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا وَاحِدًا.

 وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ».  فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ.  وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا.

 وَقَالَ اللهُ: «لِتَجْتَمِعِ الْمِيَاهُ تَحْتَ السَّمَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَلْتَظْهَرِ الْيَابِسَةُ». وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْيَابِسَةَ أَرْضًا، وَمُجْتَمَعَ الْمِيَاهِ دَعَاهُ بِحَارًا. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَقَالَ اللهُ: «لِتُنْبِتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْرًا، وَشَجَرًا ذَا ثَمَرٍ يَعْمَلُ ثَمَرًا كَجِنْسِهِ، بِزْرُهُ فِيهِ عَلَى الأَرْضِ». وَكَانَ كَذلِكَ.  فَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْرًا كَجِنْسِهِ، وَشَجَرًا يَعْمَلُ ثَمَرًا بِزْرُهُ فِيهِ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ.  وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَالِثًا.

 وَقَالَ اللهُ: «لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ.  وَتَكُونَ أَنْوَارًا فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ». وَكَانَ كَذلِكَ.  فَعَمِلَ اللهُ النُّورَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ: النُّورَ الأَكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ، وَالنُّورَ الأَصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ، وَالنُّجُومَ.  وَجَعَلَهَا اللهُ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ،  وَلِتَحْكُمَ عَلَى النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَلِتَفْصِلَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ.  وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا رَابِعًا. وَقَالَ اللهُ: «لِتَفِضِ الْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ، وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ». فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ، وَكُلَّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحيَّةِ الدَّبَّابَةِ الْتِى فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ.  وَبَارَكَهَا اللهُ قَائِلاً: «أَثْمِرِي وَاكْثُرِي وَامْلإِي الْمِيَاهَ فِي الْبِحَارِ. وَلْيَكْثُرِ الطَّيْرُ عَلَى الأَرْضِ». وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا خَامِسًا.

 وَقَالَ اللهُ: «لِتُخْرِجِ الأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا: بَهَائِمَ، وَدَبَّابَاتٍ، وَوُحُوشَ أَرْضٍ كَأَجْنَاسِهَا». وَكَانَ كَذلِكَ.  فَعَمِلَ اللهُ وُحُوشَ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا، وَالْبَهَائِمَ كَأَجْنَاسِهَا، وَجَمِيعَ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ.  وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ».  فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ.  وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ».  وَقَالَ اللهُ: «إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْل يُبْزِرُ بِزْرًا عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْرًا لَكُمْ يَكُونُ طَعَامًا. وَلِكُلِّ حَيَوَانِ الأَرْضِ وَكُلِّ طَيْرِ السَّمَاءِ وَكُلِّ دَبَّابَةٍ عَلَى الأَرْضِ فِيهَا نَفْسٌ حَيَّةٌ، أَعْطَيْتُ كُلَّ عُشْبٍ أَخْضَرَ طَعَامًا». وَكَانَ كَذلِكَ. وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا سَادِسًا. فَأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا.  وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ.  وَبَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ السَّابعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ فِيهِ اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ اللهُ خَالِقًا".

 وقبل أن نبدأ بمقارنة ما ورد في هذا النص من أحداث مع ما توصل إليه العلم الحديث من حقائق حول هذا الموضوع لا بد من التأكيد على أننا كمسلمين نؤمن إيمانا لا يساوره شك بأن التوراة والانجيل هي كتب مقدسة أنزلها الله على رسله مصداقا لقوله تعالى "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله" المائدة 44 ولقوله تعالى "وقفينا على ءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين" المائدة 46. ولكننا في المقابل نعتقد أن الله لحكمة أرادها لم يتكفل بحفظ التوراة والإنجيل من النقص والزيادة مما يعني أن التوراة والإنجيل التي بيد اليهود والنصارى الآن ليست كما هي عند نزولها. ويعود إختلاف نصوص هذه الكتب المقدسة الحالية عن نصوصها الأصلية إلى أسباب كثيرة منها أنه لم يتم تدوينها في زمن نزولها بل تم ذلك في عصور لاحقة فضاع منها ما ضاع وبقي منها ما بقي، ومنها حدوث أخطاء في هذه النصوص نتيجة ترجمتها من لغتها الأصلية إلى اللغات الدارجة، ومنها التحريف المقصود من قبل بعض علماء أهل الكتاب مصداقا لقوله تعالى "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" البقرة 79. إن اعتقاد المسلمين بأن الكتب المقدسة الحالية ليست على الحال التي أنزلت عليه لا يعني بأي حال من الأحوال أن جميع نصوص هذه الكتب قد أصابها التحريف المقصود بل بالعكس فإن كثيرا من هذه النصوص لا مصلحة لأحد في تحريفها وإذا ما اكتشفنا بعض الأخطاء في بعضها فإن ذلك يعود للأسباب التي ذكرناها آنفا وهذا ما حصل مع نص التوراة المتعلق بأحداث خلق الكون.

ويمكن أن نلخص أحداث الخلق التي ذكرت في الإصحاح الأول من سفر التكوين كما يلي:  ففي اليوم الأول خلق الله الليل والنهار، وفي اليوم الثاني خلق الله السماء، وفي اليوم الثالث خلق الله البر والبحر والنباتات، وفي اليوم الرابع خلق الله الشمس والقمر والنجوم، وفي اليوم الخامس خلق الله أسماك البحر والزواحف وطيور السماء، وفي اليوم السادس خلق الحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان. ومن الواضح أن هنالك خلطا كبيرا في ترتيب بعض مراحل خلق مكونات هذا الكون في النص الوارد في سفر التكوين منها تقديم خلق الليل والنهار على خلق الشمس علما بأن ظاهرة اليل والنهار مرتبطة بوجود الشمس بل إن النص ذاته قد أشار في أحداث اليوم الرابع إلى هذه الحقيقة فقال "لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ". ومن الأخطاء تقديم خلق النباتات بحميع أنواعها على  خلق الشمس مع العلم  بأنه لا يمكن للنباتات بأي حال من الأحوال أن تعيش بدون الطاقة الشمسية التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي. ومن الأخطاء في هذا النص أنه أفترض أن الأرض موجودة منذ بداية أيام الخلق ولم يبين المدة التي استغرقها خلق هذه الأرض الخربة والخالية. ومن الأخطاء أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في اليوم الرابع بينما تم خلق الأرض في اليوم الأول وهذا ما لا يقبله العقل فلا وجود للأرض بدون الشمس. ومن الأخطاء أيضا أن النص أشار إلى أن الله خلق السماوات والأرض منذ البداية "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" ثم أشار إلى أنه خلق سماء واحدة وليس سماوات في أحداث اليوم الثاني. ويوجد كذلك لبس في الطريقة التي تم من خلالها خلق هذه السماء حيث أن هذه السماء فصلت المياه عن بعضها البعض فأصبح قسم منها فوق السماء وآخر تحتها ومن هذا القسم الأخير تكونت مياه الأرض " وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ».  فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ.  وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا". أما ما أشار إليه النص من أن النباتات خلقت في اليوم الثالث وأسماك البحر والزواحف وطيور السماء في اليوم الخامس والحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان في اليوم السادس فهي متوافقة مع الترتيب الذي وضعه العلماء وكذلك الترتيب الذي ورد في الأحاديث النبوية.

ونعود الآن إلى شرح النصوص التي وردت في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بخصوص أحداث خلق الكون. لقد أكد القرآن أولا على أن الله قد خلق السماوات والأرض في ستة أيام منها قوله تعالى "الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثمّ استوى على العرش ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع أفلا تتذكّرون" السجدة 4 وقوله تعالى "ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب" ق 38. وفي قول الله تعالى "وما مسنا من لغوب" رد على القول الوارد في سفر التكوين من أن الله قد استراح في اليوم السابع من العمل الذي عمله في الأيام الستة، فالله لا يحتاح إلى جهد حتى يستريح منه إذا أراد أن يخلق الأشياء "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" النحل 40. وقد جاء القرآن الكريم بحقائق كثيرة عن تفصيل هذه الأيام وكذلك عن الحال الذي كان عليه الكون عند بداية خلقه والحال التي سيؤول إليها في نهاية أمره. ومن أهم الأيات التي بينت أحداث خلق الكون هي قوله تعالى "قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" فصلت 9-12. لقد بينت هذه الآيات حقيقة كبرى لم ترد في التوراة ولم يكتشفها البشر إلا في القرن العشرين وهي أن الكون كان على شكل مادة دخانية في مرحلة نشؤه الأولى "ثم استوى إلى السماء وهي دخان". والمقصود بالسماء في هذه الآية هو الفضاء الكوني الذي امتلأ بالدخان وليست السماء التي ستتكون من هذا الدخان لاحقا فلم يكن ثمة سماء قبل ذلك. وقد أطلق العلماء على هذه السحابة من الجسيمات الأولية اسم الغبار الكوني بينما سماها القرآن الدخان والتسمية القرآنية أدق من تسمية العلماء فالجسيمات الأولية أصغر من أن تكون غبارا وحتى دخانا ولكن الدخان هو أصغر وأخف شيء يمكن أن تراه أعين البشر علاوة على أن الدخان يوحي بالحالة الحارة التي كان عليها الكون. وقد أشار القرآن الكريم في آية أخرى إلى المصدر الذي جاء منه هذا الدخان حيث ذكر أن السموات وما تحويه من أجرام  كانت كتلة واحدة ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة وذلك في قوله تعالى "أولم يرى الذين كفروا أنّ السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ أفلا يؤمنون" الأنبياء 30. ومن المحتمل أن يكون هذا الفتق في مادة الكون الأولية هو الانفجار العظيم الذي حول هذه المادة ذات الكثافة العالية إلى سحابة كبيرة من الدخان أو الغبار الكوني. وممّا يؤكد أيضا على أن هذا الدخان قد نتج عن انفجار كوني ضخم هو إشارة القران إلى أن الكون في توسع مستمر والتوسع لا يتأتى إلا إذا بدأ الكون من جرم صغير وبدأ حجمه بالازدياد وذلك مصداقا  لقوله تعالى "والسماء بنيناها بأييد وإنّا لموسعون"  الذاريات 47. لقد أجمع العلماء على حقيقة التوسع الكوني ولكنهم لم يبتوا في الحالة التي سيؤول إليها الكون فبعضهم يقول أن الكون سيبقى في حالة تمدد إلى الأبد بينما يقول آخرون أنه سيأتي يوم تتغلب فيه قوة الجذب بين مكوناته على قوة الاندفاع الناتجة عن الانفجار فيعود الكون من حيث بدأ وينهار على نفسه ولقد رجح  القران الكريم الرأي الثاني وذلك في قوله تعالى "يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنّا كنّا فاعلين" الأنبياء 104. وتؤكد هذه الآية أيضا على حقيقة الانفجار الكوني فعملية طي السماء هي عكس عملية نشره أو انفجاره حيث سيعيد الله الكون إلى الحالة التي كان عليها قبل الانفجار "كما بدأنا أول خلق نعيده".    

ومن  الحقائق التي تفرد بذكرها القرآن دون غيره من الكتب السماوية السابقة هي حقيقة أن السموات والأرض قد خلقها الله في يومين اثنين ولم يستغرق خلقها ستة أيام لقوله تعالى "قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين" وقوله تعالى "فقضاهن سبع سموات في يومين". لقد كان من الأسهل والأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لو أن هذا القرآن كان من تأليفه أن يكتفي بما جاء في التوراة من أن الأرض كانت موجودة منذ بداية أيام الخلق ولا يخوض في تفصيلات هذه الأيام. ولكن الذي أنزل القرآن على محمد يعلم أن الدخان الكوني لم يتحول فجأة إلى سماوات وآراضين بل تحول بشكل تدريجي وفق القوانين التي أودعها الله إياه. إن اليومين اللذين خلق الله فيهما الأرض هما نفس اليومين اللذين خلق فيهما السماوات بدليل قوله تعالى "ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" فالأرض لا يمكن أن تخلق قبل أن تخلق الشمس التي ستدور حولها والشمس لا يمكن أن تخلق قبل خلق المجرة التي ستدور حول مركزها والمجرات ما هي إلا المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا لقوله تعالى "وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم". ويمثل اليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض الأولية المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس وقد كانت على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل. ولقد كان من الضروري أن تكون مادة الأرض عند بداية تكونها على شكل سائل أو شبه سائل وذلك لكي تأخذ الشكل الكروي الذي هي عليه الآن فالشكل الوحيد الذي تتخذه كتلة من المادة السائلة في الفضاء الكوني هو الشكل الكروي. وعند وجود هذه الكتلة السائلة في مجال جاذبية الشمس فإن تبعجا سيحدث في  شكل هذه الكرة باتجاه قوة الجذب ويمكن إزالة مثل هذا التبعج من خلال تدوير هذه الكرة بسرعة مناسبة حول محور متعامد مع اتجاه القوة الجاذبة وهذا بالضبط ما حصل مع الأرض عند بداية تكونها مصداقا لقوله تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها" النازعات 30.

لقد استمرت الكرة الأرضية على هذا الحال إلى أن بدأت القشرة الأرضية الصلبة بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي ولا زالت مادة الأرض باستثناء قشرتها الرقيقة في حالة الانصهار كما نشاهد ذلك عند حدوث البراكين.  ولقد حدد الله علامة بارزة  لنهاية يومي خلق الأرض الأولية وبداية الأيام الأربعة التي أكمل الله فيها تجهيز الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها وهي الجبال. ومن البديهي أن تكون الجبال أول ما تكون من تضاريس الأرض فالأرض كانت كرة ملساء ولكن عندما أصبح سمك قشرتها بقدر يكفي لحمل المواد المنصهرة التي تقذف بها البراكين بدأت هذه المواد بالتراكم فوق هذا السطح الصلب لتبدأ بذلك عملية تكون الجبال. لقد كانت الأرض في نهاية اليومين الأولين من أيام الخلق  قاحلة من كل أسباب الحياة فلا ماء على سطحها ولا غلاف جوي يحميها من إشعاعات الشمس الضارة ومن النيازك وكان سطحها مكون من صخور صلدة لا تراب عليها كما وصفها نص التوراة بقوله "وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ". ولهذا فإن تأهيل هذه الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها يحتاج لتوفير شروط كثيرة وعلى مدى فترة طويلة من الزمن مصداقا لقوله تعالى "قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين". فتقدير الأقوات المذكور في هذه الآية هو توفير حميع الشروط اللازمة لظهور الحياة على سطح الأرض وقد حدد القرآن أربعة أيام من مثل أيام خلق الأرض الأولية لتوفير أسباب الحياة على الأرض. وفي هذه الأيام الأربعة تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي وامتلأ كذلك بمختلف أنواع الغازات التي ستلزم لحياة الكائنات الحية. ويوجد آيات قرآنية كثيرة غير هذه الآية تبين بعض أحداث خلق الأرض كقوله تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم" النازعات 30-33 وقوله تعالى "وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا" الرعد 3   وقوله تعالى "أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون" النمل 61. وبعد أن وفر الله  كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات ومن ثم خلق الله الإنسان في آخر ساعة من ساعات اليوم السادس من أيام الخلق كما جاء تفصيل ذلك في أحد الأحاديث النبوية الشريفة.

وعلى العكس من التوراة التي لم تحدد عدد السماوات ولا طبيعتها نجد أن القرآن الكريم قد ذكر في آيات كثيرة عدد وطبيعة هذه السموات فذكر أنها على شكل طبقات بحيث تطبق كل سماء على السماء التي دونها ولا يكون ذلك إلا إذا كانت على شكل كرات مجوفة تحيط كل واحدة منها بالأخرى بحيث يكون مركز هذه الكرات هو المكان  الذي حدث فيه الانفجار الكوني العظيم  مصداقا لقوله تعالى "الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور" الملك 3. وذكر القرآن كذلك أن في كل سماء من هذه السموات السبع أجرامها الخاصة بها  لقوله تعالى  "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ يتنزّل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكل شيء علما" الطلاق 12. ولقد وصف القرآن الكريم هذه السموات السبع بالشدة والمتانة وقد جاء هذا الوصف مطابقا لما اكتشفه العلماء في نظرية الكون المنتفخ وهي أن الحواجز بين الأكوان المختلفة مكونة من أقطاب مغناطيسية أحادية القطبية وهي من أثقل الجسيمات التي تنبأ العلماء بوجودها ولكنهم  لم يعثروا على أيّ منها حتى الآن في أجرام الكون المشاهد  وصدق الله العظيم القائل "وبنينا فوقكم سبعا شدادا" النبأ 12 والقائل سبحانه "ءأنتم أشدّ خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسوّاها" النازعات 27-28 والقائل سبحانه "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون" غافر 57. ولقد أشار القرآن الكريم إلى المسافات الشاسعة التي تفصل ما بين النجوم وذلك من خلال القسم بمواقعها وأكد على أن هذا القسم عظيم لو أن الناس تمكنوا من معرفة مقدار هذه المسافات فقال عز من قائل "فلا أقسم بمواقع النجوم وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم" الواقعة 75-76. ولقد أتى القرآن الكريم أيضا على ذكر أجرام قد خلقها الله في هذا الكون وهي أكبر من السموات السبع وما فيهن ككرسي الرحمن الذي يحوي في داخله هذه السموات السبع مصداقا لقوله تعالى "وسع كرسيه السموات والأرض" البقرة 255. إن حجم هذا الكرسي وما يحويه من السموات السبع لا تكاد تذكر مع حجم العرش الذي استوى عليه الرحمن سبحانه وتعالى فقال عز من قائل "قل من ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم" المؤمنون 86 والقائل سبحانه "الله لا إله إلاّ هو ربّ العرش العظيم" النمل 26. ولقد أشار القرآن الكريم إلى أن عرش الله كان فوق الماء قبل أن يخلق هذا الكون مصداقا لقوله تعالى "وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء" هود 7. وبسبب هذه الحقيقة خلط نص التوراة بين الماء الذي كان تحت العرش قبل خلق الكون والماء الذي تجمع على الأرض يعد خلقها وأن السماء قد فصلت ما بين هذه المياه أما القرآن فقد أكد على أن جميع مكونات هذا الكون قد خلقت من الدخان دون ذكر لمصير الماء الذي كان تحت العرش.  

لقد حددت الآيات القرآنية التي شرحناها آنفا الأحداث الرئيسية في عملية خلق الكون وقد تركت بعض الأحداث للسنة النبوية لتقوم بتفصيلها كما هو الحال مع كثير من القضايا التشريعية.  ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده عن أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبثّ فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد عصر يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل". وقد ضعف الإمام البخاري هذا الحديث بسبب تعارضه مع صريح القرآن حيث حدد القرآن أيام الخلق بستة أيام بينما حددها هذا الحديث بسبعة أيام ولكن هذا التضعيف بسبب حصول خطأ ما في الحديث أثناء تناقل الرواة له لا يمنع الاستفادة من بعض الحقائق الواردة فيه. ومن الواضح أن هذا الحديث النبوي يحدد أهم الأحداث التي حصلت على الأرض فقط بينما حددت الآيات القرآنية أهم أحداث خلق الكون ككل. وقد جاء ترتيب خلق المخلوقات في هذا الحديث موافقا للمدد الزمنية التي حددتها الآيات القرآنية ومتوافقا كذلك مع الترتيب الذي وضعه علماء التطور لأنواع الكائنات الحية وأزمان ظهورها على سطح الأرض ولكنه مختلف بعض الشيء عن الترتيب المذكور في سفر التكوين ممّا ينفي أنه مأخوذ منه. لقد ذكر الحديث أن الله خلق التربة في أول أيام الخلق ومن الواضح أن المقصود بالتربة هي القشرة الأرضية فالأرض عند أول نشأتها كانت كرة ملساء وسطحها شبه سائل وبدأ هذا السطح بالتجمد بشكل تدريجي إلى أن أصبح من الثخانة بحيث يقوى على حمل المواد التي تقذف بها البراكين من باطن الأرض المنصهر لتبدأ بذلك عملية تكون الجبال التي ذكر الحديث أن الله خلقها في اليوم الثاني من أيام الخلق. أما الأحداث التي حدثت في بقية أيام الخلق فهي تتعلق بخلق الكائنات الحية باستثناء خلق النور في يوم الأربعاء وأعتقد والله أعلم أن هذا الحدث أي النور ليس له مكان في أيام الخلق وإذا ما استثنيناه من هذا الحديث فإن أيام الخلق فيه تصبح ستة أيام وهو ما يتوافق مع صريح القرآن. ومن المحتمل أن يكون اليوم الرابع الذي خلق الله فيه النور قد نقله الراوي خطأ من نص التوراة إلى نص هذا الحديث النبوي.     

لقد قسم هذا الحديث الكائنات الحية إلى ثلاثة أقسام وهي: النباتات (الشجر) والميكروبات (المكروه) والحيوانات (الدواب والإنسان) وقد جاء هذا التقسيم مطابقا للتصنيف الذي وضعه علماء الأحياء حيث  قسموها إلى ثلاثة أصناف رئيسية وهي: الكائنات المنتجة والمحللة والمستهلكة. فالكائنات المنتجة هي التي تقوم بتحويل المواد غير العضوية إلى مواد عضوية من خلال عملية التركيب الضوئي كالنباتات ومعظم أنواع الطحالب البحرية. وأما الكائنات المحللة كالبكتيريا والفطريات فهي التي تقوم بتحليل المواد العضوية الموجودة في فضلات ورمم الكائنات الحية وتحويلها إلى مواد غير عضوية يعاد استهلاكها من قبل الكائنات المنتجة. وأما الكائنات المستهلكة فهي التي تعتمد في غذائها على ما تنتجه النباتات والطحالب من مواد عضوية مختلفة وتشمل جميع أنواع حيوانات البر والبحر. ومن الواضح أن الكائنات المستهلكة والمحللة لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تعيش على الأرض بدون وجود الكائنات المنتجة وذلك لعدم قدرتها على توفير الغذاء اللازم لها مباشرة من تراب الأرض  ولذا يجب أن تكون الطحالب والنباتات أول الكائنات الحية ظهورا على الأرض. وبما أن عملية تطور الكائنات الحية عملية بطيئة جدا كان لا بد من ظهور الكائنات المحللة (المكروه) بعد ظهور النباتات وقبل ظهور الكائنات المستهلكة (الحيوانات) وإلا لحولت النباتات مع مرور الزمن جميع المواد غير العضوية المتوفرة في الطبيعة إلى مواد عضوية ولتوقفت الحياة على الأرض بسبب عدم وجود مواد خام جديدة. إن أعجب ما في هذا الحديث النبوي هو ذكره للمكروه كخلق من مخلوقات الله بينما لم يذكر مثل هذه المخلوق في سفر التكوين وقد بقي معنى هذا المكروه مجهولا حتى تمكن العلماء من اكتشاف الكائنات الحية الدقيقة. وقد أطلق الله اسم المكروه على هذه الكائنات الدقيقة بسبب الرائحة الكريهة التي تنطلق من المواد العضوية عند تحللها من قبل هذه الكائنات الدقيقة. وعندما يقرر الحديث الشريف أن النباتات قد خلقت يوم الاثنين وأن الحيوانات قد خلقت يوم الخميس فهذا لا يعني أن جميع أنواع النباتات والحيوانات قد خلقت دفعة واحدة في تلك الأيام  بل لا بد أن خلقها قد تم على مدى بقية أيام الخلق. إن أول أشكال النباتات قد بدأ خلقها في صباح يوم الاثنين والحيوانات البسيطة في صباح يوم الخميس ومن ثم بدأت النباتات والحيوانات الأكثر رقيا بالظهور بشكل تدريجي. ومن المنطقي أن يتم خلق الكائنات  الحية بشكل تدريجي على مدى مئات الملايين من السنين حيث لا يمكن لبعض الكائنات أن تظهر قبل غيرها وذلك لاعتماد هذه الكائنات على بعضها البعض في غذائها.  فالحيوانات المفترسة آكلة اللحوم لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تظهر قبل الحيوانات آكلة النباتات كما أن الحيوانات آكلة النباتات لا يعقل أن تظهر قبل أن تظهر النباتات وهكذا لبقية الكائنات.      

وعند مقارنة تاريخ ظهور مختلف أنواع الكائنات الحية كما ورد في هذا الحديث النبوي مع التواريخ التقريبية التي حددها علماء التطور نجد أن هناك توافقا كبيرا بينهما. فأول أشكال النباتات ظهرت في اليوم الثالث من أيام الخلق أيّ بعد انتهاء اليوميين الذين خلق الله فيهما الأرض الأولية وفي أول الأيام الأربعة التي هيأ الله فيها الأرض. وبما أن العلماء قد قدروا عمر الأرض بعد أن تصلبت قشرتها بأربعة آلاف وخمسمائة مليون سنة فإنه بامكاننا تقدير طول كل يوم من أيام التهيئة الأربعة والذي يزيد قليلا عن ألف مليون سنة. ويقول العلماء أن الكائنات الحية الأولية قد ظهرت على الأرض قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون سنة وهي  الفترة التي تمثل اليوم الأول من أيام التهيئة الأربعة التي وردت في الآية القرآنية واليوم الثالث من أيام الخلق الذي يمتد ما بين أربعة وثلاثة آلاف مليون سنة. أما البكتيريا فقد ظهرت في فترة لاحقة لظهور الطحالب حيث أنها على عكس الطحالب غير قادرة على تأمين ما تحتاج إليه من مواد عضوية مباشرة من العناصر الطبيعية كما تفعل ذلك الطحالب من خلال عملية التمثيل الضوئي. ويحدد الحديث الشريف فترة ظهور الميكروبات أو ما سماه بالمكروه في اليوم الثاني من أيام التهيئة واليوم الرابع من أيام خلق الكون الذي يمتد ما بين ثلاثة آلاف وألفي  مليون سنة. أما أبسط أشكال الحيوانات فقد ظهرت في اليوم الثالث من أيام التهيئة واليوم الخامس من أيام الخلق وذلك بعد أن استقرت دورة النظام البيئي بوجود كل من الكائنات المنتجة وهي النباتات والكائنات المحللة وهي الميكروبات. وقد جاءت جملة بث فيها الدواب الواردة في الحديث الشريف معبرة تمام التعبير عن ما اكتشفه علماء التطور من أن ظهورا مفاجئا لأنواع مختلفة من الكائنات الحية قد حدث في بداية العصر الكامبري قبل ما يقرب من ستمائة مليون سنة أيّ في اليوم الرابع من أيام التهيئة واليوم الأخير من أيام الخلق. أما الإنسان وهو آخر الكائنات الحية ظهورا على الأرض فقد حدد الحديث الشريف فترة ظهوره في آخر ساعة من ساعات آخر يوم من أيام الخلق. وقد اكتشف العلماء أن أول أشكال الكائنات التي تطور منها الإنسان الحديث قد ظهر قبل ما يقرب من خمسين ألف سنة وهي فترة قصيرة إذا ما قورنت بطول كل يوم من أيام الخلق والذي يبلغ ما يزيد عن ألف مليون سنة.

 

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق