الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم
والتكنولوجيا الأردنية
إن
مسألة إستواء الرحمن جل جلاله على عرشه من أكثر مسائل العقيدة الإسلامية التي دار حولها
الجدل بين علماء العقيدة المسلمين بحيث وصل الأمر بهم إلى تكفير وتضليل وتفسيق
بعضهم بعضا. وقد أدى الإختلاف في بعض مسائل العقيدة الإسلامية وخاصة تلك المتعلقة
بأسماء الله عز وجل وصفاته إلى ظهور فرق كثيرة من أهمها فرق أهل السنة وهي الجهمية
والمعتزلة والأشعرية والماتريدية والسلفية وفرق الشيعة وهي الإثني عشرية والزيدية والإسماعيلية
والنصيرية والدرزية وكذلك فرق الخوارج وهي الإباضية. ومن الجدير بالذكر أن المسلمين
قد إنقسموا سياسيا حول طريقة اختيار الحاكم إلى ثلاث فرق رئيسية وهم السنة والشيعة
والخوارج وانقسموا أيضا حول المسائل الفقهية المتعلقة بأحكام العبادات والمعاملات
إلى مذاهب كثيرة كمذاهب الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية عند السنة ومذاهب
الجعفري والزيدي والإسماعيلي عند الشيعة والمذهب الأباضي عند الخوارج. ومما يبعث
على الإستغراب أن هذه الفرق يكفر ويفسق بعضها بعضا رغم أن الاختلافات بينهم في المسائل
السياسية والعقيدية والفقهية هي في أمور جزئية لا تخرج المسلم من دائرة الاسلام. وسأشرح
في هذه المقالة آراء هذه الفرق في مسألة إستواء الله عز وجل على عرشه مع التوسع في
شرح رأي شيخ الإسلام إبن تيمية لقناعتي
بأنه أقرب هذه الأراء إلى الصواب مع التأكيد على أني لا أشكك في حسن نوايا بقية
الفرق في اجتهاداتهم حول هذه المسألة الغيبة.
ويعود سبب الاختلاف حول
مسألة استواء الله عز وجل على عرشه إلى إيمان المسلمين بأن الله عز وجل لا يحده
زمان ولا مكان فهو خالق الزمان والمكان وكان سبحانه موجودا قبل وجود الزمان
والمكان. وإذا كان الله عز وجل لا يحده مكان فهل أدى خلقه لمخلوقاته إلى أن تحده
هذه المخلوقات بعد أن احتلت حيزا مكانيا لم يكن موجودا قبل خلقها؟ لقد أدى هذا
الإشكال إلى انقسام علماء العقيدة الإسلامية إلى فريقين رئيسيين فالفريق الأول وهم
المعتزلة والأشاعرة المتأخرين والماتريدية والشيعة الأمامية والزيدية والأباضية ينفون
الإستواء الحقيقي المكاني لله عز وجل على عرشه وكذلك نفي الجهة والعلو المكاني وفسروا
معنى الإستواء بالإستيلاء والقهر والملك والتدبير. أما الفريق الثاني وهم السلفية وقدامى
الأشاعرة فقد تحرجوا من تأويل الآيات القرءانية التي تنص بشكل صريح على أن الله عز
وجل مستو فوق عرشه بلا نكييف ولا تشبيه وأنه عالي فوق خلقه وأنه بائن عن مخلوقاته
غير مختلط بها.
وعلى الرغم من أن الفريق
الأول وهم المعتزلة والأشاعرة والإمامية والزيدية والأباضية أرادوا تنزيه الله عز
وجل عن المكان والجهة ولا أشك في حسن نيتهم إلا أنهم أوقعوا أنفسهم في معضلة كبرى
وهي أنه إذا كان الله عز وجل ليس فوق عرشه بائن عن خلقه فلا بد وأنه موجود في كل
مكان بما فيها أجرام وأجسام جميع مخلوقاته وحتى في القاذورات تنزه الله عن ذلك وهو
ما قالته فرق الحلولية والجهمية. وللخروج من هذا المأزق لجأ الفريق الأول إلى
استخدام عبارات فلسفية غامضة مبهمة ينفون فيها أن الله عز وجل موجود داخل مخلوقاته
كقولهم (الله موجود بلا مكان كما كان قبل خلق المكان)
وقولهم (الله ليس داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا
ولا منفصلا عنه) وكقولهم (ليس الله في مكان
ولا تحويه الجهات الست). ولقد رد عليهم الفريق الثاني وهم السلفية فقالوا
إن الشيء الوحيد الذي لا يوجد داخل العالم ولا خارجه هو العدم وبهذا فالفريق الأول
بأقوالهم هذه جعلوا الله أشبه بالعدم حاشاه عن ذلك. ومن السهل على أي مسلم عاقل أن
يحاججهم ويقول لهم بما أنكم قلتم أن الله عز وجل ليس موجودا داخل العالم فبالتالي
فهو ليس موجودا بذاته في داخلي ولا خيار لي إلا أن أتوجه إليه سبحانه في خارج الكون. ومن الحجج القوية التي حاججهم
بها شيخ الاسلام ابن تيمية هو أنهم بأقوالهم هذه ساووا بين الخالق ومخلوقاته في
السعة فسعة العرش بما حوى من سموات وآراضين بالنسبة لله عز وجل هي كالحمصة في قبضة
الإنسان بل هو أصغر من ذلك بكثير. وعلى هذا كيف يمكن لمسلم عاقل أن يتصور أن استواء
الله عز وجل على عرشه هو الجلوس عليه فقد قال
شيخ الاسلام ابن تيمية حول هذا الأمر في الرسالة العرشية ( بَلْ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ
تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ دَاخِلِ الْفَلَكِ فِي
الْفَلَكِ، وَإِنَّهَا عِنْدَهُ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ وَالْفَلْفَلَةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي يَدِ أَحَدِنَا، فَإِذَا كَانَتْ الْحِمَّصَةُ أَوْ
الْفَلْفَلَةُ. بَلْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ، أَوْ الْكُرَةُ الَّتِي يَلْعَبُ
بِهَا الصِّبْيَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فِي يَدِ الْإِنْسَانِ أَوْ تَحْتَهُ أَوْ
نَحْوِ ذَلِكَ، هَلْ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ إذَا اسْتَشْعَرَ عُلُوَّ الْإِنْسَانِ
عَلَى ذَلِكَ وَإِحَاطَتَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالْفَلَكِ؟
وَاَللَّهُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ
بِهِ، وَإِنَّمَا يَظُنُّهُ الَّذِينَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: ٦٧].).
أما الفريق الثاني وهم
السلفية وقدامى الأشاعرة فقد قالوا باستواء الله عز وجل بذاته على عرشه وكذلك علوه
على جميع مخلوقاته وأنه بائن عنهم غير حال بهم ليس فقط اعتمادا على الآيات القرءانية
التي نصت على الإستواء بل على آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة. فالآيات القرءانية
التي نصت على الإستواء كثيرة منها قوله تعالى (إِنَّ
رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) الأعراف (الرَّحْمَنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)) طه. أما الآيات التي لا تدع مجالا للشك بأن
الله عز وجل مستو فوق عرشه بائن عن خلقه هي تلك التي تؤكد أن الملائكة تحف بالعرش
من تحته تسبح بحمد ربها الذي هو فوقها كما جاء في قوله تعالى (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)) الزمر وقوله تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا
وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)) غافر. والعرش كما
وصفه شيخ الاسلام ابن تيمية كروي الشكل يحيط بالكرسي الكروي الشكل أيضا والذي يحيط
بدورة بالسموات السبع وهي على شكل كرات يحيط الأعلى منها بالأسفل وتحيط السماء الدنيا
بالأرض الكروية كما سنشرح ذلك لاحقا. وللقاريء أن يتخيل أعداد الملائكة الملتصقة بسقف
العرش تبتغي القرب من الله عز وجل وتسبحه ليلا ونهارا بلا إنقطاع مصداقا لقوله
تعالى (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ
عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)) الأنبياء. إن
جملة (وَمَنْ عِنْدَهُ) في هذه الآيات تكفي لإثبات
أن الله عز وجل ليس عند البشر ولا تحت عرشه بذاته بل هو عالي فوق عرشه.
أما الآيات التي تؤكد عظمة
الله عز وجل وهيبته وجبروته وأنه ليس بالصورة العدمية التي رسمها الفريق الأول من
المعتزلة ومن قال قولهم في أذهان الناس فهي قوله تعالى (تَكَادُ
السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)) الشورى. فالسموات تكاد أن تتفطر من فوقهن من خشية الله عز وجل رغم أنهن تحت الكرسي وتحت
العرش الذي يحجب عنهن تجليات الله عز وجل. بل إن العرش الذي وصفه الله عز وجل في
كتابه بشتى أوصاف العظمة والقوة بالكاد أن
يصمد أما هيبة من فوقه سبحانه وهذا ما أكده الحديث النبوي الذي رواه الدارمي أن رسول الله قال
(إن الله فوق عرشه فوق سماواته فوق أرضه مثل القبة –
وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة- وأنه ليئطُّ به أطيط الرَّحل
بالراكب). وبناءا على ما سبق فالله عز وجل لم يخلق العرش ليجلس عليه كما
يتوهمون ويحاججون بل ليحجب هذا العرش سبحات وجه الرحمن عن مخلوقاته وإلا لاحترقت وهذا
يؤكده قوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي
وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا
فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ (143)) الأعراف.
وأما الآيات التي تؤكد بشكل
واضح وصريح ولا يمكن تأويلها بأي شكل من الأشكال على أن الله عز وجل عالي فوق جميع
مخلوقاته فهي قوله تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) النحل وقوله تعالى (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ
فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)) الحاقة وقوله تعالى (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ
الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)) الملك وقوله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ (18)) الأنعام. وكيف يمكن لمسلم عاقل أن ينكر أن الله عز وجل
عالي فوق جميع مخلوقاته وهو يقرأ الآيات القرءانية التي تؤكد نزول أوامر االله عز
وجل تحملها ملائكته من فوق عرشه إلى السموات والأرض وعروج الملائكة إليه ورفع أعمال
البشر إليه كما جاء في قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)) السجدة وقوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)) المعارج وقوله تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ) فاطر وقول الله عز وجل
عن رفع عيسى عليه السلام إليه (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا
عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) آل عمران.
وأما الأحاديث النبوية
الصحيحة التي نصت على أن الله عز وجل مستو فوق عرشه فهي كثيرة منها الحديث الذي رواه العباس بن عبد المطلب قال
(كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فمرت بهم سحابةٌ فنظر إليها فقال: ((ما تُسَمون هذه؟)) قالوا:
السَّحابُ، قال ((والمُزْنُ؟)) قالوا: والمزن، قال: ((والعَنَان؟)) قالوا:
والعنان، قال: ((هل تدرون ما بعد ما بين السمــاء والأرض؟)) قالوا: لا ندري. قال: (إن
بُعْدَ ما بينهما إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السمــاءُ فوق ذلك
حتى عدَّ سبع سماوات ثم فوق السمــــاء السابعة بحْر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين
سماء إلى سماء، ثم فوْقَ ذلك ثمانية أوعال، بين أظْلافِهم ورُكَبِهم مثل ما بين
سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العـرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء،
ثم الله- عز وجل- فوق ذلك) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وكذلك الحديث
الذي رواه أبو هريرة قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إن الله
كَتَبَ كِتاباً قَبْلَ أن يخلُقَ الخَلْقَ، أن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده فوق العرش)
أخرجه البخاري ومسلم.
وقد أكدت أحاديث نبوية أخرى
أن بين الله عز وجل وبين العرش من الحجب ما لا يعلم عددها وأحجامها وأنواعها إلا خالقها
وهذا يؤكد أن الله عز وجل لم يخلق العرش ليجلس عليه بل ليحجب جبروته وقهره عن خلقه
وإلا لأفناهم وأحرقهم من سبحات وحهه سبحانه. ففي الحديث النبوي الذي رواه أنس بن مالك عن
رسول الله أنه قال عندما دنا من ربه في رحلة المعراج ( ثم
انطلق بي جبريل حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، فقال: هذا موضعٌ لو تقدمتُه
لاحترقت). وفي حديث أبي موسى الأشعري قال رسول االله (إن االله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع اليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور
ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره)
أخرجه الشيخان. وفي حديث موسى بن عبيدة عن أبي حازم عن سهل ابن سعد قال (قال رسول االله دون االله سبعون ألف حجاب من نور وظلمة
ما يسمع من نفس شيء من حسن تلك الحجب إلا زهقت نفسه) أخرجه البيهقي في
كتاب الصفات. وفي حديث مرفوع عن أنس بن
مالك أن رسول الله قال (قال الله تعالى ما من خلقي
أحد أقرب إلي من جبريل وميكائيل واسرافيل وإن بيني وبينهم مسيرة ألف عام) وكذلك حديث زرارة بن أوفى أنه قال (أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله (هل رأيت
ربك ] فقال إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور لو دنوت من أحدها لاحترقت). وفي
الحديث الذي رواه ابن عباس قال (قال جبريل يا محمد كيف لو رأيت اسرافيل ورأسه من تحت العرش
ورجلاه في التخوم السابعه وان العرش لعلى كاهله وانه ليتضاءل احيانا من مخافة الله
عز وجل حتى يصير مثل الوصع يعني مثل العصفور حتى ما يحمل عرش ربك الا عظمته).
وفي الحديث الذي رواه أبو بكر الهذلي عن الحسن البصري قال
( ليس شيء عند ربك أقرب إليه من إسرافيل وبينه وبينه سبعة حجب كل حجاب خمسمائة عام وهو دون هذه الحجب رجلاه في تخوم الثرى ورأسه من تحت العرش).
وفي الحديث الذي رواه وهب
بن منبه عن ابي هريره رضى الله عنه (ان رجلا من
اليهود اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هل احتجب الله من خلقه بشئ
غير السموات قال نعم بينه وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور
وسبعون حجابا من نار وسبعون حجابا من ظلمه وسبعون حجابا من رفاف الاستبرق وسبعون
حجابا من رفاف السندس وسبعون حجابا من در ابيض وسبعون حجابا من در احمر وسبعون
حجابا من در اصفر وسبعون حجابا من در اخضر وسبعون حجابا من ضياء إستضاءه من ضوء
النار والنور وسبعون حجابا من ثلج وسبعون حجابا من ماء وسبعون حجابا من غمام
وسبعونه حجابا من برد وسبعون حجابا من عظمة الله التي لا توصف).
ونستشهد
في هذا المقام عن صفة العرش والحجب التي احتجب بها الرحمن عن مخلوقاته وكذلك أعداد
الملائكة الحافين حول العرش من كتاب سماوي وهي صحف إدريس التي جاء ذكرها في
الأحاديث النبوية الشريفة. ويتفرد القرءان الكريم وصحف إدريس من بين جميع الكتب
السماوية وخاصة التوراة والإنجيل بذكر السموات السبع والعرش واستواء الله عز وجل
على عرشه حيث أن إدريس عليه السلام قد عرج
بها إلى السموات السبع حتى وصل العرش كما هو الحال مع سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم كما جاء في قوله تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا
(57)) مريم. ففي عام 1773م عثر الرحالة الاستكلندي جيمس بروس (James
Bruce) في الحبشة على نسخ من صحف إدريس عليه
السلام وأحضر معه ثلاث نسخ إلى بريطانيا
قام بترجمتها إلى الانجليزية. واللغة
التي كتبت بها صحف إدريس كما قال الباحثون هي لغة حبشية قديمة تسمى القيز (Geʻez) يقولون أنها إحدى اللغات السامية ولكنها في
الحقيقة لغة عربية فصيحة لا تختلف كثيرا
عن العربية الحالية في كلماتها وجملها. ففي الفصل 14 من هذه الصحيفة قال
إدريس عليه السلام عن معراجه إلى السموات واصفا عرش الرحمن (ورفعوني إلى السماء وذهبت حتى وصلت إلى القرب من جدار مبني
من البلور يحيط به لسان من النار وبدأ الخوف يأخذني وذهبت إلى لسان النار ووصلت
إلى بيت كبير مبني من البلور وجدرانه مثل الأرضية الملبسة بالبلور وأساسه من
البلور والسقف مثل مسارات النجوم والبروق وبينها ملائكة مجنحة من نار وسماؤه من
ماء. وتحيط بالجدران نار ملتهبة وأبوابه تلتهب بالنار ودخلت في هذا المنزل وكان
حارا كالنار وباردا كالثلج ولا يوجد فيه ما يسر ولا حياة فيه فاعتراني الخوف
وأخذني الرجفان وبينما كنت أهتز وأرجف وقعت على وجهي ورأيت في الرؤيا بيتا أكبر من
السابق وجميع أبوابه مفتحة أمامي وهو مبني من لسان من نار وهو يفوق كل الأشياء في الفخامة والعظمة والحجم
بحيث لا يمكن أن أصف عظمته وحجمه فأرضه من النار وفوقه البرق ومسارات النجوم وسقفه
من نار ملتهبة. ونظرت ورأيت هناك عرشا مرتفعا ومنظره كالجليد الأبيض ومحيطه كالشمس
المشعة وأصوات الملائكة المجنحة وتخرج من تحت العرش العظيم جداول من نار ملتهبة من
المستحيل النظر إليها. وعليه استوى الكبير في عظمته فحلته تلمع أشد من الشمس وهي
أشد بياضا من الثلج ولا يمكن لأي ملك أن يدخل ولا لبشر أن ينظر إلى وجه الجليل
المبجل حيث توجد نيران عظيمه أمامه ولا يمكن لمن حوله أن يقتربوا منه وهم عشرة
آلاف مضروبة بعشرة آلاف وهؤلاء الملائكة لا يغادرونه لا في الليل ولا في النهار). وهذا الوصف يصدقه قول الله عز وجل (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75))الزمر وقوله تعالى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ (86)) المؤمنون. وفي الفصل 39 من الصحيفة الأثيوبية قال
إدريس عليه السلام عن الملائكة الذين لا يتوقفون أبدا عن تسبيح الله عز وجل (وهناك رأت عيوني جميع أولئك الذين لا
ينامون واقفين أمامه ويسبحونه قائلين: سبحانك وسبحان اسم الرب إلى الأبد). وهذا موافق لقوله تعالى (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)) الأنبياء وقوله
تعالى (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ
لَا يَسْأَمُونَ (38)) فصلت. وفي الفصل 40 من الصحيفة قال إدريس عليه السلام
حول ما رآه حول عرش الرحمن (وبعد ذلك رأيت ألف مضروبا بألف وعشرة آلاف مضروبة بعشرة
آلاف بأعداد ضخمة لا حصر لها الذين يقفون أمام عرش رب الأرواح ونظرت إلى الجهات
الأربع لرب الأرواح ورأيت أربع وجوه مختلفة عن الواقفين وعلمت أسمائهم من الملاك
الذي جاء معي وأراني كل الأسرار وسمعت
أصوات الوجوه الأربعة وهم يسبحون رب الأرواح فالصوت الأول يسبح رب الأرواح إلى
الأبد وسمعت الصوت الثاني يمجد المصطفى والمختارين الذين استشهدوا في سبيل رب
الأرواح وسمعت الصوت الثالث يسأل ويدعو لساكني الأرض ويتوسل باسم رب الأرواح وسمعت
الصوت الرابع ينهر الشياطين ويمنعهم من الاقتراب من رب الأرواح ليتهم ساكني الأرض). وهذا يصدقه قوله تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)) غافر وقوله تعالى (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ
فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)) الشورى.
وعلى الرغم من الاختلاف
بين الفرق الاسلامية حول مسألة الإستواء على العرش إلا أن معظمهم متفقون على الصفات
الرئيسية لله عز وجل. فمعرفة المسلم بصفات
الله عز وجل شرط أساسي من شروط الإيمان فلا يعقل أن يعبد الإنسان إلها لا يعرف
صفاته وإلا أصبح إيمانه إيمان تقليد وإتباع ينطبق عليه قول الله عز وجل (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)) الزخرف. إن أهم الصفات التي
يجب على المسلم أن يعرفها عن الله عز وجل هي صفة الوجود فالله سبحانه موجود وجودا
حقيقيا لم يسبقه عدم ولن يلحقه فناء أي أنه موجود منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد فهو
الأول وهو الآخر لقوله تعالى (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)) الحديد . أما
الصفة الثانية فهي صفة الوحدانية وهي أن الله عز وجل لا إله غيره في هذا الوجود وأنه
واحد لا شريك له ولا مثيل له في ذاته وصفاته وأفعاله وهو واحد في ربوبيته فلا مالك
ولا خالق ولا رازق غيره وهو واحد في ألوهيته فلا معبود يستحق العبادة غيره وذلك مصداقا
لقوله تعالى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ
الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
(4)) الإخلاص. أما الصفة الثالثة فهي صفة الحياة فالله سبحانه حي لا يموت
وحياته ممتدة منذ الأزل وإلى الأبد وأنه لم يلد ولم يولد وأنه لا تأخذه سنة ولا
نوم مصداقا لقوله تعالى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) البقرة. أما
الصفة الرابعة فهي صفة القدرة فالله عز وجل على كل شيء قدير ولا حد لقدرته أي أن
قدرته لا نهاية لها وأنه لا يعجزه أو يستحيل عليه خلق أي شيء من العدم بمجرد قوله للشيء
كن فيكون مصداقا لقوله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ
عَلِيمًا قَدِيرًا (44)) فاطر وقوله تعالى (إِنَّمَا
قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40))
النحل. أما الصفة الخامسة فهي صفة العلم فالله عز وجل يعلم ما كان وما سيكون وهو بكل
شيء عليم وأن سعة علمه لا نهاية لها مصداقا لقوله تعالى (يَعْلَمُ
مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) الحديد وقوله تعالى (وَلَوْ
أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ
بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (27)) لقمان. وأما الصفة السادسة فهي صفة الإرادة والمشيئة فالله
عز وجل له مطلق الحرية في إختيار أفعاله وأنه يفعل ما يشاء وما يريد ولا يسأل عما
يفعل مصداقا لقوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (68)) القصص وقوله تعالى (لَا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)) الأنبياء. وأما الصفة
السابعة فهي صفة السمع فالله عز وجل يسمع الأصوات التي تصدر عن جميع مخلوقاته في نفس
الوقت ومهما بلغت درجة خفوتها لقوله تعالى (يَا بُنَيَّ
إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ
فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ (16)) لقمان. وأما الصفة الثامنة فهي صفة البصر فالله عز وجل يبصر جميع
مخلوقاته في نفس الوقت ولا يخفى عليه شيئ منها مهما صغرت مصداقا لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا
فِي السَّمَاءِ (5)) آل عمران. وإلى جانب هذه الصفات الذاتية لله عز وجل هناك
عشرات الصفات الفعلية كصفات الملك والعدل والرحمة والحكمة والخبرة والمغفرة والعفو
واللطف والقوة والعزة والكرم والحلم والصبر.
وسنورد في الشرح التالي
أقوال الفريقين حول مسألة الإستواء على العرش فالقائلون بنفي الإستواء الحقيقي
المكاني لله عز وجل على عرشه وكذلك نفي الجهة والعلو المكاني وفسروا معنى الإستواء
بالإستيلاء والقهر والملك والتدبير هم الجهمية والمعتزلة والأشاعرة المتأخرين من
السنة والإمامية والزيدية من الشيعة والأباضية من الخوارج. فالجهمية وهي فرقة كلامية منقرضة من أهل السنة وتنسب
إلى جهم بن صفوان المتوفى سنة 128 هجري قالوا بأن الله موجود في كل مكان وليس بينه
وبين مخلوقاته حجاب وأنكروا وجود العرش المادي وبالتالي إنكروا الإستواء. ولقد بالغت
الجهمية كثيرا في تنزيه الله عز وجل إلى حد أنهم أنكروا وعطلوا معظم صفاته فاصبح تعالى
الله عما يقولون أقرب إلى العدم ولذلك أطلق عليهم اسم المعطلة أي أنهم عطلوا أو
جردوا الله عز وجل من صفاته. وقد لخص بن
أبي شيبة في كتابه العرش عقيدتهم في مسألة الإستواء فقال ( ذكروا أن الجهمية يقولون أن ليس بين الله عز وجل وبين خلقه
حجاب وأنكروا العرش وأن يكون هو فوقه وفوق السماوات وقالوا إن الله في كل مكان
وأنه لا يتخلص من خلقه ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم فلا يبقى من خلقه شئ وهو
مع الآخر فالآخر من خلقه ممتزج به فإذا أفنى خلقه تخلص منهم وتخلصوا منه تبارك
الله وتعالى عما يقولون علوا كبيرا).
أما المعتزلة والتي
أسسها واصل بن عطاء المتوفى عام 131 هجري فقد
نفوا إستواء الله عز وجل على عرشه ولم يثبتوا العلو له وفسروا معنى الإستواء
بالإستيلاء والسيطرة والتدبير. ولكن المعتزلة يختلفون عن الجهمية بأنهم لم يصرحوا
بالقول بأن الله عز وجل موجود في كل مكان بل استخدموا عبارات موهمة كقولهم أنه موجود
بلا مكان وهو مع كل شيء بلا مكان وكذلك لا يخلو مكان من الله وأن الله ليس داخل
العالم ولا خارجه. قال القاضي عبد الجبار المتوفى عام 415 هجري عن الاستواء في
كتابه شرح الأصول الخمسة (إن الله تعالى لا يجوز أن
يكون مستويا على العرش على معنى الاستقرار والجلوس لأن ذلك من صفات الأجسام والله
تعالى ليس بجسم) وقال في كتابه المغني ( الاستواء
لا يجوز حمله على ظاهره لان في ذلك اثبات الجهة والمكان وذلك محال على الله تعالى
فوجب حمله على المجاز).
أما متأخري الأشاعرة كالفخر
الرازي وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني وكذلك الماتريدية كأبو منصور الماتريدي
والطحاوي والنسفي فقد أثبتوا الاستواء لفظا ولكنهم لم يصرحوا بأنه سبحانه فوق عرشه
بل نفوا العلو المكاني والجهة عن الله عز وجل ويؤولون الاستواء على أنه الإستيلاء
والتدبير والملك كما هو رأي المعتزلة والشيعة. فقد قال الفخر الرازي المتوفى عام
606 هجري في تفسيره مفاتح الغيب عن الإستواء ( أكثر المتكلمين
على أن الإستواء ههنا ليس بمعنى الجلوس والاستقرار لأن ذلك يوجب كونه جسما بل
المراد به الإستيلاء والملك) وقال في كتابه أساس التقديس (القول بالجهة يوجب كونه متحيزا وكل متحيز محدث فثبت أن
القول بالجهة محال). وقال الجويني المتوفى عام 478 هجري في كتابه الإرشاد (فأما
قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فلا يجوز حمله على الاستقرار
والتمكن، لأن ذلك من صفات الأجسام، والرب تعالى يتقدس عن ذلك). وقال
النسفي المتوفي عام 537 هجري عن الإستواء (الاستواء
صفة فعل، لا يُراد به المكان، بل معنى يليق بجلال الله).
وأما الشيعة الإثني
عشرية أو الإمامية فقد كان رأيهم في الاستواء على العرش كرأي المعتزلة فنفوا الإستواء
الحقيقي لله عز وجل على عرشه ولم يثبتوا العلو والفوقية له وفسروا معنى الإستواء
بالإستيلاء والسيطرة والتدبير. فقد قال الشيخ الصدوق المتوفى عام 381 هجري في كتاب
التوحيد (من زعم أن الله في شيء أو على شيء فقد أشرك
لأنه لو كان في شيء لكان محصورا ولو كان على شيء لكان محمولا) وقال أيضا (معنى (الرحمن على العرش استوى) أي استولى على العرش لا على
معنى القعود والتمكن). وقال الشيخ الطوسي المتوفى عام 460 هجري عند تفسير
آية الاستواء (الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء
والاقتدار لأن الاستقرار والجلوس من صفات الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك).
وقال الشيخ المفيد المتوفى عام 413 هجري في أوائل المقالات (اتفقت الإمامية على أن الله ليس في مكان ولا يجوز عليه
الحلول في الأمكنة ولا يوصف بالإستواء على العرش على معنى الجلوس).
وأما الشيعة الزيدية
فقالوا في الإستواء على العرش قول المعتزلة والشيعة الإمامية فقد قال الإمام
القاسم بن إبراهيم الرسي المتوفى عام 246 هجري في كتابه أصول العدل والتوحيد (لا يجوز أن يوصف الله بالاستقرار على مكان لان المكان مخلوق
والله تعالى كان ولا مكان) وقال أيضا (ومعنى
الاستواء في كتاب الله هو الاستيلاء والقهر لا الجلوس ولا المماسة). وقال
الامام الهادي الى الحق يحيى بن الحسين إمام الزيدية في اليمن المتوفى عام 298 هجري في كتابه الأحكام (من زعم أن الله على العرش على معنى المكان فقد جعله محدودا
والله تعالى لا حد له) وقال أيضا ( الاستواء
المذكور في القران هو استيلاء ملك وقدرة لا استقرار أجسام). وقال الامام
المؤيد بالله أحمد بن الحسين المتوفى عام 411 هجري في كتابه شرح الاصول ( القول بأن الله مستو على العرش على جهة العلو قول باطل لان
فيه تشبيها بالخلق وإنما الاستواء استيلاء وقهر). وقال الإمام المنصور
عبدالله بن حمزة المتوفى عام 614 هجري في كتابه (اتفقت
ائمة العترة على أن الله لا تحويه الأمكنة ولا يوصف بالعلو المكاني وأن الاستواء
مؤول بالملك والاقتدار).
وأما الإباضية فقالوا في الإستواء على العرش والعلو المكاني قول
بقية الفرق التي نفت الاستواء فقد ورد في كتب العقيدة عندهم ما نصه (إن الله سبحانه لا يحل في مكان ولا يحده زمان والاستواء المذكور
في القرآن إنما هو استواء أمره وسلطانه وقدرته لا استواء إنتقال أو استقرار).
وقال ابو يعقوب يوسف بن ابراهيم
الوارجلاني المتوفى عام 570 هجري في كتابه الدليل والبرهان (وأما قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) فليس معناه
استواء جسم على جسم ولكن معناه استواء القهر والملك والتقدير).
وأما الشيعة الإسماعيلية
فقد غالوا في معتقداتهم في صفات الله عز وجل وفي صفة العرش والإستواء عليه فهم يختلفون
جذريا عن بقية الفرق السنية كالسلفية والأشاعرة والماتريدية بل وعن الفرق الشيعية
كالاثني عشرية والزيدية. فمعتقدهم مبني على منهج باطني فلسفي يقوم على التنزيه
العقلي الشديد لله عز وجل وعلى التأويل الرمزي لصفاته. فالله عندهم منزّه عن
المكان والزمان والجهة والحد تنزيهًا يتجاوز التعبير اللغوي ولا يثبتون الصفات
الواردة في النصوص على معناها اللغوي بل يرون أن حملها على ظاهرها تشبيه وتجسيم.
والعرش عند الاسماعيلية ليس مخلوقا ماديا بل هو العقل الأول وأعلى مراتب
الوجود حسب زعمهم. واما معتقدات الشيعة
العلوية (النصيرية) فيختلف اختلافًا تاما عن معتقدات جميع المذاهب الإسلامية
المعروفة السنية والشيعية لأن عقيدتهم تقوم على تصورات باطنية غالية وفيها حلول
وتجسيد وتأليه لله عز وجل. فهم لا ينزهون الله عز وجل
عن الحلول والتجسد فحسب زعمهم فإن الله عز وجل قد حل أو تجلى في علي بن أبي طالب
وأن النبي محمد هو اسم الله وسلمان الفارسي هو بابه. وأما الشيعة الدرزية فهم
كالنصيرية في معتقداتهم الباطنية إلا أنهم يزعمون أن الله عز وجل قد حل في الحاكم
بأمر الله الفاطمي ويقولون بتاسخ الأرواح.
وقد رد أبو الحسن
الأشعري المتوفى في عام 328 هجري في كتابه الإبانة عن أصول الديانة على هذه الفرق
التي أنكرت استواء الله عز وجل على عرشه أو قالت أنه موجود في كل مكان فقال ( وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى
قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) أنه استولى وملك وقهر، وأن الله تعالى
في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل مستو على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا
في الاستواء إلى القدرة . ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض
السابعة؛ لأن الله تعالى قادر على كل شيء والأرض لله سبحانه قادر عليها، وعلى
الحشوش، وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء،
وهو تعالى مستو على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء،
وعلى الحشوش، والأقدار؛ لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرا على
الأشياء كلها لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله تعالى مستو على الحشوش
والأخلية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش
الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش
دون الأشياء كلها).
وأما القائلون بأن الله
عز وجل مستو بذاته على عرشه استواء حقيقيا وأنه بائن غير مختلط بمخلوقاته فهم قدماء
الأشاعرة والسلفية. فمؤسس فرقة الأشاعرة وهو أبو الحسن الأشعري المتوفى في عام 328
هجري لخص عقيدته في الإستواء في كتابه الإبانة عن أصول الديانة فقال ( وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله،
وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن الممارسة والاستقرار والتمكن والحلول
والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في
قبضته، وهو فوق العرش، وفوق كل شيء، إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى
العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو
مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد).
وقال القاضي ابو بكر الباقلاني المتوفى عام 403 هجري في كتابه التمهيد عن مسألة
الاستواء (فإن قال قائل أتقولون: إن الله سبحانه على
العرش؟ قيل له: نقول ذلك لأن الله تعالى أخبر به فقال (الرحمن على العرش استوى)
ولا نقول إن استوائه استقرار أو مماسة أو ما يشبه استواء المخلوقين بل نقول استواء
يليق به لا على معنى الحد والجهة). أما الإمام أبي حامد الغزالي المتوفى
عام 505 هجري فقال في كتابه إلجام العوام عن علم الكلام عن الإستواء (والصواب عندنا الإيمان بالإستواء وتحريم الخوض في تفسيرة
والاعتقاد الجازم بأن الله تعالى ليس بجسم ولا تحله الحوادث ولا يشبه استوائه
استواء الأجسام) وقال أيضا في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد (الاستواء معلوم بالشرع والكيف غير معقول والإيمان به واجب
والسؤال عنه بدعه).
أما السلفية من السنة
فعقيدتهم في إستواء الله عز وجل على العرش فهو إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه من
الإستواء بلا تمثيل ولا تكييف ولا تحريف ولا تعطيل والإيمان به واجب. فقد قال
الإمام مالك بن أنس المتوفى عام 179 هجري لما سُئل عن قوله تعالى
(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فقال
(الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب،
والسؤال عنه بدعة). وقال الإمام أبو حنيفة المتوفى عام 150 هجري في كتابه الفقه
الأكبر (من قال لا أعرف ربي في السماء أم في
الأرض فقد كفر؛ لأن الله تعالى يقول: الرحمن على العرش استوى) وقال أيضا (والعرش والكرسي حق، وهو مستغنٍ عن العرش وما دونه). وقال
الإمام عبد الله بن المبارك المتوفى عام 181 هجري (نحن
نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماوات على عرشه، بائن من خلقه). وقال الإمام
الشافعي المتوفى عام 204 هجري عن الإستواء على العرش (آمنت
بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله
على مراد رسول الله). وقال الإمام أحمد بن حنبل المتوفى عام 241 هجري (نؤمن بها ونصدق
بها، لا كيف ولا معنى، ولا نرد منها شيئًا) وقال أيضا (الله تعالى على عرشه، وعلمه في كل مكان).
وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية المتوفى عام 728 هجري في مجموع الفتاوي (لفظ
الاستواء معلوم في لغة العرب، وهو العلو والارتفاع والاستقرار، لكن استواء الخالق
لا يماثل استواء المخلوق) وقال أيضا (السلف
متفقون على أن الله فوق عرشه حقيقة، لا مجازًا، مع نفي التكييف والتمثيل). وقد
رد ابن تيمية على القائلين بأن الأستواء على العرش هو الإستيلاء عليه فقال (لو كان معنى الاستواء الاستيلاء، لكان العرش وغيره سواء، إذ
الله مستولٍ على كل شيء) وقال أيضا (إثبات
الاستواء لا يستلزم التشبيه، كما أن إثبات العلم والقدرة لا يستلزم التشبيه).
وقال الإمام ابن القيم الجوزية المتوفى عام 751 هجري في كتابه الصواعق المرسلة (ولهم – أي السلف –
في الاستواء قول واحد لا قولان: أنه استواء حقيقي يليق بجلال الله) وقال
أيضا (لو كان معنى استوى: استولى، لم يكن للعرش مزية).
ولقد قام شيخ الاسلام
ابن تيمية بعبقريته الفذه بانتهاج منهجا جديدا لم يسبقه أحد من قبله أثبت فيه أن إستواء
الله عز وجل على عرشه ليس بقصد الجلوس أو الاستقرار عليه كما تخيل بعض علماء العقيدة
الاسلامية فقاموا بناءا على ذلك بنفي الأستواء وأولوه بالاستيلاء والملك والقهر.
ففي هذا المنهج قام ابن تيمية أولا بتحديد شكل العرش وما تحته من كرسي وسموات
وآراضين فقال أن الأرض كروية الشكل تحيط بها السماء الأولى أو الدنيا وهي كروية
الشكل ثم السماء الثانية كروية الشكل تحيط بالأولى وهكذا الحال مع بقية السموات
السبع حيث تطبق كل واحدة منها على التي تحتها مصداقا لقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)" الملك) وقوله
تعالى "أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15)" نوح. أما كرسي الرحمن فهو كروي الشكل ويحيط بالسموات
السبع وما فيهن من آراضين مصداقا لقوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ (255)" البقرة.
قال ابن تيمية
في مجموع
الفتاوي- المجلد الخامس – الجزء الخامس - الأسماء والصفات- صفحة 150-151 ما نصه حول
بنية هذا الكون (اعْلَمْ أَنَّ "الْأَرْضَ" قَدْ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَهِيَ فِي الْمَاءِ الْمُحِيطِ
بِأَكْثَرِهَا؛ إذْ الْيَابِسُ السُّدُسُ وَزِيَادَةٌ بِقَلِيلِ وَالْمَاءُ
أَيْضًا مُقَبَّبٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلْأَرْضِ وَالْمَاءُ الَّذِي فَوْقَهَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِمَّا يَلِي
رُءُوسَنَا وَلَيْسَ تَحْتَ وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا وَسَطُهَا وَنِهَايَةُ
التَّحْتِ الْمَرْكَزُ؛ فَلَا يَكُونُ لَنَا جِهَةٌ بَيِّنَةٌ إلَّا جِهَتَانِ:
الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْجِهَاتُ بِاخْتِلَافِ
الْإِنْسَانِ. فَعُلُوُّ الْأَرْضِ وَجْهُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَأَسْفَلُهَا
مَا تَحْتَ وَجْهِهَا - وَنِهَايَةُ الْمَرْكَزِ - هُوَ الَّذِي يُسَمَّى مَحَطَّ
الْأَثْقَالِ فَمِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَالْمَاءُ مِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ إلَى
الْمَرْكَزِ يَكُونُ هُبُوطًا وَمِنْهُ إلَى وَجْهِهَا صُعُودًا وَإِذَا كَانَتْ
سَمَاءُ الدُّنْيَا فَوْقَ الْأَرْضِ مُحِيطَةٌ بِهَا فَالثَّانِيَةُ كُرَوِيَّةٌ
وَكَذَا الْبَاقِي. وَالْكُرْسِيُّ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ كُلِّهَا وَالْعَرْشُ
فَوْقَ الْكُرْسِيِّ وَنِسْبَةُ الْأَفْلَاكِ وَمَا فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى
الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ وَالْجُمْلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرْشِ
كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ. وَالْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ "الْفُلْكِ" يَدُلُّ عَلَى
الِاسْتِدَارَةِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فِي فَلْكَةٍ كَفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَفَلَّكَ
ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ. وَأَهْلُ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ
مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا "الْعَرْشُ" فَإِنَّهُ مُقَبَّبٌ).
ولقد افترض شيخ الإسلام ابن تيمية أن شكل العرش إما ان يكون كرويا أو غير كروي وكان ميالا إلى
كونه كروي الشكل مع تأكيده على أنه لا ينفي أن يكون شكله غير ذلك ولذلك لم يتطرق إلى الشكل غير الكروي للعرش إلا في
فقرة واحدة في نهاية الرسالة. فقد قال ابن
تيمية في المقام الثالث من الرسالة العرشية ما نصه عن شكل العرش ( وَاسْتِدَارَةُ الْأَفْلَاكِ كَمَا أَنَّهُ قَوْل أَهْلِ
الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ،
كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُنَادَى، وَأَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ،
وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: ٣٣] ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلْكَةٌ مِثْلُ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. الْفَلَكُ فِي
اللُّغَةِ: هُوَ الْمُسْتَدِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ
الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ، وَكُلُّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ
مُسْتَدِيرَةٌ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ الْعَالِي عَلَى الْمَرْكَزِ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ، وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْفَلَكِ مِنْ نَاحِيَةٍ
يَكُونُ تَحْتَهُ مَنْ فِي الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ، فَهُوَ مُتَوَهِّمٌ عِنْدَهُمْ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ
كَذَلِكَ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ مُسْتَدِيرٌ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ
كَانَ هُوَ أَعْلَاهَا، وَسَقْفَهَا وَهُوَ فَوْقَهَا مُطْلَقًا، فَلَا
يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ، وَإِلَى مَا فَوْقَهُ الْإِنْسَانُ إلَّا مِنْ الْعُلُوِّ،
لَا مِنْ جِهَاتِهِ الْبَاقِيَةِ أَصْلًا. وَمَنْ تَوَجَّهَ إلَى الْفَلَكِ
التَّاسِعِ أَوْ الثَّامِنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْلَاكِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ
الْعُلُوِّ، كَانَ جَاهِلًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، فَكَيْفَ بِالتَّوَجُّهِ
إلَى الْعَرْشِ أَوْ إلَى مَا فَوْقَهُ وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أن يكون كرى
الشَّكْلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إحَاطَةً
تَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ
أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا.).
أما الحقيقة الكبرى التي توصل إليها ابن تيمية بعد شرح طويل لشكل العرش الكروي وتوضيح مفهوم الفوق والتحت أو العلو والسفل في الأجرام الكروية هي أن الله عز وجل محيط
بجميع مخلوقاتة التي حواها عرشه سبحانه وتعالى إحاطة تليق بجلاله فقال (وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أن يكون كرى الشَّكْلِ، وَاَللَّهُ
تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إحَاطَةً تَلِيقُ بِجَلَالِهِ،
فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ أَصْغَرُ مِنْ
الْحِمَّصَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا). أما الحقيقة الأخرى التي أكدها ابن تيمية بعبقريته الفذة فهي أن العرش
على عظمته وما حوى من كرسي وسموات
وآراضين بالنسبة لعظمة الله عز وجل أصغر من نسبة حجم الحمصة إلى حجم الإنسان بل هي في الحقيقة لا شيء فالكون المحدود مهما
بلغ حجمه نسبته إلى الخالق اللامحدود واللانهائي تساوي
صفر كما قال الشيخ في نص آخر (وَإِنَّهَا
عِنْدَهُ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ وَالْفَلْفَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي يَدِ
أَحَدِنَا، فَإِذَا كَانَتْ الْحِمَّصَةُ أَوْ الْفَلْفَلَةُ. بَلْ الدِّرْهَمُ
وَالدِّينَارُ، أَوْ الْكُرَةُ الَّتِي يَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَنَحْوُ
ذَلِكَ، فِي يَدِ الْإِنْسَانِ أَوْ تَحْتَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، هَلْ
يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ إذَا اسْتَشْعَرَ عُلُوَّ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ
وَإِحَاطَتَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالْفَلَكِ؟).
وفي موضع آخر من الرسالة العرشية قام شيخ الإسلام ابن تيمية بالرد على بعض الشبهات
والتصورات الخاطئة عن استواء الله عز وجل على عرشه وإحاطته بمخلوقاته. فقد يظن
البعض أن العرش إذا كان كروي الشكل والله عز وجل محيط به من كل الجوانب فيلزم أن
يكون الله عز وجل المنزه عن التشبيه كروي الشكل كقولهم (أَحَدُهُمَا: أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْعَرْشَ إذَا كَانَ كُرِّيًّا
وَاَللَّهُ فَوْقَهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كُرِّيًّا).
وكان رد الشيخ على هذا التصور الخاطيء هو أن جميع مخلوقات هذا الكون على ضخامتها بالنسبة للبشر
هي بالنسبة للرحمن جل جلاله أصغر من الحمصة أو الدرهم بالنسبة ليد الإنسان بل هي
في الحقيقة لا شيء بالنسبة لله عز وجل
القائل (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)) الزمر. وعلى
هذا فمن غير المقبول عقلا أن نتخيل الله
عز وجل اللامحدود واللانهائي مع الكون المحدود مهما بلغ حجمه بالنسبة للإنسان أو أن
نتخيل أن الله عز وجل جالس على هذه العرش فقال الشيخ (فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي
الْخَالِقِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي الْعَرْشِ، لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ
الْمَحْذُورِ وَالتَّنَاقُضِ، وَهَذَا يُزِيلُ كُلَّ شُبْهَةٍ، وَإِنَّمَا
تَنْشَأُ الشُّبْهَةُ فِي اعْتِقَادَيْنِ فَاسِدَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ
يُظَنَّ أَنَّ الْعَرْشَ إذَا كَانَ كُرِّيًّا وَاَللَّهُ فَوْقَهُ، وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ اللَّهُ كُرِّيًّا، ثُمَّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ كُرِّيًّا
فَيَصِحُّ التَّوَجُّهُ إلَى مَا هُوَ كُرِّيٌّ كَالْفَلَكِ التَّاسِعِ مِنْ
جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ،
فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ
الْعَرْشَ كُرِّيٌّ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
يُظَنَّ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلْأَفْلَاكِ فِي أَشْكَالِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ
أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهَا فِي أَقْدَارِهَا، وَلَا فِي صِفَاتِهَا
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا بَلْ قَدْ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ
عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ دَاخِلِ الْفَلَكِ فِي الْفَلَكِ، وَإِنَّهَا
عِنْدَهُ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ وَالْفَلْفَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي يَدِ
أَحَدِنَا، فَإِذَا كَانَتْ الْحِمَّصَةُ أَوْ الْفَلْفَلَةُ. بَلْ الدِّرْهَمُ
وَالدِّينَارُ، أَوْ الْكُرَةُ الَّتِي يَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَنَحْوُ
ذَلِكَ، فِي يَدِ الْإِنْسَانِ أَوْ تَحْتَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، هَلْ
يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ إذَا اسْتَشْعَرَ عُلُوَّ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ
وَإِحَاطَتَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالْفَلَكِ؟ وَاَللَّهُ وَلِلَّهِ
الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ بِهِ، وَإِنَّمَا
يَظُنُّهُ الَّذِينَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: ٦٧].).
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق