2013-06-01

معجزة لف الشريط الوراثي


معجزة لف الشريط الوراثي

الدكتور منصور إبراهيم أبوشريعة العبادي

 جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

 

يبلغ عرض الشريط الوراثي في جميع الكائنات الحية نانومترين اثنين فقط (النانومتر جزء من  ألف مليون جزء من المتر) أيّ أن قطر شعرة الإنسان البالغ 100 ميكرومتر يزيد بخمسين ألف مرة عن قطر هذا الشريط. أما طول الشريط فيختلف من كائن إلى كائن ويعتمد على عدد الأحرف الموجودة على الشريط والتي تتراوح بين عدة مئات في الفيروسات (viruses) وعدة بلايين في الثديات (mammalian). ففي الإنسان الذي يحتوي شريطه الوراثي على ثلاثة بلايين حرف يبلغ طول الشريط مترا واحدا وهو حاصل ضرب عدد الأحرف في المسافة الفاصلة بين الأحرف وهي ثلث نانومتر. إن نسبة عرض الشريط إلى طوله نسبة متدنية جدا لا يمكن أن تجدها في أيّ شريط طبيعي أو صناعي مما يعني أنه شريط بالغ الضعف بحيث لو تم تكبيره ليصبح قطره بقطر شعرة الإنسان فإن طوله سيبلغ حينئذ مائة كيلومتر.

 وبما أن خلايا جسم الإنسان تحتوي على زوج من الأشرطة الوراثية أحدهما مأخوذ من أبيه والآخر مأخوذ من أمه فإن طولهما يبلغ المترين. ولكي يتم وضع هذه الأشرطة الطويلة والدقيقة في داخل نواة الخلية التي لا يتجاوز قطرها عدة  ميكرومترات (الميكرومتر جزء من مليون جزء من المتر) فلا بد من طيها مئات الآلاف من المرات وذلك لأن طول الشريطين يزيد بنصف مليون مرة عن طول قطر نواة الخلية البالغ في المتوسط 4 ميكرومتر. ومن البديهي أن لا يتم لف هذا الأشرطة بطريقة اعتباطية وإلا لتشابكت أجزاؤها ولما تمكنت هذه الأشرطة من القيام بمهامها حيث أن كل جزء منها يحتوي على معلومات وراثية محددة  مسؤولة عن وظيفة محددة في عملية تصنيع جسم الكائن وكذلك إدارة وظائف الخلايا. لقد تمكن علماء الأحياء بالاستعانة بالميكروسكوبات الإلكترونية من التعرف على الطريقة المستخدمة في لف الشريط الوراثي ووضعه في هذا الحيز الضيق وهو نواة الخلية. إن عقل الإنسان يكاد أن يتصدع إذا ما فكر في الطريقة التي تم بها لف هذا الأشرطة الطويلة والضعيفة ووضعها في نواة بالغة الصغر وبحيث يمكن الوصول لكل شيفرة من الشيفرات التي تحمل تعليمات تصنيع جسم الكائن.

لقد أصيب العلماء بدهشة كبيرة عندما اكتشفوا أن هذا الشريط قد تم لفه بطريقة بالغة الذكاء بحيث يمكن قراءة جميع التعليمات المكتوبة عليه بشكل مباشر وبدون أيّ لبس يذكر. إن أول إجراء قد تم على الشريطين الوراثيين المأخوذين من كل من الأب والأم هو تقطيع كل منهما إلى 23 شريط فرعي ومن ثم تم لف كل شريط فرعي بشكل منفصل عن البقية لتكون ما يسمى بالكروموسومات أو الصبغيات (chromosomes). وبهذا فإن محتويات الشريطين الوراثيين قد تم توزيعهما على 46 كرموسوم وتم ربط كل كرموسوم مأخوذ من الأب مع الكرموسوم المناظر له المأخوذ من الأم  لينتج 23 زوجا من الكرموسومات (duplicated chromosomes). ويتم ربط الكرموسومين والذي يسمى كل منهما الكروماتيد (chromatid)  في منطقة معينة تسمى السنترومير (centromere) ليظهر الكروموسوم كجسم بأربعة أذرع (four-arm structure). ومن الجدير بالذكر أن محتويات الشريط الوراثي المأخوذ من الأب هي نفس محتويات الشريط المأخوذ من الأم باستثناء اختلاف بسيط في بنية بعض الجينات (alleles) والتي تحدد الفروقات بين جسمي الأب والأم. وعند القيام الشريط الوراثي بتنفيذ تعليماته فإنه يأخذ بعضها من أحد الكروماتيدين المكونيين للكروموسوم والبقية من الآخر.

ومن بين هذه الكرموسومات يوجد 22 كروموسوم جسدي تحدد المواصفات لجميع مكونات الجسم وكروموسوم واحد يحدد الصفات الجنسية ولذا يوجد منه نوعان وهما الذكري ويرمز له بالحرف واي (Y) والأنثوي ويرمز له بالحرف إكس (X). ويتحدد جنس المولود من زوج الكرموسومات الجنسية الموجودة في خلاياه فإذا كان كلاهما إكس (XX) فهي أنثى وإذا كان أحدهما إكس والآخر واي (XY) فهو ذكر. ولا تتوزع مكونات الشريط الوراثي بالتساوي على الكرموسومات بل يوجد تفاوت ملحوظ بعدد الأحرف وكذلك عدد الجينات في كل منها حيث يبلغ عدد الأحرف على الكروموسوم الأول 247 مليون حرف وعدد الجينات 4220 جين وهو الأكبر وعددها على الكرموسوم  الواحد والعشرين 47 مليون حرف و 578 جين وهو الأصغر من حيث عدد الأحرف حيث أن الكرموسوم الحادي عشر يتكون من 134 مليون حرف و379 جين وهو الأصغر من حيث عدد الجينات.

  إن عملية لف الأشرطة الفرعية لتتحول إلى كروموسومات بأطوال لا تتجاوز عدة ميكرومترات ليتسنى وضعها في داخل نواة الخلية تمر في خمسة مراتب (hierarchies). ففي المرتبة الأولى يتم لف الشريط بمقدار لفتين على أسطوانات بروتينية تسمى الهيستونات (histones) مكونة من ثمانية جزيئات (Octamer) ويبلغ قطرها 11 نانومتر  لتكون ما يسمى بالنيوكلوسومات (nucleosomes) ليظهر الشريط بعد اللف على  شكل خرزات المسبحة (beads-on-string). ويتم تثبيت أطراف الشريط الملفوف على الهيستون بهستون آخر (H1 histones) والذي يعمل أيضا كدعامة في المرتبة الثانية من اللف. ويبلغ طول  الشريط الملفوف على الهيستون الواحد 66 نانومتر ويحتوي على 200 حرف وهو مكون من جزيئين جزء ملفوف فعليا على الهيستون ويسمى الدنا القلبي (Core DNA) وجزء يمتد ما بين الخرزات ويسمى الدنا الرابط (linker DNA) وفي هذه المرتبة يتم تقليص طول الشريط بستة مرات.

 أما المرتبة الثانية من اللف فهي لف الشريط المكون من النيوكلوسومات أو الخرزات على شكل بناء لولبي (  solenoid structure or coil) يبلغ قطره 30 نانومتر ولذا يسمى الليف ذي الثلاثين نانومتر (30 nm fiber). ويبلغ عدد الخرزات في كل لفة ستة خرزات أي أن اللفة الواحدة تحتوي على 1200 حرف وتبلغ عدد اللفات على كل ميكرومتر من طول اللولب مائة لفة وهذا المرتبة يقلص الطول بمقدار 40 مرة. أما المرتبة الثالثة فهي لف الليف ذي الثلاثين نانومتر على شكل عرى (loops) تخرج من سطح لولبي يسمى (Scaffold) له قطر يبلغ 300 نانومتر ويبلغ عدد الحروف في العروة الواحدة 60 ألف حرف وبهذا يصل مقدار التقليص إلى 680 مرة. أما المرتبة الرابعة فهي لف الطيات على لولب كبير (supercoils) بقطر 700 نانومتر ويبلغ معامل التقليص أو ما يسمى نسبة الترزيم (packing ratio) فيها  عشرة آلاف مرة. أما المرتبة  الأخيرة فهب ما يسمى المصفوفة الكروموسومية  (chromosomal matrix) ويتم فيه ترتيب اللفات بشكل مناسب وبدون أي زيادة في معامل التقليص عن المرتبة السابقة. وبعد هذه العمليات المتكررة من اللف يصبح الشريط الوراثي على الشكل المعهود للكروموسوم حيث يبلغ عرضه 1400 نانومتر أي ما يقرب من واحد ونصف ميكرومتر أما طوله فيعتمد على عدد الحروف فيه والذي يتراوح بين ميكرومترين وعشرة ميكرومترات.

إن هذه الطريقة الذكية والمعقدة في لف الشريط الوراثي تضمن تعريض كل جزء من أجزاء هذا الشريط على سطحها بحيث يمكن قراءة المعلومات المكتوبة عليه من قبل مكونات الخلية المسؤولة عن نقل الأوامر التي يصدرها هذا الشريط بكل سهولة ويسر. وبالإضافة إلى هذا فإن هذه الطريقة في اللف تسهل عملية إنتاج نسخ جديدة عن هذا الشريط لوضعها في الخلايا الجديدة حيث أن عملية النسخ هذه تتكرر ملايين أو بلايين المرات في فترة عمر الكائن الحي الواحد. إن عملية اللف هذه معجزة من معجزات الخلق التي لا ينكرها إلا جاحد فهي تتعامل مع شريط يبلغ عرضه 2 نانومتر لا يمكن أن يرى إلا بأقوي الميكروسكوبات الإلكترونية ويتم لفه على ما يزيد عن ثلاثين مليون أسطوانة بروتينية ثم يتم ربط الشريط على كل أسطوانة بمماسك بروتينية بنفس العدد. ويبلغ عدد اللفات في الشريط موزعة على جميع الكروموسومات 60 مليون لفة في المرتبة الأولى وعشرة ملايين لفة في المرتبة الثانية  ومائة ألف في المرتبة الثالثة و1400 لفة في المرتبة الرابعة. إن وجه الإعجاز في هذه العملية أنها تتم بشكل تلقائي حيث يقوم الشريط بلف نفسه على هذه الملايين من الأسطوانات بمقدار لفتين فقط ثم يقوم تثبيت نفسه على هذه الأسطوانات بنفسه باستخدام المماسك ثم يقوم بإجراء المراتب  الأخرى من عمليات اللف دون أي تدخل خارجي. ومن المؤكد أن البشر أعجز من أن يقوموا بهذه المهمة بل هم أعجز من فك ألغازها فعلى الرغم من أنهم قد تمكنوا من معرفة تركيب الشريط إلا أنهم لا زالوا يتكهنون بالطريقة التي يتبعها الشريط للقيام بهذه المهمة من تلقاء نفسه. بل لو أننا قمنا بتكبير هذا الشريط ليصبح قطره بقطر الشعرة فإن طوله سيصبح 50 كيلومتر ولو طلب من جميع مهندسي العالم أن يقوموا بلف هذه الشعرة البالغة الطول بنفس  هذه الطريقة لأعجزهم ذلك.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق