2014-10-03

ولقــــــد خلقنـــا الإنســــان من صلصـــــــــــال من حمـأ مسنــــون


 

ولقــــــد خلقنـــا الإنســــان من صلصـــــــــــال من حمـأ مسنــــون

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

 

لقد ذكرنا في الباب السابق أن الحياة على الأرض، لا بد أنها قد بدأت على شكل كائن حي بدائي مكون من خلية واحدة فقط، له القدرة على إنتاج نسخة جديدة عن نفسه بنفسه وقادر كذلك على تصنيع جميع المواد العضوية التي تلزم لبنائه وتمده بالطاقة التي تلزمه. ومن هذا الكائن البدائي خلق الله جميع أنواع الكائنات الحية التي تعيش على الأرض اليوم، وذلك وفق خطة تطور معقدة، ولكنها بالغة الإتقان. وذكرنا كذلك أن هذا الكائن الحي البدائي لم يظهر للوجود فجأة، بل امتدت عملية تصنيعه على فترة  محددة  من الزمن لا يعلم طولها على وجه التحديد إلا الله. وبما أن الله سبحانه وتعالى شاء لحكمة أرادها أن لا يخلق هذا الكائن البدائي من خلال قوله له كن فيكون وهو القادر على ذلك، فلا بد أن عملية خلقه قد تمت وفق طريقة علمية محددة  تظهر مدى علم الله وقدرته. وقد تمكن البشر في هذا العصر من إدراك هذه الحكمة البالغة التي أرادها الله من وراء خلقه للكائنات الحية بهذه الطريقة العلمية والتي تستخدم القوانين الطبيعية التي أودعها الله مكونات هذا الكون. ولكي يؤكد الله للناس على أنه خلق الحياة على الأرض وفق أسس علمية محددة، فقد أمرهم في السير في الأرض لمعرفة الطريقة التي بدأت بها الحياة على الأرض، وذلك في قوله تعالى "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق".

وقد ذكرنا أن القرآن الكريم قد أشار إلى أربعة مراحل رئيسية لتطور الحياة على الأرض، وهي المراحل المتعلقة بما سماه علماء التطور بالتطور الكيميائي للحياة أيّ المراحل التي تحول بها تراب الأرض الميت إلى أول شكل من أشكال الحياة. وهذه المراحل هي مرحلة الطين اللازب، ومرحلة الحمأ المسنون، ومرحلة الصلصال الذي كالفخار، ومرحلة سلالة الطين. إن الهدف من ذكر الله لهذه المراحل في القرآن الكريم هو لحث الناس على كشف هذه المراحل، وكذلك ليستيقن غير المؤمنين بالله إذا ما تمكنوا من كشف أسرار هذه المراحل، ويقارنوها بما جاء في القرآن الكريم من أن هذا القرآن حق، وأنه منزل من لدن عليم خبير. ولقد شرحنا في الباب السابق أول مرحلة من هذه المراحل وهي مرحلة الطين أو الطين اللازب لقوله تعالى "وبدأ خلق الإنسان من طين" حيث ذكرنا أن هذا الطين كان يتكون من خليط من الماء وتراب الأرض الذي يحتوى على مختلف العناصر والمركبات غير العضوية اللازمة لتصنيع المواد العضوية التي تلزم للكائنات الحية. وسنشرح في هذا الباب المرحلتين التاليتين من مراحل التطور الكيميائي للحياة وهما مرحلة الحمأ المسنون ومرحلة الصلصال الذي كالفخار التي جاء ذكرها في قوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون" الحجر 26.  

وقبل أن نبدأ شرح أحداث هاتين المرحلتين لا بد من شرح مبسط لتركيب المواد العضوية، ومن ثم شرح الطريقة التي يتم بها تصنيع هذه المواد داخل الخلايا الحية، وذلك لأن هذه المراحل لا يمكن فهم أحداثها إلا على ضوء فهم تركيب هذه المواد العضوية وطرق تصنيعها. تحتاج الكائنات الحية لبناء أجسامها ولإمدادها بالطاقة لأربعة أنواع رئيسية من المواد العضوية وهي: البروتينات والأحماض النووية والكربوهيدرات والدهون. وسنقصر الشرح على أهم هذه المواد العضوية وهي البروتينات والأحماض النووية. تتكون البروتينات من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية التي يبلغ عدد أنواعها في الكائنات الحية عشرين نوعا، ويتراوح طول هذه السلاسل ما بين عدة عشرات وعشرات الآلاف من هذه الجزيئات. ويتم اختيار أنواع  الأحماض الأمينية ومواقعها في هذه السلسلة بمنتهى الدقة، بحيث تحدث تجاذبا أو تنافرا بين هذه المواقع ممّا يؤدي إلى التفاف وطي هذه السلاسل على بعضها البعض بطريقة محددة، منتجة شكلا ثلاثي الأبعاد له من الخصائص الميكانيكية والكيميائية والكهربائية المميزة التي تمكنه من القيام بالوظيفة التي صنع من أجلها.

 وكما أنه ليس كل الكلمات التي يتم تأليفها من ترتيب الأحرف الهجائية يكون لها معنى، فإنه ليس كل ترتيب للأحماض الأمينية  ينتج  بروتين يمكنه القيام بوظيفة محددة كما أثبت ذلك العلماء  في أبحاثهم. وإذا كانت احتمالية تكون جملة مفيدة مكونة من عدة كلمات بالصدفة شبه مستحيلة، فإن تكون بروتين الأنسولين الذي هو أحد أقصر البروتينات المعروفة، والذي يبلغ طوله خمسين حمضا أمينيا من خلال الصدفة، يكاد أن يكون مستحيلا. ولتوضيح مدى الدقة التي يتطلبها ترتيب الأنواع المختلفة من الأحماض الأمينية في سلسلة بروتين معين، فقد اكتشف العلماء أن وجود خطأ واحد في أحد  الأحماض الأمينية المكونة لبروتين الهيموجلوبين الموجود في خلايا الدم الحمراء، والمكون من خمسمائة وأربعة وسبعين حمضا أمينيا، قد تسبب في تقليل قدرة هذا البروتين على الإمساك بجزيء الأوكسجين، ونقله من الرئة إلى خلايا الجسم المختلفة بما يسمى مرض فقر الدم. وللقارئ أن يتخيل قياسا على هذا المثل  فداحة العواقب المترتبة على حدوث مثل هذه الأخطاء بمعدلات عالية في ترتيب الأحماض الأمينية  لعشرات الآلاف من أنواع البروتينات التي تحتاجها الكائنات الحية للقيام بالوظائف الحيوية المختلفة.

ونظرا لطول سلاسل البروتينات  فإن عدد البروتينات النافعة التي يمكن تصنيعها من ترتيب الأحماض الأمينية العشرين يفوق أضعافا مضاعفة عدد الكلمات المفيدة التي يمكن تركيبها من الأحرف الهجائية العربية، وذلك لأن طول السلسلة التي يتكون منها البروتين يزيد عن خمسين وقد يصل إلى خمسين ألف حمض، بينما لا يتجاوز طول الكلمة العربية العشرة أحرف. وبسبب وجود هذا العدد الهائل من أنواع البروتينات النافعة نجد هذا التنوع الهائل في أشكال وألوان وروائح وتراكيب الكائنات الحية التي يزيد عدد أنواعها عن عدة ملايين. فهناك البروتينات التي تدخل في بناء خلايا أعضاء الحيوانات كالجلد واللحم والعظم والشعر والريش والأظفار والغضاريف والقلب والكبد والرئة والمعدة والعين والأذن وغير ذلك من الأعضاء. وهنالك البروتينات الموجودة في أوراق  وأزهار وثمار وبذور النباتات التي تتفاوت تفاوتا كبيرا في ألوان وروائح أزهارها وطعم ثمارها وبذورها. وهناك البروتينات التي تقوم بالعمليات الكيميائية والحيوية في داخل الخلايا الحية المختلفة كالأنزيمات والهرمونات التي لا حصر لعدد أنواعها.

أما الأحماض النووية  فتتكون كذلك من سلاسل طويلة تبنى باستخدام ستة أنواع من الجزيئات، اثنين منها لبناء السلسلة الجانبية التي يتم تثبيت الأحرف الوراثية عليها، والأربعة الباقية والتي تسمى النيوكليدات يتم ترتيبها على شكل شيفرات، تستخدم لكتابة المعلومات الوراثية التي تحدد مواصفات الكائنات الحية المختلفة. إن أكثر ما أثار دهشة العلماء عند اكتشافهم الطريقة التي تم  بها كتابة المعلومات على شريط الحامض النووي هو أن الشيفرة الوراثية في جميع الكائنات الحية، ابتداء من الفيروسات وانتهاء بالإنسان،  لها نفس الطول حيث تتألف من ثلاث أحرف ومكتوبة بنفس نوع الأحرف والتي يبلغ عددها أربعة أحرف وهي النيوكليدات الأربعة. وقد قاد هذا الاكتشاف العظيم  العلماء إلى  حقيقة بالغة الأهمية، وهي أنه لا يمكن أن يتم هذا الأمر إلا إذا كانت جميع الكائنات الحية قد تطورت من أصل واحد، ونزيد على هذه الحقيقة حقيقة أخرى وهي أن الذي قام بكتابة هذه الشيفرة الموحدة لا بد وأن يكون واحدا.

 أما الاكتشاف الأكثر إثارة فهو  توصل العلماء إلى  أن كل كلمة من الكلمات المكتوبة على شريط الحامض النووي، ما هي إلا شيفرة تمثل أحد الأحماض الأمينية العشرين التي تلزم لتصنيع جميع أنواع البروتينات الموجودة في مختلف أنواع الكائنات الحية. وبما أنه قد تأكد للعلماء استحالة أن تبني البروتينات نفسها بنفسها بالصدفة، فإنه لا بد في هذه الحال من وجود برنامج على شريط الحامض النووي  يحدد نوع وطريقة ترتيب الأحماض الأمينية اللازمة لتصنيع البروتين المطلوب. وما هذه البرامج المسؤولة عن تصنيع البروتينات  إلا الجينات الوراثية الموجودة على الكروموسومات حيث يوجد على كل كروموسوم عدد كبير من الجينات المسؤولة عن تصنيع مختلف أنواع البروتينات حيث يتراوح عدد الجينات في الكائنات الحية بين عدة جينات كما في الفيروسات وما يقرب من مائة ألف جين في الإنسان. أما تصنيع بقية المواد العضوية كالكربوهيدرات والدهون فهو أسهل من تصنيع البروتينات والأحماض النووية، حيث أنها تتكون من سلاسل قصيرة نسبيا بسيطة التركيب، يتكرر فيها نفس النوع من الجزيئات على طول السلسلة.

ومن الألغاز التي حيرت العلماء لردح طويل من الزمن، اللغز المتعلق بالكيفية التي يقوم به شريط الحامض النووي تصنيع البروتينات، وهو شريط لا حول له ولا قوة ولا يمتلك إلا المعلومات التي تبين طريقة تصنيع البروتين. وهذا الشريط حاله كحال وسائل تخزين المعلومات المستخدمة في الحاسوب التي لا فائدة من معلوماتها إن لم تجد أجهزة ومعدات تقوم بقراءتها وترجمتها وتنفيذ تعليماتها. وقد تمكن العلماء من حل هذا اللغز من خلال تحديد الآلية التي يتم بها تصنيع البروتينات تحت إشراف شريط الحامض النووي، فقد اكتشف هؤلاء  العلماء وجود مصانع لهذه البروتينات تنتشر في سيتوبلازم الخلية  أطلقوا عليها اسم الرايبوسومات. وقد وجد العلماء أن جميع الرايبوسومات في الكائنات الحية لها نفس التصميم وبإمكانها تصنيع أيّ نوع من أنواع البروتينات التي قد يصل عددها إلى مئات الآلاف، وتعمل هذه الرايبوسومات بآلية قد لا تتوفر في أحدث المصانع الحديثة، رغم أنها من الصغر بحيث لا يمكن رؤيتها بأقوى الميكروسكوبات الضوئية. إن كل ما يحتاجه مصنع البروتينات لتصنيع بروتين ما، هو تزويده بكميات كافية من الأحماض الأمينية بأنواعها العشرين، ونسخة عن التعليمات التي تبين ترتيب هذه الأحماض الأمينية والمخزنة على شريط الحامض النووي الوحيد الموجود في داخل نواة الخلية وكمية كافية من الطاقة. وبما أن شريط الحامض النووي الرئيسي في أيّ خلية حية لا يمكنه مغادرة نواة الخلية إلى السيتوبلازم، حيث توجد مصانع البروتينات، وذلك بسبب كبر حجمه الذي يحول دون مروره من خلال مسامات الغشاء النووي.  فلا بد إذا والحال هذا من وجود وسيلة تقوم بأخذ نسخة من التعليمات الموجودة على شريط الحامض النووي الرئيسي ونقلها إلى مصانع البروتينات.

وقد تمكن العلماء من تحديد هذه الوسيلة فوجدوها عبارة عن شريط حامض نووي أحادي السلسلة، يمكنه حمل الشيفرات الوراثية التي تمثل الأحماض الأمينية وطريقة ترتيبها، وقد أطلقوا عليه اسم شريط الحامض النووي المراسل. فعندما تحتاج الخلية لتصنيع بروتين معين يقوم إنزيم خاص بهذا البروتين  بفتح سلسلتي شريط الحامض النووي الرئيسي في الجزء الذي يوجد فيه الجين المسؤول عن إنتاج هذا البروتين ومن ثم يقوم الشريط المراسل بأخذ نسخة عن هذه التعليمات ويغادر نواة الخلية بما يحمل من تعليمات ليسلمها لمصنع البروتينات. وقد اكتشف العلماء أيضا وجود أشرطة قصيرة من الأحماض النووية تسبح في سيتوبلازم الخلية تختلف عن الأشرطة الرئيسية أو المراسلة بقدرتها على الارتباط بنوع واحد فقط من الأحماض الأمينية أيّ أن لكل حامض أميني هنالك شريط خاص به. وقد تبين للعلماء أن مهمة هذه الأشرطة هو نقل الأحماض الأمينية من أنحاء الخلية إلى مصانع البروتينات، ولذلك  أطلقوا عليها اسم الأحماض النووية الناقلة حيث تحمل على أحد شقيها أحد الأحماض الأمينية وعلى الشق الآخر الشيفرة المناظرة لهذا الحامض الأميني. ويتم تصنيع البروتين بمجرد وصول الشريط المراسل إلى مصنع البروتينات حيث يقوم بإدخال أحد طرفية في فجوة هذا المصنع التي تتسع لشيفرة واحدة فقط والتي تتكون من ثلاث أحرف وعندما يصل أحد الأشرطة الناقلة بحمولته إلى مصنع البروتينات يصطف بازائها  ويقوم بفحص  شيفرة الشريط المراسل الموجودة في داخل فجوة المصنع  فإن تطابقت مع الشيفرة التي يحملها ألقي بالحامض الأميني الذي يحمله ليتركه يلتصق بالشريط المراسل ومن ثم يتحرك المصنع على طول الشريط المراسل ليقف على الشيفرة التالية ويكرر نفس العملية حتى يكتمل ترتيب جميع الأحماض الأمينية في سلسلة البروتين المطلوب. وبمجرد أن ينتهي المصنع من ربط سلسلة الأحماض الأمينية المكونة لهذا البروتين ببعضها البعض يقوم بتركها لتبدأ بالالتفاف على نفسها بطريقة محددة لتنتج شكل ثلاثي الأبعاد له خصائص ميكانيكية وكيميائية تحدد مواصفات البروتين المطلوب.

لقد ذكرنا فيما سبق أن جميع المواد العضوية المركبة الموجودة في أجسام الكائنات الحية تتكون من وحدات أساسية وهي مواد عضوية بسيطة، لا يتجاوز عدد الذرات في جزيئاتها عدة عشرات. وقد تيقن علماء التطور أن أول مراحل تطور الحياة على الأرض هي مرحلة تصنيع هذه المواد العضوية البسيطة مباشرة من تراب الأرض. ولذلك فقد انصب جهد هؤلاء العلماء على دراسة تركيب هذه المواد العضوية البسيطة ومحاولة تصنيعها، لعل ذلك يساعدهم في معرفة الكيفية التي توفرت فيها في الطبيعة قبل أن تظهر الكائنات الحية التي تقوم بتصنيعها بمنتهى السهولة في أجسامها. ومن السهل الاستنتاج  أن تكون مرحلة الحمأ المسنون التي ورد ذكرها في القرآن الكريم هي مرحلة تصنيع هذه المواد العضوية البسيطة من تراب الأرض بشكل مباشر. فقد ذكر الله مرحلة الحمأ المسنون كأحد مراحل خلق الإنسان في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم وفي نفس السورة، وذلك في قوله سبحانه "ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون" الحجر 26 وفي قوله تعالى "وإذ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون" الحجر 28. وفي قوله تعالى "قال يا إبليس ما لك ألاّ تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون" الحجر 32-33. ويتضح من هذه الأيات القرآنية أن مرحلة الحمأ المسنون  جاءت قبل مرحلة الصلصال وبعد مرحلة الطين، وذلك لأن  القرآن الكريم قد ذكر أن الطين أو الطين اللازب هو أول مراحل تطور الحياة على الأرض، كما شرحنا ذلك في الباب السابق.

إن وجود مرحلة الحمأ المسنون بين مرحلة الطين ومرحلة الصلصال يدحض الرأي القائل بأن الله قد خلق الكائنات الحية من خلال عجن التراب بالماء لينتج منه الطين الذي تركه ليجف في الشمس ليصبح صلصالا كالفخار، حيث لا يوجد أيّ دور للحمأ المسنون في مثل عملية الخلق هذه. ويمكن أن نستنتج  من اسم هذه المرحلة بأن تغيرا ما قد طرأ على الطين اللازب، فحوله إلى شكل جديد من أشكال الطين وهو الحمأ المسنون. والحمأ هو الطين الأسود والمسنون هو الآسن ويشير معني هاتين الكلمتين إلى أن تحولا ما قد طرأ على الطين ليصبح طينا أسودا تفوح منه رائحة منتنة. ويمكن للقارئ أن يتخيل شكل هذا الحمأ المسنون بمقارنته ببقايا البرك التي تتكون بعد فصل الشتاء في الأماكن المنخفضة وقد شارفت على الجفاف. وما وصف الله لهذا الحمأ بأنه آسن إلا ليذكر المهتمين بكشف أسرار الحياة من علماء الأحياء بوجود مواد عضوية في هذا الطين الأسود، فهم يعرفون تمام المعرفة أن الطين لا يأسن إلا إذا اختلط بالمواد العضوية التي غالبا ما ينبعث منها رائحة كريهة نتيجة لتحللها.

 لقد بقي علماء التطور فترة طويلة من الزمن في حيرة من أمرهم حول الطريقة التي توفرت من خلالها المواد العضوية التي صنع منها أول كائن حي ظهر على الأرض، وذلك بعد أن تأكد لهم استحالة تصنيع مثل هذه المواد العضوية في ظروف الأرض الحالية. وقد أدرك العلماء أنه لكي يتم تصنيع المواد العضوية المعقدة التي تلزم لتصنيع الكائن الحي الأولي كان لا بد من تصنيع المواد العضوية البسيطة التي تبنى منها مختلف أنواع المواد العضوية المعقدة كالبروتينات والأحماض النووية. وقد أصيب العلماء بخيبة أمل عند ما اكتشفوا أن هذه الجزيئات العضوية البسيطة لا يمكن للطبيعة أن تصنعها خارج أجسام الكائنات الحية، رغم أن عدد الذرات في أكبر هذه الجزيئات لا يتجاوز عدة عشرات. وحتى عندما حاول العلماء تصنيع هذه الجزيئات العضوية البسيطة في مختبراتهم فشلوا فشلا ذريعا في إنجاز هذه المهمة، باستثناء بعض الجزيئات البسيطة التي تم تصنيعها عند درجات حرارة عالية جدا وتحت ظروف معقدة. وفي مقابل هذا العجز من قبل العلماء نجد أن الكائنات الحية تقوم بتصنيع مئات الآلاف من مختلف أنواع المواد العضوية البسيطة منها والمعقدة وبكميات ضخمة داخل أجسامها وعند درجات حرارة الجو.

وبناءً على الشرح السابق،  فإن اللغز الأول من ألغاز الحياة الذي يجب على العلماء كشفه هو معرفة الكيفية التي تم بها تصنيع المواد العضوية البسيطة والتي تلزم لتصنيع المواد العضوية المعقدة التي تلزم لتصنيع خلايا وأجسام الكائنات الحية. وبسبب همة العلماء العالية وإصرارهم على فك ألغاز هذا الكون بما فيها  لغز الحياة على الأرض، فقد تمكن علماء التطور من حل أول لغز من ألغاز ظهور الحياة على الأرض، وهو طريقة تصنيع المواد العضوية البسيطة من المواد غير العضوية الموجودة في تراب الأرض. فقد تبين للعلماء أن جو الأرض عند بداية تكونها يختلف تماما عن جوها الحالي، حيث كان يتكون من غازات الميثان والأمونيا والهيدروجين وبخار الماء بينما يتكون جوها الحالي من الأوكسجين والنيتروجين وثاني أكسيد الكربون. ولقد شرحنا في  باب قوله تعالى "قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين"، وباب قوله تعالى "وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام" أن الأرض لم تكن على الصورة التي هي عليها الآن منذ بداية خلقها، بل مرت بمراحل تطور مختلفة قبل أن تستقر على الحال التي هي عليه الآن.

 فبعد أن استقرت الأرض التي كانت كرة ملتهبة في مدارها المحدد حول الشمس وذلك خلال اليومين الأولين  من أيام الخلق الستة بدأت عملية تجهيز الأرض لكي تكون مهيأة لظهور الحياة عليها. وفي مرحلة تقدير الأقوات، وهي الأيام الأربعة الأخيرة من أيام الخلق الستة تكونت القارات والمحيطات والجبال والأنهار والغلاف الجوي وانتظام دورة الليل والنهار، وذلك مصداقا لقوله تعالى "قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين"  فصلت 9-10". وكما أن ما على الأرض من موجودات غير حية لم تظهر فجأة، بل تكونت بشكل تدريجيي على مدى أيام تقدير الأقوات الأربعة فإن مكونات الحياة كذلك لم تتكون فجأة، بل احتاجت لمدة طويلة من الزمن لا يعلم طولها على وجه التحديد إلا الله. وبما أن المواد العضوية لا يمكن أن تبقى على حالها عند درجات الحرارة العالية فمن غير المعقول أن تكون قد ظهرت مع ظهور الأرض التي كانت كرة ملتهبة بل لا بد أنها قد تكونت بعد أن برد سطح الأرض وتكونت القشرة الأرضية.

ويقول العلماء أنه من المحتمل أن تكون الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس والتفريغ الكهربائي الناتج عن البروق قد عملت على تصنيع المواد العضوية البسيطة من غازات الميثان والأمونيا والهيدروجين وبخار الماء الموجودة  في جو الأرض الأولي. وقد قام أحد العلماء في محاولة لإثبات هذه الفرضية بتصميم تجربة تحاكي جو الأرض الأولي، حيث ملأ وعاء زجاجيا محكم الإغلاق إلى نصفه بالماء، ليمثل بحار الأرض وملأ النصف المتبقي بالغازات التي افترض العلماء أنها كانت تكون جو الأرض الأولي، وهي غازات الميثان والأمونيا والهيدروجين وبخار الماء ثم أدخل في الإناء جهاز كهربائي لتوليد شرارات كهربائية  تمثل ظاهرة البرق. وقد قام هذا العالم بتشغيل مولد الشرارات الكهربائية وتركه يعمل بشكل متواصل لعدة أيام، ليجد بعدها أن الماء الشفاف قد تغير لونه إلى الأصفر المحمر ممّا يدل على أن مواد معينة قد تكونت وذابت في هذا الماء. وعندما قام هذا العالم بفحص المواد الذائبة في الماء وجد أنها تتكون من عدة أنواع من المواد العضوية الأساسية كبعض أنواع الأحماض الأمينية والنووية. وبهذه التجربة تمكن العلماء من فك أول لغز من ألغاز ظهور الحياة على الأرض، حيث تأكد لهم إمكانية تكون المواد العضوية الأساسية اللازمة للحياة في ظروف أرضية محددة.

ويقول بعض العلماء أن جو الأرض الأولي ليس هو المصدر الوحيد لهذه المواد العضوية، فقد ذهب بعضهم إلى أن هذه المواد قد تكونت في قاع المحيطات عند حواف البراكين حيث ساعدت الحرارة على إتمام التفاعلات الكيميائية بين المواد غير العضوية الذائبة في مياه المحيطات. وأيا كان مصدر هذه المواد العضوية البسيطة، فقد بدأت بالتراكم والترسب بكميات كبيرة في البرك والبحيرات والمحيطات لتلتصق بالطين الموجود في  قيعانها، مكونة الحمأ المسنون الذي ذكره القرآن الكريم كأحد مراحل الخلق. ولقد أطلق علماء التطور اسم الحساء البدائي على هذا الماء أو الطين الممتلئ بمختلف أنواع المواد العضوية البسيطة. وعند مقارنة هذه التسمية مع التسمية القرآنية وهي الحمأ المسنون نجد أن التسمية القرآنية أدق من تسمية علماء التطور، فالتسمية القرآنية أعطت صفتين لهذا الطين، وهما لونه وطبيعته. فالحمأ كما هو معروف هو الطين الأسود والمسنون هو الطين الآسن الذي تفوح منه الروائح الكريهة. أما تسمية العلماء لهذا الطين فلا يوجد فيها ما يوحي بطبيعة هذا الطين، بل إن كلمة الحساء قد توحي بأن هذا الخليط هو ماء فيه بعض المواد الذائبة وبعض الشوائب وليس طينا. ولو أتيحت الفرصة لعقلاء  علماء التطور للإطلاع على التسمية القرآنية لما ترددوا في اختيارها عنوانا لهذه المرحلة من مراحل تطور الحياة على الأرض.

إن توفر المواد العضوية الأساسية بطريقة ما على سطح الأرض عند أول نشأته لا يعني أنا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من تصنيع الكائن الحي البدائي، بل إن الأمر أعقد من ذلك بكثير. فعلماء الأحياء يعترفون أنهم لو قاموا بجمع آلاف الأطنان من كل نوع من أنواع المواد العضوية البسيطة منها والمركبة وخلطوها خلطا تاما وعزلوها عزلا تاما وتركوها لأمد طويل لما تمكنوا من صنع كائن حي بدائي مكون من خلية واحدة. ولا بد هنا أن يبرز في ذهن القارئ سؤال بالغ الأهمية يتعلق فيما إذا كانت هذه المواد العضوية البسيطة  قد تكونت على الأرض بالصدفة أم أن هناك  قوة عاقلة تقف وراء تصنيعها. فعلماء التطور يقولون أن هذه المواد العضوية البسيطة قد تكونت  بالصدفة بعد أن توفرت الظروف المناسبة على سطح هذه الأرض،  وممّا يؤكد مثل هذا الاعتقاد عندهم هو التجربة التي صممها أحد علمائهم لإنتاج بعض المواد العضوية البسيطة. ولكن هذه التجربة البسيطة  تدحض زعم أنصار التطور من حيث لا يشعرون، فهم لا يدركون حقيقة أنه إذا كان بمقدور علماء التطور تصميم جهاز صغير في داخل المختبر يحاكي ظروف الأرض الأولية لإنتاج بعض هذه المواد العضوية البسيطة وليس كلّها، فإن هناك من هو أقدر منهم على تصميم كامل جو الأرض ليكون مهيأ لإنتاج  جميع المواد العضوية اللازمة لظهور الحياة عليها، وصدق الله العظيم القائل "وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا".

وممّا يؤكد على أن تصنيع المواد العضوية البسيطة قد تم تحت إشراف قوة عاقلة هو أن جميع أنواع المواد العضوية البسيطة التي تحتاجها الكائنات الحية والتي تعد بالمئات قد تم تصنيعها في جو الأرض الأولي. ففي هذا الجو الأولي تم تصنيع الأحماض الأمينية العشرين التي تلزم لتصنيع البروتينات والنيكليودات الأربعة، التي تلزم لتصنيع الأحماض النووية والسكريات البسيطة والأحماض الدهنية التي تلزم لتصنيع الكربوهيدرات والدهون وإلى غير ذلك من المواد العضوية البسيطة.  ولو أن جو الأرض الأولي قد ترك للصدفة لتصممه وفشلت في تصنيع مادة واحدة فقط من هذه المواد العضوية الأساسية، فمن المؤكد أن الحياة لن تظهر على الأرض أبدا. فعلى سبيل المثال فإن شريط الحامض النووي الذي لا يمكن للحياة أن تظهر بدونه لا يمكن تصنيعه في حالة غياب أحد النيكليودات الأربعة، وكذلك هو الحال مع البروتينات في غياب بعض الأحماض الأمينية كما سنبين ذلك في باب قوله تعالى "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون". ولو أن هناك أيّ احتمالية لتصنيع كائنات حية بعدد أقل أو أكثر من الأحماض الأمينية أو النيوكليودات الموجودة  في الكائنات الحية الموجودة على الأرض الآن لكان من الممكن أن تظهر هذه الكائنات جنبا إلى جنب مع الكائنات الحية الحالية. وعلى الرغم من تعقيد جو الأرض الأولي وكثرة العوامل التي تساهم في تحديد مكوناته فقد تم تصميمه بشكل بالغ الدقة، بحيث أنتج جميع ما تحتاجه الكائنات الحية من المواد العضوية الأساسية عند بداية تكونه، ومن ثم تم تغيير مكونات هذا الجو في وقت لاحق لتفي بمتطلبات الكائنات الحية التي ستبنى من هذه المواد العضوية.

لقد كان من الممكن لو ترك الأمر للصدفة  أن تجعل مكونات جو الأرض منذ بداية تكونه كما هي عليه الآن وعلى هذا فمن المستحيل أن يتم تصنيع المواد العضوية الأساسية في مثل هذا الجو. وكذلك فلو بقيت مكونات جو الأرض على الحال الذي كانت عليه عند تكونه فلن تظهر الكائنات الحية التي نشاهدها على الأرض الآن رغم توفر المواد العضوية اللازمة لتصنيعها. ولو سألت علماء التطور عن سبب فشلهم في إنتاج جميع المواد العضوية اللازمة للحياة في داخل مختبراتهم  لقالوا لك: إن خلق جو في داخل المختبرات يحاكي جو الأرض الأولي، يحتاج لمزيد من الدراسات والأبحاث من قبل علماء أذكياء. وبهذا الجواب فإن علماء التطور يناقضون أنفسهم بأنفسهم، فتصميم التجارب التي يقومون بها تحتاج لأجهزة ومعدات بالغة التعقيد وتحت إشراف عقول بالغة الذكاء أما تصميم الجو الأرض الأولي على ما فيه من تعقيد فقد قامت الصدفة بتصميمه بمنتهى السهولة فأنتجت كل ما يلزم من مواد عضوية أساسية لظهور الحياة على الأرض.

وممّا يؤكد على أن الصدفة لم تلعب أيّ دور في تطور الحياة على الأرض هو أن خلايا الكائنات الحية الحالية تنتج جميع هذه المواد العضوية اللازمة لها بطريقة لا مجال للصدفة لأن تتحكم فيها ولو كان للصدفة أيّ دور لتركت بعض الآثار التي تدل على ذلك. ففي داخل خلايا هذه الكائنات توجد مكونات بالغة الصغر لا ترى بأقوى الميكروسكوبات تقوم بتصنيع كل ما يلزمها من مواد عضوية بأقل طاقة ممكنة. فعلى سبيل المثال تقوم البلاستيدات الخضراء الموجودة في أوراق النباتات بتصنيع سكر الجلوكوز من ثاني أكسيد الكربون والماء وباستخدام الطاقة الشمسية والتي يتم تخزين كميات كبيرة منها في الروابط الكيميائية لهذا السكر وذلك لإمداد جميع أنواع الكائنات الحية بالطاقة التي تحتاجها. ولو كان بإمكان العلماء تصنيع سكر الجلوكوز بنفس هذه الطريقة لتم حل مشكلة الغذاء والطاقة التي يعاني منها البشر إلى الأبد بسبب توفر الطاقة الشمسية والمواد الخام اللازمة بكثرة في الطبيعة. إن وقوف العلماء المعاصرين عاجزين عن تصنيع أبسط المواد العضوية الأساسية وهو سكر الجلوكوز رغم علمهم بتركيبه ورغم الإمكانات التكنولوجية الضخمة لهو دليل واضح على مدى علم وقدرة من قام بتصنيع مكونات الخلية التي تنتج هذه المواد بكل سهولة ويسر. وإذا كان هذا الحال مع المواد العضوية البسيطة من حيث صعوبة تصنيعها من قبل البشر فماذا سيكون الحال مع تصنيع المواد العضوية المعقدة كالبروتينات والأحماض النووية التي تتكون من مئات أو آلاف الوحدات الأساسية، وذلك على شكل سلاسل طويلة يتم ترتيب هذه الوحدات فيها بشكل بالغ الدقة كما شرحنا ذلك قبل قليل.

ونأتي الآن  على شرح المرحلة الثالثة من مراحل تحول التراب إلى أول شكل من أشكال الحياة وهي مرحلة الصلصال التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. فقد أكد القرآن أن هذه المرحلة قد جاءت بعد مرحلة الحمأ المسنون كما في قوله تعالى "وإذ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون" الحجر 28. بينما بينت آية أخرى طبيعة هذا الصلصال فأشارت إلى أنه أشبه ما يكون بالفخار كما في قوله تعالى "خلق الإنسان من صلصال كالفخار" الرحمن 14. وفي تفسيرهم لهذه الأيات القرآنية، فإن بعض أنصار الخلق المباشر يعتقدون أن مرحلة الصلصال المذكورة في هذه الأيات هي المرحلة التي تحول بها الطين الطري بعد تشكيله على هيئة إنسان إلى صلصال جاف كالفخار، وذلك بعد تجفيفه تحت أشعة الشمس. ولو أن  أمر تحديد مراحل تطور الحياة على الأرض قد ترك لبشر كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لما كان هنالك حاجة لذكر مرحلة الحمأ المسنون، فالطين لكي يتحول إلى صلصال لا يحتاج لمثل هذه المرحلة الغريبة، إذا ما كان خلق الإنسان قد تم حسب ما يتصور بعض أنصار الخلق المباشر. وحتى لو صح أن الله قد خلق الكائنات الحية بهذه الطريقة البسيطة فإنه لا سبيل للبشر أن يكتشفوا هذه الطريقة إذا ما ساروا في الأرض، حيث أنها حدثت بمعجزة من خلال قول الله للصلصال كن إنسان فكان. ولا يوجد كذلك أيّ حكمة من وراء خلق الإنسان بهذه الطريقة البسيطة، فالله أحكم من أن يصنع الإنسان وبقية الكائنات الحية بهذه الطريقة البسيطة، ومن ثم يكثر من ذكرها في القرآن ليدلل بها على مدى قدرته على الخلق ويطلب كذلك من البشر السير في الأرض لكي يكتشفوا هذه الطريقة، كما في قوله تعالى "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق".

وإذا كان أنصار الخلق المباشر يعتقدون أن طريقة خلق بقية الكائنات الحية هي نفسها التي خلق الله بها الإنسان، أيّ أن الله قام بتشكيل طين الأرض ليكون على هيئة كل نوع من أنواع الكائنات الحية التي تعد بالملايين، فإنهم باعتقادهم هذا لا يقدرون الله حق قدره، فطريقة الخلق هذه قد توحي للبشر بأنها طريقة طويلة ومتعبة وكان الأولى أن يقول الله لهذه الكائنات، كوني فستكون، وهو القادر على فعل ذلك سبحانه الذي لا يسأل عما يفعل. وأما بخصوص فيما إذا كان الله سبحانه قد صنع من الطين على هيئة الشكل الخارجي للكائنات الحية دون تشكيل ما في داخلها من أعضاء فإن الأمر سيان. طالما أن الله سينفخ في هذه الأشكال الصلصالية  فتكون كائنات حية بمختلف الأشكال والألوان كما نفخ عيسى عليه السلام في الطين الذي شكله على هيئة الطير، فتحول إلى طير حي بإذن الله. ولكن عيسى عليه السلام قد فعل هذا أمام أعين الناس ليثبت لهم أنه رسول من عند الله، أما خلق الله لهذه الكائنات الحية في وقت لم يكن فيه بشر  يشاهدون عملية الخلق بهذه الطريقة المعجزة فلا أظنها تحقق الحكمة التي أراد الله من البشر كشفها من خلال السير في الأرض، ليعرفوا كيف بدأ الخلق.

إن في الطريقة التي اختارها الله لخلق الكائنات الحية بما فيها الإنسان من حسن التقدير والتدبير ما يثبت أن من قام بتصميمها، لا حدود لعلمه وقدرته وأن هذه الطريقة قد تمت حسب قوانين وآليات يستطيع البشر كشفها إذا ما امتثلوا لأمر الله، فيسيروا في الأرض ليعرفوا كيف بدأت الحياة على الأرض. فعلماء البشر يقفون اليوم مندهشين ومنبهرين من طريقة تصنيع جميع أنواع الكائنات الحية ابتداء من خلية واحدة فقط،  تتحول بعد ملايين أو بلايين الانقسامات إلى كائنات حية في تركيب أجسامها من تعقيد التركيب ما لا زال العلماء يقفون عاجزين عن معرفة كثير من أسرارها. إن مثل هذه الدهشة ستصيب البشر إذا ما عرفوا أن جميع الكائنات الحية التي يشاهدونها على الأرض والتي يصل عدد أنواعها إلى عشرات الملايين قد تطورت من كائن حي بدائي مكون من خلية واحدة وذلك وفقا لآليات تطور معقدة لا زال علماء التطور يعملون جاهدين على فك ألغازها.

ونعود الآن لشرح ما توصل إليه علماء التطور بخصوص الدور الذي لعبه الصلصال في تحويل المواد العضوية البسيطة الموجودة في الحمأ المسنون إلى مواد عضوية معقدة  كالبروتينات والأحماض النووية. فبعد أن أجمع علماء التطور على أن  مرحلة الحمأ المسنون أو ما يسمى مرحلة الحساء البدائي، هي المرحلة التي تكونت بها المواد العضوية الأساسية في جو الأرض الأولي، بدأ العلماء بالبحث عن المرحلة التالية من مراحل تحول التراب إلى أول شكل من أشكال الحياة. وقد كان الرأي السائد بين علماء التطور في بداية الأمر أنه ونتيجة لوجود كميات ضخمة من المواد العضوية الأساسية  في الحساء البدائي، فقد بدأت هذه المواد البسيطة بالارتباط ببعضها البعض  لتكون مواد عضوية أكثر تعقيدا كالبروتينات والأحماض النووية. وقد يقتنع من لا علم عنده بتركيب المواد العضوية بمثل هذا الرأي كما سبق للناس في عصور الجهل أن تقبلوا فكرة أن الحشرات والضفادع تصنع من طين البرك وأن الديدان والذباب تتكون من اللحوم الفاسدة. ولكن هذا الرأي قد تم استبعاده تماما من قبل علماء التطور بعد أن تبين لهم استحالة تكون المواد العضوية المعقدة كالبروتينات والأحماض النووية في غياب الأنزيمات التي هي نوع من أنواع البروتينات والتي تحتاج كذلك لمن يصنعها. وهنا لا بد من القول بأنه من غير الإنصاف أن يتهم علماء التطور بأنهم يتلاعبون بنتائج دراساتهم وأبحاثهم، للتوافق مع نظرية التطور التي يؤمنون بها. ففي استبعاد هؤلاء العلماء لفكرة أن المواد العضوية المعقدة قد تم تصنيعها في داخل الحساء البدائي من المواد العضوية البسيطة أكبر دليل على عدم تحيزهم لنظريتهم.

 وبعد أن تم استبعاد هذا الرأي بشكل قاطع من قبل معظم علماء التطور بدأ البحث عن طريقة مقنعة تم من خلالها تصنيع المواد العضوية المعقدة في داخل هذا الحمأ المسنون. وقد وجه بعض هؤلاء العلماء مسار أبحاثهم في اتجاه لم يكن ليخطر على بال أحد فقد اكتشف بعضهم أن احتمالية تكون المواد العضوية المعقدة من المواد العضوية البسيطة المتوفرة بكثرة في الحساء البدائي، تزداد بشكل كبير فيما لو تمت على سطوح بعض المواد. وقد أجرى هؤلاء العلماء تجارب عملية لإثبات نظريتهم هذه، فوجدوا أن الأحماض الأمينية شبه الجافة التي تم ترسيبها على سطوح بعض المواد المتوفرة في الطبيعة، لها القدرة على تكوين مواد عضوية معقدة أسرع بكثير ممّا لو كانت مذابة في الماء. ووجدوا كذلك أن طبيعة هذه السطوح تلعب دورا مهما في تسريع عملية تكون المواد العضوية المعقدة من مكوناتها الأساسية فسطوح المواد المتبلورة أفضل من غيرها في هذا الخصوص. وقد وجد العلماء  أن السبب في ذلك يعود إلى أن البروتينات والأحماض النووية وبقية المواد العضوية  تتكون من سلاسل طويلة مكونة من وحدات أساسية تتكرر وفق ترتيبات محددة على طول هذه السلاسل، وكذلك هو الحال مع الأجسام البلورية حيث يوجد على أسطحها تراكيب دقيقة تعيد نفسها بأنماط مختلفة. واستنتج العلماء من هذا التشابه بين تركيب المواد العضوية وتركيب المواد المتبلورة، أنه من المحتمل أن المواد المتبلورة قد ساعدت في ربط وحدات المواد العضوية المعقدة على أسطحها، أيّ أنها تقوم بدور الأنزيمات.

وبعد هذا الاكتشاف الغريب بدأ علماء  التطور بالبحث في الطبيعة عن مختلف أنواع المواد المتبلورة التي قد تحتوي على مثل التراكيب الدقيقة التي تكرر نفسها بأنماط يحددها نوع المادة المتبلورة. وبعد أن قام العلماء بدراسة عدد لا بأس به من المواد المتبلورة المتوفرة بكثرة في الطبيعة وقع اختيارهم وبشكل غير متوقع على الصلصال المتبلور أو حسب التعبير القرآني الصلصال الذي كالفخار. يتميز الصلصال المتبلور على غيره من المواد البلورية بامتلاكه لأنماط متعددة من التكرار تتحدد من طبيعة المواد  التي صنع منها والظروف الذي يتعرض لها أثناء تكونه بينما لا تمتلك المواد البلورية الأخرى إلا عدد قليل من الأنماط. ويتكون الصلصال من شبكة بلورية من ذرات السيليكون والأكسجين والألمنيوم والهيدروجين مرتبة على شكل طبقات وقد يحدث عند تكون هذه الطبقات أن تحل ذرة ألمنيوم محل ذرة سيليكون فينتج عن ذلك أخطاء تركيبية في بنية الصلصال المتبلور. وقد وجد العلماء أن هذه الأخطاء التركيبية لها القدرة على إعادة نفسها عند تكون طبقات جديدة، ممّا يؤدي لظهور عدد كبير جدا من الأنماط التركيبية المختلفة. وتتضمن هذه التراكيب البلورية أنماط من الشحنات الكهربائية لها القدرة على جذب جزيئات المواد العضوية وخاصة النيوكليدات المكونة للحامض النووي من الماء المحيط بالصلصال وتساعدها بالارتباط ببعضها على سطح الصلصال.  وفي تأكيد القرآن الكريم على أن الصلصال الذي استخدم في خلق الحياة الأولى هو النوع الذي يشبه الفخار إشارة إلى ضرورة أن يكون الصلصال بالشكل المتبلور الذي يتطلبه تشكل المواد العضوية على أنماطه البلورية. ومن المحتمل أيضا أن تكون أبعاد البنى الدقيقة الموجودة في الصلصال الذي كالفخار متناسبة مع أبعاد الجزيئات العضوية، ممّا يساعدها على التراكب معها.

وقد اكتشف العلماء كذلك أن الصلصال المتبلور يمتلك خاصية فريدة وهي قدرته على تفريغ الطاقة التي تحويها جزيئاته في جزيئات المواد العضوية الملتصقة به ممّا مكنها من الارتباط ببعضها البعض وذلك عند تعرض هذا الصلصال لسلسلة من دورات التجفيف والترطيب. إن هذه الخواص الفريدة للصلصال المتبلور التي مكنته من تصنيع المواد العضوية المعقدة من مكوناتها البسيطة جعلته  يقوم مقام الأنزيمات في عملية تصنيع هذه المواد، وذلك في غياب الأنزيمات في تلك الحقّبة من تطور الحياة على الأرض. والأنزيمات كما هو معروف عبارة عن سلاسل بروتينية تلتف على بعضها لتنتج أشكالا هندسية تحتوي سطوحها على تجاويف بأبعاد محددة تتناسب مع أبعاد الجزيئات العضوية التي سيقوم هذا الإنزيم بربطها ببعضها. وقد وجد العلماء أن كل تفاعل كيميائي حيوي يحتاج لأنزيم خاص به حيث لا يمكن لأي إنزيم أن يقوم مقام إنزيم آخر لإتمام هذا التفاعل. وما ينطبق على الأنزيمات، لا بد وأن ينطبق على الصلصال الذي تقمص دور الأنزيمات في تلك الحقّبة التي لم يكن بها ثمة إنزيمات، أيّ أن سطحه أو حوافه يجب أن تحتوي على عدد كبير من الأنماط للتراكيب الدقيقة التي تقوم مقام الإنزيمات. وكما أن المواد العضوية التي يتم تصنيعها بمساعدة الإنزيمات تنفك عن الإنزيم بعد اكتمال التفاعل، فإن سلسلة الجزيئات العضوية التي تتكون على  حواف وأسطح الصلصال تقوم بمغادرة هذه السطوح والحواف بمجرد اكتمالها وتبدأ بالانتشار بالماء.            

إن ترتيب وحدات المواد العضوية الأساسية في سلسلة المادة العضوية  يتم حسب  ترتيب الأنماط الموجودة على سطح الصلصال، ونظرا لكثرة هذه الأنماط من حيث الترتيب والطول، فقد تم إنتاج أعداد كبيرة من المواد العضوية مختلفة الأشكال والأطوال. ولكن  العلماء وجدوا أن ليس كل ما ينتجه الصلصال من مواد عضوية معقدة تصلح لأن تكون جزيئات مفيدة لعملية تطور الحياة على الأرض  حيث أن كثير من هذه المواد تبدأ بالتحلل بعد فترة وجيزة من مغادرتها للصلصال بسبب تفكك روابطها الكيميائية. ويعتقد العلماء أن سلاسل الأحماض النووية هي الجزيئات الوحيدة التي يمكن لها أن تبقى لفترات طويلة بعد انفصالها عن الصلصال إذا ما توفرت فيها خاصية مهمة وهي قدرتها على إنتاج نسخ عنها بدون مساعدة الصلصال. وسنشرح الدور الذي لعبه الصلصال في تصنيع  سلاسل الأحماض النووية  في المرحلة التالية من مراحل التطور الكيميائي  وهي مرحلة سلالة الطين، وذلك في باب قوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين". وبمعرفة العلماء لهذا الدور المهم الذي لعبه الصلصال في تطور الحياة على الأرض تم حل اللغز الثاني من ألغاز الحياة، وهو طريقة تصنيع المواد العضوية المعقدة من المواد العضوية الأساسية التي  تكونت في جو الأرض الأولي.

وقد يستنتج القارئ من الشرح السابق عن دور الصلصال في نشأة الحياة على الأرض أن عملية إنتاج المواد العضوية المعقدة من مكوناتها البسيطة قد تمت بمحض الصدفة، فأنماط التراكيب الدقيقة الموجودة على أسطح الصلصال لا يوجد قانون يحكم ترتيباتها بل تتكون كيفما اتفق، وتبعا لذلك فإن المواد العضوية التي يتم إنتاجها على سطحه لا بد وأن يكون لها نفس الطبيعة العشوائية. ولكن المطلع على تركيب المواد العضوية المعقدة وما تحتاجه من تشكيلات هائلة لوحداتها الأساسية، يقدر مدى علم من اختار الصلصال ليكون القالب الذي سيستخدم لإنتاج مثل هذه المواد العضوية. إن مثل هذا التقدير البالغ في تصميم الأشياء نجده في كل ما خلق الله من مخلوقات في هذا الكون، فالله هو الذي يهيأ الظروف المناسبة التي تحدد المسار الذي ستتبعه عملية تصنيع الأشياء من موادها الأولية. وقد يبدو للجاهل أن هذه الظروف قد تمت بمحض الصدفة، ولو أنه فكر قليلا في ما تنتجه هذه الظروف من مخلوقات بديعة الصنع لأيقن أن هناك قوة عاقلة تقف وراء خلق مثل هذه الظروف، كما سنبين تفصيل ذلك في باب قوله تعالى "ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى".

 وكما ذكرنا سابقا فجو الأرض الأولي الذي أنتج جميع المواد العضوية البسيطة التي تحتاجها الكائنات لم تحدد مكوناته ومواصفاته الصدفة، بل قام الله بتصميمه بشكل بالغ التقدير، بحيث أنتج هذه المواد. وكذلك فإن عملية  تصنيع المجرات والنجوم من الدخان الذي كان يملأ الفضاء الكوني قد تمت بعد أن قام الله سبحانه وتعالى بتهيئة الظروف المناسبة في داخل هذه النجوم لكي يتم تصنيع جميع العناصر التي تلزم لظهور الحياة على الأرض في ما بعد. ولو سألت الكفار من علماء الفيزياء عن من يقف وراء تصنيع العناصر الطبيعية التي يزيد عددها عن التسعين في قلوب النجوم لقالوا لك أن ذلك قد تم بمحض الصدفة، أما إذا ما نجحوا في تصنيع أحد هذه العناصر في مختبرات بالغة التعقيد فإنهم يعزون الفضل في ذلك لعبقريتهم وجهودهم، وينفون نفيا قاطعا دور هذه الصدفة.

إن على هؤلاء العلماء الجاحدين أن يعلموا أن الطريقة التي تعمل بها يد الله لتصنيع المخلوقات غير الطريقة التي تعمل بها يد البشر في تصنيع ما يصنعون من أشياء. فالله عز وجل لا يحتاج لأن يحمل الأشياء بيده كما يفعل البشر، لكي يصنع المخلوقات فهو الذي يحرك كل ذرة من ذرات هذا الكون بإرادته، وهو الذي يخلق الظروف التي تؤدي لصنع ما يريد صنعه. فعندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق السموات والأرض من الدخان لم يترك الأمر للصدفة لتخلق هذا الكون البديع، بل هو الذي حدد مكان كل ذرة من ذرات هذا الكون لتأخذ مكانها الصحيح في بناء هذا الكون، وصدق الله العظيم القائل "وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين" يونس 61.   وعندما اختار الله الأرض من بين كواكب المجموعة الشمسية وربما من بين جميع الكواكب الموجودة في هذا الكون لتكون المكان الذي ستظهر عليه الحياة قام سبحانه بتحديد مكانها بتقدير بالغ وزودها بجميع العناصر والمركبات اللازمة لتصنيع الكائنات الحية. وقد يظن كفار البشر وهم يشاهدون ما يجري في هذا الكون من أحداث أن ذلك يتم بمحض الصدفة بدعوى أنهم لا يرون بأم أعينهم من يقف وراء هذه الأحداث وهذا منتهى الجهل فليس كل ما في هذا الكون من قوى عاقلة هي على شاكلة البشر وتعمل كذلك بنفس الطريقة التي يعملون بها.

وقد يتبادر لذهن البعض أنه بحل اللغز الثاني من ألغاز الحياة فإن عملية تصنيع  الكائن الحي البدائي من هذه المواد العضوية التي قام الصلصال بتصنيعها من المواد العضوية البسيطة لا بد وأن تكون سهلة. فيمكن باستخدام هذه المواد العضوية كالبروتينات والأحماض النووية والدهون تصنيع مكونات الخلية الحية وبالتالي تصنيع  أول خلية حية ظهرت على الأرض.  ولكن علماء التطور أصبحوا حذرين جدا في تحديد الخطوة التالية من خطوات تطور الحياة على الأرض وخاصة مع تزايد معرفتهم بتركيب مكونات الخلية الحية. فقد سبق لهم وأن استعجلوا وقالوا أن الكائن الحي البدائي قد تم تصنيعه  في الحساء البدائي المكون من المواد العضوية البسيطة التي صنعها جو الأرض الأولي. ولكن الحقائق العلمية التي بينت استحالة تصنيع المواد العضوية المعقدة من مكوناتها البسيطة بدون وجود الأنزيمات اضطرتهم لاستبعاد هذا الرأي والبحث عن حل آخر فوجدوه في الصلصال الذي كالفخار. فهؤلاء العلماء يعلمون تمام العلم مدى التعقيد الموجود في تركيب مكونات الخلية الرئيسية، ومن السذاجة بمكان أن يدعي أحد ويقول أنها قد صنعت بكل سهولة من هذه المواد العضوية المعقدة التي أنتجها الصلصال.

ولتوضيح هذا الأمر نذكر القارئ بتركيب أحد مكونات الخلية الحية وهو الرايبوسوم أو مصانع البروتينات، حيث أنها تتكون من عدد كبير من البروتينات والأحماض النووية تتخذ مواقع محددة في جسم هذا الرايبوسوم لتنتج بالنهاية مصنع جزيئي بالغ التعقيد لا يرى بأقوى الميكروسكوبات الضوئية. وبما أنه لا يوجد من يقوم بوضع البروتينات والأحماض النووية في المواقع المخصصة لها في جسم الرايبوسوم فإن هذه المهمة تقع على عاتق هذه الجزيئات لتتحرك من تلقاء نفسها وتتجه صوب المكان الذي يتم فيه تصنيع هذا الرايبوسوم ومن ثم تتخذ أماكنها المحددة في هيكله بحيث يبنى تدريجيا ابتداء من أجزائه الداخلية وانتهاء بأجزائه الخارجية. وهذا يعني أن هذه البروتينات لها مواصفات فيزيائية وكيميائية محددة قد تم تقديرها بشكل بالغ بحيث لا يسمح لأي بروتين أن يحتل موقع غير الموقع الذي خصص له. ولكن السؤال المحير هو أين تم تصنيع هذه المواد العضوية التي يحتاجها تصنيع هذه المكونات في غياب مصنع البروتينات ومن الذي  قام بتحديد مواصفاتها، بحيث إذا ما اجتمعت في حيز معين فإن بعضها يقوم بتصنيع الرايبوسومات وبعضها بتصنيع البلاستيدات الخضراء وإلى غير ذلك من مكونات الخلية.

ومن الواضح أن علماء التطور في هذا العصر قد وقعوا في نفس الفخ الذي وقع فيه الفلاسفة القدامى عندما حاولوا معرفة في ما إذا كانت البيضة قد خلقت قبل الدجاجة أم العكس.  بل إن مشكلة علماء التطور أشد تعقيدا فالبروتينات لا يمكن تصنيعها إلا باستخدام مصانع تأخذ تعليماتها من شريط الحامض النووي ومصانع البروتينات بدورها تحتاج إلى عدد كبير من البروتينات لبنائها وشريط الحامض النووي لا يعطي تعليماته إلا من خلال بروتينات خاصة تدعى الأنزيمات.  ولكن وبعد طول بحث وعناء استقر رأي علماء التطور على أن حل هذه الألغاز، لا بد وأن يكمن في شريط الحامض النووي فهو الوحيد من بين جميع مكونات الخلية الحية الذي يملك القدرة على إنتاج نسخة عن نفسه بنفسه، حيث تمثل هذه الخاصية أحد أهم شروط الحياة. وقد تأكد هذا الأمر للعلماء بعد أن تبين لهم أنه يستحيل أن تجد كائن حي على وجه هذه الأرض تخلو أيّ خلية من خلاياه من هذا الشريط. فالفيروسات والتي هي أصغر الكائنات حجما وأبسطها تركيبا والتي يعتبرها العلماء كائنات شبه ميتة لغياب العمليات الحيوية في أجسامها لا تخلو من هذا الشريط الذي يبين تفصيلات تركيبها. يتكون الفيروس من شريط حامض نووي بسيط مغلف بجدار بروتيني له أشكال هندسية مختلفة وبما أنه لا يحتوي على أية مكونات لإنتاج الطاقة أو لتصنيع البروتينات اللازمة لبناءه فهو غير قادر على التكاثر. ولكن ما إن يتمكن الفيروس من الدخول في إحدى خلايا الكائنات الحية، فإنه يقوم بالتخلص من جداره البروتيني، ويبدأ بتنفيذ البرنامج المكتوب على شريط الحامض النووي فينتج مئات النسخ من شريطه الوراثي وكذلك البروتينات اللازمة لتغليف هذه الأشرطة.

 وقد قادت هذه المعرفة عن تركيب الفيروس العلماء إلى حقيقة مهمة وهي أن تركيب أول الكائنات الحية ظهورا على الأرض، قد يكون أقرب ما يكون لتركيب الفيروسات، ولكن وبسبب غياب كائنات حية في تلك الحقّبة من الزمن يمكن أن يتطفل عليها هذا الكائن البدائي الوحيد كان عليه أن يعتمد على المواد العضوية التي تكونت في جو الأرض الأولي. وبهذا خلص العلماء إلى حقيقة أن الحياة ما كان لها أن تبدأ بدون وجود شريط الحامض النووي في داخل أول الكائنات الحية ظهورا على سطح الأرض، وذلك لأن العمليات الحيوية التي تلزم لاستمرار الحياة لأي كائن حي مهما كان بدائيا في تركيبه من التعقيد، بحيث تحتاج لعقل مدبر يعمل على إصدار الأوامر لمختلف مكونات الكائن وتنسيق العمل فيما بينها بشكل بالغ الدقة.

 

من كتاب بداية الخلق في القرآن الكريم، د. منصور العبادي، دار الفلاح للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 2006م..

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق