خلق الإنسان من سلالة الطين إلى سلالة الماء المهين
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي\جامعة
العلوم والتكنولوجيا الأردنية
تفرد القرآن الكريم على
غيره من الكتب السماوية بكشفه لكثير من الحقائق المتعلقة بالأطوار التي مر بها الكون
عند نشأته من الدخان والأطوار التي مرت بها الأرض منذ أن استقرت في مدارها حول
الشمس والأطوار التي مرت بها الكائنات الحية بما فيها الإنسان عند خلقها من تراب
الأرض. فلقد أشار القران الكريم إلى أن تهيئة الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة
عليها قد استغرق أربعة أيام من أيام الخلق وذلك في قوله تعالى (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)) فصلت. وحدد كذلك ثلاث
حقب رئيسية مرت بها عملية خلق الإنسان وكذلك بقية الكائنات الحية من التراب وهي حقبة
التراب وحقبة النطفة وحقبة الأزواج كما جاء ذلك في قوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا(11)) فاطر. وحدد كذلك مراحل حقبة التراب أو ما يسمى بالتطور الكيميائي للحياة وهي على
التوالي مراحل الطين والطين اللازب والحمأ المسنون والصلصال وأخيرا سلالة الطين كما
جاء في قوله
تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ
خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)) السجدة وقوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ
(26)) الحجر وقوله تعالى ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ
(12)) المؤمنون. وقد تبين من
أبحاث علماء تطور الحياة أن المرحلة الأخيرة وهي سلالة الطين ما هي إلا الشريط
الوراثي الطيني الذي تم من خلاله صنع أول كائن حي بدائي مكون من خلية واحدة وذلك باستخدام
المعلومات الرقمية التي كتبها الله عز وجل عليه. وأشار القرآن الكريم بشكل صريح إللى
أن الإنسان لم يخلق مباشرة من التراب بل تطور من كائنات حية أقل رتبة في سلم
التطور كما جاء في قوله تعالى (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)) نوح. وأشار كذلك إلى مرور زمن محدد وطويل على خلق الإنسان ابتداءا
من الطين إلى أن سواه الله عز وجل ونفخ فيه من روحه وذلك
في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ
(2)) الأنعام وقوله تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى
الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)) الإنسان.
وأشار كذلك إلى أن الله عز وجل قد اختار من بين مخلوقاته الحية آدم عليه السلام فسواه
ونفخ في روحه ليكون خليفة الله عز وجل على الأرض وسخر له جميع الكائنات الحية كما
جاء في قوله تعالى (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ
رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا
تَشْكُرُونَ (9)) السجدة.
ولقد أشار القرآن في آيات كثيرة إلى حقيقة كبرى وهي أن
جميع أنواع الكائنات الحية يبدأ تصنيعها من خلية واحدة فقط وهي النطفة وأشار إلى
مراحل تحول هذه النطفة إلى كائن حي وهي العلقة والمضغة والعظام واللحم وغيرها كما
جاء في قوله تعالى ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14))
المؤمنون. وأشار كذلك إلى وجود مكون دقيق وضعيف في داخل النطفة وهي
سلالة الماء المهين وهي المسؤولة عن تحويل الخلية الواحدة إلى مختلف أنواع
الكائنات الحية وذلك في قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)) السجدة. ولقد تمكن
العلماء في منتصف القرن العشرين من تحديد هذا المكون وهو الشريط الوراثي ووجدوا أن
جميع مواصفات أجسام الكائنات الحية وبرامج تصنيعها قد تم تخزينها بطريقة رقمية على
هذا الشريط البالغ الصغر. وأشار القرآن الكريم كذلك إلى حقيقة عجيبة لم يكتشفها
البشر إلا حديثا وهي أن الذكر والأنثى في الكائنات الحية قد تم خلقها من أصل واحد لا
هو بالذكر ولا هو بالأنثى وذلك في قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
(98)" الأنعام. وبعد خلق
الذكر والأنثى تحولت عملية تكاثر معظم أنواع الكائنات الحية من التكاثر اللاجنسي إلى
التكاثر الجنسي لحكمة بالغة أرادها الله عز وجل وهي إحداث هذا التنوع الهائل في
أنواع وأشكال الكائنات الحية وذلك في قوله تعالى (فَاطِرُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ
الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) الشورى.
ومما يدعو للدهشة والعجب أن علماء تطور الحياة أطلقوا
على مراحل التطور الكيميائي للحياة نفس الأسماء التي أطلقها القرآن الكريم عليها. فقد
أكدوا على ما جاء في القرآن الكريم من أن
بداية خلق الكائنات الحية كانت من الطين وأن هذا الطين قد تحول إلى نوع آخر
من الطين وهو الحمأ المسنون الذي سموه الحساء
البدائي. واكتشفوا أن المواد العضوية البسيطة في هذا الحمأ المسنون قد تحولت إلى
مواد عضوية معقدة على سطوح المواد الصلصالية التي تشبه الفخار في تركيبها. أما أهم
اكتشافاتهم على الاطلاق فهو أن بداية الحياة كانت من خلال شريط حامض نووي طيني له
القدرة على تخزين المعلومات الوراثية وله القدرة كذلك على التكاثر الذاتي أطلقوا
عليه اسم الحامض النووي الرايبوزي وهو سلالة الطين التي ذكرها القرآن الكريم. وبعد
تحول سلالة الطين إلى سلالة الماء المهين ووضعها في داخل أول خلية حية أولية بدأت
الحياة بالظهور على الأرض وبدأ إنتاج الكائنات الحية يتم من خلال النطف وتحت سيطرة
الشريط الوراثي وليس مباشرة من التراب. ومن هذه الخلية الحية الأولية خلق الله عز
وجل جميع أنواع الكائنات الحية بشكل متدرج كما جاء تفصيل ذلك في الأحاديث النبوية
الشريفة الصحيحة والتي نصت على ظهور النباتات أولا ثم الميكروبات ثم الحيوانات
وأخير الإنسان في آخر ساعة من ساعات أيام الخلق كما سنشرح ذلك لاحقا. ومن تقدير الله
عز وجل أنه سخر علماء من غير المسلمين لكشف هذه المراحل وإطلاق الأسماء القرآنية
عليها لئلا يتهم الناس المسلمين باختيار هذه المسميات لصالح معتقداتهم. بل إن مما
يثير الدهشة أن علماء تطور الحياة من غير المسلمين وعلى رأسهم دارون في سيرهم في أرجاء
الأرض باحثين عن أدلة تفسر الكيفية التي ظهرت بها الحياة على الأرض قد حققوا مراد
الله عز وجل في قوله تعالى ( قُلْ سِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ
النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20))
العنكبوت.
إن الطريقة التي اختارها الله عز وجل لخلق أول شكل من
أشكال الحياة من تراب الأرض وكذلك خلق عشرات الملايين من أنواع الكائنات الحية
ابتداءا من خلية واحدة فقط فيها من الإعجاز والإبداع والابتكار والروعة والاتقان ما
يجعل المرء لا يكاد أن يصدق أنها موجودة لولا أنه يراها تعمل بكفاءة منقطعة النظير
أمام عينيه. ففي كل يوم تطلع فيه الشمس تتحول ملايين الأنواع من البذور والبيوض
والنطف المكونة من خلية واحدة فقط وخلال فترات زمنية تتراوح بين عدة ساعات وعدة
أشهر إلى نباتات وحشرات وأسماك وطيور
وحيوانات بمختلف الأشكال والأحجام والألوان. إن السر الأعظم الذي يقف وراء عمليات
التحول هذه هو الشريط الوراثي الرقمي الذي يحتوي على برامج رقمية ضخمة تحدد خطوات
تصنيع الكائن الحي تبعا للمواصفات المخزنة فيه رقميا. إن سر الحياة
الأعظم يكمن في قدرة الشريط الوراثي على
إنتاج نسخة عن نفسه بنفسه وبهذا السر تستطيع الخلايا الحية أن تنتج نسخا عن نفسها
بنفسها وتستطيع الكائنات الحية أن تنتج نسخا عن نفسها بنفسها. ولولا هذه الخاصية
الفريدة لهذا الشريط لما أمكن للحياة أن تدوم على سطح هذه الأرض منذ آلاف الملايين
من السنين وإلى أن يشاء الله عز وجل. فالمعلومات الوراثية التي تلزم لتصنيع
أيّ كائن حي يتم توارثها من خلال إنتاج نسخة طبق الأصل عن الشريط في كل خلية قبل
انقسامها إلى خليتين وهكذا دواليك. ولهذا فإن أول ما خلق الله عز وجل من مكونات الحياة هو الشريط الوراثي الذي
يكمن فيه سر الحياة الأعظم والذي كان على شكل سلالة من طين كتب الله عز وجل عليها
أول برنامج رقمي لتصنيع أول خلية حية ظهرت للوجود. ومن هذه الخلية الحية البدائية
خلق الله عز وجل جميع أشكال الحية التي تعد بعشرات الملايين وبشكل متدرج على مدى
مئات الملايين من السنين وذلك من خلال تعديل البرامج الرقمية المخزنة في خلايا
تصنيع الكائنات الحية. ومما يؤكد على أن
جميع الكائنات الحية قد خلقت من أصل واحد هو أن الشيفرة الوراثية في جميع الكائنات
الحية بما فيها الإنسان قد كتبت بنفس طول
الشيفرة المكونة من ثلاثة أحرف وبنفس عدد الأحرف الأربعة وبنفس نوع الجزيئات
العضوية التي تمثلها وبنفس الأبعاد. لقد
وصف داروين في كتابه أصل الأنواع هذه الطريقة الفريدة لظهور هذه الأعداد الضخمة من
أنواع الكائنات الحية من أصل واحد بالفخامة والروعة فقد قال في آخر كتابه ما نصه
"وأن هناك شيئا
من الفخامة في هذا المنظور للحياة، بالاشتراك مع قدراتها العديدة المختلفة،
في أنه قد تم نفخها بواسطة الخالق بداخل العدد القليل من الأشكال أو في شكل واحد".
وأعتقد جازما أن دارون سيزداد سرورا ودهشة وتوقيرا
لخالق هذا الكائنات من خلال هذه الآلية العجيبة التي هداه الله عز وجل لاكتشافها
إذا ما عرف أن النفخة التي نفخها الله عز وجل في أول كائن حي هو شريط وراثي بالغ
الضعف كتب عليه سبحانه تعليمات تصنيع الكائنات الحية بطريقة رقمية يتم تعديلها بيده
سبحانه المنزه عن التشبيه كل حين لإنتاج كائنات جديدة حسب تقدير وتسلسل بالغ
الإحكام. إن منتهى القدرة والإبداع والفخامة أن يخلق الله عز وجل جميع أنواع
الكائنات الحية ابتداء من خلية واحدة تحت سيطرة الشريط الوراثي ولذلك فإنه من الأولى
أن يخلق سبحانه جميع الأنواع ابتداء من خلية واحدة خلقها سبحانه من التراب وذلك من
خلال تعديل البرامج الرقمية المكتوبة على الشريط الوراثي الذي نفخه الله عز وجل في
أول خلية حية ظهرت للوجود. وبعد هذا فإني أعجب أشد العجب من بعض المثقفين المسلمين
الذين لا زالوا يتصورون أن الله عز وجل قد خلق الإنسان وبقية الكائنات الحية من
خلال عجن التراب بالماء وصور الطين على هيئة إنسان ثم تركه ليجف ليصبح صلصالا
كالفخار ثم نفخ الله عز وجل فيه من روحه ليصبح إنسان من لحم ودم. إن مثل هذا
التصور البسيط لا يليق بجلال الله عز وجل وإبداعه وإتقانه لخلق مخلوقاته المختلفة مع
التأكيد على أنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في الأحاديث النبوية الشريفة ما يقر
هذا التصور بل إن معظم تفاسير القرآن تغاضت عن ذكره. ولا أدري ما الذي سيجده أنصار الخلق المباشر من أدلة حول بداية الخلق إذا
ما ساروا في الأرض إذا كان تصورهم للخلق كما توهموه. وسنشرح في هذه المقالة معظم الآيات القرآنية
المتعلقة بمراحل خلق الكون وخلق الأرض وخلق الإنسان من التراب وسيتبين للقاريء
المنصف أنه لا يمكن فهم مدلولاتها ومغازيها إلا على ضوء نتائج الأبحاث العلمية التي
نشرها علماء تطور الحياة على مدى ما يزيد عن 150 عام بعد ظهور نظرية التطور. إن هذه
المقالة الطويلة نسبيا تلخص معظم ما جاء في كتاب ألفته حول نشأة الكون وبداية
الحياة على الأرض بعنوان (بداية الخلق في القرآن
الكريم، د. منصور أبوشريعة العبادي، دار الفلاح للنشر والتوزيع، عمان، الأردن،
طبعة 2006م).
الخلق المباشر والخلق غير المباشر للكائنات
الحية
لقد كان الاعتقاد السائد عند جميع أتباع الأديان
السماوية قبل ظهور نظرية التطور في منتصف القرن التاسع عشر أن كل نوع من أنواع
الكائنات الحية بما فيها الإنسان قد تم خلقه مباشرة من التراب من خلال نفخ الله عز
وجل في صور طينية خلقها الله بيده لهذه الكائنات. وفي عام 1859م طرح البحاثة الانجليزي تشارلز دارون في كتابه
الشهير "أصل الأنواع" فكرة جديدة وثورية
للطريقة التي تم من خلالها ظهور عشرات الملايين من أنواع الكائنات الحية بما فيها
الإنسان على الأرض. وملخص نظرية التطور التي طرحها دارون هو أن
تراب الأرض قد تحول بطريقة ما إلى كائن حي بدائي مكون من خلية واحدة ثم مر هذا
الكائن الحي بعمليات تطور متلاحقة على مدى ملايين السنين أدت إلى ظهور هذا الكم
الهائل من أنواع الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان. وقد انقسم البشر بعد ظهور هذه
النظرية إلى قسمين قسم بقي متمسكا بإيمانه بالخلق المباشر على اعتبار أن نظرية
التطور تتعارض مع ما ورد في الكتب المقدسة من نصوص حول خلق الإنسان وذلك حسب تصورهم
وتفسيرهم. أما القسم الآخر من البشر فقد انحاز إلى نظرية التطور واقتنع بما جاء فيها
من أدلة وبراهين علمية تدعم هذا المنحى في طريقة خلق الكائنات الحية. وقد يعذر أتباع
الأديان الأخرى في رفضهم لنظرية التطور بسبب غياب النصوص الدينية التي تدعم هذه
النظرية ولكني لا أجد عذرا مقنعا لأتباع الدين الاسلامي في رفضهم لنظرية التطور. فلقد
ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية مئات النصوص المتعلقة بخلق الإنسان وبقية
الكائنات الحية والتي لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا على ضوء الحقائق التي تم كشفها
علماء تطور الحياة من التراب ومن النطف كما سنشرح ذلك لاحقا. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن إيمان المسلم بربه لا دخل
له بالطريقة التي يتصورها عن الآليات التي خلق الله عز وجل من خلالها الكائنات
الحية من التراب طالما أنه يعتقد بأن الله عز وجل هو الخالق.
لقد
حذر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله قبل ألف عام علماء الدين من مغبة
إنكار الحقائق العلمية اعتمادا على التأويلات الخاطئة لنصوص الكتب المقدسة لما في
ذلك من ضرر على الدين ومما قاله في كتابه تهافت الفلاسفة "القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة
تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر، عبارة عن انمحاء ضوء القمر
بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وإن كسوف الشمس،
وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة.
وهذا الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض ومن ظن أن المناظرة في ابطال
هذا من الدين فقد جنى على الدين، وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية
حسابيَّة لا يبقى معها ريبة. فمن تطلَّع عليها، ويتحقَّق أدلّتها، حتى يُخبر بسببها
عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع،
لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره
ممّن يطعن فيه بطريقة. وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل. فكم من ظواهر
أُوّلت بالأدلة العقليَّة التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد. وأعظم ما يفرح به
المُلحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا، وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال
الشرع، ان كان الشرع امثال ذلك. وهذا: لأنّ البحث في العالم عن كونه حادثاً أو قديماً،
ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة، أو بسيطاً، أو مثمناً، أو مسدّساً، وسواء كانت السماوات،
وما تحتها ثلاثة عشرة طبقة، كما قالوه، أو أقلّ، أو أكثر، فنسبة النظر فيه الى
البحث الالهىّ كنسبة النظر الى طبقات البصل وعددها وعدد حبّ الرمان. فالمقصود: كونه
من فعل الله سبحانه وتعالى فقط، كيف ما كانت".
إن الذي يتدبر كلام الإمام الغزالي يتأكد له مدى عبقريته وتفتح عقله وسعة فهمه
للدين وكذلك فهمه لعلوم عصره كظاهرتي الخسوف والكسوف وكذلك كروية الأرض بينما نجد في
هذا العصر الذهبي للعلوم علماء دين ومثقفين لا زالوا يعتقدون أن الأرض مسطحة.
وبناء على هذا الفهم الصحيح للحقائق الكونية فإن الغزالي لا يتردد في تكذيب بعض
النصوص الدينية غير القطعية أو تأويل النصوص القطعية لكي لاتتعارض مع الحقائق
العلمية القطعية. ونظرية التطور أصبحت إحدى تخصصات علم الأحياء المهمة التي تدرس
في المدارس والمعاهد والجامعات وينشر الباحثين فيها آلاف الأبحاث العلمية سنويا وفيها
من الأدلة القطعية ما ينكرها إلا القليل من البشر اليوم.
إن
في الطريقة التي اختارها الله عز وجل لخلق الإنسان وبقية الكائنات الحية من الأسرار
والألغاز كما جاءت في نظرية التطور ما يظهر مدى علم الله عز وجل وقدرته وحكمته.
وما ذكر مراحل الخلق في القرآن إلا للفت نظر البشر إليها ليكشفوا هذه الأسرار من
خلال السير في الأرض ودراسة جميع أشكال الحياة. فهل في عجن التراب بالماء وتشكيل
الطين على هيئة إنسان أو أي كائن آخر ما يثير العجب أو يظهر الإتقان في عملية
تصنيع هذه الكائنات الحية؟ أم أن منتهى الإتقان يتجلى في تحويل العناصر الأرضية
إلى مواد عضوية بسيطة ومن ثم إلى مواد عضوية معقدة تبنى منها مكونات الخلية
المختلفة وخاصة الشريط الوراثي ثم يبنى من هذه المكونات أول كائن حي بدائي مكون من
خلية حية تتطور منه جميع أنواع الكائنات الحية بهدي من الله عز وجل. ومما يدعو
للإستغراب أن كثيرا من أنصار الخلق المباشر لا يرفضون النظريات التي وضعها علماء
الفيزياء لتطور الكون وعلماء الجيولوجيا لتطور الأرض رغم أن هؤلاء العلماء
يعزون هذا التطور للصدفة ولكنهم في المقابل لا يقبلون نظريات التطور التي وضعها
علماء الأحياء لتطور الحياة على الرغم من أن خلق السماوات والأرض أعقد من خلق
الكائنات الحية مصداقا لقوله تعالى (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ (57)) غافر.
وأخيرا
لا بد هنا من إيراد إحدى الحجج التي دافع
بها داروين عن نظريته في كتابه أصل الأنواع حيث قال (وأنا
لا أرى أي سبب وجيه في أن تسبب الأراء التي قد تم تقديمها في هذا الكتاب أي صدمة
للمشاعر الدينية الخاصة بأي فرد فإنه من المطمئن على أساس أنه شيء يظهر مدى سرعة
زوال مثل هذه الانطباعات أن نتذكر أن أعظم اكتشاف قد تم إنجازه بواسطة الإنسان وهو
بالتحديد القانون الخاص بقوة الجذب الخاصة بالجاذبية الأرضية قد تمت مهاجمته أيضا
بواسطة "ليبنتز" على أساس أنه بمثل هذا القدر من التخريب للعقيدة
الدينية الطبيعية وبالبديهة للعقيدة الموحاه). وللأسف أن بعض علماء الدين
المسلمين وغير المسلمين لم يتعلموا من دروس سابقة بخصوص موقفهم من المكتشفات
العلمية الحديثة المتعلقة بالقوانين التي تحكم هذا الكون فقد سبق لهم رفض حقائق
كثيرة ككروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس ويتهمون العلماء الذين اكتشفوها
بالكفر. ولو أن علماء الدين المسلمين فهموا نظرية التطور فهما صحيحا لوجدوا فيها
من الحقائق ما يدعم الصورة التي رسمها القران الكريم لخلق الإنسان ويؤكد كذلك على أن
تطور الكائنات لا يمكن أن يتم إلا من قبل خالق لا حدود لعلمه وقدرته فالصدفة التي
يزعم الملحدون أنها تقف وراء عملية ظهور الحياة على الأرض أعجز من أن تصنع أبسط
الأشياء تركيبا فأنى لها أن تصنع خلية حية أو شريط وراثي تم كتابة برامج تصنيع الكائنات
الحية عليه بطريقة رقمية.
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
لقد
حدد الله عز وجل في آيتين كريمتين الطريقة التي خلق بها سبحانه جميع مكونات هذا الكون
وهي قوله تعالى (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) طه وقوله تعالى (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)) الأعلى
. وهذه الآيات الكريمة تزيل اللبس الذي يقع فيه أنصار الخلق المباشر فهم يعتقدون
أن عملية خلق الكائنات إذا تمت على مدى فترات زمنية فإن الصدفة هي التي تحكم
خلقها. ولقد أكد القرآن الكريم في آيات كثيرة أن الله عز وجل لم يخلق جميع مكونات
هذا الكون بشكل فوري وهو القادر على ذلك سبحانه القائل (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ
إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)) النحل ولكنه سبحانه
خلقها بشكل متدرج لمجموعة من الحكم سأذكرها لاحقا. إن إعطاء الله عز وجل لكل شيء
خلقه في الآية الأولى (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)
هو تحديد ما سيكون عليه شكل وتركيب الشيء المخلوق عند الإنتهاء من خلقه. وأما
هداية الله عز وجل للشيء المخلوق في قوله تعالى (ثُمَّ
هَدَى) فتعني أن كل خطوة من خطوات
تصنيع هذا المخلوق وعند كل لحظة من لحظات خلقه قد تمت بهداية مباشرة من الله عز وجل ولم تترك
للصدفة أبدا. وتؤكد الآية الثانية (وَالَّذِي
قَدَّرَ فَهَدَى) على نفس المعنى فالتقدير هو تحديد الصورة التي
ستكون عليها المخلوقات بعد خلقها وأما الهداية فهي تنفيذ عملية تصنيعها على مدى
فترة محددة من الزمن. وباستثناء المعجزات التي أجراها الله عز وجل على أيدي
الأنبياء والرسل والتي خلقها سبحانه بقوله لها كوني فكانت فإن جميع مخلوقات هذا
الكون قد تم خلقها بطريقة تدريجية ووفق القوانين التي أودعها الله عز وجل مادة هذا
الكون كما أكد على ذلك سبحانه في آيات كثيرة كما في قوله تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2))
الفرقان وقوله سبحانه (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ (49)) القمر وقوله تعالى
(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)) النمل. وقد
يبدو للعلماء غير المؤمنين الذين يدرسون تاريخ تطور الكون والأرض والحياة أن أحداثها
تحكمها الصدفة فقط ووفقا لقوانين الطبيعة ولكن المؤمنون بالله عز وجل ورغم أنهم لا
ينكرون نتائج أبحاثهم إلا أنهم يختلفون معهم بنفي دور الصدفة في عملية الخلق ويوقنون
أن هذه الأحداث قد تمت بهدي كامل من الله عز وجل الذي لا يغفل ولو للحظة واحدة عن
تدبير شأن مخلوقاته مصداقا لقوله تعالى (وَلَقَدْ
خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ
(17)) المؤمنون وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ
يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ
أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41))
فاطر.
ومن
الواضح أن هناك حكم بالغة أرادها الله من وراء خلق مخلوقاته بهذه الطريقة
التدريجية وذلك من خلال تحديد الله سبحانه وتعالى للأطوار والمدد الزمنية التي خلق
الله خلالها جميع مخلوقاته ابتداء
من خلق السموات والأرض من الدخان وانتهاء بخلق الإنسان من التراب. فالحكمة الأولى
هي لكي يتمكن البشر من فهم أسرار هذا الكون والاستدلال من خلال ذلك على وجود خالق
لا حدود لعلمه وقدرته فلو أن مكونات هذا الكون قد تم خلقها في لحظة واحدة لما تمكن
البشر من كشف المراحل التي مر بها خلق هذا الكون. أما الحكمة الثانية فهي أن الكون
في كل لحظة من لحظات خلقه هي صورة من صور الخلق التي أراد الله عز وجل أن يبرزها
للوجود كصورة تحول الدخان إلى هذا الكم الهائل من المجرات وما فيها من نجوم وكصورة
تحول التراب إلى أول أشكال الحياة وصورة تحول الكائن الحي الأولي إلى هذا العدد
الهائل من أنواع الكائنات الحية. أما الحكمة الثالثة فهي أن التدرج في خلق الأشياء
قد يترك بعض الآثار التي ستساعد علماء البشر على كشف أسرار ماضي المخلوقات التي لم
يشهدوا خلقها. ولقد تبين للبشر في هذا العصر وجود هذا التدرج في خلق جميع مكونات هذا الكون ابتداء
من خلق أجرام الكون من الدخان وانتهاء بخلق الإنسان وغيره من الكائنات الحية من
تراب الأرض. إن الإنسان العاقل المنصف المطلع على تاريخ تطور الكون لا
بد وأن يوقن أن لهذا الكون صانع عليم قدير وهو يرى كيف تحول الدخان الذي كان يملأ
الفضاء الكوني إلى كون مستقر يتكون من أقمار تدور حول كواكب تدور بدورها حول شموس والتي
تدور حول مراكز مجراتها التي تعد بالبلايين وتحوي كل منها مئات البلايين من الشموس.
ويظهر
التدرج في الخلق في تحويل كرة الأرض الملتهبة في بداية خلقها إلى أرض مهيئة لظهور
الحياة عليها حيث استغرقت أربعة أيام من أيامه سبحانه
وهي ضعف المدة التي خلق الله عز وجل خلالها السموات والأرض الأولية والتي تمت في
يومين. وكذلك يظهر التدرج والتطور في رحلة تحول تراب الأرض إلى أول أشكال الحياة ورحلة
تحول الكائنات الحية البدائية إلى هذا العدد الهائل من أنواع الكائنات الحية. وعندما
أراد الله عز وجل أن يخلق الإنسان وهو أكرم مخلوقات الله عز وجل على هذه الأرض خلقه
من التراب على مراحل متعددة فمن مرحلة الطين اللازب إلى مرحلة الحمأ المسنون إلى
مرحلة الصلصال ثم إلى مرحلة سلالة الطين والتي سنبين لاحقا أنها ليست بالصورة
البسيطة التي يتخيلها البعض. إن الحقائق والأسرار المذهلة التي اكتشفها علماء
الفيزياء لتطور الكون من الدخان حتى هذه اللحظة وعلماء الجولوجيا لتطور الأرض
الأولية وعلماء الأحياء لتطور الحياة من التراب ستقود كثير من البشر للاقتناع بأن
لهذا الكون خالق لا حدود لعلمه وقدرته كما تنبأ بذلك القرآن الكريم في قوله سبحانه
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)) فصلت وقوله تعالى (وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)) النمل وقوله عز من قائل (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)) الطلاق.
وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ
ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن خلق الكون
والمراحل التي مر بها خلق مكوناته المختلفة وخاصة الأرض ومن أهم هذه الآيات قوله
تعالى (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)) فصلت. لقد ورد في هذه الآيات حقائق علمية
بالغة الأهمية جاءت متوافقة تمام التوافق مع الحقائق العلمية التي اكتشفها العلماء
في القرن العشرين حول نشأة الكون بما فيه من سموات وآراضين. ومن هذه الحقائق أن هذا
الكون قد خلق من العدم وأن عملية خلقه من بدايته إلى نهايته تمت على مدى ستة أيام
من أيام الله عز وجل التي لا يعلم طولها إلا هو سبحانه. أما الحقيقة العجيبة التي
ذكرتها الآيات والتي لم ترد في التوراة والانجيل ولم يكتشفها البشر إلا في القرن
العشرين فهي أن الكون في أول نشأته كان على شكل مادة دخانية (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) أطلق عليه
العلماء اسم الغبار الكوني المكون من الجسيمات الأولية. ولقد أشار القرآن الكريم إلى المصدر الذي جاء منه هذا الدخان وهو أن السموات
والأرض كانتا كتلة واحدة ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة وذلك في قوله
تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)) الأنبياء وهذا الحدث أطلق عليه علماء تطور الكون اسم (الانفجار
العظيم).
ومن الحقائق التي
تفرد بذكرها القرآن دون غيره من الكتب السماوية السابقة هي حقيقة أن السموات الأولية
والأرض الأولية قد خلقها الله عز وجل في
يومين اثنين. ويمثل
اليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض الأولية المدة الزمنية التي مرت على الأرض
منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس. ولقد حدد
الله علامة بارزة لنهاية يومي خلق الأرض
الأولية وبداية الأيام الأربعة التي أكمل الله فيها تجهيز الأرض لتكون صالحة لظهور
الحياة عليها وهي الجبال. لقد كانت الأرض في
نهاية اليومين الأولين من أيام الخلق قاحلة
من كل أسباب الحياة فلا ماء على سطحها ولا غلاف جوي يحميها من إشعاعات الشمس
الضارة ومن النيازك وكان سطحها مكون من صخور صلدة لا تراب عليها. ولهذا
فإن تأهيل هذه الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها يحتاج
لتوفير شروط كثيرة وعلى مدى فترة أربعة أيام من أيام الخلق مصداقا لقوله تعالى (وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ). فتقدير الأقوات هو توفير حميع الشروط اللازمة لظهور الحياة على سطح الأرض
وقد حدد القرآن أربعة أيام من مثل أيام خلق الأرض الأولية لتوفير أسباب الحياة على
الأرض. وفي
هذه الأيام الأربعة تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل
الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من
الفضاء الخارجي وامتلأ كذلك بمختلف أنواع الغازات التي ستلزم لحياة الكائنات
الحية. ويوجد آيات قرآنية كثيرة غير هذه الآية تبين بعض أحداث خلق الأرض كقوله
تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)) النازعات وقوله تعالى (أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا
وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ
اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)) النمل.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
لقد
سبق القرآن الكريم دارون بما يزيد عن ألف ومائتي عام في طرحه لفكرة السير في الأرض
كوسيلة لمعرفة الكيفية التي نشأت بها الحياة من تراب الأرض وذلك في قوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ
الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)) العنكبوت. إن هذه الأية لا يمكن أن تكون من قول البشر حيث أن البشر حتى منتصف القرن
التاسع عشر كانوا يعتقدون أن الكائنات الحية موجودة منذ الأزل حسب قول الفلاسفة أو
أنها خلقت مباشرة من التراب بأمر الله عز وجل حسب اعتقاد أتباع الأديان السماوية.
فهذه
الآية كشفت ثلاث حقائق بالغة
الأهمية يجهلها البشر أولها أن
هنالك بداية زمنية محددة ظهرت بها الحياة
على الأرض وهذه الحقيقة كانت مدار خلاف بين فلاسفة البشر القدامى ولم يتم البت فيها
إلا في منتصف القرن التاسع عشر. أما الحقيقة الثانية فهي التأكيد على وجود آلية محددة
اختارها الله عز وجل تم من خلالها ظهور هذا الكم الهائل من أنواع الكائنات الحية
بما فيها الإنسان. أما الحقيقة الثالثة فهي تأكيد الآية على أنه يوجد في الأرض من الأدلة ما
يكفي لإرشاد البشر إلى الكيفية التي نشأت بها هذه الحياة وهذا لا يمكن أن يتحقق
إلا من خلال السير في الأرض. وهذه الآية تبطل قول من يقول بالخلق المباشر للكائنات
الحية من التراب فمثل هذه العملية للخلق لا تترك أثرا يمكن أن يستدل به علماء البشر
على الكيفية التي بدأ بها الخلق. إن الهدف من وراء أمر الله عز وجل البشر للسير في
الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق هو لعلم
الله عز وجل أن في بداية الخلق من الأسرار العظيمة ما سيقنع كفار البشر بوجود إله
حكيم عليم يقف وراء عملية تحول تراب الأرض إلى أول شكل من أشكال الحياة ولا يمكن لها أن تتم بالصدفة.
لقد تحققت
الحكمة من وراء أمر الله عز وجل البشر للسير في الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق بعد أن
قام البحاثة الإنكليزي "تشارلز دارون" في عام 1831م بأول محاولة
عملية لمعرفة كيف ظهر هذا الكم الهائل من أنواع الكائنات الحية على هذه الأرض. لقد
سافر دارون على إحدى سفن الاستكشاف الإنكليزية فجابت به على مدى خمس سنوات متواصلة
مناطق كثيرة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية والتي تعج بأنواع لا حصر لها من
الكائنات الحية. ولقد كان دارون خلال هذه الرحلة الطويلة دائم البحث والنظر لا
يترك نوعا من أنواع الكائنات الحية تقع عليه عينيه إلا وسجل صفاته وخصائصه ومواقع
عيشه وأوجه الشبه بينه وبين بقية أنواع الكائنات بل تجاوز ذلك ودرس أشكال الحياة
المنقرضة التي عثر عليها محفوظة على شكل متحجرات في طبقات الصخور. وبعد أن عاد دارون
من رحلته المثيرة مكث أكثر من عشرين سنة يدرس ويقارن أشكال الحياة التي شاهدها
أثناء رحلته واضعا نصب عينيه هدف الوصول إلى تفسير مقنع لظهور هذا الكم الهائل من
أشكال الحياة على الأرض. وقد توج دارون جهوده هذه بوضعه لأول نظرية بنيت على أسس
علمية تجريبية سميت بنظرية التطور والتي قام بنشرها في كتابه الشهير "أصل
الأنواع" وذلك في عام 1859م. لقد حاول دارون من خلال هذه النظرية الإجابة
على بعض التساؤلات التي دارت ولا زالت تدور
في أذهان كثير من البشر حول الطريقة التي نشأت بها الحياة
على الأرض والكيفية التي ظهر بها هذا الكم الهائل من أنواع الكائنات الحية. وبعد
ظهور نظرية التطور انبرى كثير من علماء الأحياء لدراسة مختلف المسائل المتعلقة
بتطور الحياة وجمعوا من الأدلة والبراهين ما يثبت صحة هذه النظرية. وأخيرا
فإن التصورات التي وضعها علماء التطور للطريقة التي خلقت بها الكائنات الحية وعلى
رأسها الإنسان من التراب أقرب لأن تصدق من قبل الناس من التصورات التي يتوهمها بعض
علماء الدين. وبالنسبة للمسلمين فإن الآيات القرآنية المتعلقة بمراحل الخلق لا
يمكن أن تفهم فهما صحيحا إلا على ضوء التصورات التي وضعها علماء التطور كما هو
الحال مع مراحل الحمأ المسنون وسلالة الطين والتحول من التكاثر اللاجنسي إلى
التكاثر الجنسي عند الكائنات الحية.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا
لقد حدد
القرآن الكريم ثلاثة حقب رئيسية مرت بها عملية خلق الإنسان وكذلك بقية الكائنات
الحية من التراب وهي حقبة التراب وحقبة النطفة وحقبة الأزواج كما جاء ذلك في قوله
تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا(11)) فاطر. فحقبة التراب أو ما سماه
العلماء بالتطور الكيميائي للحياة تم فيها
تحويل تراب الأرض إلى أول شكل من أشكال الحياة وهي الخلية الحية البدائية. ولقد
أطلق القرآن الكريم اسم النشأة الأولى على هذه الحقبة في قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا
تَذَكَّرُونَ (62)) الواقعة. وأكد على أن
هذه النشأة قد تمت على الأرض كما جاء في قوله تعالى (هُوَ
أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ (32)) النجم وقوله تعالى (هُوَ
أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا(61)) هود. وأما الحقبة الثانية وهي حقبة النطفة وفيها
بدأ إنتاج الكائنات الحية من النطفة المكونة من خلية واحدة وظهر خلالها ملايين
الأنواع من الكائنات الحية بمختلف الأحجام والأشكال وذلك من خلال تعديل برنامج
التصنيع الرقمي الموجود في داخل الخلية بهدي من الله عز وجل. وقد جاء ذكر الحقبة
الثانية في قوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ
الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا
لَا يَعْلَمُونَ (36)) يس والتي تصف بشكل دقيق عملية تطور الكائنات الحية
من بعضها البعض فالله سبحانه وتعالى خلق جميع أنواع الكائنات الحية مما أنبتته
الأرض من كائنات حية أولية. وأما الحقبة الثالثة وهي حقبة الأزواج فقد تم فيها تحويل
تكاثر الكائنات الحية من التكاثر اللاجنسي إلى التكاثر الجنسي والذي يحتاج إلى
زوجين من نفس الكائن وهما الذكر والأنثى مصداقا لقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
(98)) الأنعام وقوله تعالى (وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)) النجم.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ نَبَاتًا
لقد أكد
القرآن الكريم كذلك على أن الأرض هي المكان الذي تمت فيه عملية
خلق جميع أنواع الكائنات الحية بما فيها الإنسان وأنها لم تهبط إليها من مكان آخر
في هذا الكون وذلك مصداقا لقوله تعالى (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)) طه. وفي قوله
تعالى (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)) نوح إشارة واضحة
إلى أن عملية خلق الإنسان من التراب ليست على الصورة البسيطة التي يتخيلها بعض
أنصار الخلق المباشر. إن تشبيه خلق
الإنسان من التراب بعملية خروج النبات من الأرض تدل على عملية تطور معقدة مر بها خلق الإنسان وهي الأطوار التي مر بها وهو في
مراحل الطين وفي مراحل تطوره من كائنات أقل منه رتبة في سلم التطور. وما
ذكر الله عز وجل في نفس الآية لطريقة خلق الناس من التراب في النشأة الأخرة إلا
لتوضيح الفرق بين النشأتين ففي النشأة الأخرة سيتحول
تراب القبور فجأة إلى أجسام من لحم ودم مصداقاﹰ لقوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى
رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)) يس.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا
لقد
أشار القرآن الكريم في آيتين كريمتين إلى أن المدة الفاصلة منذ أن بدأ الله عز وجل
خلق الإنسان من الطين إلى أن أصبح على الصورة التي كان عليها آدم عليه السلام لا
بد وأن تكون طويلة وإلا لما لزم الأمر أن يذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز. ففي
قوله سبحانه (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ
قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2))
الأنعام إشارة واضحة إلى وجود أجل أو زمن محدد قد مر على الإنسان منذ أن كان في أول
مرحلة من مراحل خلقه وهي مرحلة الطين إلى أن سواه الله عز وجل ونفخ في آدم من روحه.
وأما قوله تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا
مَذْكُورًا (1)) الإنسان فتشير إلى أن الإنسان قد مر بسلسلة طويلة من مراحل
الخلق لم يكن فيها ذا قيمة تذكر قبل تسويته وقبل نفخ روح الله عز وجل فيه. أما بخصوص المدد الزمنية التي استغرقتها هذه
المراحل فإن أنصار الخلق المباشر لا جواب عندهم حولها أما أنصار التطور فقد
استطاعوا من خلال السير في الأرض تحديد هذه المدد بشكل تقريبي ووجدوا أنها تقدر بمئات
الملايين من السنين.
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ
لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا
إن
معرفة الأطوار التي مر بها خلق الإنسان وبقية الكائنات الحية من التراب وكذلك الأطوار
التي تمر بها وهي تتحول من خلية واحدة إلى كائنات لا حصر لعدد أنواعها إنّما هو
توقير لله عز وجل الذي حدد هذه الأطوار وما فيها من أسرار. وكما ذكرنا سابقا فإن الحكمة
من خلق الله عز وجل لمخلوقاته بشكل تدريجي وليس فوري لكي يتمكن البشر من كشف مدى
علمه وقدرته عند دراسة الأطوار التي تمر بها عملية خلق المخلوقات من موادها الخام.
ومن
الغريب أن يرفض بعض المسلمين فكرة تطور خلق الإنسان من التراب على الرغم من تأكيد
الله عز وجل على أنه خلق الإنسان على مراحل فمن طور الطين اللازب إلى طور الحمأ
المسنون إلى طور الصلصال إلى طور السلالة الطينية. وكذلك فقد أشار القرآن الكريم
بشكل صريح لمثل هذا التطور في خلق البشر من التراب في الزمن الغابر وكذلك من
النطفة فيما بعد وذلك في قوله تعالى (مَا لَكُمْ لَا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)) نوح.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ
لقد
أشار القرآن الكريم إلى أن جميع
الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان قد خلقت من تراب الأرض
وذلك مصداقا لقوله تعال (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)) آل عمران
وقوله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ
بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)) الروم وقوله
تعالى (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ
أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ
رَجُلًا (37)) الكهف. لقد حددت الآيات
السابقة المادة الخام التي خلقت منها جميع أنواع الكائنات الحية ممثلة بالإنسان وهي
التراب فإذا كان الإنسان وهو أكرمها عند الله عز وجل قد خلق من التراب فلا بد أن
بقية الكائنات الحية قد خلقت منه. إن
المقصود بالتراب هو مجموعة العناصر الطبيعية الموجودة في هذه الأرض والتي يبلغ
عددها اثنان وتسعون عنصرا وذلك بغض النظر أكانت هذا العناصر موجودة في التراب أو
في الماء أو في الهواء. ولا يمكن أن يفهم من هذه الآيات أن أدم عليه السلام وكذلك وذريته
قد تم خلقهم مباشرة من التراب ولكن التراب هو الأصل الذي تم خلقهم منه. فهذه الآيات
لا تفيد بأي شكل من الأشكال أن أفراد البشر يمرون بمرحلة الخلق من التراب بل تؤكد
أن الأصل الأول الذي تم خلقهم منه قد مر بمرحلة الخلق المباشر من التراب وكذلك هو الحال مع آدم عليه السلام.
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ
مِنْ طِينٍ
لقد
أكد القرآن الكريم أن أول مرحلة من مراحل خلق الإنسان من التراب هي الطين وذلك في قوله
تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ
خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)) السجدة. وتحمل
كلمة
بدأ في هذه الآية في طياتها معاني عميقة أولها أن عملية خلق الإنسان من التراب لم
تتم في لحظة واحدة من خلال قول الله تعالى للتراب كن إنسانا فكان بل احتاجت لزمن محدد
لا يعلم طوله إلا الله عز وجل. أما المعنى الثاني فهي أن مرحلة الطين سيتبعها
مراحل أخرى لعملية خلق الإنسان كمراحل الطين اللازب والحمأ المسنون والصلصال
وسلالة الطين المذكور في آيات أخرى. وللتأكيد
على أن الله عز وجل قد خلق الإنسان وكذلك بقية الكائنات الحية وفق طريقة تصنيع محددة
فقد بدأت الآية بقوله تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ) للتدليل على مدى الإتقان الذي يتطلبه تصنيع الإنسان وبقية
الكائنات الحية ابتداء من الطين. ومن البديهي أن يكون الطين هو أول مراحل خلق
الكائنات الحية فالطين هو التراب المعجون بالماء وقد ثبت للعلماء أنه بدون الماء
لا يمكن لأي شكل من أشكال الحياة أن يظهر على الأرض. ويعود السبب في كون الماء أحد
أهم عناصر الحياة إلى كون التفاعلات الكيميائية التي تلزم لإنتاج المواد العضوية المختلفة تحتاج إلى وسط يساعد على حدوث مثل هذه
التفاعلات. ولا بد أن يكون هذا الوسط على شكل سائل بحيث تتحرك فيه مواد التفاعل من
تلقاء نفسها فلو كانت هذه المواد في حالتها الصلبة لاحتاجت إلى من يخلطها باستمرار
لكي يحدث التفاعل المطلوب أما في حالة وجودها مذابة في السائل فإن هذه المواد
ستتحرك من تلقاء نفسها بسبب خاصية الانتشار ممّا يسرع من عملية التقاء جزيئات
المواد المتفاعلة ومن ثم تفاعلها.
إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ
وقد
أشارت آية قرآنية أخرى إلى أحد خصائص هذا الطين في قوله تعالى (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا
إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12))
الصافات. والطين اللازب هو الطين الذي يلتصق بالأشياء التي تلامسه وربما يكون معناه
الطين المتماسك وقد يكون الطين المترسب في قيعان الأسطح المائية. وبغض النظر عن
معنى كلمة لازب فإن وصف الله عز وجل لهذا الطين بأنه طين لازب إلا ليؤكد على أن
لهذا الطين مواصفات معينة ترك للبشر مهمة كشف أسرارها. لقد سخر كفار قريش من حقيقة
أن الله عز وجل قد خلقهم من الطين ولا بد أنهم تصوروا في أذهانهم طريقة بدائية لخلقهم
من هذا الطين كما يتصور البعض في هذا العصر. وفي المقابل نجد إن رسولنا الكريم قد عجب
من حقيقة تحول الطين إلى إنسان يتحرك ويسمع ويبصر ويفكر ويفرح ويحزن ويضحك ويبكي. وأعتقد
جازما أن من يطلع على نتائج أبحاث العلماء المشتغلين بتاريخ التطور الكيميائي
للحياة لا بد وأن يعجب أشد العجب من الطريقة التي تحول بها تراب الأرض إلى أول
كائن حي بدائي مكون من خلية واحدة. وقد اعترف كثير من علماء الغرب ممن يدرسون
تاريخ تطور الحياة بأن عملية نشوء الحياة من التراب فيها من المعجزات ما فيها وكتبوا
كتب ومقالات حول هذه المعجزات (Miracles in Evolutionary
Theory). وقد جاء هذا الاعتراف على لسان أحد أشهر علماء الأحياء وهو
عالم الأحياء فرانسيس كريك الذي نال في عام 1962م جائزة نوبل في الفسيولوجيا
مشاركة مع عالمين آخرين تقديرا لاكتشافهم تركيب شريط الحامض النووي حيث قال في
كتابه ( طبيعة
الحياة) (إن الرجل الأمين المسلح بكل
المعرفة المتاحة لنا الآن لا يستطيع أن يقول أكثر من أن نشأة الحياة تبدو شيئا
أقرب ما يكون إلى المعجزة).
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ
أما المرحلة الثالثة من مراحل خلق الإنسان فهي مرحلة
الحمأ المسنون فقد جاء ذكرها في قوله تعالى (وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ (26)) الحجر. فمرحلة
الحمأ المسنون هي المرحلة التي تكونت فيها المواد العضوية البسيطة في المسطحات
المائية حيث يعتقد علماء التطور أن الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس
والتفريغ الكهربائي الناتج عن البروق والبراكين عملت على تصنيع المواد العضوية
البسيطة من غازات الميثان والأمونيا والهيدروجين وبخار الماء الموجودة في جو الأرض
الأولي. ولقد بدأت هذه المواد العضوية البسيطة بالتراكم والترسب بكميات كبيرة في
البرك والبحيرات والمحيطات لتلتصق بالطين الموجود في قيعانها مكونة الحمأ المسنون
الذي ذكره القرآن الكريم. ولقد أطلق علماء التطور اسم الحساء البدائي (primordial soup) وكذلك المرق الحيوي الأولي (prebiotic broth) على
هذا الماء أو الطين الممتلئ بمختلف أنواع المواد العضوية البسيطة. فالحمأ كما جاء
في تفاسير القرآن الكريم هو الطين الأسود والمسنون هو الطين الآسن الذي تفوح منه
الروائح الكريهة وهذه التسمية القرآنية جاءت
أكثر دقة في الوصف من تسمية علماء التطور حيث أن الحمأ المسنون مرتبط بوجود المواد
العضوية المنتنة في الماء الراكد. إن وجود مرحلة الحمأ المسنون كأحد مراحل خلق
الإنسان تنفي بشكل قاطع فكرة الخلق المباشر فلا حاجة لأن يكون الطين آسن حتى يصنع الله عز وجل منه الإنسان وبقية الكائنات الحية.
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ
صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
أما
المرحلة الرابعة وقبل الأخيرة من مراحل التطور الكيميائي للحياة فهي مرحلة الصلصال
والتي وردت في قوله تعالى (وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ (26)) الحجر وكذلك
قوله تعالى (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ
كَالْفَخَّارِ (14)) الرحمن. لقد وجه علماء تطور الحياة مسار أبحاثهم في اتجاه لم يكن ليخطر
على بال أحد وهم يبحثون عن الآلية التي تكونت بها المواد العضوية المعقدة من
المواد العضوية البسيطة المتوفرة بكثرة في االحساء البدائي أو الحمأ المسنون. فقد اكتشفوا أن الأحماض الأمينية شبه الجافة
التي تم ترسيبها على سطوح بعض المواد المتوفرة في الطبيعة لها القدرة على تكوين
مواد عضوية معقدة أسرع بكثير ممّا لو كانت مذابة في الماء. وقد وجد العلماء أن السبب في ذلك يعود إلى أن البروتينات
والأحماض النووية وبقية المواد العضوية المعقدة تتكون من سلاسل طويلة مكونة من
وحدات أساسية تتكرر وفق ترتيبات محددة على طول هذه السلاسل وكذلك هو الحال مع
الأجسام البلورية حيث يوجد على أسطحها تراكيب دقيقة تعيد نفسها بأنماط مختلفة. وبعد
أن قام العلماء بدراسة عدد لا بأس به من المواد المتبلورة في الطبيعة وقع اختيارهم
وبشكل غير متوقع على الصلصال المتبلور أو حسب التعبير القرآني الصلصال الذي
كالفخار. يتميز الصلصال المتبلور على غيره من المواد البلورية بامتلاكه لأنماط
متعددة من التكرار تتحدد من طبيعة المواد التي صنع منها والظروف الذي يتعرض لها
أثناء تكونه بينما لا تمتلك المواد البلورية الأخرى إلا عدد قليل من الأنماط.
ويتكون الصلصال من شبكة بلورية من ذرات السيليكون والأكسجين والألمنيوم
والهيدروجين مرتبة على شكل طبقات وقد يحدث عند تكون هذه الطبقات أن تحل ذرة
ألمنيوم محل ذرة سيليكون فينتج عن ذلك أخطاء تركيبية في بنية الصلصال المتبلور. وقد وجد العلماء أن هذه الأخطاء
التركيبية لها القدرة على إعادة نفسها عند تكون طبقات جديدة ممّا يؤدي لظهور عدد
كبير جدا من الأنماط التركيبية المختلفة. وتتضمن هذه التراكيب البلورية أنماط من
الشحنات الكهربائية لها القدرة على جذب جزيئات المواد العضوية وخاصة النيوكليدات
المكونة للحامض النووي من الماء المحيط بالصلصال وتساعدها بالارتباط ببعضها على
سطح الصلصال. وفي تأكيد القرآن الكريم على
أن الصلصال الذي استخدم في خلق الحياة الأولى هو النوع الذي يشبه الفخار إشارة إلى
ضرورة أن يكون الصلصال بالشكل المتبلور الذي يتطلبه تشكل المواد العضوية على
أنماطه البلورية. وقد اكتشف العلماء كذلك أن الصلصال المتبلور يمتلك خاصية فريدة
وهي قدرته على تفريغ الطاقة التي تحويها جزيئاته في جزيئات المواد العضوية
الملتصقة به ممّا مكنها من الارتباط ببعضها البعض وذلك عند تعرض هذا الصلصال
لسلسلة من دورات التجفيف والترطيب. إن هذه الخواص الفريدة للصلصال المتبلور التي
مكنته من تصنيع المواد العضوية المعقدة من مكوناتها البسيطة جعلته يقوم مقام
الأنزيمات في عملية تصنيع هذه المواد وذلك في غياب الأنزيمات في تلك الحقّبة من
الزمن. وكما أن المواد العضوية التي يتم تصنيعها بمساعدة الإنزيمات تنفك عن
الإنزيم بعد اكتمال التفاعل فإن سلسلة الجزيئات العضوية التي تتكون على أسطح
الصلصال تقوم بمغادرة هذه السطوح بمجرد اكتمالها وتبدأ بالانتشار بالماء.
وبمعرفة
العلماء لهذا الدور المهم الذي لعبه الصلصال في تطور الحياة على الأرض تم حل اللغز
الثاني من ألغاز الحياة وهو طريقة تصنيع المواد العضوية المعقدة من المواد العضوية
الأساسية التي سبق أن تكونت في جو الأرض
الأولي داخل الحمأ المسنون. لقد كان أحد عناوين مجلة أخبار العلوم (Science News) في عام
1977م هو (نمذجة التطور المبكر بالصلصال) (Modeling Early Evolution with Clay) وفي مقدمة المقالة وردت الجملة التالية: قد يكون الصلصال الوضيع
هو الذي شكل الخطوة الأهم في التطور الكيميائي للحياة. وفي عام 2003م وعلى موقع (CNN) ظهر العنوان
التالي : دراسة تقترح أن الحياة قد انبثقت من الصلصال (Study suggests life sprang from clay) وورد في
المقالة ما نصه: العلم يدعم الدين في دراسة تقترح أن الحياة قد انبثقت بالفعل من
الصلصال-كما جاء في تعاليم بعض الأديان(Science backed up
religion in a study that suggests life may have indeed sprung from clay -- just
as many faiths teach).
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ
أما
المرحلة الأخيرة والعجيبة من مراحل التطور الكيميائي للحياة فهي مرحلة سلالة الطين
التي جاءت في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)) المؤمنون. ولكي نتمكن من فهم معنى كلمة السلالة الواردة في
هذه الآية لا بد من الاستعانة بمعناها في آية أخرى وهي قوله تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ
جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)) السجدة. وتبين هذه الآيات أنه بعد أن تم خلق الأصل
الأول للإنسان من الطين أصبحت عملية إنتاج البشر وغيره من الكائنات الحية تتم من
خلال سلالة الماء المهين وليس من التراب مباشرة. وكلمة نسله في قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) يمكن فهم معناها من خلال إبدالها
بكلمة نسخه كأن نقول (ثم جعل نسخه) وهي عملية إنتاج
نسخ جديدة من افراد الإنسان وغيره من الكائنات الحية من أصولها. أما معنى السلالة
في قوله تعالى (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)
فهو أن عملية النسخ هذه تتم تحت سيطرة مكون في داخل النطفة على شكل سلسلة من الماء
بالغة الضعف وهي بلا شك شريط الحامض النووي الوراثي الموجود في كل خلية من خلايا
الكائنات الحية.
لقد
أجمع علماء تطور الحياة بعد اكتشاف شريط الحامض النووي في منتصف القرن العشرين على
أنه لا يمكن لأي كائن حي مهما بلغت بساطة تركيب جسمه أن يخلق من تراب الأرض قبل أن
يتم تصنيع شكل من أشكال الشريط الوراثي. ففي هذا الشريط الوراثي يكمن سران من أهم
أسرار الحياة فاالسر الأول هو قدرته على إنتاج
نسخة طبق الأصل عن نفسه بنفسه وبهذا السر تستطيع الخلايا وكذلك الكائنات الحية أن
تنتج نسخا عن نفسها بنفسها بدون تدخل أيّ قوة خارجية. أما السر الثاني فهو قدرته
على تخزين المعلومات اللازمة لتصنيع مختلف مكونات الكائنات الحية كمواصفات المواد
العضوية المختلفة ومواصفات مكونات الخلية الحية ومواصفات أجسام الكائنات الحية. فالكائن
الحي لا يمكن اعتباره كائنا حيا حتى لو عاش لفترة طويلة من الزمن طالما أنه لا
يمتلك الآلية التي يستطيع من خلالها أن ينتج نسخة جديدة عن نفسه بنفسه. إن مرحلة سلالة الطين هي المرحلة التي تم خلالها
تصنيع أول شكل من أشكال الحامض النووي والتي أطلق عليها علماء التطور اسم عالم
الحامض النووي الرايبوزي (world of ribonucleic acid (RNA)).
وهذا الحامض النووي الرايبوزي هو شريط يحمل معلومات وراثية مثله مثل شريط الحامض
النووي الديكسورايبوزي (DNA) إلا أنه مكون من سلسلة واحدة بدلا من سلسلتين. ويعتقد
هؤلاء العلماء أن سلاسل الأحماض النووية هي الجزيئات الوحيدة التي يمكن لها أن
تبقى لفترات طويلة بعد انفصالها عن الصلصال إذا ما توفرت فيها خاصية مهمة وهي
قدرتها على إنتاج نسخ عنها بدون مساعدة الصلصال. وكما أن سلالة
الماء أو شريط الحامض النووي هو المسؤول عن تحويل الخلية الواحدة إلى كائن حي
بكامل تفصيلاته فإن سلالة الطين هي المسؤولة عن تحويل التراب الميت إلى أول شكل من
أشكال الحياة وهو الكائن الحي البدائي المكون من خلية واحدة. وعلى شريط الحامض النووي الرايبوزي الأولي
كتب الله بطريقة رقمية كامل تعليمات تصنيع
أول كائن حي ظهر على وجه الأرض والذي كان يتكون من خلية حية واحدة فقط تحتوي على معظم
المكونات الموجودة في الخلايا الحية الحالية. ومن هذا الكائن الحي الأولي خلق الله
جميع أنواع الكائنات الحية التي ظهرت على هذه الأرض والتي تعد بعشرات الملايين
وذلك من خلال إعادة كتابة برامج التصنيع المخزنة على أشرطة الحامض النووي الموجودة
في الخلايا التي تبدأ منها عملية تصنيع مختلف أنواع الكائنات الحية.
لقد
اكتشف علماء الأحياء أن الشيفرة الوراثية في جميع الكائنات الحية مكتوبة بنفس نوع
الأحرف والتي يبلغ عددها أربعة أحرف فقط وأن طول الشيفرة هو ثلاثة أحرف وهو الطول
اللازم لتشفير الأحماض الأمينية العشرين التي تلزم لتصنيع مختلف أنواع البروتينات
والأنزيمات التي تحتاجها الكائنات الحية. ويعتقد علماء التطور أن شريط الحامض
النووي الذي كتبه الله عز وجل لأول مرة لا بد وأن يكون بنفس مواصفات الأشرطة
الحالية من حيث عدد أحرف التشفير وطول كلمة التشفير. ولقد ثبت للعلماء بما لا يدع
مجال للشك أن جميع الكائنات الحية ابتداء بالفيروسات وانتهاء بالإنسان تستخدم نفس
نظام التشفير ونفس المواد العضوية ولو لم يكن الأمر كذلك لظهر للوجود كائنات حية
بأشرطة وراثية بأطوال كلمات مختلفة. وفي نفس الوقت ينفي وجود نظام تشفير موحد
لجميع أنواع الكائنات الحية أن تكون
الصدفة هي المسؤولة عن ذلك وإلا لظهر في مياه الأرض المتباعدة نظم حياة لها أنظمة
تشفير مختلفة من حيث عدد الأحرف وطول الكلمات. ويعتقد علماء التطور بأن تركيب شريط الحامض النووي الذي ظهر للوجود أول
مرة كان في أبسط أشكاله أيّ أنه كان يتكون من
سلسلة جانبية واحدة قصيرة نسبيا وهو أقرب ما يكون في الشكل لشريط الحامض النووي المراسل. وقد زاد من قناعة
العلماء بهذا الرأي أن بعض الفيروسات والتي هي أبسط الكائنات الحية تركيبا يتكون
شريطها الوراثي من شريط حامض نووي أحادي السلسلة بينما تتكون الأشرطة الوراثية
لبقية الكائنات الحية من أشرطة مزدوجة السلسلة.
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ
فَقَدَّرَهُ
لقد انتهت حقبة الخلق من التراب أو ما يسمى بالتطور
الكيميائي للحياة والتي تتعلق بتحويل تراب الأرض إلى أول كائن حي بدائي مكون من
خلية واحدة قادر على تزويد نفسه بالغذاء اللازم من المحيط الذي يعيش فيه وقادر
كذلك على التكاثر الذاتي. أما الحقبة الثانية من مراحل تطور الحياة فهي حقبة
النطفة والتي تتعلق بإنتاج الكائنات الحية من النطف ذات الخلية الواحدة وليس من
التراب مباشرة والتي جاء ذكرها في قوله تعالى (وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا(11))
فاطر وقوله سبحانه (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ
(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19))
عبس وقوله تعالى (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ
فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)) النحل. لقد أثبت
علماء الأحياء بما لا يدع مجالا للشك أن جميع أنواع الكائنات الحية يبدأ تصنيعها
من خلية واحدة فقط حيث تنقسم إلى خليتين ثم إلى أربع ثم إلى ثماني خلايا وهكذا دواليك
إلى أن يتم إنتاج جميع الخلايا التي تلزم لبناء جسم الكائن والتي قد يصل عددها إلى
آلاف البلايين في بعض الكائنات. إن الإبداع الموجود في طريقة التصنيع هذه هو في
أنها لا تحتاج إلى تدخل قوة خارجية لإتمام عملية التصنيع فالخلية الأولية التي
تبدأ منها عملية تصنيع الكائن الحي قد تم برمجتها بشكل كامل بحيث تقوم هذه الخلية
وما ينتج عنها من خلايا من خلال الانقسام المتكرر بكامل خطوات التصنيع. إن كل ما
تحتاجه هذه الخلية لكي تننتج كائن حي بعد وضعها في وسط مناسب هو إمدادها بالغذاء
اللازم لإنتاج بقية الخلايا. وبما أن الكائنات الحية لا تتدخل أبدا في عملية تصنيع
الكائنات الحية التي تنتجها فلا بد والحال هذا أن تحتوي الخلية على كامل المواصفات
والتعليمات اللازمة لتصنيع هذه الكائنات مخزنة على الشريط الوراثي بطريقة رقمية.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ
لطالما
تساءل علماء الأحياء عن السر الذي يجعل خلايا
التكاثر والتي تكاد أن تكون متشابهة في الشكل وتحتوي على نفس المكونات أن تنتج
أنواع لا حصر لها من الكائنات الحية بمختلف الأحجام والأشكال والألوان. وقد كان شك
العلماء يدور حول الحامض النووي (DNA) الموجود في نواة الخلية والذي تم اكتشافه
في عام 1869م على يد الطبيب السويسري فريدرك ميشر بأنه هو المسؤول عن نقل الصفات
الوراثية في الكائنات الحية. وفي عام 1953م تمكن عالمي الأحياء فرانسيس كريك وجيمس واطسون باستخدام
الأشعة السينية من كشف تركيب الحامض النووي ووجدوا أن كامل مواصفات أجسام الكائنات
الحية مكتوبة بطريقة رقمية على شريط طويل ودقيق من الحامض النووي مخزن في نواة
الخلية وهو من الصغر بحيث لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضوئية. وبهذا
الاكتشاف العظيم تمكن هذان العالمان من فك أعظم سر من أسرار الحياة وهو الكيفية
التي يتم من خلالها توريث مواصفات أجسام الكائنات الحية إلى ما تنتجه من كائنات
جديدة وكذلك الطريقة التي يتم بها تصنيع كائنات جديدة ابتداء من خلية واحدة.
لقد
ورد ذكر الشريط النووي الوراثي في عدة آيات كما في قوله سبحانه
وتعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ
سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)) السجدة وفي
قوله تعالى (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ
مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)) المرسلات. فسلالة
الماء المهين أو الماء المهين المذكورة في هذه الايات لا بد وأن تكون إحدى مكونات
النطفة التي تخلق منها جميع أنواع الكائنات الحية كما جاء في الآيات القرآنية. وتكشف
كلمة "نسله" مهمة هذه السلالة
والتي يمكن فهم معناها من خلال إبدالها بكلمة نسخه فهذه السلالة مسؤولة عن إنتاج
نسخ جديدة من الكائنات الحية. إن هذه السلالة لا بد وأنها شريط الحامض النووي الذي
يأتي على شكل سلسلة دقيقة وطويلة لا ترى بالعين المجردة. وتؤكد كلمة "مَهِينٍ" بفتح الميم أي الضعيف كوصف لهذه السلالة المائية على أنها
الشريط الوراثي البالغ الضعف فهذه الكلمة مشتقة من الفعل وهن أي ضعف وليس مهين بضم
الميم من الإهانة كما يتبادر لأذهان البعض.
لقد
تمكن علماء الأحياء بالاستعانة بالميكروسكوبات الإلكترونية من التعرف على بنية الشريط الوراثي وتبين لهم مدى ضعفه حيث يبلغ عرضه
نانومترين اثنين فقط بينما يختلف طوله حسب نوع الكائن حيث يبلغ طوله الكلي في
الإنسان ما يقرب من المترين. ولكي يتم وضع هذا الشريط الطويل في داخل نواة الخلية التي لا
يتجاوز قطرها عدة ميكرومترات فلا بد من
طيها مئات الآلاف من المرات. ومن البدهي أن لا يتم لف هذا الأشرطة بطريقة اعتباطية
وإلا لتشابكت أجزاؤها ولما تمكنت هذه الأشرطة من القيام بمهامها حيث أن كل جزء منها يحتوي على معلومات
وراثية محددة مسؤولة عن وظيفة محددة في
عملية تصنيع جسم الكائن. لقد أصيب العلماء بدهشة كبيرة عندما اكتشفوا أن هذا
الشريط قد تم لفه بطريقة بالغة الذكاء بحيث يمكن قراءة جميع التعليمات المكتوبة
عليه بشكل مباشر وبدون أيّ لبس حيث تم لفها على سطوح أسطوانات بروتينية يصل قطر الواحدة منها ثلاثين نانومتر ولا
يتجاوز طولها الميكرومتر الواحد.
إن
سر الحياة الأعظم يكمن في قدرة الشريط الوراثي
على إنتاج نسخة عن نفسه بنفسه وبهذا السر تستطيع الخلايا الحية أن تنتج نسخا عن
نفسها بنفسها وتستطيع الكائنات الحية أن تنتج نسخا عن نفسها بنفسها. ولولا هذه الخاصية
الفريدة لهذا الشريط لما أمكن للحياة أن تدوم على سطح هذه الأرض منذ آلاف الملايين
من السنين وإلى أن يشاء الله فالمعلومات
الوراثية التي تلزم لتصنيع أيّ كائن حي يتم توارثها من خلال إنتاج نسخة طبق الأصل
عن الشريط في كل خلية قبل انقسامها إلى خليتين. إن أكثر ما أثار دهشة علماء الأحياء
في شريط الحامض النووي هو أن الطريقة التي تمت بها كتابة تعليمات تصنيع الكائنات
هي نفس الطريقة التي يستخدمها الحاسوب الرقمي لتخزين مختلف أنواع المعلومات في
ذاكرته وفي تنفيذ برامجه. ولقد ترتب على هذا الاكتشاف العظيم تحول كبير في
المفاهيم المتعلقة بالطريقة التي تمت بها عملية خلق الكائنات الحية من التراب وخاصة
تلك المتعلقة بنظرية التطور. ولقد تبين للعلماء أنه لا يمكن تعديل أيّ جزء من
أجزاء الكائن الحي مهما بلغت بساطة تركيبه إلا من خلال تعديل المعلومات الرقمية
المكتوبة على هذا الشريط وهذا يعني أن عملية تطور أيّ كائن حي إلى كائن حي آخر
يتطلب إعادة كتابة أو تعديل برنامج التصنيع الرقمي المخزن على شريط الحامض النووي.
وعليه فإنه لا يمكن لعاقل أن يصدق أن الصدفة التي لا عقل لها يمكنها أن تنحى هذا
المنحى في اختراع هذه الطريقة الرقمية لتصنيع الكائنات فمثل هذه الفكرة البالغة
الذكاء لم تخطر على عقول البشر إلا في هذا العصر حيث أن تنفيذها يتطلب تصنيع
مكونات بالغة التعقيد وبالغة الصغر داخل خلايا هذه الكائنات.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا
وَصِهْرًا
وأشار
القرآن الكريم كذلك إلى حقيقة أن النطفة التي يخلق منها الإنسان وغيره من الكائنات
الحية قد نتجت عن عملية مزج أو خلط قد تمت
بين محتويات ما ينتجه الذكر وما تنتجه الأنثى من خلايا التكاثر وذلك في قوله تعالى
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)) الإنسان. وكذلك جاء في آية أخرى إلى أن سلالة الماء أو
الشريط الوراثي تحمل في ثناياها نسب الإنسان وهي المواصفات التي تحدد كامل تفاصيل
تركيب جسمه والتي يأخذها من خلال انصهار سلالة الماء التي يأخذها من أبيه وتلك
التي يأخذها من أمه وذلك في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ
قَدِيرًا (54)) الفرقان. فضمير الغائب في كلمة فجعله تعود على الماء والذي
يقصد بها سلالة الماء المهين الموجود في داخل النطفة وهو الشريط الوراثي. وأخيرا أشار القرآن الكريم إلى هذه الرحلة المعقدة
والعجيبة لعملية خلق الإنسان من سلالة الطين ثم للخلية الحية وهي تتحول إلى إنسان كامل أو
إلى غير ذلك من عشرات الملايين من أنواع الكائنات الحية بعد مرورها بأطوار مختلفة
في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ
سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14))
المؤمنون.
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ
وكما
أن الإنسان يبدأ خلقه من سلالة الماء المهين فإن القرآن الكريم قد أكد على أن جميع الكائنات الحية يبدأ خلقها من سلالة ماء مشابهة
وذلك في قوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ
اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45))
النور. فالماء المذكور في هذه الآية هو نفس الماء المهين وكذلك سلالة الماء المهين
الذي يتم خلق الإنسان منها فالشريط الوراثي الموجود في خلية التكاثر والذي يقوم
بتحويل هذه الخلية إلى أنواع لا حصر لها من أنواع الكائنات الحية له نفس التركيب
في جميع هذه الكائنات بما فيها الإنسان كما ذكرنا سابقا.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ
وَمُسْتَوْدَعٌ
لقد سبق القرآن الكريم علماء البشر بما
يزيد عن ألف عام في التأكيد على أن الذكر والأنثى في الكائنات الحية لم يتم خلقهما من التراب بشكل مستقل بل تم خلقهما من أصل مشترك أو نفس واحدة لا هو بالذكر ولا هو
بالأنثى أو ما يسمى بالكائن ثنائي الجنس أو المخنث. وتفرد كذلك بالإشارة إلى
أن هذا
الأصل المشترك كان يحمل في جسمه الأعضاء
التناسلية الذكرية (المستودع) وكذلك الأعضاء التناسلية الأنثوية (المستقر) وذلك في
قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)" الأنعام. وأشار القرآن كذلك إلى أن الله
عز وجل خلق الزوجين الذكر والأنثى وهي كائنات أحادية الجنس (unisexual)
كوسيلة للتكاثر الجنسي ليحل
محل التكاثر اللاجنسي والعذري والخنثوي في معظم أنواع الكائنات
الحية وذلك في قوله تعالى "فَاطِرُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ
أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ (11)" الشورى. إن الذي أبدع هذه الطريقة العجيبة في التكاثر
سبحانه وتعالى يعلم تمام العلم ما فيها من معجزات كبرى ويعلم أنها ستصدع رؤوس
علماء البشر وهم يحاولون فك ألغازها كما اعترف بذلك أحدهم فقال (لقد حك علماء الأحياء رؤوسهم حول كيف ولماذا تم تطوير الجنسين
الذكر والأنثى بشكل منفصل ) (biologists
have scratched their heads over how and why the separate male and female sexes
evolved). ونظرا لما في هذه الظاهرة العجيبة من معجزات أقسم الله عز وجل
بها في آيات عديدة كما في قوله تعالى "وَأَنَّهُ
خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)" النجم وقوله تعالى
"وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)"
الليل وفي قوله تعالى "فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)" القيامة.
ويعتبر التحول من التكاثر اللاجنسي (asexual)
والخنثوي (hermaphroditism) والعذري (Parthenogenesis) إلى التكاثر الجنسي (sexual)
في الكائنات الحية من أعقد ألغاز تطور الحياة على
الأرض
حيث لا يوجد مبررات مقنعة لترك طرق سهلة وسريعة ومضمونة
للتكاثر إلى طريقة بالغة التعقيد وبطيئة وغير مضمونة. ولا زال علماء التطور حتى
الان في حيرة من أمرهم من هذه الظاهرة التي تستلزم لإنتاج كائن حي جديد وجود ثلاث
مستويات من التزاوج تبدأ بالتزاوج بين الذكر والأنثى ومن ثم ما بين الحيوان المنوي والبويضة وأخيرا فيما
بين الكروموسومين الذكري والأنثوي. ولقد قال
عالم الأحياء غراهام بل في كتابه الشهير (تحفة الطبيعة:
تطور الجين والجنس) (إن ظاهرة الجنس هي ملكة
المشاكل في الأحياء التطورية وربما لا يوجد أي ظاهرة طبيعية أخرى أثارت هذا
الاهتمام الكبير وبالطبع لا غيرها سببت مثل هذا القدر الكبير من الإرباك).
ولقد اعترف علماء تطور الحياة كذلك بأن هذا التحول كان أكبر مخاطرة
في تاريخ تطور الحياة فالحفاظ على عمل هذه الطريقة لفترات زمنية طويلة يتطلب كلفة عالية
مقابل معدل تكاثر منخفض بالمقارنة مع طرق
التكاثر الأخرى إلى جانب التعقيد البالغ في طريقة عملها. بل إن علماء تطور الحياة
أنفسهم قد اعترفوا بأن آليات الاختيار الطبيعي في نظرية التطور لا يمكنها بأي شكل
من الأشكال تفسير هذا التحول فقالوا (إن الحفاظ على
التكاثر الجنسي من خلال الاختيار الطبيعي في عالم شديد المنافسة كان أحد أكبر
ألغاز علم الأحياء حيث أن كل من الطريقتين الأخريين المعروفتين وهما التكاثر
اللاجنسي والخنثوي تمتلكان ميزات ظاهرة عليها). وفي
المقابل يعترف علماء الأحياء بأن طريقة التكاثر الجنسي تعمل بكفاءة عالية في 99%
من الكائنات متعددة الخلايا منذ ما يزيد عن بليون سنة وأنها أحدثت تنوع لا حدود في
أشكال ملايين الأنواع من الكائنات بل وفي أشكال مئات الأصناف في نفس النوع. ومن الميزات المهمة للتكاثر الجنسي هو قدرة
الخلايا على تصحيح الأخطاء التي قد تحصل في الكروموسومات عند انقسام الخلايا وعند
تعرضها للمؤثرات الخارجية بسبب وجود نسختين من الكروموسومات فيها أحدهما من الذكر
والأخرى من الأنثى.
لقد كان القرآن الكريم في غاية الدقة
عندما تكلم عن الأصل المشترك الذي خلق منه البشر فلم يذكر أبدا أن أمنا حواء قد
خلقت من أبينا آدم عليهما السلام كما جاء في التوراة بل أشار إلى أنهم قد خلقوا من نفس واحدة أي أصل مشترك واحد كما
في قوله تعالى "خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا" الزمر 6. ومن الواضح أن خلق أمنا
حواء من أبينا آدم عليهما السلام بشكل مباشر يتعارض مع قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
(98)" الأنعام. فالنفس الواحدة المذكورة في هذه الآية تؤكد على أنها
كانت تحمل في جسمها الأعضاء التناسلية الذكرية (المستودع) وكذلك الأعضاء التناسلية
الأنثوية (المستقر) ومن المؤكد أن أبينا آدم عليه السلام لم يكن كذلك. ولو افترضنا
جدلا أن أمنا حواء قد خلقت من ضلع أبينا أدم بمعجزة ربانية فكيف لنا أن نفسر الحال
مع ملايين الأنواع من الكائنات الحية التي لا بد وأن ذكورها وإناثها قد خلقت من
أصل واحد كما هو الحال مع البشر.
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ
إن آخر مرحلة من مراحل خلق الإنسان هي تسويته ونفخ الروح
فيه من لدن خالقه سبحانه وتعالى كما جاء في قوله تعالى (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي
خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ
رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)) ص وقوله
تعالى (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا
تَشْكُرُونَ (9)) السجدة. فبعد أن مر خلق الإنسان بمراحل الطين وكذلك مراحل
التحول من كائن إلى كائن أرقى منه شاء الله عز وجل أن يختار من بين مخلوقاته العليا
آدم عليه السلام فسواه ونفخ في روحه ليكون خليفته على الأرض وسخر له جميع الكائنات
الحية التي خلقت جميعها من أجله. والمقصود بالتسوية هو تعديل مواصفات جسم آدم عليه
السلام ليكون على الصورة التي أرادها الله عز وجل والتي تميزه عن جميع الكائنات
الحية التي تعيش على هذه الأرض. وعلى
الرغم من أن جسم الإنسان لا يختلف تشريحيا عن أجسام بقية الحيوانات التي هي في
رتبته إلا أن الله عز وجل ميزه بعدة مزايا جسميه أهما أنه يمشي منتصبا على رجلين وصور
وجهه فأحسن صورته وعدل يديه بحيث يمكنها القيام بأعمال لا حصر لها فبدون هذه
الأيدي الماهرة سيكون حال الإنسان حال بقية الحيوانات مهما بلغ ذكاء عقله وصدق
الله العظيم القائل (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا
غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي
أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)) الانفطار. وأما التعديل الثاني فيتعلق
بتسوية دماغ الإنسان حيث تم تطويره بشكل كبير عن بقية أدمغة الثديات التي ينتمي
إليها من حيث قدرته على التفكر والتخيل والتذكر واتخاذ القرارات وحل المسائل
الحسابية والرياضية وغيرها الكثير. وأما التعديل الثالث فيتعلق بقدرة الإنسان على الكلام
والسماع والقراءة والكتابة والتي خصص لها مساحات كبيرة من دماغ الإنسان كما جاء في
قوله تعالى (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)) الرحمن وقوله تعالى (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
(4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) العلق. أما التعديل
الأخير والأهم فيتعلق بنفخ الله عز وجل من روحه في هذا المخلوق الأرضي فأصبح على
صورة خالقه سبحانه وتعالى وألهم نفسه فجورها وتقواها وعرض عليه الأمانة فقبلها فهو
قادر على الإهتداء لمعرفة خالقه بواسطة عقله ونفسه وهو قادر على التمييز بين الخير
والشر والحسن والقبيح وهو قادر على أن يتصف ببعض صفات خالقه من رحمة ورأفة وعفو ومغفرة
وكرم وصبر وغيرها من الصفات الكريمة.
وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام بَعْدَ الْعَصْرِ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ
لقد
جاء في حديث نبوي صحيح وهو ما سمي بحديث التربة ما يؤكد على أن الكائنات الحية المختلفة
لم تظهر دفعة واحدة على هذه الأرض بل تمت على مدى أربعة أيام من أيام الخلق وليؤكد
بذلك على عملية تطور الكائنات الحية من بعضها البعض كما سنشرح ذلك. فقد روى أبو
هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ :( خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ
السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ
النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ،
وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي
آخِرِ الْخَلْقِ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ
الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ) رواه مسلم في " صحيحه " (2789) ، وأحمد
في " مسنده " (2/ 327) وغيرهم في كتب الحديث.
لقد ورد في هذا الحديث النبوي الشريف حقائق بالغة الأهمية وجاءت متوافقة مع الآيات
القرانية المتعلقة بخلق الكون ومتوافقة تمام التوافق مع ما اكتشفه العلماء في هذا
العصر عن تطور الكون والحياة على الأرض. لقد أكد الحديث على أن الكائنات الحية لم
تظهر إلا بعد أن تم خلق الأرض الأولية في أول يومين من أيام الخلق الستة كما جاء
في آية خلق الكون فقد خلق الله عز وجل التربة أي القشرة الأرضية في أول أيام الخلق.
فالأرض عند أول نشأتها كانت كرة ملساء وسطحها شبه سائل وبدأ هذا السطح بالتجمد
بشكل تدريجي إلى أن أصبح من الثخانة بحيث يقوى على حمل المواد التي تقذف بها
البراكين من باطن الأرض المنصهر لتبدأ بذلك عملية تكون الجبال التي خلقت في اليوم الثاني من أيام الخلق ومن ثم تم خلق
بقية أقوات الأرض اللازمة لظهور الحياة عليها في الأيام الأربعة التالية من غلاف
جوي ومحيطات وبحار وأنهار وغيرها.
لقد
صنف هذا الحديث الكائنات الحية إلى ثلاثة أصناف رئيسية وهي النباتات (الشجر)
والميكروبات (المكروه) والحيوانات (الدواب والإنسان) وهذا يتطابق تماما مع التصنيف
الذي وضعه علماء الأحياء للكائنات الحية حبث صنفوها إلى كائنات منتجة (النباتات) وكائنات
محللة (الميكروبات) وكائنات مستهلكة (الحيوانات). ومن الواضح أن الكائنات
المستهلكة والمحللة لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تظهر على الأرض بدون وجود
الكائنات المنتجة وهي النباتات والطحالب وذلك لعدم قدرتها على توفير الغذاء اللازم
لها مباشرة من تراب الأرض. وبما أن عملية ظهور مختلف أنواع الكائنات الحية عملية
بطيئة جدا كان لا بد من ظهور الكائنات المحللة (المكروه) بعد ظهور النباتات وقبل
ظهور الكائنات المستهلكة (الحيوانات) وإلا لقامت النباتات بتحويل جميع المواد غير
العضوية المتوفرة في الطبيعة إلى مواد عضوية ولتوقفت الحياة على الأرض بسبب عدم
وجود مواد خام جديدة. أما الحيوانات البرية والبحرية فمن الطبيعي أن يتم خلقها بعد
خلق النباتات والميكروبات حيث لا يمكنها العيش بدون النباتات التي توفر لها طعامها
وكذلك بدون الميكروبات التي تعمل على تحليل المواد العضوية الموجودة في أجسام
الحيوانات الميتة فتعيد بذلك المواد الخام إلى الطبيعة ليتم استهلاكها من جديد من
قبل النباتات والطحالب. إن أعجب ما في هذا الحديث النبوي هو ذكره للمكروه فهذه
المخلوق لم يذكر في حديث الخلق الوارد في سفر التكوين وقد بقي معنى هذا المكروه
مجهولا حتى تمكن العلماء من اكتشاف الكائنات الحية الدقيقة وهي الميكروبات. وقد
أطلق الحديث النبوي اسم المكروه على هذه الكائنات الدقيقة بسبب الرائحة الكريهة
التي تنطلق من المواد العضوية عند تحللها من قبل هذه الكائنات الدقيقة. وعندما
يقرر الحديث الشريف أن النباتات قد خلقت يوم الاثنين وأن الحيوانات قد خلقت يوم
الخميس فهذا لا يعني أن جميع أنواع النباتات والحيوانات قد خلقت دفعة واحدة في تلك
الأيام بل لا بد أن خلقها قد تم على مدى
بقية أيام الخلق. ومن المنطقي أن يتم خلق الكائنات الحية بشكل تدريجي حيث لا يمكن لبعض الكائنات
أن تظهر قبل غيرها وذلك لاعتماد هذه الكائنات على بعضها البعض في غذائها. فالحيوانات المفترسة آكلة اللحوم لا يمكن بأي
شكل من الأشكال أن تظهر قبل الحيوانات آكلة النباتات كما أن الحيوانات آكلة
النباتات لا يعقل أن تظهر قبل أن تظهر النباتات وهكذا لبقية الكائنات. وعند مقارنة
تاريخ ظهور الكائنات الحية كما ورد في الآيات القرآنية وهذا الحديث النبوي الشريف مع
التواريخ التي حددها علماء التطور نجد أن هناك توافقا كبيرا بينهما.
ولقد
جاء ترتيب خلق الكائنات الحية في هذا الحديث موافقا للمدد الزمنية التي حددتها
الآيات القرآنية ومتوافقا كذلك مع الترتيب الذي وضعه علماء التطور لأنواع الكائنات
الحية وأزمان ظهورها على سطح الأرض. وعند مقارنة تاريخ ظهور مختلف أنواع الكائنات
الحية كما ورد في هذا الحديث النبوي مع التواريخ التقريبية التي حددها علماء
التطور نجد أن هناك توافقا كبيرا بينهما. فأول أشكال النباتات ظهرت في اليوم
الثالث من أيام الخلق أيّ بعد انتهاء
اليوميين الذين خلق الله فيهما الأرض الأولية وفي أول الأيام الأربعة التي هيأ
الله فيها الأرض. وبما أن العلماء قد قدروا عمر الأرض بعد أن تصلبت قشرتها بأربعة
آلاف وخمسمائة مليون سنة فإنه بامكاننا تقدير طول كل يوم من أيام التهيئة الأربعة والذي
يزيد قليلا عن ألف مليون سنة. ويقول علماء التطور أن الكائنات الحية الأولية وهي
الطحالب والنباتات الأولية قد ظهرت على الأرض قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف وخمسمائة
مليون سنة وهي الفترة التي تمثل اليوم
الأول من أيام التهيئة الأربعة التي وردت في الآية القرآنية واليوم الثالث من أيام
الخلق. أما البكتيريا فقد ظهرت في فترة لاحقة لظهور الطحالب حيث أنها على عكس
الطحالب غير قادرة على تأمين ما تحتاج إليه من مواد عضوية مباشرة من العناصر
الطبيعية كما تفعل ذلك الطحالب من خلال عملية التمثيل الضوئي. ويحدد الحديث الشريف
فترة ظهور الميكروبات (المكروه) في اليوم الثاني من أيام التهيئة واليوم الرابع من
أيام خلق الكون الذي يمتد ما بين ثلاثة آلاف وألفي مليون سنة. أما أبسط أشكال الحيوانات فقد ظهرت
في اليوم الثالث من أيام التهيئة واليوم الخامس من أيام الخلق وذلك بعد أن استقرت
دورة النظام البيئي بوجود كل من الكائنات المنتجة وهي النباتات والكائنات المحللة
وهي الميكروبات. وقد جاءت جملة بث فيها الدواب الواردة في الحديث الشريف معبرة
تمام التعبير عن ما اكتشفه علماء التطور من أن ظهورا مفاجئا لأنواع مختلفة من
الكائنات الحية قد حدث في بداية العصر الكامبري قبل ما يقرب من ستمائة مليون سنة
أيّ في اليوم الرابع من أيام التهيئة واليوم الأخير من أيام الخلق. أما الإنسان
وهو آخر الكائنات الحية ظهورا على الأرض فقد حدد الحديث الشريف فترة ظهوره في آخر
ساعة من ساعات آخر يوم من أيام الخلق وهو يوم الجمعة.
وقد اكتشف العلماء أن أول أشكال الكائنات التي تطور منها الإنسان الحديث قد ظهر
قبل ما يقرب من خمسين ألف سنة وهي
فترة قصيرة إذا ما قورنت بطول كل يوم من أيام الخلق والذي يبلغ ألف مليون سنة تقريبا.