2014-05-29

ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون


ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون
 

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

 
 


 

 

 
 


لقد أشار القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا إلى ظاهرة بالغة الأهمية  تلعب دورا رئيسيا في إحداث هذا التنوع الهائل في أشكال الكائنات الحية ألا وهي ظاهرة الزوجية وذلك في قوله تعالى  "وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)" الذاريات.  ولقد عقب الله سبحانه وتعالى عند ذكره لظاهرة الزوجية في الآية السابقة  بأن من يتأمل فيها ويكتشف أسرارها وخاصة الدور الذي تلعبه في بناء هذا الكون العجيب لا بد وأن تذكره بأن لهذا الكون خالقا لا حدود لعلمه وقدرته. وسنقتصر في هذه المقالة على دراسة ظاهرة الزوجية في الكائنات الحية والدور الذي تلعبه في إحداث هذا التنوع الهائل في أشكالها وألوانها. إن في ظاهرة الزوجية في الكائنات الحية من الأسرار والألغاز ومن معجزات الخلق التي إذا ما تدبرها أي عاقل فإنه لا مناص له من التسليم بأن هذه الظاهرة لا يمكن أن تصمم إلا من قبل خالق لا حدود لعلمه وقدرته. بل إن هذه الظاهرة تدحض بكل قوة فرية أن الصدفة هي من تقف وراء هذا التنوع الهائل في أشكال الكائنات الحية وذلك لأن الشروط اللازمة لنجاح عمل هذه الظاهرة من الكثرة والتعقيد بحيث يستحيل أن تجتمع بطريق الصدفة. لقد أكد الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على أنه قد خلق من كل نوع من أنواع الثمرات زوجين اثنين وذلك في قوله سبحانه "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)" الرعد. وما ينطبق على الثمرات ينطبق على جميع أنواع الكائنات الحية من نباتات وحيوانات من حيث أن الله قد خلق زوجين اثنين من كل نوع منها مصداقا لقوله تعالى "فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)" وكذلك لدخولها في عموم قوله تعالى "وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)" الذاريات.

إن ظاهرة الزوجية في الكائنات الحية  إنّما خلقها الله سبحانه وتعالى لحكمة عظيمة قل من يلتفت إليها وهو إحداث هذا التنوع الهائل في أشكال وألوان نفس النوع من الكائنات الحية مصداقا لقوله تعالى "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)" فاطر. ولولا ظاهرة الزوجية التي أبدعها الله لما فيه مصلحة البشر لما تمكن البشر من التلذذ بمذاق عشرات بل مئات الأصناف من شتى أنواع الثمرات ومن التمتع بالنظر إلى أشكال مختلف أنواع الحيوانات وخاصة الأنعام مصداقا لقوله تعالى "يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)" النحل وقوله تعالى "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" .  ولولا ظاهرة الزوجية لكان أفراد البشر على صورة واحدة ولما أمكنهم التعرف على بعضهم البعض ولما عرفوا معنى الجمال في أشكال أجسامهم وصدق الله العظيم القائل "هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)" آل عمران. وإن أول ما يتبادر إلى ذهن المتفكر في ظاهرة الزوجية في الكائنات الحية هو وجود زوجين من كل نوع منها أحدهما ذكر والآخر أنثى ولو أمعن المتفكر في تفكيره لاكتشف أن ظاهرة الذكورة والأنوثة ما هي إلا الآلية التي أبدعها الله عز وجل للوصول للهدف المنشود وهو إحداث هذا التنوع في أشكال الكائنات الحية. وسنبين في هذه المقالة أن تصنيع الكائنات الحية ابتداء من خلية واحدة يتطلب ثلاث مستويات من التزاوج أولها وأبسطها التزاوج بين الذكر والأنثى وثانيها التزاوج بين خلية الحيوان المنوي التي ينتجها الذكر وخلية البويضة التي تنتتجها الأنثى أما ثالثها وأعقدها فهو التزاوج بين الكروموسومات الذكرية والكروموسومات الأنثوية. وسنبين أيضا أن عمليات التزاوج بكل مستوياتها فيها من التعقيد البالغ بحيث أن فرص نجاحها تكاد تكون معدومة بالمقاييس البشرية ولكن الذي أبدعها سبحانه وتعالى قد أحكم تصميمها بحيث أنها تعمل بنسبة نجاح قد تصل إلى مائة بالمائة وكيف لا ونحن نرى ملايين البلايين من الكائنات الحية تولد كل يوم ومن النادر أن نجد عيبا في بنية أجسامها رغم ما في تركيب أعضائها من تعقيد. 

ولكي يتمكن القارئ من إدراك الأسرار الموجودة في ظاهرة الزوجية لا بد من مراجعة سريعة للطريقة التي يتم بها تصنيع الكائنات الحية ابتداء من خلية واحدة ويمكن للقارئ الرجوع لمقالات سابقة لمزيد من التفاصيل  كمقالة "من سلالة من ماء مهين" ومقالة "من نطفة خلقه فقدره". إن جميع أنواع الكائنات الحية يبدأ تصنيعها من خلية واحدة فقط حيث تنقسم هذه الخلية إلى خليتين تنقسمان بدورهما إلى أربعة خلايا وهكذا إلى أن يتم إنتاج جميع الخلايا التي يحتاجها بناء جسم الكائن الحي والتي قد يصل عددها إلى ملايين البلايين. وفي أثناء عمليات الانقسام هذه تتخذ بعض الخلايا المتخصصة مواقع محددة في جسم الكائن الحي في المراحل الأولى من عملية تصنيعه بحيث ينتج عن انقسامها المتكرر أعضاء الكائن المختلفة كل في مكانه الصحيح. وإن كل ما تحتاجه الخلية الحية الأولية لكي تتحول إلى كائن حي كامل هو إمدادها بالغذاء الذي تستخدمه لإنتاج جميع الخلايا الجديدة وكذلك توفير المكان المناسب لنموها. ولقد تبين لعلماء الأحياء أن الخلية التي يبدأ منها تصنيع الكائن تحتوي في نواتها على شريط بالغ الصغر والضعف لا يمكن رؤية تفصيلاته إلا بالميكروسكوبات الإلكترونية وهو شريط الحامض النووي وعلى هذا الشريط يوجد كامل التعليمات التي تلزم لتصنيع الكائن الحي. ولقد اكتشف العلماء أن المعلومات التي تلزم لتصنيع أيّ كائن حي مكتوبة بطريقة رقمية على عدد من أشرطة الحامض النووي تسمى الكروموسومات التي يتراوح عددها ما بين كروموسوم واحد في الفيروسات والبكتيريا وعشرات الكروموسومات في الكائنات الحية الكبيرة. وعلى هذه الكروموسومات توجد آلاف البرامج الرقمية تسمى الجينات والتي تحتوي كامل مواصفات الكائن الحي والخطوات التي يتم من خلالها تصنيع هذا الكائن ابتداء من خلية واحدة. وتأتي الكروموسومات على شكل أزواج كل زوج مكون من شريطين من الحامض النووي شريط مأخوذ من الأب والآخر من الأم وهما مرتبطان ببعضهما عند منتصفهما تقريبا ويحمل كل منهما نفس الجينات ما عدا اختلاف بسيط في محتوى بعض الجينات كما سنبين تفصيل ذلك لاحقا.  ولتوضيح مدى ضعف هذا الشريط نورد بعض أبعاده في الإنسان حيث يبلغ طوله ما يقرب من المترين موزعا على ستة وأربعين كروموسوم أما عرض هذا الشريط  فيبلغ نانومترين اثنين فقط ( النانومتر جزء من  ألف مليون جزء من المتر) أيّ أن قطر شعرة الإنسان يزيد بخمسين ألف مرة عن قطر هذا الشريط.  إن الخلية التي تبدأ منها عملية تصنيع معظم أنواع الكائنات الحية بما فيها الإنسان ليست أيّ خلية من الخلايا بل هي خلية محددة لها القدرة على تنفيذ كامل برنامج التصنيع وذلك بمجرد إعطائها إشارة البدء. وقد تبين لعلماء الأحياء أن خلية التكاثر هذه يتم إنتاجها في كثير من الكائنات الحية من خلال اندماج محتويات خليتين تكاثريتين أحدهما يتم تصنيعها في جسم الذكر والأخرى في جسم الأنثى وهاتان الخليتان تختلفان عن بقية الخلايا العادية بأن عدد الكروموسومات في كل منها يساوي نصف عددها في الخلايا العادية. وعند اندماج الخليتين الذكرية والأنثوية لينتجا الخلية المسؤولة عن تصنيع الكائن الجديد والمسماة بالنطفة ترتبط الكروموسومات الذكرية مع نظيراتها الأنثوية ليصبح عدد الكروموسومات فيها يساوي العدد الموجود في الخلايا العادية ولكن نصف هذه الكروموسومات قد تم أخذه من الأب والنصف الآخر من الأم وتسمى هذه الطريقة في إنتاج كائنات جديدة بالتكاثر الجنسي.
إن طريقة التكاثر الجنسي والتي تستلزم وجود ذكر وأنثى لإنتاج كائن حي جديد هي عملية بالغة التعقيد بحيث أن نسبة نجاحها في إنتاج كائن جديد نسبة بالغة الضآلة بل قد تكون مستحيلة لو لم يكن الذي أبدعها هو من لا حدود لعلمه وقدرته وهو الله سبحانه وتعالى. لقد كان من الأسهل والأضمن أن يتم اختيار طريقة التكاثر اللاجنسي لإنتاج كائنات حية جديدة بدلا من التكاثر الجنسي في جميع أنواع الكائنات الحية. وفي هذه الطريقة يقوم كائن حي واحد فقط بإنتاج الكائن الحي الجديد وكل ما يلزم في هذه الطريقة أن تكون الخلية التكاثرية الموجودة في الأنثى هي الخلية التي يبدأ منها تصنيع الكائن الحي الجديد دون الحاجة لتلقيحها من خلية ذكرية. وهذا التعديل لا يتطلب إلا إضافة برنامج بسيط في مقدمة شريط الحامض النووي الموجودة فيها ليؤكد على أن هذه الخلية هي خلية تكاثرية تبدأ بتصنيع كائن جديد بمجرد وضعها في المكان المناسب. إن هذه الطريقة اللاجنسية في التكاثر قد تم استخدامها في كثير من الكائنات الحية خاصة الدقيقة منها وفي بعض أنواع النباتات كالأعشاب والمحاصيل وبعض أنواع الحيوانات كالديدان وبعض أنواع الأسماك. وهناك أشكال مختلفة لطرق التكاثر اللاجنسي كالانقسام في الكائنات وحيدة الخلية والتبرعم والبذور والفسائل والتطعيم في النباتات. أما في الحيوانات فهناك أشكال عجيبة للتكاثر اللاجنسي فبعض الحيوانات يحتوي جسم الكائن على أعضاء تناسل ذكرية وأخرى أنثوية وبعضها تكون بيوضها جاهزة للتكاثر بدون حاجة لتلقيحها من خلية ذكرية وغير ذلك. وعلى الرغم من أن التكاثر اللاجنسي يتميز بموثوقيته العالية وكذلك ارتفاع معدل التكاثر فيه إلا أن الكائنات المنتجة من خلاله لها مواصفات هي طبق الأصل عن مواصفات الكائنات التي أنتجتها مما يعني أن طريقة التكاثر هذه لن تؤدي إلى  التنوع المنشود في أشكال الكائنات الحية.
 إن هذا التنوع في أشكال الكائنات الحية لن يتحقق إلا من خلال طريقة التكاثر الجنسية والتي تتطلب وجود كائنين اثنين  بدلا من كائن واحد وتتم عملية تصنيع الكائن الجديد بحيث ينتج كل منهما خلية تحمل برنامج تصنيع كامل بمواصفات الكائن الذي أنتجها ولكن لا يمكن لأي منهما تنفيذ برنامج التصنيع الذي في داخلها بمفرده. ولكن بمجرد دمج برنامجي التصنيع الموجودين في الخليتين في نواة إحداهما فإن الخلية المركبة أو الملقحة تبدأ بتنفيذ برنامج تصنيع الكائن إذا ما توفرت لها الظروف المناسبة. ولكي تحقق طريقة التكاثر الهدف الذي صممت من أجله وهو زيادة التنوع في أشكال الكائنات الحية فعلى برنامج التصنيع الموحد أن يأخذ تعليمات تصنيع الأجزاء المختلفة للكائن من  البرنامجين بحيث تكون بعض مواصفات الكائن الجديد مأخوذة من الكائن الذكر والبعض الآخر مأخوذ من الكائن الأنثى. وهذا التنوع أيضا لن يتحقق إلا بوجود اختلاف في برنامجي التصنيع المأخوذين من الذكر والأنثى مما يعني أن مواصفات جسم أول ذكر وجسم أول أنثى انحدر منهما كل نوع من أنواع الكائنات الحية لا بد وأن تكون مختلفة وإلا لما استدعى الأمر اختراع مثل هذه الطريقة البالغة التعقيد للتكاثر. فعلى سبيل المثال فإن برنامج تصنيع كل فرد من أفراد البشر هو مزيج من تعليمات التصنيع المأخوذة من برنامجي تصنيع أبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام وقد يظن البعض وهم يرون هذا التنوع الهائل في أشكال البشر بحيث لا تجد فردا منهم يشبه الآخر أن هنالك برامج للتصنيع بعدد أفراد البشر. وهذا ليس بصحيح فهذا التنوع إنّما هو ناتج عن العدد الهائل من التوافيق التي تنتج عن اختيار صفات كل جزء من أجزاء جسم الإنسان من برنامجي التصنيع التي أودعهما الله في جينات آدم وحواء عليهما السلام.
وكما هو معلوم في عصرنا هذا فإن الذي يقوم بتصميم نظام ما لإنجاز مهمة محددة فإن عليه أن ينتبه لكل جزئية من جزيئات هذا النظام والظروف التي سيعمل فيها ثم يقوم بالعمل على حل جميع المشاكل التي قد تحول دون نجاح عمل هذا النظام. إن أول مشكلة يتطلب حلها في طريقة التكاثر الجنسية هي أن كل خلية من خلايا الكائنات الحية التي تتكاثر بالطريقة  اللاجنسية تحتوي على برنامج تصنيع واحد ينتج عند تنفيذه كائن بنفس مواصفات الكائن الذي أخذت منه. أما طريقة التكاثر الجنسية فتتطلب وجود برنامجين للتصنيع في الخلية التي ستبدأ منها عملية تصنيع الكائن الجديد أحدهما مأخوذ من الكائن الذكر والآخر مأخوذ من الكائن الأنثى وذلك لكي يتم تصنيع الكائن الجديد بمواصفات بعضها مأخوذ من مواصفات الذكر وبعضها من مواصفات الأنثى. والمشكلة التي ستظهر هي أنه عند تزاوج كائنين من الجيل الثاني باستخدام خليتين تحتوي كل منهما على برنامجين للتصنيع سيكون الناتج كائن جديد تحتوي خلاياه على أربعة برامج للتصنيع وعلى هذا ستبدأ برامج التصنيع بالتضاعف في داخل الخلية عند تزاوج الأجيال التالية. إن هذه المشكلة قد تم تفاديها قبل ظهورها من قبل من لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وذلك باستخدام  فكرة عجيبة لا يمكن أن تصدر إلا عن عليم خبير ولا يمكن للصدفة أن تهتدي إليها بطريقة التجربة والخطأ مهما أعطيت من زمن. وتتلخص هذه الفكرة العبقرية بأن يقوم  كل من الكائن الذكر والكائن الأنثى بإنتاج خليتين تكاثريتين  يحتوي كل منها على نصف عدد الكروموسومات الموجودة في الخلايا العادية وعند اتحادهما لإنتاج النطفة فإن عدد الكروموسومات فيها سيكون بعدد الكروموسومات الموجودة في الخلايا العادية أيّ أن عدد الكروموسومات سيبقى ثابتا مهما تكررت عملية التكاثر. وقد يتبادر لذهن البعض أن خلايا التكاثر هذه تحتوي على نصف برنامج تصنيع الكائن الذي أنتجها وهذا ليس غير صحيح حيث تحتوي الخلية الذكرية على كامل برنامج التصنيع الذي صنع على أساسه الكائن الذكري وكذلك هو الحال مع الخلية الأنثوية وهذا يعني أن الخلية الملقحة أو النطفة وكذلك الخلايا العادية للكائن الحي تحتوي على برنامجين للتصنيع أحدهما مأخوذ من الخلية الذكرية والآخر من الخلية الأنثوية. ولكن عندما تبدأ عملية تصنيع الكائن ابتداء من الخلية الملقحة فإن تعليمات التصنيع تؤخذ من كلا البرنامجين بطريقة مدروسة بحيث تكون مواصفات الكائن الناتج خليط من مواصفات أبيه وأمه. وعلى الكائن الجديد بعد أن يكبر ويصبح قادر على إنتاج خلايا للتكاثر أن يودعها نفس برنامج التصنيع الذي صنع على أساسه والذي هو خليط من البرنامجين الذين تم تصنيع أبيه وأمه على أساسهما من قبل وذلك لكي يورث بعض صفاته إلى ذريته بعد أن يتزاوج مع شريكه. ومما يؤكد على أن طريقة التكاثر الجنسية هذه قد تم تصميمها من قبل عليم خبير أراد منها إحداث تنوع في أشكال الكائنات الحية ضمن النوع الواحد هو أنه عند إنتاج الكروموسومات في الخلايا التكاثرية تتم عملية مزج للجينات المأخوذة من كل من كروموسومات الأب والأم بحيث تضمن اختلاف حتى في مواصفات أجسام ذرية نفس الأب والأم كما يتضح من الشكل المرفق.   

أما المشكلة الثانية والأعوص والتي ستظهر عندما يتم تنفيذ طريقة التكاثر هذه فهي حاجتها إلى ثلاث مستويات من التزاوج أولها وأبسطها نسبيا التزاوج بين الذكر والأنثى وثانيها التزاوج بين الخلية الذكرية (الحيوان المنوي) والخلية الأنثوية (البويضة) وثالثهما التزاوج بين الكروموسومات الذكرية والأنثوية. إن أول أنواع التزاوج  يتطلب تصميم أجهزة تناسلية في كل من الذكر والأنثى قادرة على إنتاج خلايا التكاثر وبحيث يتوافق تركيب كل منهما مع الآخر ليقوما بالوظيفة التي صمما من أجلها على أكمل وجه. وللقارئ  أن يحكم بنفسه إن كان باستطاعة الصدفة أن تكتب برامج لتصنيع ملايين الأشكال من أجهزة التناسل الذكرية والأنثوية في ملايين الأنواع من الكائنات بحيث تكون أجهزة التناسل الذكرية متوافقة تمام التوافق مع أجهزة التناسل الأنثوية في كل منها. إن وجود أجهزة تناسل متوافقة في كل من الذكر والأنثى قادرة على إنتاج خلايا التكاثر لن تجدي نفعا في غياب آلية تجبر الذكر والأنثى للتزاوج في الوقت المناسب لجمع خليتي التكاثر في حيز واحد. إن البشر لا زالوا  يقفون عاجزين حتى اليوم عن زرع الشهوة في بعض أفراد بني جنسهم إذا ما فقدوها لسبب ما على الرغم من أنهم تمكنوا من معرفة الهرمونات المسؤولة عن إثارة الشهوة الجنسية لديهم.  إن الدارس لطرق تكاثر الحيوانات يجد أن الذي قام باختراع طريقة التكاثر هذه قد كتب برامج معقدة أودعها جينات هذه الحيوانات بحيث تضمن تزاوجها وتكاثرها بالأعداد المطلوبة مما يحول دون انقراضها.  بل إن الإنسان لتأخذه الدهشة ويعجب كل العجب عندما يرى عمليات تزاوج حيوانات كبيرة كالفيلة والجمال والزرافات وحيوانات صغيرة كالسلاحف والأفاعي وغيرها بعد أن كان يظن أن هذا من الصعوبة بمكان. ويمكن أن ندرك مدى التعقيد الموجود في برامج التكاثر هذه عندما نشاهد الطيور في فصل الربيع وهي تصنع أعشاشها وفقا لمواصفات محددة ومن ثم تتزاوج وتضع بيضها ومن ثم ترقد عليه لفترات زمنية محددة  بحيث يفقس في الوقت المناسب من السنة حيث تتوفر الظروف المناسبة لنمو صغار هذه الطيور. وندرك ذلك عندما نعلم أن كل نوع من أنواع الحشرات التي تعد  بمئات الآلاف تقوم الأنثى فيها بإفراز مواد كيميائية بكميات في غاية الضآلة فيستطيع الذكر على بعد عدة كيلومترات من التقاط عدة جزيئات من هذه المواد بأجهزة في غاية الحساسية فيتحرك نحو مكان الأنثى لغرض التزاوج ولكي لا تختلط الأمور على الحشرات فإن كل نوع من هذه الحشرات يفرز رائحة خاصة به. إن جميع الإجراءات  التي تقوم بها ذكور وإناث مختلف أنواع الكائنات الحية لإتمام عملية  تكاثرها إنّما هي مخزنة كبرامج مكتوبة في جيناتها وعند توفر الظروف المناسبة للتكاثر تعطى إشارة البدء لتنفيذ هذا البرنامج  ابتداء من إنتاج خلايا التكاثر ومن ثم التزاوج وحضانة البيضة الملقحة وأخيرا رعاية صغار هذه الكائنات إلى أن تصبح قادرة على رعاية نفسها بنفسها فسبحان القائل "قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)" طه.

 أما المستوى الثاني من مستويات التزاوج فهو الذي يتم بين خليتي التكاثر الذكرية والأنثوية إذا ما تم جمعهما في حيز واحد وذلك بعد أن تتم عملية التزاوج بين الذكر والأنثى. وتتطلب عملية التزاوج هذه وجود آلية تدفع خلية التكاثر الذكرية للبحث عن خلية التكاثر الأنثوية ومن ثم تدفعها لاختراق جدارها وذلك لكي تقوم بتفريغ النصف الأول من برنامج التصنيع الذي تحمله في نواة الخلية الأنثوية حيث يوجد النصف الثاني من البرنامج. وبما أن هذا الخلايا التكاثرية لا تسمع ولا تبصر وليس لها أيدي وأرجل فقد زودها من صممها سبحانه وتعالى بآلية عجيبة تقوم مقام آلية الشهوة بين الذكر والأنثى  تمكنها من الالتقاء ببعضها حيث تطلق الخلية الأنثوية مواد كيميائية في السائل المحيط بها تعمل على اجتذاب الخلية الذكرية نحوها والتي تم تزويدها بذيل يدفعها للحركة نحو الخلية الأنثوية فتقوم بمجرد ملامستها بفرز مادة كيميائية تذيب غشاءها لتتمكن من الدخول فيها. ومن عجائب عملية التزاوج هذه أنه على الرغم من أن الخلية الأنثوية الوحيدة محاطة بملايين الخلايا الذكرية إلا أنها لا تسمح إلا لواحد منها فقط بالدخول إلى نواتها وإلا لتم إفسادها إذا ما دخلها أكثر من واحد. إن كل هذه الآليات المستخدمة لجمع الذكر بالأنثى وإجبارهما على التزاوج ومن ثم جمع الخلية الذكرية بالخلية الأنثوية وإجبارهما على الاندماج ببعضهما لا تكاد تذكر من حيث صعوبتها مع عملية التزاوج الثالثة والأخيرة والتي تتم بين الكروموسومات الذكرية والأنثوية والتي ستنتج برنامج موحد  لتصنيع الكائن الجديد.  وكما ذكرنا سابقا أن برامج تصنيع معظم أنواع الكائنات الحية من الضخامة بحيث يلزم كتابتها على عدد كبير من الكروموسومات والتي يحمل كل منها جزءا محددا من برنامج التصنيع الكلي. فالشريط الوراثي في الإنسان على سبيل المثال مكون من ستة وأربعين كروموسوما بأطوال مختلفة وكل زوجين منها مسؤولة عن تصنيع أجزاء محددة من جسم الإنسان تمكن العلماء في هذا العصر من كشف بعض تفصيلاتها. ولكي يتم تجميع برنامج تصنيع الكائن الحي من الكروموسومات التي تحملها الخلية الذكرية وتلك التي تحملها الخلية الأنثوية بعد دمج الخليتين معا يجب على كل كروموسوم ذكري أن يبحث عن نظيره الأنثوي ويتحد معه ليكونا معا زوجاﹰ من الكروموسومات فيه نسختان متشابهتان إلى حد ما من تعليمات التصنيع. إن أكبر ما يحير العلماء هو الكيفية التي تتمكن بها الكروموسومات الذكرية من التعرف على نظائرها الأنثوية والاتحاد بها وهي أشرطة ليست كالكائن الذكري والأنثوي التي تتزاوج بدافع الشهوة التي زرعت فيها وليست كذلك كالخلية الذكرية والأنثوية التي تتحد بواسطة المواد الكيميائية التي تفرزها. وللقارئ أن يتخيل منظر ثلاثة وعشرين كروموسوما ذكريا ومثلها أنثوية قد تم جمعها في داخل نواة خلية ويبدأ كل منها بالبحث عن نظيره لكي يتحد معه لينتجا برنامج تصنيع الكائن الجديد كما هو مبين في الشكل المرفق.

لقد تمكن علماء الأحياء  خلال القرنيين الماضيين من تأكيد حقيقة وجود زوجين فقط من برامج تصنيع جميع أنواع الكائنات الحية التي تتكاثر بالتزاوج حيث اكتشفوا أن برنامج تصنيع كل نوع منها يحتوي على نوعين فقط من الجينات لهما نفس الوظيفة العامة إلا أنه يوجد بعض الاختلاف في تركيبهما والذي يؤدي إلى اختلاف في أشكال بعض مواصفات الكائن المنتج. فقد لاحظ عالم النبات النمساوي جريجور مندل في منتصف القرن التاسع عشر بعد أن قام  بسلسلة من عمليات التهجين لبعض أنواع النباتات أن أشكال وألوان معظم أجزاء النباتات تتحدد من صفتين  تتناقلها هذه النباتات في جيناتها أحدهما صفة سائدة (dominant trait) والأخرى صفة متنحية (recessive trait).  وقد لاحظ أنه إذا ما اجتمعت صفة سائدة وأخرى متنحية في برنامج التصنيع النهائي للكائن الجديد فإن الصفة السائدة هي التي ستظهر في بنية جسمه ولا تظهر الصفة المتنحية إلا عند اجتماع صفتين متنحيتين في برنامج تصنيعه.
 
ولقد أكد علماء الأحياء فيما بعد وجود الصفات السائدة والمتنحية في برامج تصنيع جميع أنواع الكائنات الحية التي تتكاثر بالتزاوج بما فيها الإنسان. وعلى هذا فإن كل زوج من الكروموسومات يتكون من كروموسوم ذكري وأخر أنثوي لهما نفس الطول تماما ويحملان نفس العدد من الجينات وكل جين ذكري يقابله جين أنثوي له نفس الطول تماما. وفي الغالب تكون معظم الجينات الذكرية ونظائرها الأنثوية الموجودة على الكروموسومات لها نفس المحتوى من الشيفرات الوراثية ولكن يوجد بعض الجينات تكون فيها الشيفرات مختلفة لغرض تغيير بعض صفات الكائن لإحداث التنوع المنشود. ومن السهل أن نستنج أن الجينات التي يوجد فيها اختلاف لا يمكن  أن تأتي إلا على صورتين أحدهما سائدة والأخرى متنحية وذلك لأنه لا خلاف بين علماء الأحياء على أن جميع أفراد النوع الواحد قد انحدرت من زوجين فقط وهما الذكر الأنثى وكما أكد على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)"  النجم وقوله تعالى "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا (189)" الأعراف وقوله تعالى "الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)" طه.
لقد ذكرنا في مقالات سابقة أن معجزة المعجزات في عملية تصنيع الكائنات الحية أن يقوم شريط بالغ الضعف يقبع في نواة الخلية بإعطاء الأوامر بحيث يحول خلية وحيدة إلى كائنات حية بمختلف الأشكال والألوان لا زال البشر يقفون عاجزين عن كشف أسرار تركيب أجسامها. ويزداد الإعجاز في هذه المعجزة عند  تصنيع أجسام الكائنات الحية التي تتكاثر بالتزاوج حيث يتولى شريطان وراثيان إعطاء الأوامر لإتمام عملية التصنيع ولولا لطف الله وحسن تدبيره لوقعت الطامة ولتشوهت أجسام الكائنات المصنعة بسبب صدور الأوامر عن شريطين بدلا من شريط واحد ولكن في المقابل نجد أن هذين الشريطين يتعاونان بشكل منقطع النظير لإنتاج أصناف لا حصر لها من نفس النوع من الكائنات لما فيه فائدة البشر والذين للأسف لا يقدرون الله حق قدره ولا يشكرونه حق شكره. وقبل أن نشرح الفكرة البسيطة التي أبدعها الله لتنسيق عمل الشريطين لا بد من مراجعة سريعة لتركيب الشريط الوراثي والطريقة المجملة التي يعمل من خلالها لتصنيع الكائنات.  
يتكون الشريط الوراثي من سلسلتين جانبيتين مبنيتين من نوعين من الجزيئات أحدهما من السكر والأخرى من الفوسفات  يتم ربطهما بشكل متعاقب ومن ثم يتم ربط الأحرف الوراثية بين السلسلتين على مسافات محددة وذلك على شكل درجات السلم. وتتكون كل درجة من حرفين وراثيين يرتبطان بجزيئات السكر الموجودة على السلسلتين ويرتبطان كذلك ببعضهما البعض عند منتصف الدرجة وتبلغ المسافة الفاصلة بين كل درجة من درجاته ثلث نانومتر فقط أيّ أن السنتيمتر الواحد من هذا الشريط يحتوي على ما يقرب من ثلاثين مليون حرف وراثي. إن الشيفرات الوراثية في جميع الكائنات الحية مكتوبة بنفس نوع الأحرف التي يبلغ عددها أربعة أحرف فقط تم تمثيلها بأربعة أنواع من الجزيئات العضوية أما طول الشيفرة فيبلغ ثلاثة أحرف فقط. ولكي يتم وضع هذه الأشرطة الطويلة والدقيقة في داخل نواة الخلية التي لا يتجاوز قطرها عدة  ميكرومترات فلا بد من طيها مئات الآلاف من المرات ومن البدهي أن لا يتم لف هذا الأشرطة بطريقة اعتباطية وإلا لتشابكت أجزاؤها ولما تمكنت هذه الأشرطة من القيام بمهامها حيث أن كل جزء منها يحتوي على معلومات وراثية محددة  مسؤولة عن وظيفة محددة في عملية تصنيع جسم الكائن. إن العقل ليتصدع إذا ما أراد أن يفكر في الطريقة التي يمكن بها لف هذا الأشرطة الطويلة والضعيفة ووضعها في نواة بالغة الصغر وبحيث يمكن الوصول لكل شيفرة من الشيفرات مع التذكير أنه لا يوجد من يلفها. إن هذه الأشرطة قد لفت نفسها بنفسها بطريقة لا مجال للخطأ فيها عند قراءة المعلومات المكتوبة عليها وإلا لما كان بالإمكان تصنيع ملايين الكائنات الحية كل يوم تطلع فيه الشمس بنفس مواصفات أصولها. ولقد أصيب العلماء بدهشة كبيرة عندما اكتشفوا أن هذه الأشرطة قد تم لفها بطريقة بالغة الذكاء على سطوح كرات بروتينية  تتجمع لتكون أسطوانات يصل قطر الواحدة منها ثلاثين نانومتر ولا يتجاوز طولها الميكرومتر الواحد وقد يصل عدد لفات الشريط على الأسطوانة الواحدة مائة ألف لفة ويطلق العلماء اسم الكروموسومات على هذه الأشرطة الملفوفة حول هذه الأسطوانات. وبالإضافة إلى هذا فإن هذه الطريقة في اللف تسهل عملية إنتاج نسخ جديدة عن هذا الشريط لوضعها في الخلايا الجديدة حيث أن عملية النسخ هذه تتكرر بلايين المرات في فترة عمر الكائن الحي.
وعلى الرغم من اكتشاف العلماء لبعض الآليات التي ينفذ بها الشريط الوراثي برامجه عند تصنيعه الكائنات الحية إلا أن عملية تحول خلية واحدة من تلقاء نفسها إلى كائن حي يحتوي جسمه على بلايين الخلايا تبقى معجزة المعجزات التي ستصدع رؤوس العلماء في محاولاتهم لكشف أسرارها. إن تصنيع أجسام الكائنات الحية يحتاج إلى مئات  الآلاف من التصاميم والرسومات الهندسية التي تبين الأشكال والأبعاد الثلاثية والتراكيب الداخلية لكل عضو من أعضاء الكائن الحي إلى جانب تحديد مختلف أنواع التفاعلات الكيميائية التي ستجري في داخلها. وبما أنه لا يوجد قوة خارجية تقوم بحمل الخلايا ووضعها في الأماكن المخصصة لها في جسم الكائن كما يفعل البشر عند تصنيع أشيائهم فإن هذه المهمة تقع على عاتق الخلية الأم وما تنتجه من خلايا أثناء عملية الانقسام المتكررة. ويقع على عاتق الخلية الأولى تحديد عدد الانقسامات التي ستلزم لإنتاج جميع الخلايا التي يحتاجها بناء جسم الكائن وبما أنها ستختفي بمجرد انقسامها إلى خليتين جديدتين فإن عدد الانقسامات التي ستجريها كل من هاتين الخليتين يجب أن يكون مسجل في داخلها ومع تكرار عمليات الانقسام يجب أن يوجد مؤشر في داخل كل خلية من الخلايا الناتجة يحدد عدد الانقسامات التي ستجريها في المستقبل. وعلى عاتق الخلية الأولى كذلك قبل أن تنقسم أن تحدد المهام التي ستقوم بها الخليتان الناتجتان عنها وهاتان بدورهما يجب أن تقوما بتحديد مهام الخلايا الأربع التي ستنتج عن انقسامهما وهكذا يتم توزيع المهام على بقية الخلايا التي ستنتج عن الانقسام المتكرر للخلية الأولى. ومن الواضح أنه بعد حدوث عدد معين من الانقسامات تبدأ الخلايا بتنفيذ مهامها المختلفة فخلية واحدة فقط ستتولى تصنيع الهيكل العظمي وثانية  للجهاز العضلي وثالثة للجهاز العصبي وكذلك هو الحال مع بقية أجهزة الجسم كالجهاز الدوري والهضمي والجلدي والبصري والسمعي والتناسلي. وبما أن هذه الخلايا تتلقى أوامر انقسامها من شريط الحامض النووي الذي في داخلها فهذا يستلزم أن تقوم كل خلية من هذه الخلايا بتنفيذ جزء محدد من برنامج تصنيع الكائن المخزن في الشريط الوراثي الكلي. إن برنامج التصنيع الكلي مكون من عدد كبير من البرامج الأصغر حجماﹰ يتكفل كل واحد منها بتصنيع جزء معين من جسم الكائن وهذه البرامج الصغيرة بدورها مكونة من عدة برامج أصغر مسؤولة عن تصنيع مكونات هذه الأجزاء. أما المشكلة العويصة في عملية التصنيع هذه فهي في طريقة ترتيب هذه البرامج في داخل البرنامج الرئيسي بحيث يتم تنفيذ هذه البرامج وفقاﹰ للخطة التي سيتم بها تصنيع جسم الكائن وبحيث تضع أجزاء الجسم المختلفة في الأماكن المخصصة لها أولا بأول. وبما أن كل خلية من خلايا الجسم المراد تصنيعه تقوم بتنفيذ جزء البرنامج الخاص بها حسب موقعها من الجسم وبشكل مستقل عن بقية الخلايا فإن هذا يتطلب أن تكون الأوامر الصادرة عنها في كل لحظة من لحظات تصنيع الكائن على درجة عالية من التنسيق والتزامن ليظهر الكائن الحي بالشكل المطلوب. وبما أنه لا يوجد أيّ نظام تحكم مركزي يعمل على التنسيق بين الخلايا أثناء انقسامها لتصنيع الكائن فإن عملية التنسيق هذه تتم بشكل غير مباشر بين الخلايا من خلال الأوامر التي تصدرها أشرطتها الوراثية بشكل مستقل ولكن بتزامن منقطع النظير.
وبعد هذه المقدمة لطريقة عمل الشريط الوراثي عند قيامه بتصنيع أجسام الكائنات الحية بتقدير وهدي من الله سبحانه وتعالى نعود لشرح الطريقة التي يمكن لشريطين وراثيين أن يتعاونا لتصنيع كائنات حية بحيث تحافظ الكائنات الناتجة على الصفات العامة للنوع الواحد ولكنها تسمح بوجود بعض الفوارق في أشكالها وألوانها وبعض خصائصها. إن أول شرط لضمان نجاح هذه الطريقة في التصنيع هو أن يكون البرنامجان الموجودان على الشريطين متماثلين تمام التماثل من حيث الطول وعدد الجينات وهيكلهما العام. أما الشرط الثاني فهو أن يكون لكل جين على الشريط الذكري جين مناظر على الشريط الأنثوي له نفس الطول أي أن عدد الشيفرات متساويا ويقومان بنفس المهمة إلا أنه قد يوجد بعض الاختلاف في محتوى الشيفرات بحيث يكون ناتج التصنيع مختلفا بعض الشيء في مواصفاته. أما الشرط الثالث فهو أنه في حالة وجود اختلاف بين محتويات الجينيين المتناظرين فإن أحدهما يعطى الأولية على الآخر عند تنفيذ البرنامج وهذا ما أسماه علماء الأحياء بالجين السائد أو المسيطر بينما سمى الآخر بالجين المتنحي أو المنحسر. أما الشرط الرابع فإنه عند استبدال الجينات السائدة بالمتنحية أو العكس فإن عمل البرنامج لن يتأثر أبدا ولكن مواصفات الشيء المنتج ستتحدد من نوع الجينات المستخدمة. أما الشرط الأخير فهو أن يكون الشريطان موجودين جنب إلى جنب بحيث تكون الجينات المتناظرة أقرب ما تكون لبعضها ولهذا السبب نجد أن الكروموسومات الذكرية والأنثوية مرتبطة ببعضها عند منتصفها. ومما يدل على صرامة هذه الشروط هو استحالة حدوث التكاثر  بين فردين من نوعين مختلفين وإذا ما حدث مثل هذا بين نوعين شديدي القرابة فإن الكائنات الناتجة تكون في الغالب عقيمة كما نشاهد ذلك في البغال التي تنتج من تزاوج الخيل والحمير. وهذا يعني أن وجود اختلاف مهما كان بسيطا في تركيب الكروموسومات الذكرية والأنثوية سيحول دون اتحادهما وبالتالي فشل تنفيذ برنامج تصنيع الكائن الجديد.
إن أول هذه الشروط قد تم ضمانه منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى أول زوجين من كل نوع من أنواع الكائنات الحية التي تتكاثر بالتزاوج فقد أودع الله عز وجل شريطين وراثيان في خلايا كل من الذكر والأنثى وهما متماثلان تمام التماثل باستثناء وجود جينات سائدة وأخرى متنحية في كل منهما. ولا يجب أن يفهم أن الجين السائد ينتج صفات أفضل من تلك التي للجين المتنحي فعلى سبيل المثال فالجين المسؤول عن اللون البني في عيون البشر هو جين سائد بينما المسؤول عن اللون الأزرق جين متنحي. إن منتهى الإبداع في طريقة الخلق هذه أن برنامجي التصنيع يتم خلطهما عند كل عملية تزاوج بين الذكر والأنثى وتتبادل الجينات السائدة والمتنحية أماكنهما في البرنامجين ولكن تبقى البرامج تعمل بكل كفاءة وتنتج كائنات لا يصيب أعضائها أي خلل وتحافظ على المظهر العام للكائن رغم التغيير الحاصل في بعض صفاته. فعلى الرغم من أن عدد أنواع الكائنات الحية يعد بالملايين ويوجد في كل نوع من هذه الأنواع أعداد متفاوتة من الأصناف إلا أنه لا يمكن أن يشتبه الأمر على الإنسان فلا يستطيع التفريق بين هذه الأنواع أو أنه ينسب الأصناف إلى غير أنواعها. ومما يؤكد على أن برنامج تصنيع الكائن الجديد لا يأخذ مواصفات الأعضاء  التي يقوم بتصنيعها من برنامجي أبيه وأمه بطريقة عشوائية هو أن الأعضاء الناتجة تقوم بوظائفها على أكمل وجه رغم اختلاف أشكالها الخارجية.  فعلى سبيل المثال فإن العين  في جميع أفراد البشر لها نفس التركيب والأبعاد لكي تتم عملية الرؤيا على أكمل وجه مما يعني أن الجينات الموجودة في برنامج تصنيع العين هي نفسها سواء أخذت من برنامج الذكر أو برنامج الأنثى وإذا سمح بوجود جينات سائدة ومتنحية فإنها تتعلق فقط بالمكونات التي لا تؤثر على نظام الرؤيا كلون القزحية أو شكل الجفون أو الرموش وكذلك هو الحال مع بقية الأعضاء.
ومما يؤكد على أن الجينات السائدة والمتنحية التي تم إدخالها في برامج تصنيع الكائنات الحية قد كتبت من لدن عليم خبير هو وضوح الهدف الذي عملت من أجله في مختلف أنواع الكائنات الحية.  ولو أن الصدفة كانت هي المسؤولة عن خلق هذه الكائنات كما يدعي الملحدون لكان يكفيها تصنيع هذه الملايين من أنواع الكائنات التي لا تجد على الإطلاق كائنا يشبه الأخر في شكله وتركيبه وطرق معيشته ولتجنبت عناء اختراع طريقة التكاثر بالتزاوج والتي ما صممت أصلا إلا لغرض التفريق بين أفراد النوع الواحد. وكذلك فإنه لا يوجد أي مصلحة للصدفة في وجود أصناف متعددة في النوع الواحد بل إن هذه الطريقة للتكاثر قد تكون سببا في إعاقة عملية تطور الكائنات على فرض أنها  قد تمت حسب الطريقة التي يزعمها علماء التطور.  ولكن الذي قام بإبداع هذه الطريقة للتكاثر  يعلم علم اليقين أنه سيكون من بين هذه الكائنات الحية كائن عاقل وهو الإنسان لديه القدرة على التمييز بين أشكال هذه الكائنات وأنه سيستفيد من هذا التنوع في الكائنات. بل إن مما يزيد اليقين بأن هذه الطريقة للتكاثر قد تم اختراعها من قبل خالق لا حدود لعلمه وقدرته أن الإنسان  قد تمت برمجة جينات أبويه آدم وحواء بحيث يندر أن يتشابه فردان من نسلهما في الشكل على الرغم من الأعداد الهائلة التي أنتجاها على مدى آلاف السنين.
ومن العجيب أن معظم الاختلافات الشكلية في تركيب جسم الإنسان قد تم حصرها في الأجزاء الظاهرة من الجسم وهي الوجه الذي يتعرف الناس من خلاله على بعضهم البعض والرأس وما يكسوه من شعر وأصابع اليدان والرجلان. ومما يبعث على العجب أيضا أنه على الرغم من أن وجه الإنسان يحتوي على عدد محدد من الأجزاء وهي الأنف والذقن والجبهة والعينان والشفتان والخدان والوجنتان والصدغان إلا أنه يستحيل أن يتطابق فردان في شكل وجهيهما. بل الأغرب من ذلك أن تجد أجزاء صغيرة من جسم الإنسان كبصمة الإصبع وقزحية العين يوجد على سطحها من الرسومات الخطية بحيث يستحيل أن تتطابق في أيّ فردين من أفراد البشر. وقد يشك البعض في حقيقة وجود زوجين فقط من الجينات السائدة والمتنحية عندما يشاهد هذا العدد الكبير من أشكال العيون والآذان والأنوف والأفواه لأفراد البشر ولكن هذا الشك سرعان ما يزول إذا ما علم أن هذه الأعضاء مكونة من عدد كبير من الأجزاء وبسبب التوافيق المختلفة بين هذه الأجزاء ينتج هذا التنوع الكبير في أشكال الأعضاء. فعلى سبيل المثال فقد وجد العلماء أن هناك عدة جينات مسؤولة عن تحديد لون قزحية العين ومن توافيقهما تظهر العيون البنية والزرقاء والخضراء والعسلية وهكذا هو الحال مع بقية الأعضاء. ولو أن اختيار مواصفات الفرد البشري تتم بالصدفة عند تصنيعه من برنامج التصنيع المأخوذ من كل من برنامجي تصنيع أمه وأبيه لكان هنالك احتمالية كبيرة جدا أن تتطابق بصمة الطفل مع بصمة أمه أو بصمة أبيه أو أن تتطابق بصمة فردين من بين بلايين الأفراد من البشر. ولكن من المؤكد وجود برنامج معين في برنامج تصنيع أفراد البشر يمنع تكرار حدوث مثل هذا التشابه في أشكال البشر وأشكال بصمات أيديهم وقزحيات أعينهم وصدق الله العظيم القائل "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)" الانفطار والقائل سبحانه "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)" الروم.

وتتجلى الحكمة من وراء خلق طريقة التكاثر هذه أكثر ما تتجلى في وجود مئات الأصناف من كل نوع من أنواع الثمرات كالتمر والتين والعنب والزيتون والتفاح والبرتقال وأنواع المحاصيل كالقمح والأرز والشعير والذرة وغيرها الكثير وعندما تعرض جميع أصناف النوع الواحد على شخص سبق له التعرف على صنف واحد فقط منها فإنه لا يمكن له أن يخطئ في أن يعزو كل صنف منها إلى نوعه. وعلى الرغم من هذا فإنه يوجد بين أصناف النوع الواحد من الفروقات ما تمكن الشخص من التفريق بينها وتفضيل بعضها على بعض بناءا على شكلها أو لونها أو طعمها كما في التمور التي يصل عدد أصنافها عدة مئات إلا أنه يوجد في كل منها من الصفات ما يميزها على بقية الأصناف وصدق الله العظيم القائل "يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)" النحل.

 
لقد كانت الأصناف الجديدة في كل نوع من أنواع الكائنات تظهر بطريقة طبيعية نتيجة لتزاوج صنفين مختلفين بالصدفة وكانت الأصناف الجيدة منها هي التي يكتب لها البقاء على الأرض. ومع ظهور الإنسان بدأ بإجراء عملية تزاوج أو تهجين بين مختلف أنواع الأصناف باحثا عن أصناف جديدة حسنة الصفات أو كثيرة الإنتاج أو ملائمة لمختلف أنواع التربة والمناخ أو مقاومة للآفات والأمراض. إن دور الإنسان وهو يقوم بعمليات التهجين لا يتعدى اختيار الأصناف الجيدة ويزاوجها مع بعض البعض وقد يتطلب العثور على صنف بالمواصفات المطلوبة عشرات السنين حيث أن تبادل الجينات بين الأشرطة الوراثية تتم بطريقة لا تقع تحت سيطرة البشر. وكذلك فإن الجينات الموجودة في مختلف الأصناف هي نفسها التي أودعها الله أول ذكر وأول أنثى خلقهما الله من كل نوع من أنواع الكائنات الحية ولو أن الإنس والجن قد اجتمعا لتصنيع جين جديد لما استطاعوا فعل ذلك. ولطالما أنتج  المهندسون الزراعيون أصناف جديدة من الثمار أو المحاصيل بمواصفات عالية الجودة من خلال تهجين صنفين ذات مواصفات رديئة وذلك بفضل اجتماع بعض الجينات المتنحية في برنامج تصنيع الكائن الهجين. وما ينطبق على الثمرات ينطبق على الحيوانات حيث يوجد في النوع الواحد مئات وربما آلاف السلالات تتفاوت تفاوتا كبيرا في أشكالها إلا أنه يستحيل أن تعزو أي سلالة إلى غير نوعها ويمكن التأكد من ذلك من خلال تمعن صور القطط والكلاب والخيول في الصور المرفقة وكذلك هو الحال مع بقية الحيوانات.  لقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان بأن أحكم ما ينتج من صفات أفراده عند تزاوج مختلف أنواع سلالته بحيث لا يوجد تفاوت كبير فيها عن صفات كل من الأبوين. وعلى العكس من البشر نجد أن هنالك تفاوتا كبيرا في أحجام وأشكال أفراد الحيوانات الناتجة عن تزاوج مختلف سلالات الصنف الواحد كما نرى ذلك في أشكال الكلاب والقطط والخيل والإبل والأبقار وغيرها. ففي الكلاب على سبيل المثال قد يصل حجم أكبرها السلالات عشرات الأضعاف حجم أصغرها وتتفاوت كذلك بعض صفات  أجسامه بشكل ملفت للنظر كطول ولون شعرها وشكل آذانها وذيولها. ونجد هذا التفاوت كذلك في الخيول فنجد الخيول السريعة جدا أو القوية جدا أو الجميلة الشكل أو غير ذلك وصدق الله العظيم القائل "خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)" لقمان.   


         

المراجع

1-   القرآن الكري

2-   بداية الخلق في القرآن الكريم، د. منصور العبادي، دار الفلاح للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 2006م

3-   طبيعة الحياة،  تأليف فرانسيس كريك، ترجمة أحمد مستجير، عالم المعرفة، أيار 1988م، الكويت.

4-    الجينوم (السيرة الذاتية للنوع البشري)،  تأليف مات ريدلي، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، عالم المعرفة، تشرين ثاني 2001م، الكويت.

 

 

 

 

2014-05-24

وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة


 


وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
(عيسى عليه السلام)
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية 

أن يتنبأ القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا بأن أتباع المسيح عليه السلام سيبقون ظاهرين على من كفر به من اليهود إلى يوم القيامة يدل على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من تأليف البشر بل تنزيل من لدن عليم خبير سبحانه وتعالى. ولقد جاءت هذه النبؤة في قوله تعالى "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)" آل عمران. ولقد جاءت هذه النبؤة بعد مرور ما يقرب من ستمائة عام من مولد عيسى عليه السلام وكانت الديانة المسيحية في الفترة التي لا زال أتباع المسيح عليه السلام يتعرضون فيها للإضطهاد من قبل الحكام.  إن واقع المسيحيين واليهود اليوم يؤكد صدق هذه النبوءة القرآنية فعدد المسيحيين اليوم  يزيد عن ألفي مليون مسيحي يشكلون ما يقرب من ثلث سكان العالم أما اليهود فقد بلغ عددهم في فترة ظهور المسيح عليه السلام عدة ملايين وهاهم بعد مرور ألفي عام لا يتجاوز عددهم خمسة عشر مليون يهودي. إن الفوقية ليست في العدد فقط بل شاء الله سبحانه وتعالى أن يشتت اليهود في البلاد التي يحكمها المسيحيون لتكون لأتباع المسيح عليه السلام اليد العليا فوق من كفر به من اليهود وليذيقوهم شتى أصناف العذاب من حين لآخر بسبب كفرهم وعنادهم كما أكد على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)"الأعراف.
والحقيقة أن الطريقة التي انتشرت من خلالها الديانة المسيحية بين الأمم معجزة من معجزات الله عز وجل. فلقد دعا كثير من الأنبياء والرسل السابقين أقوامهم على مدى عشرات بل مئات السنين إلا أنه لم يؤمن معهم إلا القليل كما حدث مع أنبياء الله نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام. أما عيسى عليه السلام فقد دامت فترة دعوته ثلاث سنوات فقط وعلى الرغم من أن عدد من آمن به في حياته لم يتجاوز عدة مئات إلا أن عدد أتباعه اليوم بعد مرور  ألفي عام يزيد عن ألفي مليون مسيحي يشكلون ما يقرب من ثلث سكان العالم. وتختلف الديانة المسيحية عن كل من الديانتين اليهودية والإسلامية بخصوص الطريقة التي انتشرت بها  بين الأمم فغالبية اليهود  آمنوا بموسى عليه السلام بسبب أنه قام بتخليصهم من ظلم الفراعنة لهم ويؤكد ذلك أنهم بمجرد خروجهم من مصر بدأت بوادر الكفر تظهر عليهم. أما في الدين الإسلامي فقد أنشأ نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم دولة إسلامية في جزيرة العرب قبل موته عليه الصلاة والسلام خلال ثلاثة وعشرين عاما فقط. ومن ثم بدأ الإسلام في الانتشار بين الأمم تحت حماية  الدولة الإسلامية ولكن بدون أي إكراه للناس للدخول في الإسلام بعد أن أكد القرآن الكريم على حرية الأديان في آيات كثيرة كما في قوله تعالى "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)"  البقرة وقوله تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)" يونس.

 إن الاضطهاد الذي تعرض له أتباع عيسى عليه السلام يفوق كثيرا الاضطهاد الذي تعرض له أتباع الديانتين اليهودية والإسلامية في بداية ظهورها حيث استمر اضطهادهم من قبل الرومان وغيرهم من الأمم  لما يزيد عن ثلاثمائة عام. ولقد تعرض المسيحيون خلالها لشتى أنواع الاضطهاد والعذاب فقد مزقت أجسادهم بالسياط والمخالب الحديدية  والنشر بالمناشير  والتمشيط بين اللحم والعظم  والإحراق بالنار وسلخ الجلود وهم أحياء والقتل بالتعليق على الصلبان وغير ذلك من صنوف العذاب ولكن هذا لم يردهم عن دينهم. وعلى هذا فلا يمكن بالمقاييس المادية أن تنتشر الديانة المسيحية أو أن تقوم لها قائمة مما يؤكد على وجود إله قدير سبحانه وتعالى مكن لهذه الديانة من الانتشار. 

لقد بدأ عيسى عليه السلام بالدعوة إلى الدين الجديد عندما بلغ عمره ثلاثين عاما واستمرت دعوته ثلاثة سنوات فقط حيث أن الله سبحانه وتعالى قد رفعه إليه وعمره ثلاث وثلاثون سنة. وقد بعث الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام كآخر نبي إلى بني إسرائيل بعد أن ابتعدوا عن دينهم وأفسدوا في الأرض وقاموا بقتل وتعذيب  الأنبياء المبعوثين إليهم  كما جاء ذلك في قوله تعالى "وَإِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) " الصف وفي قوله تعالى "لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) "المائدة. ولقد أيد الله عز وجل عيسى عليه السلام بمعجزات عديدة كدليل على صدق دعوته كما جاء ذلك في قوله تعالى "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)" آل عمران.  ورغم المعجزات الباهرات التي أجراها الله على يد عيسى عليه السلام كدليل على صدق رسالته إلا أن اليهود كعادتهم كذبوه ولم يؤمن منهم إلا القليل. ولم يكتف اليهود بتكذيب المسيح عليه السلام بل بدأوا بالتأمر على قتله كما قتلوا غيره من الأنبياء وذلك من خلال إيغار صدر الحاكم الروماني عليه.

ولما أيقن المسيح عليه السلام من كفر عامة اليهود به وإحساسه بأنهم عازمين على قتله قام بجمع أتباعه ممن أمن به من اليهود وطلب منهم نصرته في تبليغ رسالته من بعده إلى الناس بعد أن أوحى الله سبحانه وتعالى إليه بأنه رافعه إليه مصداقا لقوله تعالى "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)" آل عمران. ولقد اختار عيسى عليه السلام من بين أتباعه اثنا عشر رجلا ليقوموا بمهمة الدعوة إلى الدين الجديد بعد أن أخبرهم بأن الله سيؤيدهم بروح القدس ولكنهم سيلاقون أذى كثيرا من قبل الناس. وقد ذكرت الأناجيل أسماء هؤلاء الحواريين وجميعهم كانوا من بني إسرائيل فقد جاء في الإصحاح العاشر من إنجيل متى ما نصه "1ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ. 2وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هذِهِ: اَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. 3فِيلُبُّسُ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا، وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى، وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. 4سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ" .وقد حدد عيسى عليه السلام البلاد التي سيذهب إليها كل حواري من هؤلاء الحواريين فقد جاء في سيرة ابن هشام وكذلك في كثير من التفاسير ما نصه " قال ابن اسحق : وكان من بعث عيسى ابن مريم عليه السلام من الحواريين والاتباع الذين كانوا بعدهم في الارض : بطرس الحواري , ومعه بولس , وكان بولس من الاتباع ولم يكن من الحواريين الى رومية واندرائس ومنتا الى الارض التي يأكل اهلها الناس, وتوماس الى ارض بابل من ارض المشرق وفيلبس الى ارض قرطاجنة وهي افريقية, ويحنس الى افسوس قرية الفتية اصحاب الكهف, ويعقوبس الى اورشلم وهي ايلياء قرية بيت المقدس, وابن ثلماء الى الاعرابية وهي ارض الحجاز , وسيمن الى ارض البربر , ويهوذا ولم يكن من الحواريين جعل مكان يودس }.

لقد أنجى الله سبحانه وتعالى المسيح عليه السلام من كيد اليهود ورفعه إليه بعد أن ظن اليهود والرومان أنهم قتلوه حيث ألقى الله سبحانه وتعالى شبه عيسى عليه السلام على أحد أتباعه وهو يهوذا الإسخريوطي يقال أنه قد دل اليهود والرومان على مكان وجوده مصداقا لقوله تعالى "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)" النساء. وبعد رفع المسيح عليه السلام انطلق الحواريون رضوان الله عليهم إلى البلاد التي حددها لهم المسيح عليه السلام وذلك لتبليغ رسالة المسيح رغم أنهم كانوا مطاردين من قبل الرومان واليهود. لقد كان هؤلاء الحواريون أشبه ما يكونوا بالرسل فقد أيدهم الله عز وجل بروح القدس وأجرى على أيديهم كثيرا من المعجزات الشبيهة بمعجزات المسيح عليه السلام وذلك لكي يتمكنوا من تبليغ رسالة المسيح عليه السلام إلى الأمم. ولقد أخبر المسيح عليه السلام الحواريين بأنهم سيلاقون هم وأتباعهم تشريدا وتقتيلا من قبل الحكام وهم يدعون إلى هذا الدين الجديد فقد جاء في الإصحاح العاشر من إنجيل متى ما نصه: 16«هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ. 17وَلكِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ، لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. 18وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. 19فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، 20لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ. 21وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ، 22وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ. 23وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ. وإبن الإنسان هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به سيدنا عيسى عليه السلام مصداقا لقوله تعالى (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) " الصف). 

ولقد امتن الله سبحانه وتعالى على المسيح عليه السلام من بين النعم الكثيرة التي أنعمها عليه بنعمة تأيده بالحواريين الذين سيقومون بنشر دعوته بين الناس  كما جاء في قوله تعالى "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)" المائدة. ولقد تحدث القرآن الكريم عن هؤلاء الحواريين وكأنهم رسل من رب العالمين  فقد أجمعت تفاسير القرآن الكريم على أن المرسلين الثلاثة المذكورين في سورة يس هم من الحواريين وأتباعهم فقد ذكر ابن كثير في تفسيره ما نصه : "قوله تعالى: {إذ أرسلنا إليهم إثنين فكذبوهما} أي بادروهما بالتكذيب {فعززنا بثالث} أي قويناهما وشددنا إزرهما برسول ثالث. قال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي قال: كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا, واسم الثالث بولس, والقرية أنطاكية".

وعلى الرغم من أن الحواريين كانوا يدعون إلى الدين الذي أتى به المسيح عليه السلام وهم مطاردون من قبل الرومان الذين كانوا يحكمون معظم البلاد التي ذهبوا إليها إلا أن عدد الذين أمنوا بالدين الجديد بدأ بالتزايد بشكل ملفت للنظر. ولقد ربط الله سبحانه وتعالى على قلوب من آمن من الأمم بالدين الجديد فلم يتمكن الرومان وغيرهم من صدهم عن دينهم رغم تعرضهم لمختلف أشكال العذاب والقتل. ولقد أكرم الله سبحانه وتعالى الحوارييين الأثني عشر بالشهادة في سبيله فقتلوا من قبل أعدائهم من الرومان واليهود بطرق شتى كان أكثرها من خلال الصلب فتحقق بذلك وعد المسيح لهم حيث جاء في إنجيل متى ما نصه "38وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي." ولقد كان حمل الصليب في تلك الفترة كناية عن استعداد الشخص للإستشهاد في سبيل نشر الدين الجديد. وقد استمر اضطهاد المسيحيين لمدة ثلاثمائة عام تقريبا إلى أن آمن بالمسيحية الإمبراطور قسطنطين وأصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. ومع هذا لم يتوقف اضطهاد المسيحيين من قبل أمم أخرى فقد قام الملك الحميري اليهودي  ذو نواس في عام 525م بإحراق آلاف المسيحيين في داخل أخدود في منطقة نجران جنوب السعودية بعد أن رفضوا التخلي عن ديانتهم والعودة إلى ديانتهم السابقة وهي اليهودية فقال عز من قائل عنهم "قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)" البروج.  لقد لاقى الحواريون وأتباعهم شتى أصناف العذاب رغم أنهم كانوا يدعون إلى الدين الجديد بطريقة سلمية ولم يحملوا السلاح أبدا في وجه أعدائهم كما أرشدهم إلى ذلك المسيح عليه السلام وكما أكد على ذلك القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)".

إن من معجزات رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أصناف العذاب الذي تعرض له أتباع المسيح عليه السلام فقد جاء في أحد الأحاديث ما نصه: اشتكى سيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يلقونه من الأذى فاحمر وجه رسول الله من الغضب وقال له صلى الله عليه وسلم:
"إنه كان فيمن قبلكم من يمشطون بأمشاط من حديد فيما بين لحمه وعظمه فلا يصده ذلك عن دينه، ومنهم ينشر حتى ينفلق إلى شقين لا يصده ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر ولكنكم قوم تستعجلون
". وما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لعلمه علم اليقين وذلك بوحي من الله عز وجل حجم المعاناة التي عاناها أتباع المسيح عليه السلام على مدى ما يزيد عن ثلاثمائة سنة استشهد خلالها ملايين الدعاة منهم تحت مختلف أشكال التعذيب وما صدهم ذلك عن دينهم.  

لقد خلد الله سبحانه وتعالى ذكر الحواريين في القرآن الكريم لما قدموه من تضحيات في سبيل نشر دينهم وطلب من المؤمنين من المسلمين التشبه بهم لنصرة دين الإسلام فقال عز من قائل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)" الصف. ويتضح من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى قد أيد الحواريين وأتباعهم حتى ظهر دينهم بين جميع الأمم رغم كل أنواع العذاب الذي تعرضوا له وهم يقومون بنشر هذا الدين وقد تم هذا الأمر قبل ظهور الإسلام. أما الآية التي تتنبأ بأن أتباع المسيح سيبقون ظاهرين على اليهود إلى يوم القيامة  فهي قوله تعالى "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)" آل عمران. إن المقصود بالذين كفروا في هذه الآية هم اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام لقوله تعالى "فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ". وقد اختلف المفسرون حول تفسير هذه الآية فقد أورد الطبري في  تفسيره تفسيران لها أولها: "حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : " ومطهرك من الذين كفروا " قال : الذين كفروا من بني إسرائيل " وجاعل الذين اتبعوك " قال : الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم " فوق الذين كفروا"  النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة . قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى ، إلا وهم فوق يهود ، في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذلون" وثانيهما:."حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته ، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة". ومن الواضح أن التفسير الثاني يجافي الحقيقة لأنه يخالف ظاهر النص  فالذين اتبعوا المسيح عليه السلام هم   الحواريون ومن تبعهم من المسيحيين وليس المسلمون. 

وأخيرا من المؤسف أن يقوم بعض المندسين من اليهود بتحريف الديانة المسيحية وإبعاد أتباع المسيح عن دين التوحيد فجعلوا من المسيح عليه السلام شريكا لله سبحانه وتعالى مضيعين بذلك  التضحيات الجسيمة التي قدمها المسيحيون الأوائل في سبيل نشر دين التوحيد. ولقد حذر القرآن الكريم في آيات كثيرة هؤلاء المسيحيين من الغلو في دينهم وإدخال الشرك فيه وذلك بقولهم بأن الله سبحانه وتعالى مكون من ثلاثة أقانيم وهي الله الأب والمسيح الإبن والروح القدس فقال عز من قائل  "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)" النساء. ومما يثير الاستغراب أنه لا يوجد أي نص في الأناجيل الأربعة يشير إلى عقيدة التثليث بل بالعكس توجد نصوص لا حصر لها تؤكد على أن المسيح عليه السلام هو عبد الله ورسوله وتنفي عنه صفة الألوهية التي ألبسها إياه المتأخرون من المسيحيين. فقد جاء في الإصحاح التاسع عشر من إنجيل متى ما نصه: "16وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» 17فَقَالَ لَهُ:«لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ ". وإذا كان المسيح عليه السلام قد نفى الصلاح عن نفسه ورده إلى  الله عز وجل فقط فهو بذلك ينفي عن نفسه التهمة التي ألبسها إياه المتأخرون من أتباعه وهي صفة الألوهية والمقصود بالصلاح هنا هو الكمال فلا كامل بحق إلا الله سبحانه وتعالى. وصدق الشاعر لبيد بن ربيعه عندما قال وهو في جاهليته (ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل) ليتفق قوله مع قول المسيح عليه السلام (ليس أحد صالحا إلا الله).  


المراجع

1-   القرآن الكريم

2-  تفسير القران العظيم للإمام الحافظ عماد الدين ، أبو الفداء اسماعيل بن كثير القرشى الدمشقي

3-   العهد القديم والعهد الجديد