2018-10-17

فأصابها إعصار فيه نار فأحترقت


فأصابها إعصار فيه نار فأحترقت
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

أن يأتي القرآن الكريم على ذكر  أكثر  أنواع الأعاصير  ندرة وهو الإعصار الناري (fire tornado)  فلا بد وأن يكون لهدف التأكيد على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من تأليف بشر بل هو تنزيل من لدن من أحاط علمه بكل شيء سبحانه وتعالى. قال أحد العلماء  في وصف الإعصار الناري (بينما خصائص عديدة لدوامات النار  لا زالت مجهولة كالازدياد الدرامي لارتفاع اللهب ومعدل الاحتراق إلا أن أمرين معروفان عنها القصر  والتدمير  فإعصار ناري نموذجي لا يمكث إلا عدة دقائق  ) (While many aspects of fire vortices are still unknown, such as why they dramatically increase both the height of the flames and burning rate of the fire, they known to be two things: short and destructive. A typical fire tornado only lasts a few minutes.). وقال أحد المختصين في الأعاصير  عن ندرة حدوث مثل هذه الأعاصير  ما نصه ( يقول نيل لاريو في جامعة نيفادا: في البداية أنت تتعامل مع حدث نادر  وأن يضرب منطقة مأهولة يجعله أكثر  ندرة  ) ("You’re starting with a rare event to begin with, and for it to actually impact a populated area makes it even rarer,” says Neil Lareau of the University of Nevada. ).



من المعلوم أن من أهم معجزات القرآن الكريم  هو ذكره لكثير  من الظواهر  الطبيعية  في الكون وذلك لكي يلفت أنظار  البشر  إلى ما فيها من أسرار  الخلق ولعلها تقودهم إلى الايمان بأن وراء خلقها خالق لا حدود لعلمه وقدرته مصداقا لقوله نعالى "إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)" الجاثية.  ولقد جاء القرآن الكريم على ذكر  ظواهر  واضحة لكل من يشاهدها كالشمس والقمر  والنجوم والرياح والسحب  والأمطار  والبرد والرعد والبرق والبحار والأنهار  والجبال واختلاف الليل والنهار  والظلال وأشكال وألوان الكائنات الحية وغير ذلك الكثير.  بل إن القرآن أتي على ذكر  ظواهر   طبيعية لا يمكن للبشر   أن يشاهدوها بأم أعينهم بل يحتاجون لوسائل علمية لكشف وجودها كوجود جذور للجبال تغوص في طبقات الأرض السفلية تعمل على تثبيت القشرة الأرضية الرقيقة من الانزلاق حول طبقة الوشاح شبه السائلة وذلك في قوله تعالى "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)"  عم وقوله تعالى "وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)" النحل.  ومن هذه الظواهر الخفية وجود حواجز  بين مياه البحار  المالحة والمياه العذبة كمياه الأنهار والمياه الجوفية وذلك في قوله تعالى " وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)"الفرقان. ومنها أيضا وجود طبقات غير مرئية حول الأرض كطبقات الغلاف الجوي والمغناطيسي تحفظ الحياة على الأرض من الدمار بالجسيمات والأشعة الضارة الصادرة من الشمس وبقية نجوم السماء وذلك في قوله تعالى "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)" الأنبياء.  أما أعجب  من كل ذلك فهو ذكر القرآن الكريم لظواهر كونية حدثت وانتهت  في الماضي السحيق كذكره لحالة الدخان التي كان عليها الكون عند  أول نشأته  وكما أثبت ذلك العلماء في هذا العصر وذلك في قوله تعالى "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)" فصلت. 
                ومن الظواهر  الطبيعية العجيبة التي أتى القران الكريم على ذكرها ظاهرة  الإعصار  الناري وهو  من أندر  أنواع الأعاصير  حدوثا والذي جاء ذكره في قوله تعالى "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)" البقرة. إن مثل هذا الأعاصير النارية لا تحدث في الغالب إلا في البيئات التي تكثر فيها الأشجار  ولا تتولد إلا في داخل الحرائق الكبيرة التي تحدث في الغابات وكذلك فإنها من أقصر  الأعاصير  عمرا حيث لا يتجاوز العشرين دقيقة ولذلك فإنه من الصعب رصدها. ومن المعروف أن البيئة الطبيعية التي نزل فيها القرآن بيئة صحراوية تخلو  من  الظروف التي يمكن أن تتولد فيها الأعاصير  بشكل عام والأعاصير النارية على وجه الخصوص.  ومما يؤكد ندرة حدوث هذه الأعاصير النارية أن غالبية البشر  قد لا يعلمون بوجود مثل هذه الأعاصير  حتى في هذا العصر  الذي انتشر فيها العلم وكثرت فيه وسائل تناقل المعلومات والأحداث وتوفرت فيه وسائل رصد وتسجيل الأحداث بالصوت والصورة.  


                إن من يتفكر  في هذه الآية امتثالا  لأمره تعالى في نهايتها  "كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)"  يجد أن  تحديد الله عز وجل للإعصار  الناري ليكون السبب في إحراق الجنة وليس الحريق المعتاد هو لغرض إعلام البشر  بأنه سبحانه قد أحاط علمه بكل ما يجري في هذا الكون. فلقد كان كافيا لو أن هذا القرآن من تأليف البشر  أن يقول مؤلفه بأن الجنة قد احترقت لسبب ما حيث أن الحرائق العادية التي تصيب كثير من الغابات والمزارع ظاهرة كثيرة الحدوث إما بفعل فاعل أو  بشكل طبيعي نتيجة ارتفاع درجات الحرارة.  ولكن الذي أنزل القرآن الكريم سبحانه وتعالى يريد أن يهدي البشر إلى معرفته من خلال ذكر هذه الظاهرة النادرة الحدوث وهي الإعصار الناري وغيرها من الظواهر مصداقا لقوله تعالى "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)" الطلاق. ومن الجدير بالذكر هنا أن القرآن الكريم  قد ذكر  وسائل أخرى  لتدمير مزارع  بعض البشر بسبب كفرهم كالتدمير  بالصواعق وغور الماء والرياح الشديدة كما في قوله تعالى "فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)" الكهف وقوله تعالى "فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)" القلم.

يعرف الإعصار (twister or cyclone) بشكل عام على أنه كتلة هوائية تدور بشكل لولبي حول  عامود من الهواء الساكن ذي الضغط المنخفض يسمى عين الإعصار  (eye or vortex) .  وتتكون معظم الأعاصير  نتيجة ارتفاع درجة حرارة منطقة معينة من سطح الأرض  وعند ارتفاع الهواء الساخن إلى الأعلى تتكون منطقة ضغط منخفض تندفع إليها الرياح من المناطق الباردة المحيطة بها. وعند وصول الرياح الباردة إلى منطقة الضغط المنخفض فإنها تصطدم بكتلة الهواء الساخن فتبدأ بالدوران حولها بشكل لولبي صاعدة إلى الأعلى مكونة الإعصار. ويمكن أن يتكون الإعصار أيضا من إلتقاء تيارين هوائيين أحدهما ساخن والآخر بارد فيصعد التيار الساخن فوق البارد وينتج عن الاحتكاك بينهما ظهور دوامة هوائية أفقية موازية لسطح الأرض  تتحول فيما بعد إلى إعصار  عامودي. ويوجد أنواع كثيرة من الأعاصير  تتفاوت في أحجامها  ومواقع تولدها وآليات تكونها وسرعة الرياح فيها ومدة مكوثها ومحتواها من الماء أو  الغبار أو النار .  ويمكن تقسيم الأعاصير من حيث محتواها إلى الأعاصير  السحابية والأعاصير  الغبارية والأعاصير  النارية.

وتعتبر الأعاصير المدارية (tropical cyclone) أضخم الأعاصير  على الاطلاق حيث تتولد فوق مياه المحيطات الدافئة الواقعة حول خط الاستواء بين مداري الجدي والسرطان. وينتج عن ارتفاع الهواء الساخن المشبع ببخار الماء فوق تلك المناطق تنشأ منطقة واسعة من الضغط المنخفض. وعند اندفاع الهواء البارد القادم من المناطق القطبية فإنه يبدأ بالدوران حول الهواء الساخن بعكس اتجاه عقارب الساعة في النصف الشمالي من الأرض  ومع اتجاه عقارب الساعة في النصف الجنوبي وذلك بسبب دوران الأرض حول محورها. ويعمل الهواء البارد الذي يدور حول الهواء الساخن الرطب على ضغط أو عصر الأخير  دافعا إياه إلى طبقات الجو العليا الباردة فيتكثف مكونا الغيوم والأمطار بكميات ضخمة. وتعمل الطاقة الحرارية الكامنة التي يطلقها البخار المتكثف على مزيد من التسخين للهواء في عين الإعصار  فيزداد تدفقه إلى الأعلى وبالتالي مزيد من تدفق الهواء البارد الدوار  الذي تزداد سرعته الدورانية وبالتالي تزداد شدة الإعصار. ويتحرك الإعصار بسرعات بطئية نسبيا لا تتجاوز الثلاثين كيلومتر  في الساعة باتجاه الشمال الشرقي في النصف الشمالي وباتجاه الجنوب الشرقي في النصف الجنوبي.  ويبلغ قطر  عين الإعصار  المداري عدة كيلومترات أما دائرة نشاطه من حركة الرياح وتكون السحب فقد يمتد قطرها إلى مئات الكيلومترات وربما الآلاف. وتتلبد في سماء الإعصار غيوم كثيفة يهطل منها كميات كبيرة من الأمطار المصحوبة بالبرق والرعد  ويرافقها رياح عاتية قد تصل سرعتها إلى ما يزيد عن ثلاثمائة كيلومتر  في الساعة. ويتحرك الإعصار مسافات طويلة قد تصل عدة الآف من الكيلومترات في مدة قد تصل عدة أسابيع  بعدها يتلاشى عند سيره فوق المناطق البرية بسبب الاحتكاك مع تضاريس الأرض. ويطلق اسم التايفون (Typhoon) على الأعاصير  المدارية المتكونة في المحيط الهاديء والتي تضرب مناطق جنوب شرق أسيا واسم الهيروكين (Hurrican) لتلك المتكونة في المحيط الأطلسي وتضرب أمريكا الشمالية  واسم السايكلون(Cyclone)  لتلك المتكونة في المحيط الهندي وبحر العرب وتضرب الهند  وشرق أفريقيا وجنوب الجزيرة العربية.

أما الأعاصير  الحملية أو ما تسمى بالتورنيدو (Tornadoe) فهي تتكون في الغالب في داخل العواصف الحملية (convective storm) والتي تسمى أيضا بالعواصف الرعدية (thunder storm). وتتكون العواصف الحملية في البر والبحر  وذلك بعد صعود كتلة من الهواء الساخن الرطب من سطح الأرض إلى الأعلى من خلال ظاهرة الحمل الحراري فتتكثف مكونة ما يسمى بالسحب أو المزن الركامية (cumulonimbus clouds).  وتتشكل هذه السحب على شكل خلايا (cells) مكونة من عامود ضخم من السحب الممطرة قد يصل قطرها إلى ثلاثين كيلومتر  يصاحبها رياح عاتية وهطول أمطار وبرد بشكل غزير مع حدوث الرعد والبرق.  وقد يتكون الإعصار الحملي أو التورنيدو  في داخل الخلايا الضخمة (supercells) من العاصفة الرعدية وهو على شكل قمع (funnel) من السحاب الأسود يمتد من سطح الأرض إلى قاعدة السحابة الركامية. ويتراوح قطره على سطح الأرص بين مئات الأمتار  والكيلومترين  بينما تتراوح سرعته بين الستين والثلاثمائة كيلومتر في الساعة ولا تتجاوز مدة مكوثه الساعتين بعد أن يقطع مسافة قد تصل إلى مائة كيلومتر.

أما الأعاصير  أو الزوابع الغبارية (dust whirl or dust devil) فتتكون في الغالب فوق التضاريس المستوية والقاحلة  كالصحارى والسهول والطرق المعبدة حيث يندفع جيب من الهواء الساخن الملامس لسطح الأرض بشكل مفاجيء إلى الأعلى فيتشكل مكانها منطقة صغيرة ذات ضغط منخفض. وعندما يندفع  الهواء البارد من المناطق المحيطة إلى عين الزوبعة يبدأ بالدوران حول عمود الهواء الساخن ليكون الدوامة الهوائية التي يمكن رؤيتها إذا ما توفرت كميات كافية من الغبار  والأتربة والمخلفات النباتية اليابسة. ويتراوح قطر الزوبعة الغبارية بين عشرات السنتيمترات  والمائة متر  وارتفاعها إلى عدة مئات من الأمتار بينما لا تتجاوز سرعة الرياح فيها المائة كيلومتر  في الساعة. وتتراوح مدة مكوث الزوابع الغبارية  بين عدة ثواني وعشرات الدقائق تقطع خلالها مسافات تبعل لعمرها وسرعة تحركها. وتلعب الزوابع الغبارية دورا كبيرا في نقل الغبار  من الصحاري إلى الجو  ليعمل على تكون قطرات الماء في الغيوم وزيادة الأتربة في المناطق الفقيرة بالأتربة  كالجبال والتلال.

وأما الإعصار الناري (fire tornadoe) والذي يسمى أيضا الزوبعة النارية  (fire whirl) وكذلك الشيطان الناري (fire devil) فهو لا يختلف في خصائصه العامة عن بقية الأعاصير  وهو أقرب ما يكون من حيث الأبعاد وطريقة التكون من الزوبعة الغبارية (dust whirl) أو الشيطان الغباري (dust devil). وما يميز  الإعصار الناري عن الغباري أنه لا يتكون إلا  في داخل الحرائق حيث أن الهواء الساخن فوق الحريق يصعد إلى الأعلى ليحل محله هواء بارد يأتي من الجوانب فيبدأ بالدوران بشكل لولبي حول مكان الضغط المنخفض ليحصر اللهب والمواد القابلة للإشتعال في داخل عامود الهواء الساخن مكونا بذلك الإعصار الناري. ويتراوح قطر الإعصار الناري بين المتر الواحد والعشرين متر  أما ارتفاعه فيتراوح بين عشرة أمتار  و ثلاثمائة متر. أما سرعة الرياح الدوامة في داخله فقد تصل إلى مائتي كيلومتر في الساعة وهي أعلى من تلك التي لبقية الأعاصير  من نفس الحجم بينما تصل درجة حرارة اللهب في داخله إلى ما يزيد عن ألف درجة مئوية.  ومن حسن الحظ أن عمر  الإعصار  الناري لا يتجاوز الساعة الواحدة وأغلبها يتلاشى في دقائق معدودة ولذلك كانت الصعوبة في رصدها. وتكمن الخطورة في الأعاصير  النارية في قدرتها على حرق المواد القابلة للاشتعال بشكل أسرع من الحرائق العادية وقدرتها على نقل الحرائق من المكان الذي تولدت فيه إلى مكان آخر  وكذلك صعوبة إطفائها بسب أن النار محصورة في داخل غلاف هوائي دوام شديد السرعة.  


2018-09-03

ثم استوى إلى السماء وهي دخان


ثم استوى إلى السماء وهي دخان

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية


نشرت مجلة النيويورك تايمز  الأمريكية (The New York Times) في عام 1991م مقالا ملفتا للنظر بعنوان (The Big Bang – Mostly Smoke?) وترجمته ( الانفجار العظيم --  غالبه دخان ).  وتتحدث المقالة عن الحالة التي كان عليها الكون في بداية ظهوره وذلك قبل مرحلة تشكل النجوم والمجرات وتؤكد على أن الكون كان في أول نشأته كرة من الدخان المكون بداية من الجسيمات الأولية والفوتونات ومن ثم من ذرات الهيدروجين والهيليوم.  وقد تكرر ذكر  الحالة الدخانية للكون في تقارير علمية كثيرة فيما بعد ففي  أحد التقارير  وصف الكاتب حالة الكون البدائي بقوله (About 300,000 years after the big bang, the universe was like a smoke-filled chamber from which light could not escape. By the time the universe was a billion years old, the smoke—actually a gas of light-trapping hydrogen—had cleared almost entirely, allowing stars and galaxies to become visible.) وترجمته (بعد ما يقرب من ثلاثمائة ألف عام بعد الانفجار  العظيم كان الكون على ما يشبه الغرفة المملؤة بالدخان التي لا يمكن للضوء أن ينفذ منه. وعندما أصبح عمر  الكون بليون عام انقشع هذا الدخان المكون من غاز الهيدروجين الممتص للضوء بشكل كلي مما سمح برؤية النجوم والمجرات).  وفي مقالات أخرى أطلق بعض العلماء اسم الضباب بدلا من الدخان على هذه المرحلة من مراحل تطور الكون فلقد كان عنوان إحداها (Astronomers have found when and how the cosmic fog was lifted) وترجمتها (الفلكيون يجدون متى وكيف انقشع الضباب الكوني).  وفي مقالة أخرى قال كاتبها (For its first 370,000 years, the universe was filled with a hot, dense fog of ionized gas.) وترجمته (في أول 370 ألف عام كان الكون مليئا بضباب حار وكثيف من الغاز المتأين).

لقد تفرد القرآن الكريم عن بقية الكتب السماوية السابقة بذكر  هذه المرحلة الدخانية التي كان عليها الكون عند نشأته الأولى  وذلك في قوله تعالى "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)" فصلت. والمقصود بالسماء في  قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) هو الفضاء الذي امتلأ بالدخان الناتج عن الانفجار الكوني العظيم فلم يكن ثمة سماء  بالمعنى المعروف قبل ذلك. ومن الواضح أن علماء  الفلك الذين أطلقوا اسم الدخان على حالة الكون هذه كانوا أكثر دقة من العلماء  الذين أطلقوا اسم الضباب. فكلا التسميتان الدخان والضباب اطلقتا مجازا على مكونات الكون في بداية نشأته وهي الجسيمات الأولية بمختلف أنواعها ومن ثم ذرات الهيدروجين والهيليوم.  ولكن تسمية الدخان تعطي صورة في ذهن المتلقي أقرب للحقيقة فلطالما ارتبط  الدخان بالنار  والسواد وهو بذلك يوحي بالحالة الحارة التي كان عليها الكون وكذلك  بحالة الظلام التي كانت تسود الكون في مراحل تطوره الأولى (dark age) وذلك على عكس الضباب المرتبط اسمه في الغالب بالبرودة والبياض.  ولقد شرحت في مقالات سابقة مدلولات هذه الآية وما هو المقصود باليومين الذين خلق الله عز وجل فيهما السموات السبع وكذلك الأرض الأولية والأربعة أيام التي قدر الله فيها أقوات الأرض لتكون صالحة للحياة وذلك في مقالة (خلق الأرض في يومين) ومقالة ( وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) .
 ولا بد هنا من أن نسأل الذين لا يصدقون بأن هذا القرآن منزل من عند الله عز وجل من أين جاء هذا النبي الأمي الذي عاش في أمة أمية بهذه الحقيقة الكبرى عن حالة الكون عند بداية خلقه والتي بقيت مجهولة إلى أن كشفها الله على أيدي خلقه في هذا العصر فقط. وكذلك نسأل ما هي المصلحة التي سيجنيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لو كان هذا القرآن من تأليفه من ذكر هذه الحقيقة العلمية  وغيرها الكثير من حقائق الكون وهو يعلم أن البشر  جميعا في تلك الفترة لا يمكنهم فهم مدلولات هذه الآيات القرآنية. ولكن الذي أنزل هذه القرآن وكشف هذه الحقيقة سبحانه وتعالى يعلم أن البشر بما أتاهم الله عز وجل من علم وبهدي منه سيتمكنون يوما ما من كشف كثير من أسرار  الكون التي أشار  إليها القرآن تلميحا فيوقنوا  باستحالة أن يكون هذا القرآن من تأليف البشر  مصداقا لقوله تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) " فصلت وقوله سبحانه "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)" النمل وقوله تعالى "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)" الطلاق.  وكذلك فإن ذكر  القرآن  لهذه الحقيقة العلمية دون غيره من الكتب السماوية ينفي نفيا قاطعا التهمة التي يتشدق بها الكفار على مر العصور من أن هذا القرآن قد ألفه  سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالاعتماد على كتب الأولين كما قال تعالى على لسانهم "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)" الفرقان وقوله سبحانه"وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)" النحل.   
ومن المناسب هنا أن ألخص الأحداث والحقب التي مر بها الكون منذ الانفجار العظيم حتى يومنا هذا علما بأني شرحتها بشيء من التفصيل في مقالات أخرى مبينة في قائمة المراجع كمقالة (الانفجار العظيم في القرآن الكريم وفي صحيفة ادريس السلوفاكية). ظهرت دراسات كثيرة في الفيزياء الفلكية حول الانفجار الكوني العظيم وحول  الحالة الدخانية للكون من حيث طولها الزمني  والأحداث التي حصلت لمادة الكون خلالها وقسموها إلى حقب (epoch) متعاقبة. لقد تمت ستة من أهم هذه الحقب في الثانية الأولى فقط من عمر الكون  حيث بدأت بما يسمى بحقبة بلانك (Planck Epoch) وهي لحظة حدوث انفجار عظيم (massive blast) لما يسمى بالبيضة الكونية (cosmic egg) التي كانت تحتوي على جميع مادة وطاقة هذا الكون وقد أطلق على هذا الإنفجار فيما بعد اسم الانفجار العظيم (Big Bang). لقد كان الكون عند ساعة الصفر على شكل نقطة مادية غاية في الصغر (gravitational singularity)  لها درجة حرارة وكثافة غاية في الكبر ولا يعرف العلماء على وجه التحديد ماهية المادة الأولية التي انبثق منها هذا الكون ولا من أين جاءت ولماذا اختارت هذا الوقت بالتحديد لكي تنفجر ولا يعرفون كذلك أيّ شيء عن حالة الكون قبل الانفجار وصدق الله العظيم القائل "مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا" الكهف 51. ويغلب على ظن العلماء أن مادة الكون كانت عند بداية الانفجار مادة صرفة ذات طبيعة واحدة وتحكمها قوة طبيعية واحدة وقد بدأت هذه المادة الصرفة بالتمدد بشكل رهيب وبسرعات غاية في الكبر نتيجة لهذا الانفجار لتملأ الفضاء من حولها هذا إذا ما كان هناك ثمة فضاء حيث يعتقد العلماء أن المكان والزمان قد ظهرا مع ظهور هذا الانفجار. لقد كان الكون الأولي على شكل كرة نارية متجانسة تملؤها سحابة من المادة الصرفة العالية الحرارة والكثافة حيث قدر العلماء درجة حرارة الكون عند لحظة الانفجار برقم هو حاصل رفع الرقم عشرة للأس 35 درجة بينما قدرت الكثافة برقم هو حاصل رفع الرقم عشرة للأس مائة وعشرين إيرج لكل سنتيمتر مكعب.

وبعد حقبة بلانك جاءت حقبة التوحد الكبير(Grand Unification Epoch) وفيها انفصلت قوة الجاذبية (gravity force) عن بقية قوى الطبيعة الأساسية الأربع  وبدأ تشكل بعض الجسيمات الأولية (elementary particles) وضديداتها (antiparticles). وفي حقبة  الانتفاخ (Inflationary Epoch) انفصلت القوة النووية القوية (strong nuclear force) وبدأ الكون بالتمدد بشكل أسي وليس خطي ليظهر ما يسمى بالكون المنتفخ (inflated universe). وفي حقبة الكهروضعيفة (Electroweak Epoch) التي لا زالت فيها القوة الكهربائية (electric force) والقوة النووية الضعيفة (weak nuclear force) متحدة امتلأ الكون بما يسمى بالبوزنات (bosons) وهي الجسيمات الحاملة لقوى الطبيعة (force carriers)   والفوتونات (photons) أي أن الكون كان مكون  بشكل رئيسي من الإشعاعات (radiation) وليس المادة. وفي حقبة الكوارك (Quark Epoch) بدأت الجسيمات الأولية المكونة للذرات والتي أهمها الكواركات والإلكترونات بالتشكل وذلك بعد انفصال القوة الكهربائية عن القوة النووية الضعيفة.  وفي الحقبة السادسة والأخيرة من حقب الثانية الأولى من عمر الكون وهي حقبة الهادرون (Hadron Epoch) وبعد أن هبطت درجة حرارة الكون إلى تريليون درجة بدأت الهادرونات كالبروتونات والنيوترونات وهي الجسيمات المكونة لنوى الذرات بالتشكل.

أما حقب ما بعد الثانية الأولى فهي حقبة الليبتون (Lepton Epoch) وامتدت من بعد الثانية الأولى إلى ثلاثة دقائق من عمر الكون وفيها ظهرت الليبتونات وهي الإلكترونات (electrons) وضديداتها  البوزترون (positrons) بالظهور بكميات كبيرة, وفي حقبة تشكل النوى (Nucleosynthesis epoch) والتي امتدت من ثلاث دقائق إلى عشرين دقيقة بدأت نوى ذرات الهيدروجين والهيليوم بالتشكل من البروتونات والنيوترونات وذلك بعد أن هبطت درجة حرارة الكون إلى بليون درجة.  وفي حقبة الفوتون (Photon Epoch) والتي امتدت حتى 240 ألف عام أصبح الكون مكون بشكل رئيسي من ذرات الهيدروجين والهيليوم المتأينة (ionized)  وكذلك الإلكترونات وكميات ضخمة من الفوتونات التي تحمل معظم طاقة الكون. وفي حقبة الارتباط (Recombination) والتي امتدت حتى 300 ألف عام  ابتدأت الإلكترونات بالإرتباط بنوى ذرات الهيدروجين والهيليوم لتنتج ذرات متعادلة كهربائيا وذلك بعد أن هبطت درجة حرارة الكون إلى ثلاثة ألاف درجة. وفي الحقبة المظلمة  (Dark Age) والتي امتدت حتى 150 مليون عام كان يتم امتصاص الفوتونات من قبل ذرات الهيدروجين والهيليوم ولا ينفذ منها أي كمية تذكر إلى الخارج ولذا كان الظلام يسود الكون في هذه الحقبة. وفي حقبة التأين (Reionization epoch)  والتي امتدت حتى ألف مليون عام بدأت النجوم والمجرات الأولية بالتشكل وبدأت الإشعاعات التي تصدرها هذه النجوم نتيجة التفاعلات النووية فيها بإعادة تأيين ذرات الهيدروجين والهيليوم المحيطة بهذه النجوم وقل بذلك  امتصاصها للفوتونات وبدأ الظلام ينقشع تدريجيا ليصبح الكون شفافا كما نشاهده اليوم.  لقد كانت النجوم  الأولية التي  تشكلت في تلك الحقبة كبيرة الحجم وقصيرة العمر  وكانت تنفجر بعد نفاد وقودها من الهيدروجين والهيليوم على شكل مستعرات عظمى (supernovas). ومن بقايا هذه النجوم المتفجرة تكونت نجوم جديدة أصغر حجما ومحاطة  بالكواكب كما هو الحال مع مجموعتنا الشمسية التي تكونت قبل 4500 مليون عام.  وخلال عمر الكون البالغ 13700 مليون عام تشكلت أشكال وأحجام لا حصر لها من النجوم والمجرات  في مختلف أطوارها وهي مندفعة بسرعات خيالية بعيدا عن مركز الكون الذي حدث فيه الانفجار العظيم.
المراجع

4-      مقالة (الانفجار العظيم في القرآن الكريم وفي صحيفة ادريس السلوفاكية) منصور أبوشريعة العبادي
5-      مقالة (خلق الأرض في يومين) منصور أبوشريعة العبادي

6-      مقالة (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) منصور أبوشريعة العبادي