فسلكه ينابيع في الأرض

فسلكه ينابيع في الأرض

الدكتور منصور أبو شريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

نظرًا للدور البالغ الأهمية الذي يلعبه الماء في ظاهرة الحياة على سطح الأرض فقد أكثر القرآن الكريم من ذكره فتحدث عن أهميته للحياة وطرق تكونه ونقله وتوزيعه على مناطق الأرض المختلفة ووسائل تخزينه في الأرض ودوره في خلق الحياة على الأرض ودوره في استمرار حياة الكائنات الحية. ولقد شرحنا في مقالة (وجعلنا من الماء كل شيء حي)  أن الحياة لا يمكن أن تظهر على الأرض بدون الماء الذي يمتلك خصائص عجيبة لا توجد في أي سائل آخر وذلك مصداقاﹰ لقوله تعالى "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)" الأنبياء . وقد أكد القرآن الكريم على أن جميع الكائنات الحية قد خلقت من هذا الماء مصداقاﹰ قوله تعالى "وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)" النور 45. وفي مقالة (أقلت سحابا ثقالا) شرحنا الطريقة التي يتم بها نقل الماء من المحيطات إلى معظم مناطق الأرض مصداقا  لقوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)" الأعراف. وفي مقالة (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان)  شرحنا الآلية العجيبة التي أبدعها الله عز وجل لمنع اختلاط مياه المحيطات المالحة مع المياه العذبة في الأنهار  والمياه الجوفية مصداقا لقوله تعالى "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)" الرحمن وقوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)" الفرقان.  وفي هذه المقالة سنشرح الطرق المختلفة التي تؤمن الماء للكائنات الحية على مدار العام في جميع أنحاء اليابسة كتخزينه في بحيرات على ظاهرها  وأحواض في باطنها ومن ثم إخراجه على شكل أنهار وينابيع وآبار صناعية  مصداقا لقوله سبحانه وتعالى "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)" الحجر والقائل سبحانه "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ" المؤمنون 18 والقائل عز من قائل "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)" الزمر. ولقد أكد القرآن الكريم على أن الماء العذب قد تم توزيعه على جميع أرجاء اليابسة بحيث يضمن الحياة لكل كائن حي على ظهرها مصداقاﹰ لقوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)" الفرقان. 

 

 

 

 



أخرج منها ماءها ومرعاها

يقدّر علماء الجيولوجيا كمية الماء الموجودة في الأرض بستة عشر بليون كيلومتر مكعب ويشكل ما نسبته خمسة وعشرون بالألف من كتلة الأرض. ويوجد القسم الأكبر من هذه الكمية والتي تقدر  بثلاثة عشر بليون كيلومتر مكعب في طبقات الأرض الواقعة تحت القشرة الأرضية وهي موجودة على شكل بخار ماء مضغوط وذلك بسبب الحرارة العالية لباطن الأرض. ويعتقد العلماء أن معظم الماء الموجود على سطح الأرض قد خرج من باطنها وذلك قبل تشكل القشرة الأرضية حيث بدأ الماء بالخروج من باطن الأرض على شكل بخار مع الحمم التي تقذفها البراكين من باطن الأرض إلى الغلاف الجوي وذلك مصداقا لقوله تعالى "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)" النازعات. ويقدّر علماء الجيولوجيا كمية الماء الذي يخرج من باطن الأرض إلى سطحها في السنة الواحدة وذلك في الوقت الحالي بحوالي كيلومتر مكعب واحد وهذه الكمية تقوم بتعويض الماء الذي يتسرب من الغلاف الجوي إلى الفضاء الخارجي.  ومن الجدير بالذكر  أن المرعى المقصود في الآية السابقة هو ثاني أكسيد الكربون الذي خرج من باطن الأرض إلى الغلاف الجوي عند بداية تشكل الأرض ومن المعروف أن حياة جميع الكائنات الحية تقوم على ثاني أكسيد الكربون حيث تقوم النباتات والطحالب بتحويله إلى سكر الجلوكوز من خلال عملية التركيب الضوئي كما شرحنا ذلك في مقالة (أخرج منها ماءها ومرعاها).

أما الكمية المتبقية من مياه الأرض والتي تقدّر بثلاثة بلايين كيلومتر مكعب فإن نصفها يدخل في تركيب الصخور والمعادن الموجودة في القشرة الأرضية بينما يوجد النصف الآخر في المحيطات والبحار والبحيرات والأنهار والمياه الجوفية والمياه الجليدية. ويتجمع ما نسبته 97% من الماء الموجود على سطح الأرض في محيطات وبحار الأرض على شكل ماء مالح والتي تغطي ما يقرب من سبعين بالمائة من سطح الأرض بينما تغطي اليابسة ثلاثين بالمائة من سطحها.  إن تحديد نسبة مساحة سطح اليابسة إلى مساحة سطح المحيطات لم يتم بطريقة عشوائية بل تم تقديره بشكل بالغ حيث بينت دراسات العلماء أن أية زيادة أو نقصان فيها قد يحول دون ظهور الحياة على الأرض. فمتوسط درجة حرارة سطح الأرض سيختلف عن الرقم الحالي البالغ خمسة عشر درجة فيما لو تغيرت هذه النسبة وذلك بسبب الاختلاف الكبير في الحرارة النوعية لكل من تراب اليابسة وماء المحيطات. وستتغير كذلك كمية ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي بسبب تفاوت نسب امتصاص البر والبحر لهذا الغاز الذي يعتبر مصدر الغذاء  الرئيسي لجميع الكائنات الحية وكذلك فإن كمية الماء التي ستسقط على اليابسة ستزداد أو تنقص تبعا لقيمة النسبة بين مساحة كل من البر والبحر.



أما نسبة الثلاثة بالمائة المتبقية من المياه الموجودة على سطح الأرض والمقدرة بما يقرب من مائة مليون كيلومتر مكعب ومعظمها من الماء العذب  فهي موجودة على اليابسة على شكل جليد في مناطق القطبين وعلى شكل ثلوج في المرتفعات الشاهقة و كمياه جوفية في طبقات القشرة الأرضية وكمياه سائلة في البحيرات والأنهار  والجداول والتربة وكبخار ماء في الغلاف الجوي .  فالمياه المتجمدة في القطبين تشكل سبعين بالمائة من مياه اليابسة أي ما يقرب من سبعين مليون كيلومتر مكعب . أما المياه الجوفية فتشكل عشرين بالمائة من مياه اليابسة أي ما يقرب من عشرين مليون كيلومتر مكعب. وأما مياه البحيرات العذبة فتشكل ثلاثة بالعشرة بالمائة من مياه اليابسة أي ما يقرب من ثلاثمائة ألف كيلومتر مكعب ومثلها تقريبا في البحيرات المالحة.  وأما المياه الموجودة في التربة فتشكل واحد ونصف بالعشرة بالمائة من مياه اليابسة أي ما يقرب من مائة وخمسون ألف كيلومتر مكعب. وأما المياه الموجودة في الغلاف الجوي على شكل بخار فتشكل ثلاثة بالمائة بالمائة من مياه اليابسة أي ما يقرب من ثلاثين ألف كيلومتر مكعب. أما مياه الأنهار  والجداول فتشكل ثلاثة بالألف بالمائة من مياه اليابسة أي ما يقرب من ثلاثة آلاف كيلومتر مكعب.

أقلت سحابا ثقالا

إن عملية نقل الماء من المحيطات وتوزيعها على اليابسة تتم بآليات بالغة الإتقان حيث تستخدم الطاقة الشمسية لتبخير الماء من المحيطات بدون أن يتم رفع درجة حرارة الماء إلى درجة الغليان. ويقدّر العلماء كمية الماء المتبخر من المحيطات في السنة الواحدة  بأربعمائة ألف كيلومتر مكعب ومن اليابسة بستين ألف كيلومتر مكعب وتحتاج هذه الكمية الهائلة من الماء المتبخر من المحيطات إلى كمية هائلة من الطاقة تقدّر بمائتين وخمسين مليون بليون كيلواط ساعة في السنة الواحدة. إن هذا الماء المتبخر  يصعد إلى طبقات الجو العليا مع التيارات الهوائية ويبدأ البخار بالتكثف على شكل غيوم بسبب البرودة الشديدة لطبقات الجو العليا. إن رفع هذا الكمية الهائلة من الماء إلى ارتفاع عدة كيلومترات فوق سطح البحر يحتاج إلى كمية هائلة من الطاقة لا تقل عن كمية الطاقة التي لزمت لتبخيرها وتقوم الشمس أيضا بتوفير هذه الطاقة من خلال تسخين الهواء الملامس لسطح الأرض والذي يرتفع إلى الأعلى حاملا معه بخار الماء. وبعد أن يرتفع بخار الماء إلى طبقات الجو المختلفة يبدأ بالتكثف ليكون الغيوم التي  تسوقها الرياح إلى مناطق اليابسة حيث تبدأ حبيبات الماء بالتكون لتسقط على شكل أمطار وثلوج وبرد. وينزل على المحيطات من هذا الماء المتبخر 370  ألف كيلومتر  مكعب بينما ينزل على اليابسة فقط 90 ألف كيلومتر مكعب. إن كمية الماء التي تسقط على اليابسة والتي تقدّر بتسعين ألف كيلومتر مكعب تعود في النهاية إلى المحيطات والبحار حيث يعود ثلاثون ألف كيلومتر مكعب منها بشكل مباشر بواسطة الأنهار  السطحية وتحت السطحية. بينما تعود الستين ألف المتبقية بطريقة غير مباشرة من خلال عملية التبخر وذلك بعد أن يتم الاستفادة  منها من قبل الكائنات الحية المختلفة وخصوصا النباتات التي تستهلك الجزء الأكبر من هذه الكمية بامتصاصها من التربة.

 

 

 

 

 

وقد ذكر القرآن الكريم في آيات كثيرة ظاهرة نقل المياه من المحيطات إلى اليابسة كما في قوله عز من قائل " وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)" فاطر وقوله سبحانه "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)" الأعراف. أما الآيات التي تبين بطريقة علمية دقيقة خطوات تشكل السحب من بخار الماء فهي قوله تعالى  "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)" النور وقوله تعالى "اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)" الروم . وأكد القرآن الكريم على أن كمية الماء التي تسقط على اليابسة قد تم تقديرها بشكل بالغ حيث أن الزيادة في كمية الأمطار الساقطة على الأرض قد تؤدي لتدمير الحياة عليها وذلك مصداقاﹰ لقوله تعالى "وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)" الزخرف  وقوله تعالى "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" الرعد 17.

 

فأسكناه في الأرض

لقد ذكرنا آنفا أن كمية المياه العذبة السطحية تبلغ ثلاثمائة وثلاثة ألاف كيلومتر مكعب  منها ثلاثمائة ألف كيلومتر مكعب في البحيرات العذبة وثلاثة آلاف كيلومتر مكعب في الأنهار.  أما كمية المياه الجوفية المخزنة في الطبقات الصخرية فتبلغ عشرين مليون كيلومتر مكعب أي أنها تزيد بستة وستين ضعف عن كمية المياه السطحية.  وعلى العكس من المياه السطحية التي توجد في أماكن محددة من الأرض فإن المياه الجوفية تتوزع في معظم أرجاء الأرض ولهذا فإن ما يزيد عن سبعين بالمائة من سكان الأرض يعيشون على المياه الجوفية.  فعلى سبيل المثال فإن جزيرة العرب التي تبلغ مساحتها  ثلاثة ملايين كيلومتر مربع ويعيش فيها الآن ما يزيد عن سبعين مليون شخص  تخلو تماما من البحيرات والأنهار ويعيش سكانها على المياه الجوفية منها يشربون ومنها يسقون مزروعاتهم وأنعامهم.  إن وجود خزانات أرضية لإستيعاب هذا الكم الهائل من المياه الجوفية نعمة كبرى من نعم الله عز وجل على البشر  ولو ترك الأمر لهم لبناء خزنات للمياه لمات معظمهم عطشا. فعلى سبيل المثال فإن مجموع السدود المائية التي بناها البشر  إبتداء من القرن العشرين يبلغ خمسين ألف سد تستوعب ستة آلاف كيلومتر  مكعب من المياه وبكلفة ألفي مليار دولار.  وقياسا على هذا المثال فإن بناء سدود لإستيعاب جميع المياه الجوفية البالغة عشرين مليون كيلومتر مكعب ستكلف البشر  ما يزيد عن ستة ملايين مليار  دولار  وستغطي جميع قارات الأرض بارتفاع مائة وثلاثون مترا وصدق الله العظيم القائل "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)" الحجر والقائل سبحانه "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ" المؤمنون 18 .

 

                إن بناء هذه الخزانات الأرضية للمياه الجوفية قد إمتد على مدى آلاف الملايين من السنين وهي الفترة الزمنية التي أعد الله عز وجل فيها الأرض لتكون مأهلة لظهور الحياة عليها كما شرحت ذلك في مقالة "وقدر فيها أقواتها في أربعة آيام". يقول علماء تطور الكون أن الأرض قد تكونت نتيجة  لتجمع الحطام المتناثر من انفجار بعض النجوم بعد أن وقع في أسر جاذبية الشمس وقد تم إذابة هذا الحطام من خلال التصادمات العنيفة بينها وبين النيازك التي تقع عليها من الفضاء الخارجي لتصبح الأرض على شكل كرة سائلة ملتهبة. ولقد استمرت الكرة الأرضية على هذا الحال  إلى أن بدأت القشرة الأرضية الصلبة بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي ولا زالت مادة الأرض باستثناء قشرتها الرقيقة وقلبها الحديدي في حالة الانصهار كما نشاهد ذلك عند خروج هذه المادة من شقوق هذه القشرة عند حدوث البراكين. وفي الإبقاء على مواد الأرض الداخلية في حالة الانصهار حكمة بالغة حيث أن هذه المواد المنصهرة التي تخرج على شكل براكين من حين لآخر هي التي تزود سطح الأرض بالمواد اللازمة للكائنات الحية التي تعيش على سطح الأرض كالماء وثاني أكسيد الكربون وغيرها من العناصر الطبيعية وصدق الله العظيم القائل "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا(30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)" النازعات.

لقد كان سطح الأرض عند بداية تكونها مكون من جبال جرداء من الصخور الناريةالتي تكونت نتيجة لتجمد الصهارات (Magma) التي تقذف بها البراكين من باطن الأرض المنصهر.  وكانت هذه الصخور تتعرض لعوامل تعرية متعددة وقاسية عملت على تفتيتها وإذابتها بكميات كبيرة وقامت  الأمطار  التي كانت تنزل بكميات كبيرة في تلك الفترة من جرف ونقل الصخور النارية المتفتتة إلى المناطق المنخفضة بين هذا الجبال. إن تراكم هذه الصخور المتفتتة أو المترسبة فوق بعضها البعض أدى إلى تحولها بسبب الضغط الواقع عليها إلى ما يسمى بالصخور الرسوبية.  ومع ظهور الحياة على الأرض بدأت النباتات تغطي كامل سطح اليابسة وبدأت الكائنات البحرية بالإنتشار في محيطات الأرض وبحارها ومن ثم على ظهر اليابسة.  ونتيجة لطمر  النباتات في مناطق اليابسة والكائنات الحية في البحار بطبقات من الحمم البركانية وكذلك بطبقات من الرمال والصخور المتفتتة تكون نوع جديد من الصخور الرسوبية تسمى الصخور الرسوبية العضوية (Organic Sedimentary Rocks) والتي تحتوي على مختلف أنواع الوقود الأحفوري من فحم وبترول وغاز وفوسفات.  إن عملية تكون الصخور الرسوبية لم تتوقف منذ أن تكونت القشرة الأرضية ولهذا يوجد عشرات بل مئات من طبقات الصخور الرسوبية المختلفة تختلف عن بعضها البعض فى السمك واللون والنسيج والمحتوى المعدنى والتي تعتبر  كنزا قيما للعلماء المهتمين في دراسة تطور  الحياة على الأرض.  إن حركة الصفائح التكتونية وتصادمها مع بعضها البعض وكذلك حركة الصهارة في باطن الأرض أدت إلى تحويل الطبقات الصخرية بسبب الضغط الواقع عليها من وضعها الأفقي إلى أوضاع مائلة أو مطوية من خلال رفعها في أماكن معينة وخفضها في أماكن أخرى مكونة تشكيلات متعرجة من الطبقات الصخرية عملت على حفظ  المياه الجوفية وكذلك خروجها على شكل أنهار وينابيع في مختلف مناطق الأرض. وعلى الرغم من أن الصخور الرسوبية لا تشكل أكثر من خمسة بالمائة من صخور القشرة الأرضية إلا أنها تغطي ما يقرب من خمسة وسبعين بالمائة من سطح اليابسة مما ساعد على توزيع المياه الجوفية في معظم مناطق الأرض.



                يتم تخزين المياه الجوفية (Ground water) في الفراغات (pore spaces) الموجودة بين حبيبات (grains) مختلف أنواع الصخور المسامية والحصى والرمال السائبة (loose sand)  وفيما بين الشقوق (fractures) والصدوع (faults) في الصخور الصماء أو الصلدة وفي كهوف الصخور الجيرية. وتتفاوت كمية الماء المخزن على درجة المسامية (Porosity) لهذه الصخور فمن بين أنواع الصخور الرئيسية تعتبر الصخور الرسوبية (sedimentary rock) أكثر الصخور مسامية ولذا تسمى صخور مسامية ( Porous rocks). بينما تقل درجة المسامية في الصخور النارية (Igneous Rocks) والمتحولة (Metamarphic Rocks) وبعض الصخور الرسوبية ولذا تسمى صخور غير مسامية أو صماء (non –Porous rocks). ويوجد كذلك تتفاوت في درجة المسامية للصخور الرسوبية وذلك حسب نوع هذه الصخور فهي أعلى ما تكون في الصخور الحصوية (Conglomerate) تليها الصخور الرملية (Sandstone) ثم الصخور الجيرية أو الكلسية (Limestone) وأقل ما يكون في الصخور الطينية (mudstone) بأنواعها المختلفة كالغرينية  ( siltstone) والصلصال (clay) والطقل (shale) والصخور الجبصية (Gypsum). وإلى جانب خاصية المسامية المطلوبة في الصخور المخزنة للماء يلزم أن تمتلك أيضا خاصية النفاذية (permeability) والتي تحدد قدرة إنتقال الماء بين الفراغات الموجودة فيها ولهذا تصنف الصخور كصخور منفذة  (permeable rocks) أو كصخور  غير منفذة (impermeable rocks).

 

 



                يلزم لتكون خزانات المياه الجوفية (Aquifers) وجود طبقتين من الصخور أحدهما طبقة صخرية صماء غير  منفذه للماء كالصخور النارية والمتحولة وكصخور الصلصال والطفل تعلوها طبقة صخرية مسامية ومنفذة للماء  كالصخور الحصوية والرملية. وتعتمد القدرة التخزينية لهذه الخزانات أو الأحواض المائية على المساحة السطحية للطبقة الصخرية الصماء وعلى سمك الطبقة الصخرية المسامية التي تقوم بتخزين الماء في مساماتها. وتتراوح  المساحة السطحية للأحواض المائية من عدة كيلومترات مربعة إلى ما يقرب من مليون ونصف كيلومتر مربع كما هو الحال مع الحوض الأرتوازي الكبير  (Great Artesian Basin) في أستراليا والذي يحوي ما يزيد عن ستين ألف كيلومتر مكعب من المياه الجوفية, 

 

 

 ويوجد نوعان من الخزانات الجوفية وهي الخزانات الجوفية الحرة أو غير المقيدة (Unconfined Aquifers) والخزانات الجوفية المقيدة أو المحصورة (Confined Aquifer). ففي الخزانات الجوفية الحرة تقع الطبقة الصخرية المخزنة للماء تحت سطح الأرض مباشرة ويتم تغذيتها (recharge) بالماء من خلال مياه الأمطار التي تنفذ من خلال طبقة التربة التي تعلوها. إن الماء الذي يغذي هذه الخزانات عادة ما يستقر في أسفل الطبقة المخزنة للماء ولا يرتفع إلى الأعلى إلا بعد أن تتشبع مسامات تلك المنطقة بالماء. ولهذا تنقسم الطبقة المسامية إلى منطقتين وهي المنطقة المشبعة بالماء (saturated zone ) والطبقة غير المشبعة (unsaturated zone)  ويسمى الحد الفاصل بينهما بمستوى أو منسوب الماء (water table). وللحصول على الماء الجوفي من هذه الخزانات الحرة يجب حفر  أبار  يصل قاعها لما دون منسوب الماء ويتم إستخراج الماء منها إما يدويا من خلال النشل أو  آليا باستخدام المضخات المشغلة بالمحركات الكهربائية والميكانيكية.



أما في الخزانات الجوفية المحصورة فتقع الطبقة الصخرية المسامية بين طبقتين صخريتين غير منفذتين للماء ويتم تغذية الخزان من سطح الأرض الذي يقع عند أطراف الصخرة المسامية وليس من السطح الذي يقع أعلاها.  إن الخزان الجوفي المحصور عادة ما يكون على شكل حوض مقعر ولهذا فإن الماء له ضغط يزيد عن الضغط الجوي وهو أعلى ما يكون في أخفض مكان في الخزان ومن ثم يقل تدريجيا إلى أن يساوي الضغط الجوي عند أطرافه. وللحصول على الماء الجوفي من هذه الخزانات المقيدة يجب حفر  أبار  تخترق الطبقة الصماء العليا للخزان بأعماق قد تصل إلى  الكيلومتر  وعادة ما يخرج الماء من البئر بشكل إنسيابي إذا كان مستوى سطح الأرض أخفض من منسوب الماء عند طرفي الخزان ولذا يطلق عليها إسم الأبار الأرتوازية (Artesian).

ولقد نبه القرآن الكريم  البشر إلى أنه من السهل أن يغور الماء في أعماق القشرة الأرضية لولا أن الله قد صمم الطبقات العليا لقشرة الأرض بشكل بارع لكي تحتفظ بالمياه وعلى مسافات قريبة من سطح الأرض فقال عز من قائل  " وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)" المؤمنون  وقوله تعالى "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)" الملك.  إن ظاهرة غور المياه الجوفية غالبا ما تحدث عند حدوث الزلالزل حيث تتشقق بعض الصخور الحافظة للماء فيغور الماء إلى طبقات صخرية أعمق منها فيصعب الوصول إليه. ولقد أشار القرآن الكريم كذلك إلى أنه من السهل جدا إذا ما حصل خطأ بسيط في تصميم مكونات جو الأرض أو تراب وصخور الأرض أن يتحول الماء العذب إلى ماء حامض أو مالح فقال عز من قائل "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)" الواقعة والقائل سبحانه "وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)" فاطر. وتحدث ظاهرة الملوحة في المياه الجوفية إذا كان نوع الصخور الحافظة لها تحتوي على نسب عالية من الأملاح المختلفة التي تذوب في الماء بسهولة فترفع نسبة الملوحة فيها.

فسلكه ينابيع في الأرض

تخرج المياه الجوفية بشكل إنسيابي من سطح الأرض على شكل ينابيع إذا كان مستوى سطح الأرض أخفض من منسوب الماء في الخزانات الجوفية الحرة. أما في الخزانات الجوفية المقيدة فيلزم لكي تتفجر الينابيع من تلك الخزانات  إما وجود تشققات في مكان ما في الطبقة الصخرية العليا أو السفلى أو أن يكون مستوى أحد  أطراف الخزان  أخفض من منسوب الماء عند الأطراف الأخرى وصدق الله العظيم القائل "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)" البقرة. وقد تتفجر الينابيع في أماكن تبعد مئات الكيلومترات عن مصادر تغذية تلك الخزانات الجوفية حيث تجري المياه بين طبقات الصخور إلا أن تصل إلى المنفذ التي تخرج منه تلك المياه وصدق الله العظيم القائل "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" الزمر 21. وتقرر هذه الآية الكريمة حقيقتان أولهما أن مصدر مياه الينابيع هو مياه الأمطار بعد أن تنفذ من التراب إلى الطبقات الصخرية  الحافظة لها وهو ما أكدته أيضا آية (فأسكناه في الأرض). أم الحقيقة الثانية فهي أن الماء الذي يسقط على منطقة ما ويغذي الأحواض المائية التي تقع تحتها قد يخرج على شكل ينابيع في مناطق بعيدة عن منطقة التغذية (recharge zone) بعد أن يسلك مسارات متعرجة تقع بين طبقات الصخور.  وفي الحقيقة الثانية إعجاز علمي واضح فقد أكد القرآن الكريم على حركة المياه الجوفية بين طبقات الصخور قبل ما يزيد عن ألف عام من اكتشافها من قبل علماء الجيولوجيا.

 





 



وتتحدد مواصفات مياه الينابيع تبعا لنوعية الصخور المخزنة فيها وكذلك الصخور التي تسلك من خلالها حتى تصل إلى عيون أو مخارج تلك الينابيع وكذلك عمق تلك الخزانات تحت سطح الأرض. فدرجة  حرارة مياه الينابيع تتحدد من عمق خزاناتها حيث أن درجة حرارة القشرة الأرضية تزداد مع زيادة عمقها وكذلك تتحدد من قرب تلك الخزانات من البؤر الساخنة بفعل وجود جيوب من صهارة باطن الأرض في طبقات تلك الصخور  وخاصة القريبة من المناطق البركانية. وعلى هذا فإنه يوجد ينابيع مياه باردة وأخرى حارة قد تصل درجة حرارة مياهها حد الغليان وقد تخرج مباه الينابيع الحارة على شكل بخار أو ماء مخلوط بالبخار ويطلق عليها إسم الفوارات الحارة. وتنقسم الينابيع من حيث محتواها من الأملاح المعدنية إلى ينابيع عادية بمستوى متدني من الأملاح  أو ينابيع مياه معدنية تحتوي على نسب عالية من الأملاح المعدنية يتحدد نوعها من نوع الصخور التي تكونت فيها تلك المياه ويستخدمها الناس لأغراض الإستشفاء.



 

 

ولقد صرفناه بينهم ليذكروا

لقد امتن الله سبحانه وتعالى على البشر  بأنه قد وفر آليات مختلفة لتزويد مختلف مناطق الأرض بما يلزمها من الماء العذب الذي يبعث فيها الحياة بمختلف أشكالها فقال عز من قائل "وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)" الفرقان.  فالآلية الرئيسية هي الأمطار حيث تقوم الرياح بنقل المياه العذبة المتبخرة من مياه المحيطات المالحة  على شكل سحب فتسقط كأمطار وثلوج عذبة بعد تكثقها في طبقات الجو العليا الباردة.  إن عملية توزيع مياه الأمطار على جميع مناطق اليابسة لا تتم بشكل متساو بسبب التفاوت الكبير في تضاريس اليابسة وكذلك مقدار بعدها عن المحيطات والبحار حيث تسقط الأمطار بمعدلات كبيرة في المناطق الإستوائية وعلى المناطق الساحلية فقد تصل إلى ستة آلاف ملليمتر  في السنة كما في حوض الأمازون وتقل تدريجيا كلما ابتعدنا عن شواطئ المحيطات والبحار وقد تصل المعدلات إلى ما دون عشرة ملليمترات في السنة كما في كثير من صحاري العالم. ومن فضل الله على الناس أن قام بتوفير آليات مختلفة لتزويد المناطق التي لا تسقط عليها كمية كافية من الأمطار بما يكفيها من الماء الذي يبعث فيها الحياة كالأنهار والبحيرات والينابيع والمياه الجوفية. إن توزيع مياه الأمطار بشكل غير متساوي على مناطق اليابسة المختلفة دليل على خالق مبدع لا حدود لإبداعه حيث أن هذا التفاوت في كميات الأمطار  أنتج بيئات مختلفة تحتوي على نباتات وحيوانات خاصة بتلك البيئات ولهذا ظهر هذا التنوع الهائل في أشكال الحياة على الأرض كما نشاهد ذلك في الكائنات الحية


 

 

في المناطق الإستوائية والمدارية والصحراوية والقطبية وغيرها.  



وبما أن الأمطار لا تسقط إلا في أشهر محددة من السنة في معظم أرجاء اليابسة  فقد سخر الله عز وجل وسائل عدة لحفظ مياه هذه الأمطار وتزويد البشر وبقية الكائنات الحية بها على طول أشهر السنة. لقد سخّر الله عز وجل الأنهار التي تحمل الماء من المناطق الغنية به إلى المناطق الصحراوية الجافة التي لا تسقط عليها كميات كافية من مياه الأمطار على بعد آلاف الكيلومترات. إن المناطق الغنية بالمياه عادة ما تكون ذات تضاريس صعبة ومناخ قاسي كالجبال الشاهقة المكسوة بالثلوج والمناطق الإستوائية ذات الهطول المطري المرتفع وما تحويه  من بحيرات ومستنقعات والجبال الجليدية. أما المناطق الصحراوية التي تنقل إليها المياه بواسطة الأنهار فهي مناطق ذات مناخ معتدل وتضاريس سهلة ولذا قامت كثير من الحضارات البشرية عند مصاب هذه الأنهار. ومن عجائب تصميم الأنهار أن ميلان الأرض قد تم تقديره بشكل بالغ الدقة من قبل خالق خبير عليم سبحانه وتعالى بحيث أن الماء ينساب بشكل طبيعي من منابع الأنهار إلى مصابها رغم أنها تجري عدة آلاف من الكيلومترات.  ويقدر العلماء عدد الأنهار  الكبيرة الموزعة في مختلف قارات العالم بعدة آلاف منها مائة وخمسين نهر عظيم لا يقل طولها عن ألف كيلومتر ويزيد معدل تفريغ المياه فيها عن مائتي متر مكعب في الثانية,   فنهر الأمازون في أمريكا الجنوبية الذي هو أضخم الأنهار من حيث كمية الماء الذي يحمله يبلغ طوله  ستة آلاف وأربعمائة كيلومتر  ومعدل تدفقه 219 ألف متر مكعب  في الثانية ومساحة حوضه المائي سبعة ملايين كيلومتر مربع أي قريبا من مساحة قارة أوروبا. أما نهر النيل في أفريقيا الذي هو أطول الأنهار فيبلغ طوله 6650 كيلومتر  ومعدل تدفقه  خمسة ألاف متر مكعب  في الثانية ويجلب الماء من المناطق الإستوائية في وسط أفريفيا إلى أثيوبيا والسودان ومصر وصدق الله العظيم القائل "أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) " النمل  والقائل سبحانه "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)" الرعد.

أما الآلية الثانية التي سخرها الله عز وجل لتخزين مياه الأمطار فهي البحيرات والبرك العذبة والتي تنتشر في معظم قارات العالم. ويقدر العلماء عدد البحيرات العذبة التي تزيد مساحتها عن كيلومتر مربع  بمائة وخمسين ألف بحيرة تغطي ما مساحته  مليوني كيلومتر مربع وأما عدد التي تزيد مساحتها عن عشر كيلومتر مربع فقد تتجاوز المليون بحيرة وتغطي ما مساحته  ثلاثة ملايين كيلومتر مربع.  ويعتبر  بحر قزوين في أسيا من  أكبر البحيرات العذبة  إذ تبلغ مساحته 370 ألف كيلومتر مربع وبسعة 78 ألف كيلومتر مكعب تليه من حيث الحجم بحيرة بايكال في سيببريا بسعة 23 كيلومتر مكعب ومن حيث المساحة بحيرة سوبيريور في أمريكا الشمالية بمساحة  82 ألف كيلومتر مربع وبسعة 12 ألف كيلومتر مكعب . إن دور هذه البحيرات لا يقتصر على مد  السكان المحيطين بها بما يلزمهم من ماء لشربهم وسقي مزروعاتهم ومواشيهم بل تعتبر منابع لكثير  من الأنهار  التي توفر الماء لمناطق  صحراوية لا تسقط عليها الأمطار. فنهر النيل على سبيل المثال ينبع فرعه الرئيسي وهو النيل الأزرق من بحيرة تانا في  أثيوبيا وفرعه الثاني وهو النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا التي تقع بين كينيا وأوغندا وتنزانيا.

 

 

 



 

 

أما الآلية الثالثة التي سخرها الله عز وجل لتخزين مياه الأمطار فهي طبقات الصخور التي تختزن كميات كبيرة من المياه الجوفية  فتخرج على شكل ينابيع لا تكاد تخلو  منها أيّ منطقة  على هذه اليابسة أو يتم إستخراجها من خلال حفر الأبار. ومن عجائب التقدير أن هذه الينابيع قد تتفجر في  مناطق قاحلة لا يسقط عليها المطر أبدا فيأتيها الماء من أماكن بعيدة على شكل أنهار باطنية تجري عبر طبقات الصخور. وقد وجد العلماء أن أحواض المياه الجوفية تغطي ما نسبته خمسة وسبعين بالمائة من سطح اليابسة توفر الماء لأكثر من خمسين بالمائة من سكان الأرض. وتصنف الأحواض المائية كأحواض متجددة يتم تغذيتها بمياه الأمطار كل عام ويمكن أن تنضب لفترة محددة إذا زادت كمية الماء المسحوب منها عن معدلات تغذيتها وكأحواض غير متجددة تراكمت فيها المياه على مدى  ملايين السنين وهذه  الأحواض عرضة للنضوب بشكل تام  مع استمرار الضخ منها بكميات كبيرة. إن عدد اليانبيع الطبيعية التي تستمد ماءها من المياه الجوفية  لا يمكن حصر عددها وهي منتشرة في جميع أنحاء العالم ولا تكاد تخلو منها أي منطقة ولكنها تكثر في المناطق الكثيرة الأمطار.

 

 

 

 

 

 

 



أما الآلية الرابعة فهي تخزين الماء في تربة الأرض وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد مكن الحيوانات من الحركة لتصل إلى مصادر الماء والغذاء لتأخذ منهما حاجتها  فقد صمم آليات معقدة لتوفير الماء للنباتات التي لا يمكنها الحركة على الإطلاق. فقد تم تهيئة تراب الأرض وتشكيل الصخور التي تحتها بحيث تحتفظ  بماء الأمطار لفترات طويلة ولكي تتمكن النباتات بمختلف أنواعها  من الحصول على حاجتها من الماء في فترات انقطاع المطر عنها. وقد زود الله هذه النباتات بجذور يمكنها الغوص في أعماق التراب والصخور لكي تصل إلى أماكن الماء وصدق الله العظيم القائل "وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) " يس.