حدائق ذات
بهجة
الدكتور
منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
إن
الإنسان السوي لتعتريه الدهشة وتملأ نفسه البهجة إذا ما وقع نظره على أحد الأشياء
الجميلة كالوجوه الحسنة والمناظر الخلابة والسماء الصافية والنجوم المتلألئة والبحار
الممتدة والأشجار الباسقة والورود والأزهار
المتفتحة والثمار اليانعة والسهول الخضراء والجبال والأنهار الجارية
والعيون المتدفقة والجداول الرقراقة والأسماك السابحة والكائنات بمختلف أشكالها.
إن قدرة العقل البشري على التعرف على الأشياء الجميلة وقدرة النفس البشرية على
الإحساس بالبهجة والدهشة تدحض بشدة نظرية أن الإنسان وغيره من الكائنات الحية قد
خلقت بالصدفة وذلك لأن الإحساس بالجمال مسألة معنوية لا تقتضيها متطلبات تطور
الحياة. إن التعرف على الأشياء الجميلة والإحساس بها تحتاج إلى برمجة معقدة للدماغ
البشري والدليل على ذلك أن العلماء قد استخدموا حواسيب جبارة وبرامج معقدة يمكنها
أن تتعرف على الأشياء وتفرق بينها بعد تصويرها بالكميرات ومعالجتها بهذه الحواسيب فكيف
لها أن تتعرف على الأشياء الجميلة!
إن
الإحساس بالجمال أحد الأبعاد الكثيرة التي أودعها الله عز وجل النفس البشرية والتي
أكدها الحديث النبوي الشريف الذي ورد في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث وهو قوله
صلى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على
صورته) والذي يعني أن الله عز
وجل قد كرم آدم عليه السلام وذريته بأن أودع فيهم بشكل جزئي بعض من صفاته سبحانه
وليس كما يعتقد بعض الجهلة بأن صورة أجسام البشر
كصورة الله عز وجل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فهو سبحانه ليس كمثله شيء .
فالحياة والسمع والبصر والعلم والحكمة والحلم
والكرم والشكر والصبر وغيرها من الصفات
التي أودعها الله عز وجل في البشر لا يمكن أن تصدر إلا عن حي سميع بصير عليم حكيم حليم
كريم شكور صبور ولكن بل حدود. ولحكمة
أرادها الله عز وجل فاوت بين البشر في
مقدار ما آتاهم من صفاته سبحانه وذلك ليبلوهم في ما آتاهم فتجد في البشر درجات
متباينة في العلم والحلم والكرم والشجاعة والإيثار والصبر وحتى في تقدير الجمال
وصدق الله العظيم القائل (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)) الأنعام
والقائل سبحانه (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا
(21)) الإسراء والقائل سبحانه (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)) الزخرف.
وأنبتنا فيها من كل زوج
بهيج
إن لفت
القرآن الكريم أنظار البشر إلى النواحي الجمالية في كل ما خلق الله عز وجل من مخلوقات ينفي نفيا قاطعا أن
يكون هذا القرآن من تأليف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لعدة أسباب. أولها
أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان في الفترة المكية منشغلا أشد الإنشغال في
الدعوة إلى الدين الجديد واتقاء أذى المشركين وفي الفترة المدنية كان منشغلا في محاربة الأعداء المتربصين بالدولة الإسلامية.
وثانيها أن مكة المكرمة وإلى حد ما المدينة المنورة هي مناطق صحراوية تخلو من معظم
أشكال الحياة الموجودة في المناطق الأخرى من الأرض. لقد طلب
القرآن الكريم من البشر النظر إلى الزينة
والجمال الموجودة في مختلف موجدات الكون فقال عز من قائل (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا
لِلنَّاظِرِينَ (16)) الحجر والقائل سبحانه (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ
(6))
الصافات والقائل سبحانه (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ
تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ
إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (8)) النحل.
ومما
يثير العجب عند كل ذي عقل هذه الأعداد التي لا تحصى من أنواع النباتات التي تشترك
في أنها مكونة من جذوع وأغصان وأوراق وأزهار وثمار ولكن قلما تجد نوعين متشابهين
في أوراقها وأزهارها وثمارها من حيث أشكالها وألوانها ومذاقاتها وصدق الله العظيم
القائل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ
طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ
مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)) الحج والقائل
سبحانه (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى
السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ
فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا
بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ
نَضِيدٌ (10)) ق والقائل سبحانه (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8))
الشعراء.
فأنبتنا به حدائق ذات
بهجة
رغم أن
النظر إلى أي نبتة من النباتات وهي منفردة تثير البهجة في النفس البشرية إلا أن النظر إلى حديقة تحوي مجموعة من النباتات يزيد
البهجة بشكل كبير فلا تكاد تستقر العين على نبتة حتى تقفز للنظر إلى نبتة أخرى
فتمتلئ النفس بمزيج من شتى أنواع الإبتهاج. إن توزيع النباتات في الحدائق سواء
كانت طبيعية أو صناعية يلعب دورا كبيرا في إثارة البهجة في النفوس وصدق الله
العظيم القائل (أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ
حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ
مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)) النمل والقائل سبحانه (خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي
الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)) لقمان.
ما كان لكم أن تنبتوا
شجرها
إن جزم القرآن
الكريم بأن البشر لا يمكنهم أن ينبتوا أي نبتة من نباتات هذه الأرض يؤكد على أن
هذا الخطاب لا يمكن أن يصدر إلا عن عليم خبير سبحانه وتعالى يعلم علم اليقين ما في
بذور هذه النباتات من برامج معقدة مخزنة في أشرطتها الوراثية. ففي هذه الأشرطة الوراثية كتب الله عز وجل جميع مواصفات هذه النباتات وخطوات تصنيعها
ابتداءا من نموها من البذرة وإنتهاءا بإزهارها
وإثمارها وإنتاجها بذورا جديدة لزراعة نباتات جديدة بنفس المواصفات. إن علماء
البشر اليوم يتباهون بأنهم قد تمكنوا من معرفة تسلسل الجينات لبعض هذه النباتات
ولكنهم لا يقدرون حق التقدير من قام
ابتداءا بكتابة هذه البرامج سبحانه وتعالى والحفاظ عليها لمئات الملايين من السنين
من خلال عملية نسخ منقطعة النظير وصدق الله العظيم القائل (أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ
أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
(60)) النمل. لقد أكثر القرآن الكريم من تذكير البشر بهذه
المعجزة الكبرى وهي تصنيع نباتات بمختلف الأحجام والأشكال من بذور لا يكاد يرى
بعضها بالعين المجردة فقال عز من قائل (أَفَرَأَيْتُمْ
مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)) الواقعة والقائل سبحانه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ
لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ
لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ
بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ
لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ (13)) النحل. ولقد ذكرت
في مقالة (فأخرجنا به نبات كل شيء) أن المقصود بنبات كل شيء في الآية القرآنية
التالية هو الشريط الوراثي المخزن في بذور النباتات مصداقا لقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا
مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ
مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ
انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)) الأنعام.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق