2014-10-20

البارودي يرثي أمه


محمود سامي البارودي

(مصر 1839 – 1904م)



هوى كان لي أن ألبس المجد معلما
فلما ملكتُ السبق عفتُ التقدما
ومن عرف الدُّنيا رأى ما يسُرُّه
من العيشِ هما يتركُ الشهد علقما
و أيُّ نعيم في حياة  وراءها
مصائِبُ لو حلّت بِنجم لأظلما
إذا كان عقبى كل حي منية
فسِيّانِ من حلّ الوِهاد، ومن سما
و من عجب أنا نرى الحقّ جهرة
ونلهُو، كأنّا لا نُحاذِرُ مندما
يودُّ الفتى في كل يوم لبانة
فإن نالها أنحى لأخرى ، وصمما
طماعة ُ نفس توردُ المرء مشرعا
من البؤسِ لا يعدوهُ أو يتحطما
أرى كُلّ حيّ غافِلا عن مصِيرِهِ
ولو رام عِرفان الحقِيقة ِ لانتمى
فأين الأُلى شادُوا، وبادُوا ألم نكُن
نحلُّ كما حلوا ، و نرحلُ مثلما  
مضوا، وعفت آثارُهُم غير ذُكرة
تُشِيدُ لنا مِنهُم حدِيثا مُرجّما
سلِ الأورق الغريد في عذباتهِ
أناح على أشجانِهِ، أم ترنّما
ترجّح فِي مهد مِن الأيكِ، لا ينِي
يميلُ عليهِ مائلا و مقوا
ينوحُ على  فقدِ الهديلِ ، و لم يكن
رآه ، فيا للهِ ! كيف تهكما  
وشتّان من يبكِي على غيرِ عِرفة
جزافا ، و من يبكي لعهد تجرما
لعمرِي لقد غال الرّدى من أُحِبُّهُ
و كان بودي أن أموت و يسلما
و أيُّ حياة  بعد أم فقدتها
كما يفقِدُ المرءُ الزُّلال على الظّما
تولّت، فولّى الصّبرُ عنِّي، وعادنِي
غرام عليها ، شفّ جسمي ، وأسقما
ولم يبق إِلاّ ذُكرة  تبعثُ الأسى
وطيف يُوافِيني إِذا الطّرفُ هوّما
و كانت لعيني قرة  ، و لمهجتي
سرورا ، فخاب الطرفُ و القلبُ منهما
فلولا اعتِقادِي بِالقضاءِ وحُكمِهِ
لقطعتُ نفسي لهفة  و تندما
فيا خبرا شفّ الفؤاد ؛ فأوشكت
سويداؤهُ أن تستحيل ، فتسجما
إِليك؛ فقد ثلّمت عرشا مُمنّعا
و فللت صمصاما ، و ذللت ضيغما
أشاد بهِ الناعي ، و كنتُ محاربا
فألقيتُ من كفى الحسام المصمما
وطارت بِقلبِي لوعة  لو أطعتُها
لأوشك رُكنُ المجدِ أن يتهدّما
ولكِنّنِي راجعتُ حِلمِي، لأنثنِي
عنِ الحربِ محمود اللقاءِ مكرما
فلمّا استردّ الجُند صِبغ مِن الدُّجى
وعاد كِلا الجيشينِ يرتادُ مجثِما
صرفتُ عِنانِي راجِعا، ومدامِعِي
على  الخد يفضحن الضمير المكتما
فيا أُمّتا؛ زال العزاءُ، وأقبلت
مصائِبُ تنهى القلب أن يتلوّما
وكُنتُ أرى الصّبر الجمِيل مثُوبة
فصِرتُ أراهُ بعد ذلِك مأثما
و كيف تلذُّ العيش نفس تدرعت
من الحزنِ ثوبا بالدموعِ منمنما  
تألمتُ فقدان الأحبة ِ جازعا
و من شفهُ فقدُ الحبيبِ تألما
و قد كنتُ أخشى أن أراكِ سقيمة
فكيف و قد أصبحتِ في التربِ أعظما  
بلغتِ مدى تِسعِين فِي خيرِ نِعمة
و من صحب الأيام دهرا تهدما
إِذا زاد عُمرُ المرءِ قلّ نصِيبُهُ
من العيش و النقصانُ آفة ُ من نما
فيا ليتنا كنا ترابا ، و لم نكن
خلقنا ، و لم نقدم إلى الدهرِ مقدما
أبى طبعُ هذا الدّهرِ أن يتكرّما
وكيف يدِي من كان بِالبُخلِ مُغرما
أصاب لدينا غِرّة ؛ فأصابنا
وأبصر فِينا ذِلّة ؛ فتحكّما
و كيف يصونُ الدهرُ مهجة  عاقل
و قد أهلك الحيينِ : عادا ، و جرهما
هو الأزلمُ الخداعُ ، يحفرُ إن رعى
ويغدِرُ إِن أوفى ، ويُصمِي إِذا رمى
فكم خان عهدا، واستباح أمانة
و أخلف وعدا ، و استحلّ محرما
فإن تكنِ الأيامُ أخنت بصرفها
عليّ، فأيُّ النّاسِ يبقى مُسلّما
و إني لأدري أنّ عاقبة  الأسى
ـ وإِن طال ـ لا يُروِي غلِيلا تضرّما
ولكِنّها نفس ترى الصّبر سُبّة
عليها، وترضى بِالتّلهُّفِ مغنما
وكيف أرانِي ناسِيا عهد خُلّة
ألفتُ هواها : ناشئا ، و محكما
ولولا ألِيمُ الخطبِ لم أمرِ مُقلة
بِدمع، ولم أفغر بِقافِية  فما
فيا ربة  القبرِ الكريمِ بما حوى
وقتكِ الرّدى نفسِي وأين وقلّما
وهل يستطِيعُ المرءُ فِدية  راحِل
تخرّمهُ المِقدارُ فِيمن تخرّما
سقتكِ يدُ الرضوانِ كأس كرامة
من الكوثرِ الفياضِ معسولة  اللمى
و لا زال ريحانُ التحية ِ ناضرا
عليكِ ، و هفافُ الرضا متنسما
لِيبكِ عليكِ القلبُ، لا العينُ؛ إِنّنِي
أرى القلب أوفى بالعهودِ و أكرما
فواللهِ لا أنساكِ ما ذرّ شارق
وما حنّ طير بِالأراكِ مُهينِما
عليك سلام لا لِقاءة  بعدهُ
إِلى الحشرِ إِذ يلقى الأخِيرُ المُقدّما

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق