2014-05-24

وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة


 


وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
(عيسى عليه السلام)
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية 

أن يتنبأ القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا بأن أتباع المسيح عليه السلام سيبقون ظاهرين على من كفر به من اليهود إلى يوم القيامة يدل على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من تأليف البشر بل تنزيل من لدن عليم خبير سبحانه وتعالى. ولقد جاءت هذه النبؤة في قوله تعالى "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)" آل عمران. ولقد جاءت هذه النبؤة بعد مرور ما يقرب من ستمائة عام من مولد عيسى عليه السلام وكانت الديانة المسيحية في الفترة التي لا زال أتباع المسيح عليه السلام يتعرضون فيها للإضطهاد من قبل الحكام.  إن واقع المسيحيين واليهود اليوم يؤكد صدق هذه النبوءة القرآنية فعدد المسيحيين اليوم  يزيد عن ألفي مليون مسيحي يشكلون ما يقرب من ثلث سكان العالم أما اليهود فقد بلغ عددهم في فترة ظهور المسيح عليه السلام عدة ملايين وهاهم بعد مرور ألفي عام لا يتجاوز عددهم خمسة عشر مليون يهودي. إن الفوقية ليست في العدد فقط بل شاء الله سبحانه وتعالى أن يشتت اليهود في البلاد التي يحكمها المسيحيون لتكون لأتباع المسيح عليه السلام اليد العليا فوق من كفر به من اليهود وليذيقوهم شتى أصناف العذاب من حين لآخر بسبب كفرهم وعنادهم كما أكد على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)"الأعراف.
والحقيقة أن الطريقة التي انتشرت من خلالها الديانة المسيحية بين الأمم معجزة من معجزات الله عز وجل. فلقد دعا كثير من الأنبياء والرسل السابقين أقوامهم على مدى عشرات بل مئات السنين إلا أنه لم يؤمن معهم إلا القليل كما حدث مع أنبياء الله نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام. أما عيسى عليه السلام فقد دامت فترة دعوته ثلاث سنوات فقط وعلى الرغم من أن عدد من آمن به في حياته لم يتجاوز عدة مئات إلا أن عدد أتباعه اليوم بعد مرور  ألفي عام يزيد عن ألفي مليون مسيحي يشكلون ما يقرب من ثلث سكان العالم. وتختلف الديانة المسيحية عن كل من الديانتين اليهودية والإسلامية بخصوص الطريقة التي انتشرت بها  بين الأمم فغالبية اليهود  آمنوا بموسى عليه السلام بسبب أنه قام بتخليصهم من ظلم الفراعنة لهم ويؤكد ذلك أنهم بمجرد خروجهم من مصر بدأت بوادر الكفر تظهر عليهم. أما في الدين الإسلامي فقد أنشأ نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم دولة إسلامية في جزيرة العرب قبل موته عليه الصلاة والسلام خلال ثلاثة وعشرين عاما فقط. ومن ثم بدأ الإسلام في الانتشار بين الأمم تحت حماية  الدولة الإسلامية ولكن بدون أي إكراه للناس للدخول في الإسلام بعد أن أكد القرآن الكريم على حرية الأديان في آيات كثيرة كما في قوله تعالى "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)"  البقرة وقوله تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)" يونس.

 إن الاضطهاد الذي تعرض له أتباع عيسى عليه السلام يفوق كثيرا الاضطهاد الذي تعرض له أتباع الديانتين اليهودية والإسلامية في بداية ظهورها حيث استمر اضطهادهم من قبل الرومان وغيرهم من الأمم  لما يزيد عن ثلاثمائة عام. ولقد تعرض المسيحيون خلالها لشتى أنواع الاضطهاد والعذاب فقد مزقت أجسادهم بالسياط والمخالب الحديدية  والنشر بالمناشير  والتمشيط بين اللحم والعظم  والإحراق بالنار وسلخ الجلود وهم أحياء والقتل بالتعليق على الصلبان وغير ذلك من صنوف العذاب ولكن هذا لم يردهم عن دينهم. وعلى هذا فلا يمكن بالمقاييس المادية أن تنتشر الديانة المسيحية أو أن تقوم لها قائمة مما يؤكد على وجود إله قدير سبحانه وتعالى مكن لهذه الديانة من الانتشار. 

لقد بدأ عيسى عليه السلام بالدعوة إلى الدين الجديد عندما بلغ عمره ثلاثين عاما واستمرت دعوته ثلاثة سنوات فقط حيث أن الله سبحانه وتعالى قد رفعه إليه وعمره ثلاث وثلاثون سنة. وقد بعث الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام كآخر نبي إلى بني إسرائيل بعد أن ابتعدوا عن دينهم وأفسدوا في الأرض وقاموا بقتل وتعذيب  الأنبياء المبعوثين إليهم  كما جاء ذلك في قوله تعالى "وَإِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) " الصف وفي قوله تعالى "لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) "المائدة. ولقد أيد الله عز وجل عيسى عليه السلام بمعجزات عديدة كدليل على صدق دعوته كما جاء ذلك في قوله تعالى "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)" آل عمران.  ورغم المعجزات الباهرات التي أجراها الله على يد عيسى عليه السلام كدليل على صدق رسالته إلا أن اليهود كعادتهم كذبوه ولم يؤمن منهم إلا القليل. ولم يكتف اليهود بتكذيب المسيح عليه السلام بل بدأوا بالتأمر على قتله كما قتلوا غيره من الأنبياء وذلك من خلال إيغار صدر الحاكم الروماني عليه.

ولما أيقن المسيح عليه السلام من كفر عامة اليهود به وإحساسه بأنهم عازمين على قتله قام بجمع أتباعه ممن أمن به من اليهود وطلب منهم نصرته في تبليغ رسالته من بعده إلى الناس بعد أن أوحى الله سبحانه وتعالى إليه بأنه رافعه إليه مصداقا لقوله تعالى "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)" آل عمران. ولقد اختار عيسى عليه السلام من بين أتباعه اثنا عشر رجلا ليقوموا بمهمة الدعوة إلى الدين الجديد بعد أن أخبرهم بأن الله سيؤيدهم بروح القدس ولكنهم سيلاقون أذى كثيرا من قبل الناس. وقد ذكرت الأناجيل أسماء هؤلاء الحواريين وجميعهم كانوا من بني إسرائيل فقد جاء في الإصحاح العاشر من إنجيل متى ما نصه "1ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ. 2وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هذِهِ: اَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. 3فِيلُبُّسُ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا، وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى، وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. 4سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ" .وقد حدد عيسى عليه السلام البلاد التي سيذهب إليها كل حواري من هؤلاء الحواريين فقد جاء في سيرة ابن هشام وكذلك في كثير من التفاسير ما نصه " قال ابن اسحق : وكان من بعث عيسى ابن مريم عليه السلام من الحواريين والاتباع الذين كانوا بعدهم في الارض : بطرس الحواري , ومعه بولس , وكان بولس من الاتباع ولم يكن من الحواريين الى رومية واندرائس ومنتا الى الارض التي يأكل اهلها الناس, وتوماس الى ارض بابل من ارض المشرق وفيلبس الى ارض قرطاجنة وهي افريقية, ويحنس الى افسوس قرية الفتية اصحاب الكهف, ويعقوبس الى اورشلم وهي ايلياء قرية بيت المقدس, وابن ثلماء الى الاعرابية وهي ارض الحجاز , وسيمن الى ارض البربر , ويهوذا ولم يكن من الحواريين جعل مكان يودس }.

لقد أنجى الله سبحانه وتعالى المسيح عليه السلام من كيد اليهود ورفعه إليه بعد أن ظن اليهود والرومان أنهم قتلوه حيث ألقى الله سبحانه وتعالى شبه عيسى عليه السلام على أحد أتباعه وهو يهوذا الإسخريوطي يقال أنه قد دل اليهود والرومان على مكان وجوده مصداقا لقوله تعالى "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)" النساء. وبعد رفع المسيح عليه السلام انطلق الحواريون رضوان الله عليهم إلى البلاد التي حددها لهم المسيح عليه السلام وذلك لتبليغ رسالة المسيح رغم أنهم كانوا مطاردين من قبل الرومان واليهود. لقد كان هؤلاء الحواريون أشبه ما يكونوا بالرسل فقد أيدهم الله عز وجل بروح القدس وأجرى على أيديهم كثيرا من المعجزات الشبيهة بمعجزات المسيح عليه السلام وذلك لكي يتمكنوا من تبليغ رسالة المسيح عليه السلام إلى الأمم. ولقد أخبر المسيح عليه السلام الحواريين بأنهم سيلاقون هم وأتباعهم تشريدا وتقتيلا من قبل الحكام وهم يدعون إلى هذا الدين الجديد فقد جاء في الإصحاح العاشر من إنجيل متى ما نصه: 16«هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ. 17وَلكِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ، لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. 18وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. 19فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، 20لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ. 21وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ، 22وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ. 23وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ. وإبن الإنسان هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به سيدنا عيسى عليه السلام مصداقا لقوله تعالى (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) " الصف). 

ولقد امتن الله سبحانه وتعالى على المسيح عليه السلام من بين النعم الكثيرة التي أنعمها عليه بنعمة تأيده بالحواريين الذين سيقومون بنشر دعوته بين الناس  كما جاء في قوله تعالى "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)" المائدة. ولقد تحدث القرآن الكريم عن هؤلاء الحواريين وكأنهم رسل من رب العالمين  فقد أجمعت تفاسير القرآن الكريم على أن المرسلين الثلاثة المذكورين في سورة يس هم من الحواريين وأتباعهم فقد ذكر ابن كثير في تفسيره ما نصه : "قوله تعالى: {إذ أرسلنا إليهم إثنين فكذبوهما} أي بادروهما بالتكذيب {فعززنا بثالث} أي قويناهما وشددنا إزرهما برسول ثالث. قال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي قال: كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا, واسم الثالث بولس, والقرية أنطاكية".

وعلى الرغم من أن الحواريين كانوا يدعون إلى الدين الذي أتى به المسيح عليه السلام وهم مطاردون من قبل الرومان الذين كانوا يحكمون معظم البلاد التي ذهبوا إليها إلا أن عدد الذين أمنوا بالدين الجديد بدأ بالتزايد بشكل ملفت للنظر. ولقد ربط الله سبحانه وتعالى على قلوب من آمن من الأمم بالدين الجديد فلم يتمكن الرومان وغيرهم من صدهم عن دينهم رغم تعرضهم لمختلف أشكال العذاب والقتل. ولقد أكرم الله سبحانه وتعالى الحوارييين الأثني عشر بالشهادة في سبيله فقتلوا من قبل أعدائهم من الرومان واليهود بطرق شتى كان أكثرها من خلال الصلب فتحقق بذلك وعد المسيح لهم حيث جاء في إنجيل متى ما نصه "38وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي." ولقد كان حمل الصليب في تلك الفترة كناية عن استعداد الشخص للإستشهاد في سبيل نشر الدين الجديد. وقد استمر اضطهاد المسيحيين لمدة ثلاثمائة عام تقريبا إلى أن آمن بالمسيحية الإمبراطور قسطنطين وأصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. ومع هذا لم يتوقف اضطهاد المسيحيين من قبل أمم أخرى فقد قام الملك الحميري اليهودي  ذو نواس في عام 525م بإحراق آلاف المسيحيين في داخل أخدود في منطقة نجران جنوب السعودية بعد أن رفضوا التخلي عن ديانتهم والعودة إلى ديانتهم السابقة وهي اليهودية فقال عز من قائل عنهم "قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)" البروج.  لقد لاقى الحواريون وأتباعهم شتى أصناف العذاب رغم أنهم كانوا يدعون إلى الدين الجديد بطريقة سلمية ولم يحملوا السلاح أبدا في وجه أعدائهم كما أرشدهم إلى ذلك المسيح عليه السلام وكما أكد على ذلك القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)".

إن من معجزات رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أصناف العذاب الذي تعرض له أتباع المسيح عليه السلام فقد جاء في أحد الأحاديث ما نصه: اشتكى سيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يلقونه من الأذى فاحمر وجه رسول الله من الغضب وقال له صلى الله عليه وسلم:
"إنه كان فيمن قبلكم من يمشطون بأمشاط من حديد فيما بين لحمه وعظمه فلا يصده ذلك عن دينه، ومنهم ينشر حتى ينفلق إلى شقين لا يصده ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر ولكنكم قوم تستعجلون
". وما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لعلمه علم اليقين وذلك بوحي من الله عز وجل حجم المعاناة التي عاناها أتباع المسيح عليه السلام على مدى ما يزيد عن ثلاثمائة سنة استشهد خلالها ملايين الدعاة منهم تحت مختلف أشكال التعذيب وما صدهم ذلك عن دينهم.  

لقد خلد الله سبحانه وتعالى ذكر الحواريين في القرآن الكريم لما قدموه من تضحيات في سبيل نشر دينهم وطلب من المؤمنين من المسلمين التشبه بهم لنصرة دين الإسلام فقال عز من قائل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)" الصف. ويتضح من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى قد أيد الحواريين وأتباعهم حتى ظهر دينهم بين جميع الأمم رغم كل أنواع العذاب الذي تعرضوا له وهم يقومون بنشر هذا الدين وقد تم هذا الأمر قبل ظهور الإسلام. أما الآية التي تتنبأ بأن أتباع المسيح سيبقون ظاهرين على اليهود إلى يوم القيامة  فهي قوله تعالى "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)" آل عمران. إن المقصود بالذين كفروا في هذه الآية هم اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام لقوله تعالى "فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ". وقد اختلف المفسرون حول تفسير هذه الآية فقد أورد الطبري في  تفسيره تفسيران لها أولها: "حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : " ومطهرك من الذين كفروا " قال : الذين كفروا من بني إسرائيل " وجاعل الذين اتبعوك " قال : الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم " فوق الذين كفروا"  النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة . قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى ، إلا وهم فوق يهود ، في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذلون" وثانيهما:."حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته ، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة". ومن الواضح أن التفسير الثاني يجافي الحقيقة لأنه يخالف ظاهر النص  فالذين اتبعوا المسيح عليه السلام هم   الحواريون ومن تبعهم من المسيحيين وليس المسلمون. 

وأخيرا من المؤسف أن يقوم بعض المندسين من اليهود بتحريف الديانة المسيحية وإبعاد أتباع المسيح عن دين التوحيد فجعلوا من المسيح عليه السلام شريكا لله سبحانه وتعالى مضيعين بذلك  التضحيات الجسيمة التي قدمها المسيحيون الأوائل في سبيل نشر دين التوحيد. ولقد حذر القرآن الكريم في آيات كثيرة هؤلاء المسيحيين من الغلو في دينهم وإدخال الشرك فيه وذلك بقولهم بأن الله سبحانه وتعالى مكون من ثلاثة أقانيم وهي الله الأب والمسيح الإبن والروح القدس فقال عز من قائل  "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)" النساء. ومما يثير الاستغراب أنه لا يوجد أي نص في الأناجيل الأربعة يشير إلى عقيدة التثليث بل بالعكس توجد نصوص لا حصر لها تؤكد على أن المسيح عليه السلام هو عبد الله ورسوله وتنفي عنه صفة الألوهية التي ألبسها إياه المتأخرون من المسيحيين. فقد جاء في الإصحاح التاسع عشر من إنجيل متى ما نصه: "16وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» 17فَقَالَ لَهُ:«لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ ". وإذا كان المسيح عليه السلام قد نفى الصلاح عن نفسه ورده إلى  الله عز وجل فقط فهو بذلك ينفي عن نفسه التهمة التي ألبسها إياه المتأخرون من أتباعه وهي صفة الألوهية والمقصود بالصلاح هنا هو الكمال فلا كامل بحق إلا الله سبحانه وتعالى. وصدق الشاعر لبيد بن ربيعه عندما قال وهو في جاهليته (ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل) ليتفق قوله مع قول المسيح عليه السلام (ليس أحد صالحا إلا الله).  


المراجع

1-   القرآن الكريم

2-  تفسير القران العظيم للإمام الحافظ عماد الدين ، أبو الفداء اسماعيل بن كثير القرشى الدمشقي

3-   العهد القديم والعهد الجديد








          

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق