2015-09-16

وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها


وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي\جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
 


 
                 إن خلق الحياة من التراب هي المعجزة الكبرى من معجزات ظاهرة الحياة على الأرض وأما المعجزة الثانية فهي معجزة خلق الزوجين الذكر والأنثى في الكائنات الحية وذلك لإحداث هذا التنوع الهائل في أشكال الحياة على الأرض. أما المعجزة الثالثة فهي خلق عشرات الملايين من أنواع الكائنات الحية بمختلف الأشكال والأحجام وبأعداد يصعب حصرها لكل نوع وأما المعجزة الرابعة فهي تأمين الغذاء لجميع هذه الكائنات الحية بحيث تبقى أعداد هذه الكائنات في توازن تام لمئات الملايين من السنين.  فعلى الرغم من هذه الأعداد الهائلة من الكائنات الحية التي لا يكاد يخلو منها مكان على سطح الأرض إلا أنها تحصل على نصيبها من الغذاء الذي يبقيها على قيد الحياة وذلك بتصميم بديع من الله عز وجل لأنواع وأشكال وأحجام هذه الكائنات ليتخذ بعضها بعضا طعاما لها وللحد من معدلات تكاثرها. وتقوم معظم الكائنات الحية بتأمين غذائها يوما بيوم ولا تحسب حساب رزق اليوم التالي كما يفعل البشر الذين يقومون بتخزين ما يحتاجون إليه من طعام لعام كامل على الرغم من أنهم أذكى وأقدر مخلوقات الله على هذه الأرض وصدق الله العظيم القائل "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" هود 6 والقائل سبحانه "وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" العنكبوت 60. إن مثل هذا التصميم البالغ التعقيد يتطلب تحديد خصائص كل نوع من أنواع الكائنات الحية التي يبلغ عدد المعروف منها اليوم ما يزيد عن مليوني نوع وذلك من حيث أعدادها وأحجامها وطرق تكاثرها وسرعة هذا التكاثر وطرق حصولها على الغذاء ونوع الغذاء الذي يناسبها والوسائل التي تتبعها في الدفاع عن نفسها ضد من يحاول افتراسها ومدى مقاومتها للظروف الجوية التي تحيط بها وإلى غير ذلك من الخصائص التي يصعب حتى على المختصين حصرها. ولقد تبين للعلماء أن هناك آليات بالغة التعقيد أودعها الله في هذه الكائنات لكي تضمن هذا التوازن تمكن هؤلاء العلماء من اكتشاف بعضها إلا أنهم لا زالوا يجهلون الكثير منها وصدق الله العظيم القائل  (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)) الحجر.

وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم

لقد قام علماء الحياة بوضع نظام تصنيف معقد يبين مكان كل نوع من أنواع الكائنات الحية في شجرة الحياة والقرابة التي تربطه مع بقية أنواع الكائنات وذلك بناء على الصفات المشتركة التي تجمع بينها. وفي نظام التصنيف هذا قسم العلماء الكائنات الحية التي يبلغ عدد الأنواع المعروفة منها اليوم ما يقرب من مليوني نوع إلى خمسة ممالك وهي البدائيات (Monera) والأوليات أو الطلائعيات (Protista) والفطريات (fungi) والنباتات (plantae) والحيوانات (Animalia). فالبدائيات هي كائنات حية تتكون من خلية واحدة (Unicellular) ولا يوجد غشاء حول نواتها ولذا تسمى بدائية النواة(Prokrayotes) وتعتمد في غذاتها على الكائنات الأخرى (heterotroph) ومن أهمها البكتيريا والطحالب الخضراء المزرقة والفيروسات. أما الأوليات فهي كائنات حية تتكون في الغالب من خلية واحدة (Unicellular) وقليل منها متعددة الخلايا (Multicellular)  ويوجد غشاء حول نواتها ولذا تسمى حقيقية النواة(Eukaryotes) وتقوم بتصنيع غذائها بنفسها من خلال التركيب الضوئي (autotroph) ومن أهمها الطحالب الخضراء وحيدة الخلية والبروتوزوا (protozoa). أما الفطريات فهي كائنات حية بخلية واحدة  أو متعددة الخلايا  وهي حقيقية النواة وتستمد غذائها من أجسام الكائنات الأخرى الحية منها أو الميتة  ومن أهمها الفطر. أما النباتات فهي كائنات حية متعددة الخلايا   وهي حقيقية النواة وتقوم بتصنيع غذائها بنفسها من خلال التركيب الضوئي وتنقسم إلى قسمين رئيسيين وهما النباتات الوعائية (vascular) والنباتات اللاوعائية (nonvascular). أما الحيوانات فهي كائنات حية متعددة الخلايا  وهي حقيقية النواة وتعتمد في غذائها على الكائنات الأخرى وهي قادرة على الحركة وتنقسم إلى قسمين رئيسيين وهما الحيوانات الفقارية (vertebrates) كالثدييات والأسماك  والبرمائيات والزواحف والطيور والحيوانات اللافقارية (invertebrates) كالأسفنجيات والديدان والرخويات والمفصليات وشوكيات الجلد. وقد تم تقسيم كل مملكة (Kingdom) من هذه الممالك إلى شعب أو أقسام (phylum) وإلى فصائل أو طوائف (class) وإلى رتب (order) وإلى عوائل  (family) وإلى أجناس (genus) وأخيرا إلى أنواع (species).
ولقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة أن الكائنات الحية مقسمة إلى أمم كأمم البشر في قوله تعالى(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)) الأنعام. أما الحديث النبوي الشريف فقد حدد عدد هذه الأمم فقد جاء في كتاب الفتن لنعيم ابن حماد المرزوي: حدثنا عبيد بن واقد القيسي عن محمد بن عيسى الهذلي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خلق الله تعالى ألف أمة ستمائة في البحر وأربع مائة في البر وأول شيء من هذه الأمم هلاكا الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه". ومن الواضح والله أعلم أن الأمم المقصودة في الحديث تناظر إما الأجناس أو العائلات وليس بالطبع الأنواع فعدد الأنواع كما ذكرنا يعد بالملايين بينما يبلغ عدد الأمم ألف أمة وهو أقرب ما يكون لعدد الأجناس أو العائلات. فعلى سبيل المثال يقدر العلماء عدد أنواع الطيور المكتشفة  بعشرة آلاف نوع تقريبا وقد تم تقسيمها إلى سبعة وعشرين جنسا وعلى هذا فيمكن اعتبار عدد أمم الطيور بعدد أجناسها ويمكن أن نعتبر جميع الطيور أمة واحدة. وكذلك هو الحال مع أمم الجراد والنمل والنحل والذباب والعناكب والصراصير والفراش والزواحف والديدان وكذلك الحال أيضا مع أمم الأنعام والكلاب والقطط والفئران والذئاب والثعالب والأسود والنمور وأمم الأسماك والحيتان والدلافين وغيرها. ومن أوجه الإعجاز في هذا الحديث أنه ذكر أن عدد أمم البحر تزيد عن أمم البر وهذا ما أثبته العلماء حديثا وهذا على العكس الاعتقاد السائد عند البشر فغالبيتهم يعتقدون أن عدد كائنات البر أكثر من عدد كائنات البحر وذلك لكثرة احتكاكهم بكائنات البر وجهلهم بما في البحر من كائنات. ولقد شرحت في مقالة "حديث هلاك الجراد" كيف أن إنقراض أمة من هذه الأمم قد يؤدي إلى هلاك جميع الكائنات الحية بسبب اعتماد هذه الأمم على بعضها البعض في سلسلة غذائها وهو ما بدأت بوادره بالظهور بسبب الفساد البيئي الذي أصاب الأرض في هذا العصر كما شرحت ذلك في مقالة (ظهر الفساد في البر والبحر).
وبث فيها من كل دابة

إن أكثر ما يثير دهشة الدارس لظاهرة الحياة على الأرض هو هذا الكم الهائل من أنواع الكائنات الحية التي تعيش في براري الأرض وبحورها والتي تعد بعشرات الملايين. ومما يبعث على العجب أن كل نوع من هذه الأنواع له شكله المميز  بحيث لو طلب من علماء البشر أن يقوموا برسم أشكال لكائنات جديدة يمكنهم أن يتخيلوها لأعجزهم ذلك. بل إنك تجد تفاوتا كبيرا حتى في أفراد النوع الواحد كما في أشكال البشر والخيول والجمال والأبقار والكلاب والقطط وكذلك الحال مع كثير من النباتات وخاصة أشجار الفواكه والخضروات. إن جميع مناطق الأرض تمتلأ بشتى أنواع النباتات والحيوانات مهما كانت تضاريسها ومهما كان مناخها فنجد كائنات تعيش عند قطبي الأرض رغم البرودة المتدنية وكائنات تعيش في الصحارى رغم الحرارة العالية والماء القليل وكائنات تعيش في أعماق المحيطات رغم الضغط الهائل والظلمة الدامسة. وعند دراسة خصائص الكائنات الحية في بيئات الأرض المختلفة نجد أنها قد صممت بشكل بارع بحيث يمكنها البقاء تحت الظروف السائدة في تلك البيئة والتي قد تكون بمنتهى القساوة وذلك بعد أن وفر الله عز وجل لها الغذاء الذي يلزمها على مدار العام. ولولا هذا الإبداع في تصميم أجسام الكائنات الحية لتناسب البيئات المختلفة وتحديد مصادر رزقها لانحصر عيش هذه الكائنات في مناطق محدودة من الأرض ذات المناخ المعتدل والتضاريس السهلة. ولطالما دعا القرآن الكريم البشر للتفكر في هذه الظاهرة العجيبة وهي بث الكائنات الحية في كل ركن من أركان هذه الأرض فقال عز من قائل (خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)) لقمان والقائل سبحانه  (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)) الشورى والقائل سبحانه (إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)) الجاثية.




 

 لم يتمكن علماء الأحياء حتى الآن من حصر عدد أنواع الكائنات الحية التي تعيش على سطح هذه الأرض وخاصة تلك التي تعيش في أعماق المحيطات أو تلك التي لا ترى بالعين المجردة وتتراوح تقديرات العلماء لعدد هذه الأنواع ما بين خمسة ملايين وخمسين مليون نوع وهم يصنفون ما معدله عشرة آلاف نوع في كل عام . أما عدد أنواع الكائنات الحية التي تم تصنيفها من قبل هؤلاء العلماء فيقرب من مليون ونصف نوع تقريبا حيث يقدر عدد أنواع الحيوانات الفقارية (vertebrate) بستين ألف نوع منها ستة آلاف من الثديات (Mammals) وستة آلاف نوع من البرمائيات (Amphibians) وثمانية آلاف من الزواحف (Reptiles) وعشرة آلاف من الطيور (birds) وثلاثين ألف من الأسماك (fishes). أما الحيوانات اللافقارية (invertebrates) فيقدر عدد المصنف منها مليون ومائتي ألف منها ما يقرب من مليون نوع من الحشرات (insects)  وثمانين ألف من الرخويات (Molluscs) وأربعين ألف من القشريات (Crustaceans) وغيرها. ويقدر العلماء عدد أنواع النباتات بثلاثمائة ألف نوع  والبكتيريا والطحالب بمائة ألف نوع والفطريات بمائة ألف نوع.
أما عدد أفراد كل نوع من هذه الأنواع فمن الصعب جدا تحديده وخاصة تلك الأنواع التي لا ترى بالعين المجردة والتي يحوي الجزء اليسير من الماء أو الهواء أو التراب على ملايين الملايين منها. أما عدد أفراد كل حشرة من الحشرات فكلنا يدرك مدى صعوبة حصره عندما نحاول معرفة عدد النمل في بيت النمل الواحد أو عدد النحل في خلية النحل الواحدة أو عدد الجراد في السرب الواحد وكذلك هو الحال مع بقية أنواع الكائنات الحية.  وقد يكون الإنسان هو الكائن الوحيد من بين هذه الكائنات الذي تم حصر عدد أفراده وذلك على وجه التقريب حيث يبلغ سبعة بلايين إنسان. وقد قام العلماء بمحاولات عديدة لتقدير أعداد بعض أنواع الكائنات الحية منها الأشجار التي يقدر عددها بثلاثة آلاف بليون شجرة والأسماك بأربعة آلاف بليون سمكة والنمل الذي قدروا عدده بعشرة ملايين بليون نملة وهي أكثر الحشرات عددا ويشكل ما نسبته عشرين بالمائة من الكتلة الحيوية للكائنات في بر الأرض. أما أحجام هذه الكائنات فتتراوح بين تلك التي لا ترى بالعين المجردة كالفيروسات والبكتيريا والفطريات وتلك التي يصل وزنها إلى عدة أطنان كالفيلة والحيتان وما بين هذين الحدين يوجد تدرج عجيب في أحجام هذه الكائنات لكي يتخذ بعضها من البعض الآخر غذاء لها.

وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها

إن تأمين الغذاء لعشرات الملايين من أنواع الكائنات الحية وبأعداد تستعصي على الحصر  لكل منها وبحيث تبقى أعداد هذه الكائنات في توازن تام لمئات الملايين من السنين هي معجزة من معجزات ظاهرة الحياة على الأرض. ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعجزة في أكثر من آية ليلفت أنظار البشر إليها وليتبين لهم إذا ما درسوها أن هذه المهمة لا يمكن أن تتم إلا من قبل عليم قدير لا حدود لعلمه وقدرته فقال عز من قائل (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)) هود والقائل سبحانه (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)) العنكبوت. إن تأمين الغذاء لجميع الكائنات الحية قد تم من خلال آليات عديدة بالغة التعقيد تمكن العلماء من كشف بعضها كما سنبين في الشرح التالي. لقد اكتشف علماء الأحياء أولا أن الكائنات الحية من حيث طريقة غذائها تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي الكائنات المنتجة (producers)  والكائنات المستهلكة (consumers) والكائنات المحللة (decomposers). فالكائنات المنتجة هي التي تقوم بتحويل المواد غير العضوية كثاني أكسيد الكربون والماء والنيتروجين وبقية العناصر الأرضية إلى مواد عضوية من خلال عملية التركيب الضوئي ويشمل هذا النوع جميع النباتات التي تعيش على اليابسة ومعظم أنواع الطحالب البحرية. أما الكائنات المستهلكة فهي التي تعتمد في غذائها على ما تنتجه النباتات والطحالب من مواد عضوية مختلفة  ويشمل هذا النوع جميع أنواع حيوانات البر والبحر. وأما الكائنات المحللة فهي التي تقوم بتحليل المواد العضوية الموجودة في الكائنات الحية بعد موتها والفضلات التي تخرج منها وتحويلها إلى مواد غير عضوية يعاد استهلاكها من قبل الكائنات المنتجة ويشمل هذا النوع مختلف أنواع البكتيريا والفطريات والديدان. ومن الواضح أن الكائنات المستهلكة والمحللة لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تعيش على الأرض بدون وجود الكائنات المنتجة وذلك لعدم قدرتها على توفير الغذاء اللازم لها مباشرة من تراب وهواء الأرض. وكذلك فإنه لا يمكن للكائنات المنتجة أن تستمر في العيش على سطح الأرض بدون الكائنات المستهلكة والمحللة وذلك لأنها ستحول مع مرور الزمن جميع ثاني أكسيد الكربون المتوفر في الطبيعة إلى مواد عضوية وسيكون مصيرها الموت في غياب طعامها المفضل وهو ثاني أكسيد الكربون.
 

 
ولقد ثبت للعلماء أن الكائنات الحية لم تظهر دفعة واحدة على سطح الأرض بل إن بعضها قد ظهر قبل البعض الآخر فالكائنات المنتجة هي أول الكائنات ظهورا على الأرض تلتها في الظهور الكائنات المحللة ومن ثم الكائنات المستهلكة. وقد جاء هذا الترتيب مطابقا للترتيب المذكور في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده. ويتبين من هذا الحديث الشريف أن الكائنات الحية قد تم تقسيمها إلى ثلاثة أقسام وهي الشجر والمكروه والدواب وهو نفس التقسيم الذي وضعه العلماء للكائنات من حيث طريقة غذائها. فالشجر يمثل جميع أنواع النباتات والطحالب وهي أول الكائنات الحية ظهورا على الأرض وذلك لأنها قادرة على تأمين غذائها مباشرة من تراب الأرض وهوائها بعد أن زودها الله بالبلاستيدات الخضراء القادرة على تصنيع المواد العضوية من المواد غير العضوية. ويتضح من الحديث أن النباتات لم تظهر على الأرض إلا بعد مرور يومين من أيام الخلق وذلك بعد أن توفرت الظروف المناسبة على سطح الأرض كما شرحت ذلك في مقالة (خلق الأرض في يومين). إن أغرب ما في هذا الحديث هو ذكره للمكروه كخلق من مخلوقات الله فقد بقي معنى هذا المكروه مجهولا حتى تمكن البشر من اكتشاف الكائنات الحية الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة وذلك باستخدام الميكروسكوبات الضوئية. وفي إطلاق اسم المكروه على هذه الكائنات الدقيقة دليل على صدق نبوءة من جاء هذا الحديث الشريف على لسانه فهذه الكائنات الحية الدقيقة مكروهة بسبب الروائح الكريهة التي تنطلق من المواد العضوية عند تحللها من قبل هذه الكائنات. وقد جاء ترتيب خلق المكروه أو ما يسمى بالكائنات المحللة بعد النباتات مباشرة وذلك لكي تقوم بتحليل وتحرير العناصر الطبيعية من المواد العضوية الموجودة في ما يموت من هذه النباتات وذلك في غياب الحيوانات في تلك الحقبة من الزمن.  ولولا هذا التحلل لاستنفدت النباتات جميع المواد الخام التي تلزمها من الطبيعة ولتوقفت بذلك عجلة الحياة على الأرض. أما الدواب فقد بدأ ظهورها في اليوم قبل الأخير من أيام الخلق الستة وهي تمثل جميع الكائنات الحية التي لا يمكنها الحصول على غذائها مباشرة من التراب بل تعتمد على النباتات والطحالب في تأمين غذائها وهذا ما أكد عليه علماء تطور الحياة كما شرحت ذلك في مقالة (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام).

إن استمرار الحياة على سطح هذه الأرض يتطلب توازن تام بين الكائنات المنتجة والمستهلكة والمحللة بحيث لا يطغى أيّ نوع من هذه الأنواع على الأنواع الأخرى وإلا أدى هذا الطغيان  إلى اختفاء جميع أشكال الحياة على الأرض. فالكائنات المحللة كالبكتيريا والفطريات يمكنها القضاء على الكائنات المنتجة والمستهلكة بسبب سرعة تكاثرها لولا وسائل الدفاع التي زود الله بها الكائنات الحية ضد هذه الكائنات الدقيقة ولذلك فهي لا تتكاثر إلا على بقايا الكائنات الميتة وهي الوظيفة التي خلقها الله من أجلها. وكذلك فإن الحيوانات آكلة النباتات يمكنها إذا ما تكاثرت بمعدلات عالية أن تأكل كل ما على بر الأرض من نباتات وبهذا فإنها ستقضي على هذه النباتات وبالتالي على نفسها لأنها لن تجد ما تأكله وفي أسراب الجراد التي تغزو بعض المناطق فلا تترك عرقا أخضرا عليها أكبر مثال على ذلك. وكذلك فإن الحيوانات آكلة اللحوم يمكنها إذا ما تزايدت أعدادها أن تأكل جميع الحيوانات آكلة النباتات وسيكون مصيرها بالطبع الموت في غياب طعامها الوحيد وهو لحوم هذه الحيوانات. ويجب  أن يتوفر التوازن  أيضا بين جميع أنواع الكائنات الحية وليس فقط بين الفئات الرئيسة الثلاث بحيث لا يتفرد كائن معين من هذه الكائنات بالموارد الطبيعية على حساب الكائنات الأخرى مما يؤدي إلى انقراض البقية. ولقد وجد العلماء أن مثل هذا التوازن المطلوب بين الكائنات الحية لا يمكن أن يتم إن لم يتم تصميم  هذا النظام البيئي المعقد بشكل بالغ الدقة من قبل عليم خبير حيث أن خطأ بسيطا في تصميم هذا النظام قد يؤدي إلى انهيار كامل النظام وبالتالي اختفاء الحياة على سطح الأرض وصدق الله العظيم القائل "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" الحجر 20 والقائل سبحانه (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)) النور. 

إن مثل هذا التصميم البالغ التعقيد للنظام الحيوي يتطلب تحديد خصائص كل نوع من أنواع الكائنات الحية التي يبلغ عدد المعروف منها اليوم ما يقرب من مليوني نوع وذلك من حيث أعدادها وأحجامها ومعدلات تكاثرها وطرق حصولها على الغذاء ونوع الغذاء الذي يناسبها والوسائل التي تتبعها في الدفاع عن نفسها ضد من يحاول افتراسها ومدى مقاومتها للظروف الجوية التي تحيط بها وإلى غير ذلك من الخصائص التي يصعب حتى على المختصين حصرها. ولقد تبين للعلماء أن هناك  آليات بالغة التعقيد أودعها الله عز وجل في النظام الحيوي والنظام البيئي لكي تضمن هذا التوازن في أنواع وأعداد الكائنات الحية وقد تمكن هؤلاء العلماء من اكتشاف بعض هذه الآليات إلا أنهم لا زالوا يجهلون الكثير منها.

فأول هذه الآليات التي تضمن عدم زيادة أعداد الكائنات الحية عن حد معين هو أن كمية المواد الخام والطاقة التي تحتاجها الكائنات الحية المنتجة محدودة على سطح هذه الأرض. فالكائنات المنتجة الأولية (Primary producers) وهي نباتات البر  وطحالب البحر لا تتكاثر إلا بوجود كميات كافية من الماء ومن ثاني أكسيد الكربون في الهواء  والمذاب في مياه البحار وكميات كافية من ضوء الشمس. وكذلك فإن كمية الطاقة الشمسية التي تسقط على المتر المربع الواحد من سطح الأرض محدودة مما يعني أن هناك سقفا أعلى  لكمية المواد العضوية التي يمكن تصنيعها من قبل النباتات والطحالب في المتر المربع الواحد.  وتحتوي النباتات البرية والطحالب البحرية على أضخم مصنع لإنتاج المواد العضوية على وجه هذه الأرض حيث يقوم هذا المصنع بتزويد جميع الكائنات الحية بالمواد العضوية اللازمة لبناء أجسامها والطاقة اللازمة لإجراء عملياتها الحيوية. إن المادة العضوية الرئيسية التي ينتجها هذا المصنع من خلال عملية التركيب الضوئي هو سكر الجلوكوز الذي يتم تصنيعه من الماء وغاز ثاني أكسيد الكربون فقط. وتأخذ النباتات البرية غاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء من خلال أوراقها وتمتص الماء وبقية العناصر من التراب من خلال جذورها بينما تأخذ الطاقة اللازمة للتصنيع من أشعة الشمس الساقطة على أوراقها. أما الطحالب البحرية فتأخذ الماء وجميع ما تحتاجه من ثاني أكسيد الكربون وبقية العناصر من ماء البحر وتأخذ الطاقة التي تلزمها من أشعة الشمس التي تنفذ إلى عشرات الأمتار داخل مياهه.

ويتكون مصنع سكر الجلوكوز هذا من مكونات دقيقة تسمى البلاستيدات  موجودة في خلايا النباتات والطحالب وهي مكونات بالغة التعقيد لا تتجاوز أبعادها عدة ميكرومترات.
 

 
 
 
وتقوم هذه البلاستيدات بإدخال جزيئات الماء وثاني أكسيد الكربون من خلال مسامات أغشيتها إلى تراكيبها الداخلية بينما يقوم جزيء الكلوروفيل بالتقاط الطاقة الشمسية وتخزينها في ثناياه بشكل مؤقت. ومن ثم تقوم بعض الأنزيمات بتحليل جزيئات ثاني أكسيد الكربون والماء إلى مركباتها بينما تقوم أنزيمات أخرى بتصنيع سكر الجلوكوز من نواتج هذا التحليل والطاقة الشمسية التي أمسك بها الكلوروفيل. وتقوم البلاستيدات بأخذ ستة جزيئات من ثاني أكسيد الكربون وإثنا عشر جزيء من الماء وكمية كافية من الطاقة الشمسية وتنتج مقابل ذلك جزيئا واحدا من سكر الجلوكوز مع ستة جزيئات من الأوكسجين وستة جزيئات من الماء. ويتكون جزيء سكر الجلوكوز من ستة ذرات من الكربون وستة ذرات من الأوكسجين واثني عشر ذرة من الهيدروجين ويحتفظ بالطاقة التي استمدها من الشمس في روابطه الكيميائية. وقد وجد العلماء أن ثلاثة وتسعين بالمائة من وزن سكر الجلوكوز يأتي من ثاني أكسيد الكربون بينما تأتي السبعة بالمائة المتبقية من الماء.
 
ويقدر العلماء كمية ثاني أكسيد الكربون الذي تأخذه النباتات والطحالب من الهواء سنويا بخمسمائة بليون طن وكمية الماء الذي تمتصه النباتات من الأرض والطحالب من البحر بأربعمائة وعشرة بلايين طن وكمية الطاقة التي تستمدها من ضوء الشمس بجزء من ألفي جزء من مجموع الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض. وتنتج البلاستيدات في المقابل ثلاثمائة وواحد وأربعين بليون طن من سكر الجلوكوز ومائتين وخمسة بلايين طن من الماء وثلاثمائة وأربعة وستون بليون طن من الأوكسجين. ويتضح من هذه الأرقام أن كمية الطاقة التي يتم تخزينها في المواد العضوية التي تنتجها البلاستيدات في كل عام تزيد بمائتي مرة عن كمية الإنتاج العالمي من الطاقة في العام الواحد. إن هذه الكمية الضخمة من سكر الجلوكوز الذي تنتجه النباتات سنويا تقوم عليها حياة جميع الكائنات الحية التي تعيش على الأرض سواء في برها أو في بحرها. ويستخدم هذا السكر في أجسام الكائنات الحية لغرضين رئيسين وهما استخدامه كمادة خام لتصنيع جميع أنواع المواد العضوية اللازمة لبناء أجسام هذه الكائنات كالكربوهيدرات والدهون والبروتينات والأحماض النووية واستخدامه كوقود يزود الكائنات الحية بالطاقة اللازمة لإجراء مختلف العمليات الحيوية التي تحتاجها.
أما الآلية الثانية فهي أن الحيوانات التي تعتمد على ما تنتجه النباتات والطحالب من مواد عضوية لا تتغذى جميعها على النباتات والطحالب بشكل مباشر بل يوجد عدة مستويات من نظم التغذية  (trophic level) أو ما يسميه العلماء بسلاسل الغذاء (food chains). فهناك الحيوانات التي تتغذى على النباتات مباشرة وتسمى المستهلكات الابتدائية (primary consumers)  وهي الحيوانات آكلة النباتات (herbivores or plant-eaters)  وهنالك الحيوانات التي تتغذى على المستهلكات الابتدائية وتسمى المستهلكات الثانوية (secondary consumers) وهي الحيوانات آكلة اللحوم (carnivore or meat-eaters)  وهناك الحيوانات التي تعتمد في غذائها على المستهلكات الثانوية وتسمى المستهلكات الثلاثية (tertiary consumers) وهناك الحيوانات التي تعتمد في غذائها على المستهلكات الثلاثية وتسمى المستهلكات الرباعية (quaternary consumers). وتسمى الحيوانات التي تتغذى على النباتات وجميع أنواع الحيوانات بأكلات كل شيء (omnivores) كالإنسان وبعض أنواع الطيور بينما تسمى الحيوانات التي تتغذى على جيف أو رمم الحيوانات بأكلات الرمم (detrivores) كالديدان وبعض أنواع الطيور. وأما الكائنات الحية التي تقوم بتحرير  العناصر الطبيعية من أجسام الكائنات الحية الميتة وإعادتها إلى هواء وماء وتراب الأرض فهي المحللات (decomposers) كالبكتيريا وبعض أنواع الفطريات.
 
وتتعدد سلاسل الغذاء الموجودة في النظام الحيوي بتعدد البيئات وقد يوجد في نفس البيئة عدة سلاسل غذائية وذلك حسب أنواع الكائنات المنتجة  في تلك البيئة وكذلك حجم المواد العضوية التي تنتجها فسلاسل الغذاء الموجودة في المحيطات والبحار تختلف عن تلك الموجودة في المناطق البرية . إن الكائنات المنتجة في البحار هي نوع من أنواع الطحالب تسمى العوالق النباتية (phytoplankton). والعوالق النباتية هي كائنات حية وحيدة الخلية يصل عدد أنواعها إلى خمسمائة نوع أشهرها الدايأتوم(diatoms) والطحالب الخضراء (green algae) والبكتيريا الخضراء المزرقة (cynobacteria) ولا يمكن رؤية معظمها بالعين المجردة وهي منفردة. وتعيش هذه العوالق فقط في طبقات الماء العليا ضمن المدى الذي يصل إليه ضوء الشمس وهو أقل من مائتي متر وذلك حسب صفاء الماء. ويوجد في المتوسط ما يقرب من مليون من هذه العوالق في اللتر الواحد من مياه المحيطات والبحار السطحية وعليها تقوم حياة جميع الكائنات البحرية حيث تقوم بتصنيع سكر الجلوكوز من ثاني أكسيد الكربون المذاب في الماء. وبسبب صغر حجم العوالق النباتية فإنه لا يمكن أكلها من قبل الأسماك ولذلك سخر الله عز وجل كائنات أكبر حجما تتغذي عليها وهي المستهلكات الأولية في سلسلة الغذاء البحرية وتسمى العوالق الحيوانية (zooplankton). وهذه العوالق الحيوانية هي الغذاء لكائنات أكبر حجما منها كالأسماك الصغيرة التي تصبح طعاما لأسماك أكبر منها حجما في سلسلة غذاء بالغة التعقيد كما يظهر في الصور التالية.
 

 
 
 

أما سلاسل الغذاء في البر فهي أكثر تنوعا وأكثر تعقيدا بسبب التفاوت الكبير  بين بيئات البر  فهنالك سلاسل غذائية للمناطق الإستوائية والقطبية  والمدارية والصحراوية والجبلية والسهلية وغيرها.  وفي كل سلسلة من هذه السلاسل نباتات وحيوانات خاصة بها يمكنها تحمل الظروف المناخية لتلك المناطق. والكائنات المنتجة في سلاسل البر هي النباتات بمختلف أنواعها كالأعشاب والأشجار  والتي قد يصل عدد أنواعها إلى عشرات الآلاف. وعلى عكس الكائنات المنتجة في البحر  ذات الخلية الواحدة فإن النباتات أكثر تعقيدا في تركيبها فهي كائنات متعددة الخلايا كبيرة الحجم وتمتص ثاني أكسيد الكربون من الهواء من خلال أوراقها والماء وبقية العناصر من التراب من خلال جذورها. وبسبب كبر حجم النباتات وتعدد ما تنتجه من مواد عضوية فإنه يمكن أكلها من قبل أنواع كثيرة من الكائنات المستهلكة وهي الحيوانات البرية. وتعتبر الحشرات من أكثر  المستهلكات الابتدائية للنباتات وهي طعام لكثير من المستهلكات الأخرى ولذلك فإن أنواعها وأعدادها تفوق أنواع وأعداد الكائنات الأخرى.  
 
 
 
وأما الآلية الثالثة فهي أن كفاءة تحويل الطاقة في الأنظمة الحية لا يمكن أن تكون مائة بالمائة بل هي أقل من ذلك بكثير حيث تتراوح في الأنظمة الحية  بين خمسة بالمائة وعشرين بالمائة وبمتوسط عشرة بالمائة. إن كمية الطاقة التي تستمدها الكائنات المنتجة وهي النباتات والطحالب من الشمس  وتخزنها كطاقة كيميائية في المواد العضوية لا تتجاوز عشرة بالمائة  من الطاقة الشمسية التي تسقط عليها.   وكذلك فإن كمية الطاقة المخزنة في أجسام الكائنات المستهلكة الأولية أي الحيوانات آكلة النباتات والطحالب لا تتجاوز العشرة بالمائة من كمية الطاقة الكيميائية المخزنة في أجسام الكائنات المنتجة وكذلك هو الحال مع الكائنات المستهلكة الثانوية والثلاثية والرباعية.  وعند رسم كمية الطاقة (energy) في أجسام الكائنات الحية ومقدار المواد العضوية الجافة في أجسامها أو ما يسمى بالكتلة الحيوية (biomass) وكذلك أعدادها وذلك تبعا لمستواها الغذائي (trophic levels) في السلاسل الغذائية تبين أن الرسم يبدو على شكل هرم (pyramids) قاعدته ثمثل الكائنات المنتجة ورأسه الكائنات المستهلكة الرباعية.    


ومن الآليات المستخدمة في حفظ توازن النظام البيئي أيضا أن لكل من هذه الحيوانات أطعمة مفضلة من النباتات أو من الحيوانات فهنالك الحيوانات التي تتغذى على أوراق النباتات وتلك التي تتغذى على أزهارها أو ثمارها أو بذورها أو أخشابها أو جذورها. ومن الحيوانات من يفضل أكل بعض أنواع الحيوانات على غيرها أو بعض الأجزاء من أجسامها ومن الكائنات من يتغذى على فضلات الحيوانات أو رممها ومنها من يتطفل في طعامه على أجسام الكائنات الحية دون أن يهلكها وإلى غير ذلك من وسائل التغذية التي لا حصر لها. ولهذه الأسباب فإن السلاسل الغذائية في البيئة الواحدة عادة ما تتداخل مع بعضها البعض منتجة ما يسمى بالشبكات الغذائية (food webs) والتي يعتمد تعقيدها على عدد أنواع الكائنات في تلك البيئة. ومن الآليات العجيبة التي تدل على مدى الإتقان في تصميم هذا النظام البيئي المتوازن هو أن معدلات تكاثر الكائنات تقل تدريجيا مع ازدياد حجم هذه الكائنات فعلى سبيل المثال فإن معدل التكاثر في العام الواحد يصل لعشرات الآلاف في البكتيريا ولعدة آلاف في الطحالب ولعدة مئات في الكائنات الحية الدقيقة ولعدة عشرات في الحشرات ولعدة آحاد في صغار الفقاريات وإلى أقل من واحد في كبار الفقاريات فسبحان القائل "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا " الفرقان 2.
وقد يتبادر لذهن البعض أن قيام النباتات والطحالب بتحويل بعض عناصر الطبيعة إلى مواد عضوية سيؤدي في النهاية إلى نضوب مصادرها وسيؤدي بالتالي إلى انتهاء الحياة على سطح هذه الأرض. وبما أن عناصر الكربون والأوكسجين والهيدروجين والنيتروجين تشكل ما يزيد عن خمس وتسعين بالمائة من وزن المواد العضوية التي تنتجها النباتات والطحالب فإن دراسة الطريقة التي يتم بها تجديد هذه العناصر من الأهمية بمكان لضمان استمرار الحياة على الأرض. لقد ذكرنا سابقا أن النباتات والطحالب تحصل على هذه العناصر الأربعة من الماء ومن غاز النيتروجين وغاز ثاني الكربون الموجودة في الهواء أو المذابة في الماء. وبما أن نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء تبلغ ثلاثة من مائة بالمائة وهي نسبة متدنية جدا بالمقارنة مع نسبة غاز الأوكسجين التي تبلغ واحد وعشرين بالمائة ونسبة غاز النيتروجين التي تبلغ ثمان وسبعين بالمائة فإن استهلاك خمسمائة بليون طن من هذا الغاز سنويا سيؤدي لنضوب مخزون هذا الغاز في الهواء في سنوات معدودة إن لم يتم تعويضه بشكل متواصل. ولكن من لطف الله عز وجل بمخلوقاته أن جميع أنواع الكائنات الحية تقوم بحرق سكر الجلوكوز لإجراء عملياتها الحيوية المختلفة لتطلق بذلك غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يعود إلى الجو مرة أخرى في ما يسمى بدورة ثاني أكسيد الكربون (Carbon cycle). أما بالنسبة لعنصر الأوكسجين فإن الكمية التي تأخذها الكائنات الحية من الهواء لكي تتمكن من حرق سكر الجلوكوز تعادل الكمية التي تطلقها النباتات والطحالب إلى الجو في عملية التركيب الضوئي في ما يسمى بدورة الأوكسجين (Oxygen cycle). وكذلك هو الحال مع دورة الماء حيث أن كمية الماء التي يتم تحريرها عند حرق سكر الجلوكوز تعادل تماما كمية الماء المستهلكة في عملية التركيب الضوئي في ما يسمى بدورة الماء (Water cycle). وأما بالنسبة لعنصر النيتروجين فإن دورته أكثر تعقيدا من دورات بقية العناصر حيث أن النباتات لا تقوم بامتصاص النيتروجين من الجو مباشرة بل تعتمد اعتمادا كبيرا على البكتيريا في فعل ذلك. وفي دورة النيتروجين (Nitrogen cycle) تقوم بعض أنواع البكتيريا بتثبيت نيتروجين الهواء كمركبات نيتروجينية في تراب الأرض ومن ثم تقوم النباتات بامتصاص هذه المركبات الذائبة من خلال جذورها بينما تقوم أنواع أخرى من البكتيريا بتحليل المواد العضوية النيتروجينية الموجودة في الكائنات الميتة وفي فضلات الكائنات الحية وإطلاق النيتروجين المحرر إلى الجو.
 

 

ظهر الفساد في البر والبحر

لقد ذكرت في مقالة (ظهر الفساد في البر  والبحر) أن الفساد الذي ظهر في بر وبحر وجو الأرض في هذا العصر لم تعهده الأرض منذ أن خلقها الله قبل ما يزيد عن أربعة بلايين عام وقد يكون هذا الفساد هو المقصود بقوله تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)) الروم. فعلى الرغم من ظهور كثير من الحضارات الإنسانية  قبل نزول القرآن الكريم وعمروا  الأرض وسخروا بعض مواردها لما فيه رفاهيتهم إلا أنهم لم يحدثوا أي فساد في الطبيعة أو البيئة بل بقي النظام البيئي يعمل بنفس الاتزان الذي خلقه الله عليه منذ مئات الملايين من السنين. إن الحياة على الأرض عملت ولا زالت تعمل بانتظام تام منذ أن خلقها الله سبحانه وتعالى قبل مئات الملايين من السنين وبقيت معدلات أعداد الكائنات الحية نباتاتها وحيواناتها بنفس النسب ولم تنفد موارد الأرض المختلفة رغم الاستهلاك المتكرر لها من قبل هذه الكائنات. وباستثناء كائن واحد فقط وهو الإنسان فإن بقية الكائنات الحية لا يمكنها أبدا إفساد هذه الاتزان العجيب  حيث أن الله سبحانه وتعالى قد فطرها على أداء أدوار محددة في هذا النظام البيئي لا يمكنها أن تحيد عنه.  أما الإنسان بما أعطاه من قدرات عقلية وجسمية يمكنه أن يفسد هذه الاتزان بعد أن مكنه الله عز وجل من استغلال خيرات هذه الأرض مصداقا لقوله تعالى "وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)" الأعراف.

وعلى الرغم من أن الله  سبحانه وتعالى قد مكن الإنسان من استغلال خيرات هذه الأرض لما فيه مصلحته إلا أنه سبحانه وتعالى قد أبقى مفاتيح كنوز الأرض بيده سبحانه يفتحها في الوقت المناسب ويعطي منها بالقدر المناسب فقال عز من قائل "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" الحجر 21.  إن تحكم الله سبحانه وتعالى بمقدار الرزق الذي ينزله على البشر هو لما فيه مصلحتهم  وذلك لمعرفته سبحانه وتعالى بطبيعتهم فقد يؤدي فتح الرزق عليهم بكثرة إلى إفساد الأرض تماما مصداقا لقوله تعالى "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" الشورى 27. ولحكمة عظيمة قدر الله  سبحانه وتعالى أن لا  يفتح جميع أبواب خزائن الأرض على البشر منذ بداية استخلافهم عليها بل أخر ذلك إلى العصور الأخيرة من فترة استخلافهم على الأرض. ومن الواضح أن كل الدلائل تشير إلى أن البشر يعيشون اليوم في هذه العصور الأخيرة من عمر البشرية والتي فتح الله عليهم فيها أبواب جميع خزائنه مصداقا لقوله تعالى "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ" الأنعام 44. وأعتقد أن الحكمة في ذلك الاختيار واضحة وتبينها الآيات السابقة فهذا الفتح سيؤدي لا محالة إلى بغي الناس على الطبيعة التي يعيشون عليها وعلى بعضهم بعضا وسيؤدي هذا البغي إلى فساد الأرض برها وبحرها وهلاك الكائنات الحية بمختلف أنواعها وعلى رأسها الإنسان الذي كان السبب في هذا الفساد.


إن الفساد الذي أصاب الأرض يتمثل في ضخ كميات كبيرة من مختلف أنواع المركبات الكيميائية إلى البر والجو والبحر  والتي تعمل على تلويث النظام الحيوي والبيئي والإخلال بعمل مكوناته على الوجه المطلوب. إن أكبر ملوثات الجو هو غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن  احتراق هذه الكميات الهائلة من  مختلف أنواع الوقود الأحفوري التي تستهلكها محطات توليد الكهرباء  ووسائط النقل المختلفة من طائرات وقطارات ومركبات والآلات الزراعية والمنشآت الصناعية. ولم يكتفي البشر بزيادة مخزون ثاني الكربون من خلال حرق مختلف أنواع الوقود بهذه الكميات الضخمة بل تسلطوا على الغابات وخاصة الاستوائية منها وقاموا بقطع مساحات واسعة جدا من أشجارها التي كانت تمتص جزءا كبيرا من ثاني أكسيد الكربون مما زاد أيضا من مخزونه في الجو. إن ضخ ما يقرب من ثلاثين بليون طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الجو سنويا بالإضافة إلى تقليل ما يمتص منه بسبب تقلص المساحات الخضراء  سيزيد من كميته في الجو ولا بد أن يترتب على ذلك آثار بيئية سيئة حيث أن دورة الكربون لا بد وأن تختل. إن أهم هذه الآثار السيئة هي ما يسمى بظاهرة الاحتباس الحراري حيث أن ثاني أكسيد الكربون بهذه النسبة المقدرة تقديرا بالغا من قبل خالق هذا الكون سبحانه وتعالى يلعب دورا بالغا على ثبات معدل درجة حرارة الأرض البالغ خمسة عشر درجة مئوية. وفي حالة زيادة كمية ثاني أكسيد الكربون عن الحد الذي قدره الله فإنه سيعكس كمية أكبر من الحرارة التي تنبعث من سطح الأرض مما يزيد من معدل درجة حرارة سطح الأرض عن المعدل الطبيعي.

 

 


 
 

 


ومن الغازات الضارة  الأخرى غاز  ثاني أكسيد الكبريت والذي يضخ منه إلى الجو ما يزيد عن مائة مليون طن سنويا وغاز ثاني أكسيد النيتروجين وأكسيد النتريك وتكمن خطورة هذه الغازات أنها تتحد مع بخار الماء الموجود في الجو منتجة حوامض الكبريتيك والنيتريك والتي تبقى معلقة في الجو على شكل رذاذ إلى أن تسقط مع مياه الأمطار مكونة ما يسمى بظاهرة الأمطار الحمضية. وهذه الأمطار ذات أثر سيء على البيئة فهي تلوث مياه الشرب وتلوث التربة من خلال تفاعلها بعناصرها فتتأثر بذلك إنتاجية المحاصيل وتحول مياه البحيرات المغلقة إلى مياه بنسبة حموضة زائدة تقضي على معظم الكائنات الحية التي تعيش فيها وتتسبب كذلك في تآكل المباني والجسور وأجسام المركبات والآليات والمعدات وغيرها وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)" الواقعة. ومن الغازات الخطيرة التي تنطلق إلى الجو عند احتراق مختلف أنواع الوقود في حالة نقص كمية الأوكسجين هو غاز أول أكسيد الكربون وهو غاز بالغ السمية. وتحتوي العوادم الخارجة من المصانع والمركبات إلى جانب هذه الغازات على مخلفات صلبة تخرج على شكل دخان أسود يملأ أجواء المدن مشكلا ما يسمى بالضباب الدخاني.  ولا بد أن نذكر أن نسبة الأوكسجين في الهواء تقل موضعيا في داخل المدن المكتظة بالمركبات حيث تلتهم محركاتها كميات كبيرة من الأوكسجين لإتمام عملية حرق الوقود ولا تتم عملية تعويض النقص في الأوكسجين في تلك المناطق إلا بشكل بطيء وقد يصاب الناس القاطنين في المدن بأمراض متعددة  كأمراض الجهاز الدوري والتنفسي نتيجة لنقص الأوكسجين واستنشاق أول أكسيد الكربون السام ودخان المركبات المنطلقة من عوادم المركبات والمصانع وهم لا يدركون أنها هي السبب في ذلك. ولا يقتصر ضرر الغازات والضباب الدخاني على صحة الإنسان بل يمتد تأثيرها إلى النباتات حيث يترسب الدخان على أوراق النباتات فيسد مساماتها ويحد من نموها بشكل كبير.

إن التلوث الذي أصاب مياه الأرض لا يقل عن التلوث الذي أصاب جوها فجميع ما ينتجه البشر من مخلفات صلبة وسائلة وغازية سواء كانت سامة أم غير سامة فإن مصيرها عاجلا أم آجلا إلى خزانات وأنهار وبحيرات ومحيطات هذه الأرض. إن المخلفات التي تنتجها المصانع بمختلف أنواعها والتي تلقيها في مياه الأنهار والبحار هي الأخطر على البيئة  وذلك لأن معظم ما تنتجه هذه المصانع هي مواد كيميائية عالية الثبات لا يمكن تحليلها من قبل البكتيريا وحتى إذا ما تحللت بطريقة ما فإن عناصرها قد تكون مضرة بالبيئة أكثر مما لو بقيت على حالها ويسمى هذا النوع من التلوث بالتلوث الكيميائي. وتتنوع المواد الكيميائية التي تنتجها المصانع من حيث كمياتها وأنواعها وخطورتها تبعا لنوع الصناعة التي تنتجها فبعض المصانع تنتج مواد كيميائية شديدة السمية وعالية الثبات مثل المنظفات الصناعية والمذيبات العضوية ومركبات الفوسفور ومركبات العناصر الثقيلة كالزئبق والرصاص والزنك والزرنيخ والكادميوم وغيرها من المعادن. ولقد وجد العلماء أن تركيز المواد السامة في أجسام الكائنات البحرية العليا كالحيتان والأسماك الكبيرة تزيد بألف مليون مرة عن تركيزه في ماء البحر التي تعيش فيه وذلك بسبب تراكم هذه المواد في أجسامها وأجسام الكائنات الأصغر منها التي تتغذى عليها. وبما أن الإنسان يقع على رأس الهرم في التسلسل الغذائي فإنه الأكثر تضررا من هذه المواد السامة بسبب أكله لمختلف أنواع الكائنات البحرية والدليل على ذلك  انتشار مختلف أنواع الأمراض بين البشر دون معرفة أسبابها كالسرطان والعقم والأمراض الجلدية والنفسية وغيرها. ويعتبر البترول ومشتقاته من أخطر ملوثات مياه البحار والمحيطات حيث يتسرب من البترول مئات آلاف من الأطنان سنويا ويحدث التسرب بطرق مختلفة كحوادث تحطم ناقلات النفط العملاقة التي تحمل الواحدة منها مئات الآلاف من الأطنان من البترول أو من آبار البترول البحرية أو عند تعبئة الناقلات بالبترول في الموانئ أو تفجر آنابيب البترول. وبما أن البترول ومشتقاته أخف من الماء ولا يذوب فيه فإن كميات قليلة منه تغطي مساحات شاسعة من سطح البحر حيث يشكل طبقة رقيقة على السطح تحول دون دخول الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون  إلى ماء البحر فتموت الكائنات الحية وخاصة الطحالب التي تعيش في الطبقات السطحية والتي تقوم عليها حياة جميع كائنات البحر.

 



ولا يقل خطر التلوث الذي أصاب تربة الأرض عن ذلك الذي أصاب هواء ومياه الأرض وتتلوث التربة من خلال المبيدات التي يستخدمها المزارعون لمكافحة الحشرات والنباتات التي تضر بأشجارهم ومحاصيلهم. ويكمن خطر هذه المبيدات في أنها شديدة السمية حيث لا يقتصر مفعولها على الآفات التي رشت من أجلها بل تقتل طيفا واسعا من النباتات والحشرات والديدان الصغيرة التي لا بد وأنها تلعب دورا مهما في التوازن البيئي.  وقد تتسمم المحاصيل التي رشت عليها هذه المبيدات دون أن تقضي عليها ومن ثم تنتقل هذه المواد السامة إلى أجسام من يتغذى عليها من إنسان وحيوان وتصيبها بالتسمم بشكل بطيء. وغالبا ما تنتقل هذه المبيدات السامة عند نزول الأمطار إلى المياه الجوفية والأنهار والبحيرات والبحار فيتسمم ما فيها من كائنات بدرجات متفاوتة. وكذلك فإن الأسمدة والمخصبات وكذلك الهرمونات التي تضاف إلى التربة لزيادة نمو المحاصيل الزراعية تلعب دورا كبيرا في تلوث التربة وبالتالي مياه الأنهار والبحار. ويكمن الخطر الأكبر من هذه المخصبات أن الزائد منها في التربة تنقله مياه الأمطار ومياه الري إلى المياه الجوفية  ومياه الأنهار والبحار مما يزيد من نسب هذه المواد فيها وتصبح غير مناسبة لعيش الكائنات الحية فيها. ومن الملوثات لتربة الأرض الأمطار الحامضية التي شرحناها آنفا فعند سقوطها على التربة تتفاعل الحوامض التي تحملها مع مركبات التربة المختلفة منتجة مركبات جديدة قد تضر بالنباتات التي تزرع فيها هذا بالإضافة إلى أنها ترفع من حموضة التربة التي قد تعمل على قتل كثير من الكائنات الحية الدقيقة والديدان المفيدة للتربة كمثبتات النيتروجين.  


إن آثار هذا الفساد في بيئة الأرض بدأت بوادره بالظهور في هذا العصر فقد لاحظ العلماء من خلال دراسات كثيرة أن معدل درجة حرارة الأرض بدأ بالزيادة عن معدله الطبيعي وأن آثار هذه الزيادة على البيئة  بدأت بالظهور بأشكال مختلفة.  إن أحد نتائج ارتفاع درجة حرارة الأرض هو ذوبان جزء من طبقات الجليد التي تغطي القطب الشمالي والجنوبي للأرض مما سيرفع من منسوب مياه المحيطات والبحار وإغراق كثير من المدن الساحلية وسيؤدي ذوبان  الجليد الذي يغطي قمم الجبال إلى تغير في مناسيب مياه الأنهار العظيمة إما بالزيادة أو النقصان. إن ذوبان جليد القطبين هو أبسط الآثار المتوقعة لظاهرة الاحتباس الحراري فالعلماء متخوفون من آثار أكبر من ذلك لا يمكن لدراساتهم وأبحاثهم التنبؤ بها لما في النظام البيئي من تعقيد وحساسية بالغة لبعض عوامله. فقد يؤدي ارتفاع معدل درجة حرارة الأرض إلى تحول شامل في مناخ هذه الأرض فيزداد التفاوت بين درجات الحرارة الدنيا والعليا في معظم مناطق العالم وتزداد شدة سرعة الرياح بسبب هذا التفاوت وتزداد أو ربما تقل معدلات تكون المنخفضات والمرتفعات الجوية ويزداد معدلات تكون الأعاصير والزوابع وتزداد شدتها وبالتالي قوة تدميرها. وبسبب تفاوت درجات الحرارة ستتأثر إنتاجية الأشجار المثمرة والمحاصيل الزراعية وقد تتحول مناطق زراعية مهمة إلى صحارى أو العكس أو يصيب القحط مناطق كبيرة من الأرض فيقل طعام وشراب الإنسان وبقية الكائنات الحية فيتحقق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أنس بن مالك  (يأتي على الناس زمان تمطر السماء مطرا ولا تنبت الأرض) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري.
 
 أما أخطر أنواع الفساد في النظام البيئي فهو زيادة أنواع الكائنات الحية المعرضة للانقراض بسبب السطو الجائر على كثير من الكائنات الحية أو السطو على أماكن سكناها أو تلويثها بمختلف أنواع المواد الكيميائية أو الإشعاعية. ولقد تبين للعلماء أن معدل عدد الكائنات المنقرضة بدأ يزداد بشكل متسارع ابتداءا من منتصف القرن العشرين واكتشفوا وجود ترابط وثيق بين هذا المعدل ومعدل زيادة عدد البشر. فتقديرات العلماء لعدد الكائنات المنقرضة في كل عام قبل بداسة القرن العشرين كان عشرة أنواع في كل عام بينما تراوحت التقديرات بين عشرة آلاف وثلاثين ألف نوع في كل عام في الوقت الحالي ويعود هذا التفاوت لصعوبة تحديد عدد الحيوانات المنقرضة بشكل دقيق.  ويتخوف بعض العلماء من أن نصف أنواع الكائنات الحية قد ينقرض مع نهاية القرن الواحد والعشرين وربما قبل ذلك.  إن مثل هذه المعدلات العالية والمتزايدة لانقراض الكائنات الحية ستتسبب في قطع كثير من السلاسل الغذائية في النظام الحيوي وسيؤدي هذا إلى تسارع أكثر في هذه المعدلات وبالتالي إنهيار كامل النظام وموت جميع أنواع الكائنات الحية.  ولقد تنبأت كثير من الأحاديث النبوية بحصول مثل هذا الاختلال البيئي في آخر الزمان وربما انهياره بشكل كامل وانتهاء ظاهرة الحياة على الأرض.  فقد جاء في كتاب الفتن لنعيم بن حماد عن جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خلق الله تعالى ألف أمة ستمائة في البحر وأربع مائة في البر وأول شيء من هذه الأمم هلاكا الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه" ويمكن للقارئ الرجوع لمقالة (حديث هلاك الجراد) لمزيد من التفصيل.  ولقد جاء العلماء بعد ما يزيد عن ألف عام ليؤكدوا هذه الحقيقة فقد نسب إلى العالم الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين أنه قال (إذا اختفى النحل من وجه الأرض فإنه لن يبقى للإنسان إلا أربعة سنوات ليعيش. ) (If the bee disappeared off the surface of the globe then man would only have four years of life left.).  أما عالم الأحياء إدوارد ويلسون فقد قال في كتابة تنوع الحياة (إن الحشرات وبقية المفصليات البرية إذا ما اختفت جميعها فإنه من المحتمل أن البشرية لن تبقى إلا لعدة أشهر ) (So important are insects and other land-dwelling arthropods that if all were to disappear, humanity probably could not last more than a few months.).