2024-05-09

ابن القيم الجوزية وشرحه الدقيق لظاهرتي الكسوف والخسوف

 



ابن القيم الجوزية وشرحه الدقيق لظاهرتي الكسوف والخسوف

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

لقد تميز علماء الشريعة المسلمين  في العصور الذهبية للاسلام بسعة اطلاعهم على علوم عصرهم وما سبقهم من عصور وخاصة علوم الرياضيات والطبيعيات والمنطق .  ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه النجيب ابن القيم الجوزية والذان عاشا في نهاية القرن السابع الهجري وبداية القرن الثامن الهجري. وقد قام ابن القيم الجوزية بشرح  ظاهرتي الكسوف والخسوف بشكل دقيق في كتابه مفتاح دار السعادة وكأنه عالم مختص في علم الفلك. وقد وضح ابن القيم  السبب الذي دعاه لشرح ظاهرتي الكسوف والخسوف رغم أن هذا العلم  ليس من اختصاصه  بقوله أن بعض الجهال والرعاع قد يصدقون المشتغلين بالتنجيم في إدعائهم أن هذه الظواهر لها تأثير على أحوال البشر وهي في الحقيقة ظواهر طبيعية تحكمها القوانين التي أودعها الله عز وجل هذا الكون فقال (وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا الْفَصْل وَلم يكن من غرضنا لِأَن كثيرا من هَؤُلَاءِ الأحكاميين يموهون على الْجُهَّال بِأَمْر الْكُسُوف ويؤهمونهم إِن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السعد والنحس وَالظفر وَالْغَلَبَة وَغَيرهَا هِيَ من جنس الحكم بالكسوف فَيصدق بذلك الأغمار والرعاع وَلَا يعلمُونَ أَن الْكُسُوف يعلم بِحِسَاب سير النيرين فِي منازلهما وَذَلِكَ أَمر قد أجْرى الله تَعَالَى الْعَادة المطردة بِهِ كَمَا أجراها فِي الأبدار والسرار والهلال فَمن علم مَا ذَكرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْل علم وَقت الْكُسُوف ودوامه ومقداره وَسَببه)

 وبعد أن شرح ابن القيم ظاهرتي الكسوف والخسوف وأكد على أنها ظواهر طبيعية تحكمها قوى وقوانين الطبيعة  التي أودعها الله عز وجل فيها أشار إلى ضلال طائفتين من المسلمين في نظرتهم  إلى العلوم المتعلقة بالظواهر الطبيعية في جميع المخلوقات .  فالطائفة الأولى  ضلت فاعتقدت أنه طالما يوجد أسباب لحدوث هذه الظواهر وتحكمها  قوى وقوانين الطبيعة فلا يلزم وجود إله يدير شؤونها وأحالوا أمر تصريف أمور هذه المخلوقات لنفسها. وعن  الطائفة الأولى قال ابن القيم (وَلَقَد خفى مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل على طائفتين هلك بسببهما من شَاءَ الله وَنَجَا من شركهما من سبقت لَهُ الْعِنَايَة من الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وقفت مَعَ مَا شاهدته وعلمته من أُمُور هَذِه الْأَسْبَاب والمسببات وإحالة الْأَمر عَلَيْهَا وظنت أَنه لَيْسَ لَهَا شىء فكفرت بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وجحدت المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوات وَغَيرهَا). أما الطائفة الثانية التي ضلت من المسلمين فهم على عكس الطائفة الأولى فقد اعتقدت أنه يلزم للإيمان بالله عز وجل نفي وجود الأسباب والمسببات وكذبت بوجود قوى وقوانين تقف وراء  حدوث الظواهر الطبيعية في مخلوقات هذا الكون. وعن الطائفة الثانية قال ابن القيم (والطائفة الثَّانِيَة رَأَتْ مُقَابلَة هَؤُلَاءِ برد كل مَا قَالُوهُ من حق وباطل وظنوا ان من ضَرُورَة تَصْدِيق الرُّسُل رد مَا علمه هَؤُلَاءِ بِالْعقلِ الضرورى وَعَلمُوا مقدماته بالحس فنازعوهم فِيهِ وتعرضوا لإبطاله بمقدمات جدلية لَا تغنى من الْحق شَيْئا وليتهم مَعَ هَذِه الْجِنَايَة الْعَظِيمَة لم يضيفوا ذَلِك إِلَى الرُّسُل بل زَعَمُوا إِن الرُّسُل جاؤا وَبِمَا يَقُولُونَهُ فسَاء ظن أُولَئِكَ الْمَلَاحِدَة بالرسل وظنوا أَنهم هم أعلم وَأعرف مِنْهُم). وقد أكد ابن القيم على أن ضرر الطائفة الثانية على الدين أشد من ضرر الطائفة الأولى عليه وهو كما قيل أن العدو العاقل أقل ضررا من الصديق الجاهل فقال ( فَإِذا قَالَ لَهُم هَؤُلَاءِ هَذَا الذى تذكرونه على خلاف الشَّرْع والمصير إِلَيْهِ كفر وَتَكْذيب الرُّسُل لم يستريبوا فِي ذَلِك وَلم يلحقهم فِيهِ شكّ وَلَكنهُمْ يستريبون بِالشَّرْعِ وتنقص مرتبَة الرُّسُل من قُلُوبهم وضرر الدّين وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل بهؤلاء من أعظم الضَّرَر وَهُوَ كضرره بأولئك الْمَلَاحِدَة فهما ضرران على الدّين ضَرَر من يطعن فِيهِ وضرر من بنضره بِغَيْر طَريقَة وَقد قيل إِن الْعَدو الْعَاقِل أقل ضَرَرا من الصّديق الْجَاهِل فَإِن الصّديق الْجَاهِل يَضرك من حَيْثُ يقدر أَنه بنقعك والشأن كل الشَّأْن أَن تجْعَل الْعَاقِل صديقك وَلَا تَجْعَلهُ عَدوك وتغريه بمحاربة الدّين وَأَهله).  

شرح ابن القيم الجوزية بإسهاب ظاهرتي كسوف الشمس وخسوف القمر في كتابه مفتاح دار السعادة الجزء الثاني في الصفحات  206 الى .209.  بدأ ابن القيم بشرح ظاهرة كسوف الشمس مبينا سبب وشروط وكيفية حدوثه ومقدار الكسوف واعتماده على مكان الراصد له فقال (فَأَما سَبَب كسوف الشَّمْس فَهُوَ توَسط الْقَمَر بَين جرم الشَّمْس وَبَين أبصارنا فان الْقَمَر عِنْدهم جسم كثيف مظلم وفلكه دون فلك الشَّمْس فاذا كَانَ على مسامته إِحْدَى نقطتي الرَّأْس أَو الذَّنب أَو قَرِيبا مِنْهُمَا حَالَة الإجتماع من تَحت الشَّمْس حَال بَيْننَا وَبَين نور الشَّمْس كسحابة تمر تحتهَا إِلَى أَن يتجاوزها من الْجَانِب الآخر فَإِن لم يكن للقمر عرض ستر عَنَّا نور كل الشَّمْس وَإِن كَانَ لَهُ عرض فبقدر مَا يُوجِبهُ عرضه وَذَلِكَ أَن الخطوط الشعاعية تخرج من بصر النَّاظر إِلَى المرئي على شكل مخروط راسه عِنْد نقطة الْبَصَر وقاعدته عِنْد جرم المرئي فَإِن وجهنا أبصارنا إِلَى جرم الشَّمْس حَالَة كسوفها فَإِنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى الْقَمَر أَولَا مخروط الشعاع فاذا توهمنا نُفُوذه مِنْهُ إِلَى الشَّمْس وَقع جرم الشَّمْس فِي وسط المخروط وَإِن لم يكن للقمر عرض انكسف كل الشَّمْس وَإِن كَانَ للقمر عرض فبقدر مَا يُوجِبهُ عرضه ينحرف جرم الشَّمْس عَن مخروط الشعاع وَلَا يَقع كُله فِيهِ فينكسف بعضه وَيبقى الْبَاقِي على ضيائه وَذَلِكَ إِذا كَانَ الْعرض المرئي اقل من نصف مَجْمُوع قطر الشَّمْس وَالْقَمَر حَتَّى إِذا سَاوَى الْعرض المرئي نصف مَجْمُوع القطرين كَانَ صفحة الْقَمَر تماس مخروط الشعاع فَلَا ينكسف وَلَا يكون لكسوف الشَّمْس لبث لِأَن قَاعِدَة المخروط الْمُتَّصِل بالشمس مسَاوٍ لقطريها فَكَمَا ابْتَدَأَ الْقَمَر بالحركة بعد تَمام الموازاة بَينه وَبَين الشَّمْس تحرّك المخروط وابتدأت الشَّمْس بالإسفار إِلَّا أَن كسوف الشَّمْس يخْتَلف باخْتلَاف أوضاع المساكن حَتَّى أَنه يرى فِي بَعْضهَا وَلَا يرى فِي بَعْضهَا وَيرى فِي بَعْضهَا أقل وَفِي بَعْضهَا أَكثر بِسَبَب اخْتِلَاف المنظر إِذْ الكاسف لَيْسَ عارضا فِي جرم الشَّمْس يستوى فِيهِ النظار من جَمِيع الْأَمَاكِن بل الكاسف شَيْء متوسط بَينهَا وَبَين الْأَبْصَار وَهُوَ قريب مِنْهَا والمحجوب عَنَّا بعيد فيختلف التَّوَسُّط باخْتلَاف مَوَاضِع الناظرين وَكَذَلِكَ يخْتَلف كسوف الشَّمْس فِي مباديها وَعند انجلائها فِي كمية مَا ينكسف مِنْهَا وَفِي زمَان كسوفها الَّذِي هُوَ من أول البدو إِلَى وسط الْكُسُوف وَمن وسط الْكُسُوف إِلَى آخر الانجلاء فَإِن قيل فجرم الْقَمَر أَصْغَر من جرم الشَّمْس بِكَثِير فَكيف يحجب عَنَّا كل الشَّمْس قيل إِنَّمَا يحجب عَنَّا جرم الشَّمْس لقُرْبه منا وَبعدهَا عَنَّا لِأَن الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِفين فِي الصغر وَالْكبر إِذا قرب الصَّغِير من الْكَبِير يرى من أَطْرَاف الْكَبِير أَكثر مَا يرى مِنْهَا مَعَ بعد الْأَصْغَر عَنهُ وَكلما بعد الْأَصْغَر عَنهُ وازداد قربه من النَّاظر تناقص مَا يرى من أَطْرَاف الْأَكْبَر إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى حد لَا يرى من الْأَكْبَر شَيْء والحس شَاهد بذلك.).

قال ابن القيم أن سبب كسوف الشمس هو وقوع  القمر بين الأرض وبين الشمس  وذلك لأن  مدار القمر أقرب للأرض من مدار الشمس الظاهري وكذلك لأنه جسم كثيف  أي أنه غير شفاف فيحجب ضوء الشمس من الوصول إلى منطقة محددة وهي مكان ظل القمر على سطح الأرض. وقال أن  الكسوف  لا يحدث إلا إذا وقع القمر  قريبا من  نقطتي  الرأس  أو الذنب  وهو ما يطلق عليه اليوم  بعقدة الصعود وعقدة النزول  وهي النقاط أو العقد التي يتقاطع فيها مدار القمر مع  سطح دوران الأرض حول الشمس أو ما يسمى بالسطح الكسوفي.  وقال ابن القيم عن مقدار كسوف الشمس أنه يتحدد من مقدار  قرص القمر  الذي يقع ضمن المخروط الذي يقع رأسه عند عين الراصد وقاعدته عند قرص الشمس.  فإذا وقع كامل قرص القمر ضمن هذا المخروط  انكسف كامل سطح الشمس وهو الكسوف الكلي وإذا وقع جزء  منه ضمن المخروط وجزء خارجه انكسف جزء من سطح الشمس وهو الكسوف الجزئي.  وأورد ابن القيم حقيقة مهمة وهي أن الكسوف لا يحدث أو ينتهي إذا كان مقدار انحراف مركز قرص القمر عن  مركز قرص الشمس مساويا لنصف مجموع القطر الظاهري لكل من الشمس والقمر.  أما  الحقيقة الأهم التي ذكرها ابن القيم فهي أن الكسوف لا يرى من جميع مناطق سطح الأرض المقابل للشمس بل يرى من مناطق محددة  يتفاوت مقدار ومدة  الكسوف فيها  ويعود السبب في ذلك إلى قرب الكاسف وهو القمر وبعد المكسوف وهي الشمس عن الأرض  أو بمعنى آخر أن ظل القمر لا يغطي إلا مساحة صغيرة  من سطح الأرض فلا يرى الكسوف إلا من قبل الراصدين داخل هذا الظل أو شبه الظل.  وأجاب ابن القيم عن سؤال قد يتبادر  لذهن بعض الناس وهو كيف يمكن للقمر الصغير الحجم أن يحجب  الشمس التي يفوق حجمها حجم القمر بكثير فقال أن  ذلك  يعود لقرب قرص القمر من  الراصد وبعد قرص الشمس عنه وبذلك يمكن للشيء الصغير أن يحجب الشيء الكبير كما هو معروف في حياة البشر اليومية. ومن الجدير بالذكر أن قرص القمر يغطي تماما كامل قرص الشمس في الكسوف الكلي  بسبب أن بعد الشمس عن الأرض يزيد بأربعمائة  مرة عن بعد القمر عنها وأن قطر الشمس يزيد بأربعمائة  مرة عن قطر القمر.

وفي النص التالي شرح ابن القيم ظاهرة خسوف القمر بإسهاب أكثر من شرحه لظاهرة كسوف الشمس  ولذلك سأقوم بالتعليق على الشرح  بعد كل فقرة من فقرات  هذا النص  للتسهيل على القاريء. قال ابن القيم عن سبب خسوف القمر (وَأما سَبَب خُسُوف الْقَمَر فَهُوَ توَسط الأَرْض بَينه وَبَين الشَّمْس حَتَّى يصير الْقَمَر مَمْنُوعًا من اكْتِسَاب النُّور من الشَّمْس وَيبقى ظلام ظلّ الأَرْض فِي مَمَره لِأَن الْقَمَر لَا ضوء لَهُ أبدا وَأَنه يكْتَسب الضَّوْء من الشَّمْس وَلما كَانَت الأَرْض جسما كثيفا فَإِذا أشرقت الشَّمْس على جَانب مِنْهَا فَإِنَّهُ يَقع لَهَا ظلّ فِي الْجِهَة الْأُخْرَى لِأَن كل ذِي ظلّ يَقع فِي الْجِهَة الْمُقَابلَة للجرم المضىء فَمَتَى أشرقت عَلَيْهَا من نَاحيَة الشرق وَقعت أظلالها فِي نَاحيَة الغرب وَإِذا وَقعت عَلَيْهَا من نَاحيَة الغرب مَالَتْ أظلالها إِلَى نَاحيَة الْمشرق وَالْأَرْض أَصْغَر من جرم الشَّمْس بِكَثِير فينبعث ظلها ويرتفع فِي الْهَوَاء على شكل مخروط قَاعِدَته قريبَة من تدوير الارض ثمَّ لَا يزَال ينخرط تدويره حَتَّى يدق ويتلاشى لِأَن قطر الشَّمْس لما كَانَ أعظم من قطر الأَرْض فالخطوط الشعاعية الْمَارَّة من جَوَانِب الشَّمْس إِلَى جَوَانِب الأَرْض تكون متلاقية لَا متوازية فَإِذا مرت على الاسْتقَامَة إِلَى الأَرْض انقذفت على جوانبها فتلتقي لَا محَالة إِلَى نقطة فينحصر ظلّ الأَرْض فِي سطح مخروط فَيكون مخروطا لَا محَالة قَاعِدَته حَيْثُ ينبعث من الأَرْض وَرَأسه عِنْد نقطة تلافي الخطوط وَلَو كَانَ قطر الأَرْض مُسَاوِيا لقطر الشَّمْس لكَانَتْ الخطوط الشعاعية تخرج إِلَيْهَا على التوازي فَيكون الظل متساوي الغلظ إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى مُحِيط الْعَالم وَلَو كَانَ قطر الشَّمْس أَصْغَر من قطر الأَرْض لكَانَتْ الخطوط تخرج على التلاقي فِي جِهَة الشَّمْس وأوسعها عِنْد قطر الأَرْض ولكان الظل يزْدَاد غلظا كلما بعد عَن الأَرْض إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى مُحِيط الْعَالم.  وَلما ثَبت أَن ظلّ الأَرْض مخروطي الشكل وَقد وَقع فِي الْجِهَة الْمُقَابلَة لجِهَة الشَّمْس فَيكون نقطة رَأسه فِي سطح فلك البروج لَا محَالة ويدور بدوران الشَّمْس مسامتا للنقطة الْمُقَابلَة لموْضِع الشَّمْس وَهَذَا الظل الَّذِي يكون فَوق الأَرْض هُوَ اللَّيْل فَإِن كَانَت الشَّمْس فَوق الأَرْض كَانَ الظل تَحت الأرض بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا وَنحن فِي ضِيَاء الشَّمْس وَذَلِكَ النَّهَار وَالزَّمَان الَّذِي يوازي دوَام الظل فَوق الأَرْض هُوَ زمَان اللَّيْل).  

قال ابن القيم أن سبب خسوف القمر هو وقوع الأرض بينه وبين الشمس  وإذا ما دخل القمر في ظل الأرض  والذي يكون في الجهة المقابلة للشمس  فسيمنع  وصول أشعة الشمس إلى سطح القمر فيختفي ضيائه المكتسب لأن  القمر  لا يشع الضياء من ذاته.  ويكمل ابن القيم ويشرح ظاهرة مهمة وهي أن ظل الأرض الناتج عن  الشمس له شكل مخروطي  تقع قاعدته على محيط الأرض ويقع ورأسه في الفضاء على بعد محدد من الأرض وفي الجهة المقابلة للشمس. ويرجع السبب في تكون هذا الظل المخروطي  للأرض هو أن حجم الشمس أكبر بكثير من حجم الأرض  وأن الأشعة الصادرة من حواف قرص الشمس ومرت على حواف الأرض الأصغر حجما لا بد وأن  تتلاقي في نقطة وهي رأس المخروط.  ويبين ابن القيم شكل ظل الأرض  فيما لو كان قطر الشمس مساويا لقطر الأرض  حيث سيكون  الظل أسطواني الشكل ويمتد إلى محيط العالم وأما إذا كان قطر الشمس أصغر من قطر الأرض  فسيزداد الظل اتساعا كلما ابتعد عن الأرض. ويؤكد ابن القيم أن الخسوف لا يحدث إلا في الليل وأن ظل الأرض يدور مع دوران الشمس الظاهري وفي الجهة المقابلة للشمس .

ويكمل ابن القيم شرحه لظاهرة الخسوف بتبيان شروط حدوثه ومقداره وأنواعه ومدة مكوثه فقال (فَإِذا اتّفق مُرُور الْقَمَر على محاذاة نقطتى الرَّأْس والذنب حَالَة الِاسْتِقْبَال يَقع فِي مخروط الظل لَا محَالة لِأَن الْخط الْخَارِج من مَرْكَز الْعَالم الْمَار بمركز الشَّمْس ثمَّ بمركز الْقَمَر من الْجَانِب الآخر ينطبق على سهم مخروط الظل فَيَقَع الْقَمَر فِي وسط المخروط فينخسف كُله ضَرُورَة لِأَن الأَرْض تَمنعهُ من قبُول ضِيَاء الشَّمْس فيبقي الْقَمَر على جَوْهَرَة الأصلى فَإِن كَانَ للقمر عرض ينحرف عَن سهم المخروط بَقِي الضَّوْء فِيهِ بِقَدرِهِ وطبعه وَقد يَقع كُله فِي المخروط وَلَكِن يمر فِي جَانب مِنْهُ وَقد يَقع بعضه فِي المخروط ويبقي بعضه خَارِجا وَرُبمَا يماس مخروط الظل وَلَا يَقع من جرمه شَيْء وَإِنَّمَا يخْتَلف هَذَا باخْتلَاف بعده من الْخط الْخَارِج من مَرْكَز الْعَالم الْمَار بمركز الشَّمْس المطابق لسهم المخروط حَتَّى إِذا عظم عرضه بِأَن لَا يبْقى بَينه وَبَين إِحْدَى نقطتي الرَّأْس والذنب أَكثر من ثَلَاثَة عشر دقيقة لَا يماس المخروط أصلا وَإِذا وَقع فِي جَانب مِنْهُ قل مكثه وَرُبمَا لم يكن لَهُ مكث أصلا وَإِنَّمَا يعرف ذَلِك بِتَقْدِيم معرفَة قطر الظل وقطر يخْتَلف باخْتلَاف أبعاده عَن الأَرْض وَكَذَلِكَ قطر الظل أَيْضا يخْتَلف باخْتلَاف أبعاد الشَّمْس عَن الأَرْض فَإِن الشَّمْس مَتى قربت من الأَرْض كَانَ ظلّ الأَرْض دَقِيقًا قَصِيرا وَإِذا بَعدت عَنْهَا كَانَ ظلّ الأَرْض طَويلا غليظا لِأَنَّهَا مَتى بَعدت عَن الأَرْض يرى قطرها أَصْغَر وَأقرب تلاقيا مِنْهَا وَكلما كَانَ أعظم مِقْدَارًا فِي رأى لْعين فالخطوط الشعاعية أقصر وَأقرب تلاقيا فَلذَلِك يخْتَلف قطع الْقَمَر غلظ الظل فِي أَوْقَات الكسوفات والموضع الَّذِي يقطعة الْقَمَر من الظل يسمونه فلك الجوزهر وَإِذا  عرف قطر الظل وَعرف مِقْدَار قطر نصف الْقَمَر وَجمع بَينهمَا وَنصف ذَلِك وَعرف عرض الْقَمَر إِن كَانَ لَهُ عرض فَإِن كَانَ الْعرض مُسَاوِيا لنصف مَجْمُوع القطرين فَإِن الْقَمَر يماس دَائِرَة الظل وَلَا ينكسف وَإِن كَانَ الْعرض أقل من نصف مجموعهما فَإِنَّهُ ينكسف فَينْظر إِن كَانَ مُسَاوِيا لنصف قطر الظل انكسف من الْقَمَر مثل نصف صفحته وَإِن كَانَ الْعرض أقل من نصف قطر الظل فينتقص الْعرض من نصف قطر الظل فَإِن كَانَ الْبَاقِي مثل قطر الْقَمَر انكسف كُله وَلَا يكون لَهُ مكث وَإِذا لم يكن لَهُ عرض انكسف كُله وَيمْكث زَمَانا أَكثر.  وأطول مَا يَمْتَد زمَان الْكُسُوف الْقمرِي أَربع سَاعَات وَأما زمَان الكسوف الشمسى فَلَا يزِيد على ساعتين وكسوف الْقَمَر يخْتَلف باخْتلَاف أوضاع المساكن إِذْ الْكُسُوف عَارض فِي جِهَة وَهُوَ عبوره فِي ظلام ظلّ الأَرْض بِخِلَاف كسوف الشَّمْس وَإِنَّمَا يخْتَلف الْوَقْت فَقَط بِأَن يكون فِي بعض المساكن على مضى سَاعَة من اللَّيْل وَفِي بَعْضهَا على مضى نصف سَاعَة وَقد يطلع منكسفا فِي بعض المساكن وينكسف بعد الطُّلُوع فِي بَعْضهَا وَقد لَا يرى منكسفا أصلا إِذا كَانَت الشَّمْس فَوق الأَرْض حَالَة الِاسْتِقْبَال وَيرى الخسوف فِي الْقَمَر أبدا يكون من طرفه الشَّرْقِي إِذْ هُوَ الذَّاهِب إِلَى الِاسْتِقْبَال نَحْو للشرق وَالدُّخُول فِي الظل بحركته ثمَّ ينحرف قَلِيلا قَلِيلا إِلَى الشمَال أَو الْجنُوب فِي بَدْء انجلائه أَيْضا من طرفه الشَّرْقِي وَأما فِي الشَّمْس فبدء الْكُسُوف من طرفها الغربي إِذْ الكاسف لَهَا يَأْتِي إِلَيْهَا من نَاحيَة الغرب وَكَذَلِكَ الانجلاء أَيْضا من الطّرف الغربي لَكِن بانحراف مِنْهُ إِلَى الشمَال والجنوب. ).

وفي هذا النص  ذكر ابن القيم أن الخسوف كما هو الحال مع الكسوف لا يحدث إلا إذا وقع القمر  قريبا من  نقطتي  الرأس  أو الذنب  وهو ما يطلق عليه  عقدتي الصعود  والنزول وهي النقاط أو العقد التي يتقاطع فيها مدار القمر مع  سطح دوران الأرض حول الشمس أو ما يسمى بالسطح الكسوفي.  وإذا ما كان القمر على بعد أقل من ثلاث عشرة درجة  من نقطتى الرأس أو الذنب فإنه سيمر لا محالة من  خلال ظل الأرض المخروطي الشكل وينخسف بمقدار  يعتمد  على مسار  القمر داخل هذا الظل. فإذا  مر القمر  في وسط المخروط   فسينخسف كليا وتطول مدة مكثه  وإذا ما ابتعد مسار  القمر عن وسط المخروط بقدر كاف سينخسف جزئيا وتقل مدة مكثه في حالة الخسوف.  وذكر  ابن القيم أن مقدار الخسوف ومدة مكثه يمكن حسابه من معرفة قطر القمر وكذلك قطر الظل  في المكان الذي يمر فيه القمر وهذا يعتمد على بعد مدار القمر عن الأرض وكذلك على بعد الشمس عن الأرض حيث يقل قطر ظل الأرض مع اقتراب الشمس ويزيد عند ابتعادها.  فإذا كان مقدار انحراف القمر عن محور المخروط أقل من نصف مجموع قطر القمر وقطر الظل عند مدار القمر يحصل الخسوف ويزداد مقداره مع اقترابه من المحور. وعلى عكس الكسوف الذي لا يرى إلا من  أماكن محددة  من الأرض ولمدة قصيرة فإن  الخسوف يرى من معظم سطح الأرض  وذلك في الليل ولكن مقداره  وبدايته ونهايته يعتمد على موقع الراصد على سطح الأرض ولا تتجاوز  مدة الخسوف أربع ساعات.  

قال ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة الجزء الثاني (ص 210 – 214) عن الطائفة الأولى  أنها ضلت فاعتقدت أنه طالما يوجد أسباب لحدوث هذه الظواهر وتحكمها  قوى وقوانين الطبيعة فلا يلزم وجود إله يدير شؤونها وأحالوا أمر تصريف أمور هذه المخلوقات لنفسها. وقد اغتر بعض جهلة المسلمين  بهؤلاء الفلاسفة والعلماء الملحدين من المسلمين وغير المسلمين  فصدقوهم في كل ما قالوه وذلك بعد  أن  رأوهم قد أصابوا في تفسير الظواهر الطبيعية باستخدام البراهين المنطقية والرياضية والهندسية.  لقد كان الخطأ الكبير الذي وقعت فيه هذه  الطائفة أنها ظنت عندما أصابت في كشف أسرار المخلوقات وطبائعها وأسبابها أن  بمقدورهم الحكم على ما جاءت به الرسل من الغيبيات وأن عقولهم أكبر من عقول الرسل وأتباعهم. قال ابن القيم في وصف الطائفة الأولى (وَلَقَد خفى مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل على طائفتين هلك بسببهما من شَاءَ الله وَنَجَا من شركهما من سبقت لَهُ الْعِنَايَة من الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وقفت مَعَ مَا شاهدته وعلمته من أُمُور هَذِه الْأَسْبَاب والمسببات وإحالة الْأَمر عَلَيْهَا وظنت أَنه لَيْسَ لَهَا شىء فكفرت بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وجحدت المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوات وَغَيرهَا مَا انْتهى إِلَيْهِ علومها ووقفت عِنْده أَقْدَامهَا من الْعلم بِظَاهِر من الْمَخْلُوقَات وَأَحْوَالهَا وَجَاء نَاس جهال رَأَوْهُمْ قد أَصَابُوا فِي بَعْضهَا أَو كثير مِنْهَا فَقَالُوا كل مَا قَالَه هَؤُلَاءِ فَهُوَ صَوَاب لما ظهر لنا من صوابهم وانضاف إِلَى ذَلِك أَن أُولَئِكَ لما وقفُوا على الصَّوَاب فِيمَا أدتهم إِلَيْهِ أفكارهم من الرياضيات وَبَعض الطبيعيات وثقوا بعقولهم وفرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وظنوا أَن سَائِر مَا خدمته أفكارهم من الْعلم بِاللَّه وشأنه وعظمته هُوَ كَمَا أوقعهم عَلَيْهِ فكرهم وَحكمه حكم مَا شهد بِهِ الْحس من الطبيعيات والرياضيات فتفاقم الشَّرّ وعظمت الْمُصِيبَة وَجحد الله وَصِفَاته وخلقه للْعَالم وإعادته لَهُ وَجحد كَلَامه وَرُسُله وَدينه وَرَأى كثير من هَؤُلَاءِ انهم هم خَواص النَّوْع الإنساني وَأهل الْأَلْبَاب وَأَن ماعداهم هم القشور وَأَن الرُّسُل إِنَّمَا قَامُوا بسياستهم لِئَلَّا يَكُونُوا كَالْبَهَائِمِ فهم بِمَنْزِلَة قُم المارستان وَأما أهل الْعُقُول والرياضيات والأفكار فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الرُّسُل بل هم يعلمُونَ الرُّسُل مَا يصنعونه للدعوة الإنسانية كَمَا تَجِد فِي كتبهمْ وينبغى للرسول أَن يفعل كَذَا كَذَا وَالْمَقْصُود أَن هَؤُلَاءِ لما أوقفتهم أفكارهم على الْعلم بِمَا خفى على كثير من اسرار الْمَخْلُوقَات وطبائعها وأسبابها ذَهَبُوا بأفكارهم وعقولهم وتجاوزوا مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وظنوا أَن إصابتهم فِي الْجَمِيع سَوَاء  وَصَارَ الْمُقَلّد لَهُم فِي كفرهم إِذا خطر لَهُ إِشْكَال على مَذْهَبهم أو دهمه مَا لَا حِيلَة لَهُ فِي دَفعه من تناقضهم وَفَسَاد أصولهم يحسن الظَّن بهم وَيَقُول لاشك أَن علومهم مُشْتَمِلَة على حِكْمَة وَالْجَوَاب عَنهُ إِنَّمَا يعسر على إِدْرَاكه لِأَن من لم يحصل الرياضيات وَلم يحكم المنطقيات وتمده عُلُوم قد صقلتها أذهان الْأَوَّلين وأحكمتها أفكار الْمُتَقَدِّمين فالفاضل كل الْفَاضِل من يفهم كَلَامهم وَأما الِاعْتِرَاض عَلَيْهِم وَإِبْطَال فَاسد أصولهم فعندهم من الْمحَال الَّذِي لَا يصدق بِهِ وَهَذَا من خداع الشَّيْطَان وتلبيسه بغروره لهَؤُلَاء الْجُهَّال مقلدى أهل الضلال كَمَا لَيْسَ على أئمتهم وسلفهم بِأَن أوهمهم ان كل مَا نالوه بأفكارهم فَهُوَ صَوَاب كَمَا ظَهرت إصابتهم فِي الرياضيات وَبَعض الطبيعيات فَركب من ضلال هَؤُلَاءِ وَجَهل أتباعهم مَا اشتدت بِهِ البلية وعظمت لأَجله الرزية وَضرب لآجله الْعَالم وَجحد مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَكفر بِاللَّه وَصِفَاته وأفعاله).  

                لقد كان رد ابن القيم على الطائفة الأولى هو أن  صدق أحكامهم في علوم الرياضيات والطبيعيات لا يعني صدقها في  العلوم التي جاءت بها الرسل. فقد يكون الشخص عالما في الحساب وجاهلا في الطب والمنطق والهيئة وعالما في الهندسة وجاهلا في غيرها رغم تقارب هذه العلوم في أساسياتها. وعلى هذا فإن  علماء الرياضيات والطبيعيات قد يكونون مهرة في علومهم ولكنهم قد يكونون جهلة في علوم الشريعة ومن الخطأ تعميم أحكامهم على علوم هي من غير اختصاصهم. قال ابن القيم (وَلم يعلم هَؤُلَاءِ أَن الرجل يكون أماما فِي الْحساب وَهُوَ أَجْهَل خلق الله بالطب والهيئة والمنطق وَيكون راسا فِي الطِّبّ وَيكون من اجهل الْخلق بِالْحِسَابِ والهيئة وَيكون مقدما فِي الهندسة وَلَيْسَ لَهُ علم بِشَيْء من قضايا الطِّبّ وَهَذِه عُلُوم مُتَقَارِبَة وَالْبعَد بَينهَا وَبَين عُلُوم الرُّسُل الَّتِى جَاءَت بهَا عَن الله أعظم من البعَد بَين بَعْضهَا وَبَعض فَإِذا كَانَ الرجل إِمَامًا فِي هَذِه الْعُلُوم وَلم يعلم بِأَيّ شَيْء جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَلَا تحلى بعلوم الْإِسْلَام فَهُوَ كالعامى بِالنِّسْبَةِ إِلَى علومهم بل أبعد مِنْهُ وَهل يلْزم من معرفَة الرجل هَيْئَة الأفلاك والطب والهندسة والحساب أَن يكون عَارِفًا بالآلهيات واحوال النُّفُوس البشرية وصفاتها ومعادها وسعادتها وشقاوتها وَهل هَذَا إِلَّا بِمَنْزِلَة من يظنّ أَن الرجل إِذا كَانَ عَالما بأحوال الْأَبْنِيَة وأوضاعها وَوزن الْأَنْهَار والقنى والقنطرة كَانَ عَالما بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وَمَا ينبغى لَهُ وَمَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ فعلوم هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَة هَذِه الْعُلُوم الَّتِى هِيَ نتائج الأفكار والتجارب فَمَا لَهَا ولعلوم الْأَنْبِيَاء الَّتِى يتلقونها عَن الله بوسائط الْمَلَائِكَة هَذَا وَإِن تعلق الرياضيات الَّتِى هِيَ نظر فِي نوعى الْكمّ الْمُتَّصِل والمنفصل والمنطقيات الَّتِى هى نظر فِي المعقولات الثَّانِيَة وَنسبَة بَعْضهَا إِلَى بعض بِالْكُلِّيَّةِ والجزئية وَالسَّلب والإيجاب وَغير ذَلِك بِمَعْرِفَة رب الْعَالمين وأسمائه وَصِفَاته وأفعاله وَأمره وَنَهْيه وَمَا جَاءَت بِهِ رسله وثوابه وعقابه وَمن الخدع الإبليسية قَول الْجُهَّال أَن فهم هَذِه الْأُمُور مَوْقُوف على فهم هَذِه القضايا الْعَقْلِيَّة وَهَذَا هُوَ عين الْجَهْل والحمق وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَول الْقَائِل لَا يعرف حُدُوث الرمانة من لم يعرف عدد حباتها وَكَيْفِيَّة تركيبها وطبعها وَلَا يعرف حُدُوث الْعين من لم يعرف عدد طبقاتها وتشريحها وَمَا فِيهَا من التَّرْكِيب وَلَا يعرف حُدُوث هَذَا الْبَيْت من لم يعرف عدد لبنَاته وأخشابه وطبائعها ومقاديرها وَغير ذَلِك من الْكَلَام الَّذِي يضْحك مِنْهُ كل عَاقل وينادي على جهل قَائِله وحمته بل الْعلم بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وأفعاله وَدينه لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء من ذَلِك وَلَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ وآيات الله الَّتِى دَعَا عباده إِلَى النّظر فِيهَا دَالَّة عَلَيْهِ بِأول النّظر دلَالَة يشْتَرك فِيهَا كل سليم الْعقل والحاسة واما أَدِلَّة هَؤُلَاءِ فخيالات وهمية وَشبه عسرة الْمدْرك بعيدَة التَّحْصِيل متناقضة الْأُصُول غير مؤدية إِلَى معرفَة الله وَرُسُله والتصديق بهَا مستلزمة للكفر بِاللَّه وَجحد مَا جَاءَت بِهِ رسله وَهَذَا لَا يصدق بِهِ إِلَّا من عرف مَا عِنْد هَؤُلَاءِ وَعرف مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل ووازن بَين الْأَمريْنِ فَحِينَئِذٍ يظْهر لَهُ التَّفَاوُت وَأما من قلدهم وَأحسن ظَنّه بهم وَلم يعرف حَقِيقَة مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل فَلَيْسَ هَذَا عشه بل هُوَ فِي أَوديَة هائم حيران ينقاد لكل حيران).

قال ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة الجزء الثاني (ص 210 – 214) عن الطائفة الثانية التي ضلت من المسلمين أنهم على عكس الطائفة الأولى فقد اعتقدت أنه يلزم للإيمان بالله عز وجل نفي الأسباب والمسببات وتكذيب وجود قوى وقوانين تقف وراء  حدوث الظواهر الطبيعية في مخلوقات هذا الكون.  لقد حاولت هذه الطائفة الثانية إبطال ورد  ما  أدعته الطائفة الأولى خاصة في علوم الطبيعات باستخدام مقدمات جدلية باطلة وتأويلات خاطئة لما جاءت به الرسل من نصوص تصف بعض ظواهر الطبيعة.  وكانت نتيجة هذا الرد  من الطائفة الثانية جناية عظيمة  على ما جاء به الرسل فازدات الطائفة الأولى نفورا من الرسل ومما جاؤا به من شرائع.  ولهذا قال ابن القيم أن ضرر الطائفة الثانية على الدين أشد من ضرر الطائفة الأولى عليه وهو كما قيل أن العدو العاقل أقل ضررا من الصديق الجاهل كما شرح ذلك في النص التالي (والطائفة الثَّانِيَة رَأَتْ مُقَابلَة هَؤُلَاءِ برد كل مَا قَالُوهُ من حق وباطل وظنوا ان من ضَرُورَة تَصْدِيق الرُّسُل رد مَا علمه هَؤُلَاءِ بِالْعقلِ الضرورى وَعَلمُوا مقدماته بالحس فنازعوهم فِيهِ وتعرضوا لإبطاله بمقدمات جدلية لَا تغنى من الْحق شَيْئا وليتهم مَعَ هَذِه الْجِنَايَة الْعَظِيمَة لم يضيفوا ذَلِك إِلَى الرُّسُل بل زَعَمُوا إِن الرُّسُل جاؤا وَبِمَا يَقُولُونَهُ فسَاء ظن أُولَئِكَ الْمَلَاحِدَة بالرسل وظنوا أَنهم هم أعلم وَأعرف مِنْهُم وَمن حسن ظَنّه بالرسل قَالَ أَنهم لم يخف عَلَيْهِم مَا نقُوله وَلَكِن خاطبوهم بِمَا تحتمله عقولم من الْخطاب الجمهورى النافع لِلْجُمْهُورِ وَأما الْحَقَائِق فكتموها عَنْهُم وَالَّذِي سلطهم على ذَلِك جحد هَؤُلَاءِ لحقهم ومكابرتهم إيَّاهُم على مَا لايمكن المكابرة عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مَعْلُوم لَهُم بِالضَّرُورَةِ كمكابرتهم إيَّاهُم فِي كَون الأفلاك كروية الشكل وَالْأَرْض كَذَلِك وَأَن نور الْقَمَر مُسْتَفَاد من نور الشَّمْس وَأَن الْكُسُوف القمرى عبارَة عَن انمحاء ضوء الْقَمَر بتوسط الأَرْض بَينه وَبَين الشَّمْس من حَيْثُ انه يقتبس نوره مِنْهَا وَالْأَرْض كرة وَالسَّمَاء مُحِيطَة بهَا من الجوانب فَإِذا وَقع الْقَمَر فِي ظلّ الأَرْض انْقَطع عَنهُ نور الشَّمْس كَمَا قدمْنَاهُ وكقولهم أَن الْكُسُوف الشمسى مَعْنَاهُ وُقُوع جرم الْقَمَر بَين النَّاظر وَبَين الشَّمْس عِنْد اجْتِمَاعهمَا فِي العقدتين على دقيقة وَاحِدَة وكقولهم بتأثير الْأَسْبَاب المحسوسة فِي مسبباتها وَإِثْبَات القوى والطبائع وَالْأَفْعَال وانفعالات مِمَّا تقوم عَلَيْهِ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة والبراهين اليقينية فيخوض هَؤُلَاءِ مَعَهم فِي إِبْطَاله فيغريهم ذَلِك بكفرهم وإلحادهم وَالْوَصِيَّة لأصحابهم بالتمسك بِمَا هم عَلَيْهِ فَإِذا قَالَ لَهُم هَؤُلَاءِ هَذَا الذى تذكرونه على خلاف الشَّرْع والمصير إِلَيْهِ كفر وَتَكْذيب الرُّسُل لم يستريبوا فِي ذَلِك وَلم يلحقهم فِيهِ شكّ وَلَكنهُمْ يستريبون بِالشَّرْعِ وتنقص مرتبَة الرُّسُل من قُلُوبهم وضرر الدّين وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل بهؤلاء من أعظم الضَّرَر وَهُوَ كضرره بأولئك الْمَلَاحِدَة فهما ضرران على الدّين ضَرَر من يطعن فِيهِ وضرر من بنضره بِغَيْر طَريقَة وَقد قيل إِن الْعَدو الْعَاقِل أقل ضَرَرا من الصّديق الْجَاهِل فَإِن الصّديق الْجَاهِل يَضرك من حَيْثُ يقدر أَنه بنقعك والشأن كل الشَّأْن أَن تجْعَل الْعَاقِل صديقك وَلَا تَجْعَلهُ عَدوك وتغريه بمحاربة الدّين وَأَهله).   

وأخيرا وضح ابن القيم  أنه لا يوجد أي تعارض بين  معرفة أسباب الكسوف والخسوف وبين ما جاء في الحديث النبوي الشريف (أَن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فافزعوا إِلَى ذكر الله وَالصَّلَاة) . فهذا الحديث يؤكد على عدم ارتباط الكسوف والخسوف بأحوال البشر من موت وحياة وغيرها وأن الفزع للصلاة عند حدوثهما لا يتناقض مع كونهما ظواهر طبيعية فقال ابن القيم (فَإِن قلت فقد أطلت فِي شَأْن الْكُسُوف وأسبابه وَجئْت بِمَا شِئْت بِهِ من الْبَيَان الذى لم يشْهد لَهُ الشَّرْع بِالصِّحَّةِ وَلم يشْهد لَهُ بِالْبُطْلَانِ بل جَاءَ الشَّرْع بِمَا هُوَ أهم مِنْهُ وَأجل فَائِدَة من الْأَمر عِنْد الكسوفين بِمَا يكون سَببا لصلاح الْأمة فِي معاشها ومعادها وَأما أَسبَاب الْكُسُوف وحسابه وَالنَّظَر فِي ذَلِك فَإِنَّهُ من الْعلم الَّذِي لايضر الْجَهْل بِهِ وَلَا ينفع نفع الْعلم بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَبَين عُلُوم هَؤُلَاءِ فَكيف نصْنَع بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح عَن النبى أَن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فافزعوا إِلَى ذكر الله وَالصَّلَاة فَكيف يلائم هَذَا مَا قَالَه هَؤُلَاءِ فِي الْكُسُوف قيل وأى مناقضة بَينهمَا وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا نفي تَأْثِير الْكُسُوف فِي الْمَوْت والحياة على أحد الْقَوْلَيْنِ أَو نفي تَأْثِير النيرين بِمَوْت أحد أَو حَيَاته على القَوْل الآخر وَلَيْسَ فِيهِ تعرض لإبطال حِسَاب الْكُسُوف وَإِلَّا الْأَخْبَار بِأَنَّهُ من الْغَيْب الذى لَا يُعلمهُ إِلَّا الله وَأمر النَّبِي عِنْده بِمَا أَمر بِهِ من الْعتَاقَة وَالصَّلَاة وَالدُّعَاء وَالصَّدَقَة كأمره بالصلوات عِنْد الْفجْر والغروب والزوال مَعَ تضمن ذَلِك دفع مُوجب الْكُسُوف الَّذِي جعله الله سُبْحَانَهُ سَببا لَهُ فشرع النَّبِي للْأمة عِنْد انْعِقَاد هَذَا السَّبَب مَا هُوَ أَنْفَع لَهُم وأجدى عَلَيْهِم فِي دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بِعلم الْهَيْئَة وشأن الْكُسُوف وأسبابه ).

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق