ثم استوى إلى السماء وهي دخان
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \جامعة
العلوم والتكنولوجيا الأردنية
نشرت مجلة النيويورك تايمز الأمريكية (The New York Times) في
عام 1991م مقالا ملفتا للنظر بعنوان (The Big Bang – Mostly Smoke?)
وترجمته ( الانفجار العظيم -- غالبه دخان ). وتتحدث المقالة عن الحالة التي كان عليها الكون
في بداية ظهوره وذلك قبل مرحلة تشكل النجوم والمجرات وتؤكد على أن الكون كان في
أول نشأته كرة من الدخان المكون بداية من الجسيمات الأولية والفوتونات ومن ثم من
ذرات الهيدروجين والهيليوم. وقد تكرر
ذكر الحالة الدخانية للكون في تقارير
علمية كثيرة فيما بعد ففي أحد
التقارير وصف الكاتب حالة الكون البدائي
بقوله (About 300,000 years after the big
bang, the universe was like a smoke-filled chamber from which light could not
escape. By the time the universe was a billion years old, the smoke—actually a
gas of light-trapping hydrogen—had cleared almost entirely, allowing stars and
galaxies to become visible.) وترجمته (بعد ما يقرب من ثلاثمائة ألف عام بعد الانفجار العظيم كان الكون على ما يشبه الغرفة المملؤة
بالدخان التي لا يمكن للضوء أن ينفذ منه. وعندما أصبح عمر الكون بليون عام انقشع هذا الدخان المكون من
غاز الهيدروجين الممتص للضوء بشكل كلي مما سمح برؤية النجوم والمجرات). وفي مقالات أخرى أطلق بعض العلماء اسم الضباب
بدلا من الدخان على هذه المرحلة من مراحل تطور الكون فلقد كان عنوان إحداها (Astronomers have found when and how the
cosmic fog was lifted) وترجمتها (الفلكيون يجدون متى وكيف انقشع الضباب الكوني). وفي
مقالة أخرى قال كاتبها (For its first
370,000 years, the universe was filled with a hot, dense fog of ionized gas.)
وترجمته (في أول
370 ألف عام كان الكون مليئا بضباب حار وكثيف من الغاز المتأين).
لقد تفرد
القرآن الكريم عن
بقية الكتب السماوية السابقة بذكر هذه
المرحلة الدخانية التي كان عليها الكون عند نشأته الأولى وذلك في قوله تعالى "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)" فصلت.
والمقصود بالسماء في قوله تعالى (ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) هو الفضاء الذي امتلأ بالدخان الناتج عن الانفجار الكوني
العظيم فلم يكن ثمة سماء بالمعنى المعروف قبل
ذلك. ومن الواضح أن علماء الفلك الذين
أطلقوا اسم الدخان على حالة الكون هذه كانوا أكثر دقة من العلماء الذين أطلقوا اسم الضباب. فكلا التسميتان الدخان
والضباب اطلقتا مجازا على مكونات الكون في بداية نشأته وهي الجسيمات الأولية بمختلف
أنواعها ومن ثم ذرات الهيدروجين والهيليوم. ولكن تسمية الدخان تعطي صورة في ذهن المتلقي
أقرب للحقيقة فلطالما ارتبط الدخان
بالنار والسواد وهو بذلك يوحي بالحالة
الحارة التي كان عليها الكون وكذلك بحالة
الظلام التي كانت تسود الكون في مراحل تطوره الأولى (dark age) وذلك على عكس الضباب المرتبط
اسمه في الغالب بالبرودة والبياض. ولقد شرحت في
مقالات سابقة مدلولات هذه الآية وما هو المقصود باليومين الذين خلق الله عز وجل
فيهما السموات السبع وكذلك الأرض الأولية والأربعة أيام التي قدر الله فيها أقوات
الأرض لتكون صالحة للحياة وذلك في مقالة (خلق الأرض
في يومين) ومقالة ( وقدر فيها أقواتها في
أربعة أيام) .
ولا بد هنا من أن نسأل الذين لا يصدقون بأن هذا
القرآن منزل من عند الله عز وجل من أين جاء هذا النبي الأمي الذي عاش في أمة أمية
بهذه الحقيقة الكبرى عن حالة الكون عند بداية خلقه والتي بقيت مجهولة إلى أن كشفها
الله على أيدي خلقه في هذا العصر فقط. وكذلك نسأل ما هي المصلحة التي سيجنيها
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لو كان هذا القرآن من تأليفه من ذكر هذه الحقيقة
العلمية وغيرها الكثير من حقائق الكون وهو
يعلم أن البشر جميعا في تلك الفترة لا يمكنهم
فهم مدلولات هذه الآيات القرآنية. ولكن الذي أنزل هذه القرآن وكشف هذه الحقيقة
سبحانه وتعالى يعلم أن البشر بما أتاهم الله عز وجل من علم وبهدي منه سيتمكنون يوما
ما من كشف كثير من أسرار الكون التي أشار إليها القرآن تلميحا فيوقنوا باستحالة أن يكون هذا القرآن من تأليف
البشر مصداقا لقوله تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) "
فصلت وقوله سبحانه "وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (93)"
النمل وقوله تعالى "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ
أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)" الطلاق. وكذلك فإن ذكر القرآن لهذه
الحقيقة العلمية دون غيره من الكتب السماوية ينفي نفيا قاطعا التهمة التي يتشدق
بها الكفار على مر العصور من أن هذا القرآن قد ألفه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالاعتماد على
كتب الأولين كما قال تعالى على لسانهم "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)" الفرقان وقوله سبحانه"وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ
لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
مُبِينٌ (103)" النحل.
ومن المناسب هنا أن ألخص الأحداث والحقب التي مر بها
الكون منذ الانفجار العظيم حتى يومنا هذا علما بأني شرحتها بشيء من التفصيل في
مقالات أخرى مبينة في قائمة المراجع كمقالة (الانفجار
العظيم في القرآن الكريم وفي صحيفة ادريس السلوفاكية). ظهرت دراسات كثيرة
في الفيزياء الفلكية حول الانفجار الكوني العظيم وحول الحالة الدخانية للكون من حيث طولها الزمني والأحداث التي حصلت لمادة الكون خلالها وقسموها
إلى حقب (epoch)
متعاقبة. لقد تمت ستة من أهم هذه الحقب في الثانية الأولى فقط من عمر الكون حيث بدأت بما يسمى بحقبة بلانك (Planck
Epoch) وهي لحظة حدوث
انفجار عظيم (massive
blast) لما يسمى بالبيضة الكونية (cosmic egg) التي كانت تحتوي على
جميع مادة وطاقة هذا الكون وقد أطلق على هذا الإنفجار فيما بعد اسم الانفجار
العظيم (Big Bang).
لقد كان الكون عند ساعة الصفر على شكل نقطة مادية غاية في الصغر (gravitational singularity)
لها درجة حرارة وكثافة غاية في الكبر ولا
يعرف العلماء على وجه التحديد ماهية المادة الأولية التي انبثق منها هذا الكون ولا
من أين جاءت ولماذا اختارت هذا الوقت بالتحديد لكي تنفجر ولا يعرفون كذلك أيّ شيء
عن حالة الكون قبل الانفجار وصدق الله العظيم القائل
"مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُدًا" الكهف 51. ويغلب
على ظن العلماء أن مادة الكون كانت عند بداية الانفجار مادة صرفة ذات طبيعة واحدة
وتحكمها قوة طبيعية واحدة وقد بدأت هذه المادة الصرفة بالتمدد بشكل رهيب وبسرعات
غاية في الكبر نتيجة لهذا الانفجار لتملأ الفضاء من حولها هذا إذا ما كان هناك ثمة
فضاء حيث يعتقد العلماء أن المكان والزمان قد ظهرا مع ظهور هذا الانفجار. لقد كان
الكون الأولي على شكل كرة نارية متجانسة تملؤها سحابة من المادة الصرفة العالية
الحرارة والكثافة حيث قدر العلماء درجة حرارة الكون عند لحظة الانفجار برقم هو
حاصل رفع الرقم عشرة للأس 35 درجة بينما قدرت الكثافة برقم هو حاصل رفع الرقم عشرة
للأس مائة وعشرين إيرج لكل سنتيمتر مكعب.
وبعد حقبة بلانك جاءت حقبة التوحد الكبير(Grand Unification Epoch)
وفيها انفصلت قوة الجاذبية (gravity
force) عن بقية قوى الطبيعة الأساسية الأربع وبدأ تشكل بعض الجسيمات الأولية (elementary particles)
وضديداتها (antiparticles). وفي حقبة الانتفاخ (Inflationary
Epoch) انفصلت القوة النووية القوية (strong nuclear force)
وبدأ الكون بالتمدد بشكل أسي وليس خطي ليظهر ما يسمى بالكون المنتفخ (inflated universe). وفي حقبة الكهروضعيفة (Electroweak
Epoch) التي لا زالت فيها القوة الكهربائية (electric force) والقوة النووية الضعيفة (weak nuclear force)
متحدة امتلأ الكون بما يسمى بالبوزنات (bosons) وهي الجسيمات الحاملة لقوى
الطبيعة (force carriers) والفوتونات (photons) أي أن الكون كان مكون بشكل رئيسي من الإشعاعات (radiation) وليس المادة. وفي حقبة الكوارك (Quark Epoch) بدأت
الجسيمات الأولية المكونة للذرات والتي أهمها الكواركات والإلكترونات بالتشكل وذلك
بعد انفصال القوة الكهربائية عن القوة النووية الضعيفة. وفي الحقبة السادسة والأخيرة من حقب الثانية
الأولى من عمر الكون وهي حقبة الهادرون (Hadron
Epoch) وبعد أن هبطت درجة حرارة الكون إلى تريليون درجة بدأت الهادرونات
كالبروتونات والنيوترونات وهي الجسيمات المكونة لنوى الذرات بالتشكل.
أما حقب ما بعد الثانية الأولى فهي حقبة الليبتون (Lepton
Epoch) وامتدت من بعد الثانية الأولى إلى ثلاثة دقائق من عمر الكون
وفيها ظهرت الليبتونات وهي الإلكترونات (electrons) وضديداتها البوزترون (positrons) بالظهور بكميات كبيرة, وفي حقبة
تشكل النوى (Nucleosynthesis
epoch) والتي امتدت من ثلاث دقائق إلى عشرين دقيقة بدأت نوى ذرات
الهيدروجين والهيليوم بالتشكل من البروتونات والنيوترونات وذلك بعد أن هبطت درجة
حرارة الكون إلى بليون درجة. وفي حقبة الفوتون
(Photon Epoch) والتي
امتدت حتى 240 ألف عام أصبح الكون مكون بشكل رئيسي من ذرات الهيدروجين والهيليوم
المتأينة (ionized) وكذلك الإلكترونات وكميات ضخمة من الفوتونات التي
تحمل معظم طاقة الكون. وفي حقبة الارتباط (Recombination) والتي
امتدت حتى 300 ألف عام ابتدأت الإلكترونات
بالإرتباط بنوى ذرات الهيدروجين والهيليوم لتنتج ذرات متعادلة كهربائيا وذلك بعد
أن هبطت درجة حرارة الكون إلى ثلاثة ألاف درجة. وفي الحقبة المظلمة (Dark Age)
والتي امتدت حتى 150 مليون عام كان يتم امتصاص الفوتونات من قبل ذرات الهيدروجين
والهيليوم ولا ينفذ منها أي كمية تذكر إلى الخارج ولذا كان الظلام يسود الكون في
هذه الحقبة. وفي حقبة التأين (Reionization
epoch) والتي امتدت حتى ألف
مليون عام بدأت النجوم والمجرات الأولية بالتشكل وبدأت الإشعاعات التي تصدرها هذه
النجوم نتيجة التفاعلات النووية فيها بإعادة تأيين ذرات الهيدروجين والهيليوم
المحيطة بهذه النجوم وقل بذلك امتصاصها
للفوتونات وبدأ الظلام ينقشع تدريجيا ليصبح الكون شفافا كما نشاهده اليوم. لقد كانت النجوم الأولية التي تشكلت في تلك الحقبة كبيرة الحجم وقصيرة
العمر وكانت تنفجر بعد نفاد وقودها من
الهيدروجين والهيليوم على شكل مستعرات عظمى (supernovas). ومن بقايا هذه النجوم المتفجرة
تكونت نجوم جديدة أصغر حجما ومحاطة بالكواكب
كما هو الحال مع مجموعتنا الشمسية التي تكونت قبل 4500 مليون عام. وخلال عمر الكون البالغ 13700 مليون عام تشكلت
أشكال وأحجام لا حصر لها من النجوم والمجرات
في مختلف أطوارها وهي مندفعة بسرعات خيالية بعيدا عن مركز الكون الذي حدث
فيه الانفجار العظيم.
المراجع
4-
مقالة (الانفجار العظيم في القرآن الكريم وفي صحيفة
ادريس السلوفاكية) منصور أبوشريعة العبادي
5-
مقالة (خلق الأرض في يومين) منصور أبوشريعة العبادي
6-
مقالة (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) منصور أبوشريعة
العبادي
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق