2014-02-12

فأخرجــــــنا بــــــــه نبـــــــــــات كـــلّ شـــيء


فأخرجــــــنا بــــــــه نبـــــــــــات كـــلّ شـــيء


 
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي\جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

  



 
إن كان هناك من يشك في أن أصول الكائنات الحية قد خلقت من التراب مباشرة فلا أظن أن هناك من يشك في أن أجسام الكائنات الحية تصنع بكاملها من تراب الأرض إما بشكل مباشر أو غير مباشر. فجميع أنواع الكائنات الحية وبلا استثناء يبدأ تصنيعها من خلية واحدة وتنتهي بعد مدة محددة من الزمن بكائنات حية تتكون أجسام معظمها من بلايين الخلايا يفوق وزنها وزن الأصل الذي بدأت منه بمثل عدد خلاياه. وبما أن المادة لا تفنى ولاتتجدد فإنه لا مصدر لزيادة وزن هذه الكائنات إلا تراب هذه الأرض التي تعيش عليها مصداقاﹰ لقوله تعالى "والله أنبتكم من الأرض نباتا ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا" نوح 17-18. وعلى الرغم من أن الإنسان وغيره من الحيوانات لا تأخذ الغذاء الذي تصنع منه أجسامها مباشرة من التراب إلا أنها تعتمد في ذلك على النباتات التي تقوم بتصنيع مختلف أنواع المواد العضوية مباشرة من التراب. فهذه النباتات يبدأ تصنيعها من البذور التي تنبت في التراب ثم تنمو لتصبح نباتات بمختلف الأشكال والأحجام فتكون طعاما لأنواع مختلفة من الكائنات الحية وصدق الله العظيم القائل  "وءاية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبّا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنّات من نخيل وأعناب وفجّرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون" يس 33-36. إن غالبية الناس تعلم أن أجسام الكائنات البرية نباتاتها وحيواناتها تصنع من التراب بشكل مباشر أو غير مباشر إلا أن كثيرا منهم يجهل مما تصنع أجسام الكائنات البحرية وليس ثمة تراب في البحار. وإن لهذا الجهل ما يبرره فمعظم الكائنات البحرية هي من مملكة الحيوان ولم يسبق لأحد أن شاهد نباتات وأشجار في البحار والمحيطات يمكن لحيوانات البحر أن تتغذى عليها. وقد يعجب  الناس إذا ما علموا أن كمية المواد العضوية التي تنتجها الكائنات البحرية تفوق ما تنتجه الكائنات البرية بما يقرب من عشرة أضعاف. ولقد وجد العلماء أن المنتج الرئيسي للمواد العضوية  في البحر هي الطحالب وهي كائنات حية وحيدة الخلية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة تعيش في طبقات الماء العليا حيث يصلها ضوء الشمس. ويوجد في المتوسط ما يقرب من مليون طحلب في اللتر الواحد من مياه المحيطات السطحية وعلى ما تنتجه هذه الطحالب من مواد عضوية تتغذى جميع الكائنات البحرية وفق سلسلة غذاء بالغة التعقيد وصدق الله العظيم القائل "وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحما طريّا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" النحل 14.

إن المتدبر لقوله تعالى "وهو الذي أنزل من السماء مآء فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبّا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزيتون والرمّان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون" الأنعام 99 يجد إشارات واضحة لما يجري في داخل هذه النباتات والطحالب من عمليات تحويل المواد غير العضوية إلى مواد عضوية تقوم عليها حياة جميع أنواع الكائنات الحية. فقد أشارت هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من عمليات الإخراج فالماء أخرج "نبات كل شيء" ونبات كل شيء أخرج الخضر والخضر أخرج مختلف أنواع النباتات والثمرات. ومن المعلوم أن بذور النباتات تبقى على حالها ساكنة في تراب الأرض إلى أن ينزل الماء عليها فإذا أحس جزء محدد من البذرة بتوفر كمية كافية من الماء أعطى إشارة لبرنامج التصنيع المخزن في داخلها للبدء في عملية تصنيع النبتة مصداقا لقوله تعالى "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج" الحج 5. وقد جاءت هذه الآية القرآنية لتلفت أنظار البشر لهذه العمليات المعقدة التي تجري في داخل هذه البذور من خلال الإشارة إلى أهم مكونين من مكونات الخلية المسؤولة عن تصنيع الكائنات الحية. فقد أشارت هذه الآية إلى أن الماء عندما ينزل على البذور المدفونة في التراب يقوم أولا بإخراج "نبات كلّ شيء" أي المكون المسؤول عن إنبات أو تصنيع  كل شيء. ولا تعني جملة "كل شيء" في هذه الآية كل شيء على الاطلاق بل جميع أنواع الكائنات الحية ابتداء من الفيروسات وانتهاء بالبشر الذين قال الله فيهم "والله أنبتكم من الأرض نباتا" نوح 17. وتؤكد هذه الآية تأكيدا قويا على أن جميع أنواع الكائنات الحية لا يمكن أن تظهر للوجود بدون هذا المكون وهو "نبات كلّ شيء" كما هو واضح من اسمه. ومن الواضح من الاكتشافات العلمية الحديثة أن "نبات كلّ شيء" ما هو إلا شريط الحامض النووي الذي يكمن فيه سر الحياة الأول والأعظم فبدونه لا يمكن لأي خلية حية أن تعيش ولا يمكن لأي كائن حي أن يتكاثر فهو يحتوي على جميع التعليمات التي تلزم للتحكم في العمليات الحيوية في داخل الخلية وعلى برنامج التصنيع الكامل للكائن الحي.

أما المكون الثاني الموجود في خلية الإنبات فهو الخضر الذي أخرجه "نبات كلّ شيء" في قوله تعالى "فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خضرا". ويمكن أن نلاحظ الدقة في التعبير القرآني عند الحديث عن هاذين المكونين فعندما قال الله تعالى "وهو الذي أنزل من السماء مآء فأخرجنا به نبات كلّ شيء" قال سبحانه أخرجنا به أيّ أن الله أخرج بالماء "نبات كلّ شيء" أي أن الماء كان فقط وسيلة لعملية لإخراج. أما عندما تكلم سبحانه عن إخراج الخضر "فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خضرا" قال سبحانه أخرجنا منه وليس به أيّ أن الله أخرج من "نبات كلّ شيء" هذا الخضر وهذا يعني أن الشريط الوراثي هو الذي يحدد تعليمات تصنيع الخضر. ويمكننا معرفة ما هو هذا الخضر من معرفة الوظيفة التي يقوم بها في الخلية وذلك في قوله تعالى "فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبّا متراكبا". فهذا الخضر هو الذي يخرج الحب المتراكب وثمرات النخيل والأعناب والزيتون التي تحتوي على المواد العضوية وهو بالتأكيد البلاستيدات الخضراء الموجودة في خلايا النباتات والطحالب. إن التسمية التي أطلقها القرآن الكريم على البلاستيدات الخضراء لم تأت اعتباطا بل إن الذي صنعها وسماها "خضرا" يعلم تمام العلم مغزى هذه التسمية. فهذه البلاستيدات هي التي تعطي اللون الأخضر لأوراق النباتات وذلك بسبب أنها تعكس اللون الأخضر من بين ألوان الطيف المكون لأشعة الشمس وتلتقط الطاقة الشمسية في ما عدا ذلك من ألوان الطيف في عملية التركيب الضوئي. ولهذا فإن علماء الأحياء الذين اكتشفوا هذه البلاستيدات أضافوا صفة الخضراء إليها بعد أن عرفوا أنها هي المسؤولة عن إعطاء اللون الأخضر لأوراق النباتات علما بأن هؤلاء العلماء هم من غير المسلمين. إن مادة الخضر أو البلاستيدات الخضراء هي المسؤولة عن إخراج مختلف أنواع الثمار من خلال عملية تحويل المواد غير العضوية إلى سكر الجلوكوز الذي صنع الله منه آلاف الأنواع من المواد العضوية التي تدخل في بناء آلاف الأنواع  من الثمار ذات التنوع الهائل في الأشكال والألوان والطعوم. وهاهي الآية القرآنية تدعونا للنظر إلي ثمرات هذه النباتات والتأمل في عجيب صنعها لكي نوقن بأن هنالك صانعا لا حدود لقدرته وعلمه يقف وراء تصنيع هذه البلاستيدات الخضراء التي تحول تراب الأرض الميت إلى هذه الثمرات الطيبة "انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون".

وسنشرح في هذه المقالة السر الثاني من أسرار الحياة وهو قدرة بعض أنواع الخلايا الحية على تحويل العناصر الأرضية إلى مواد عضوية مختلفة بالغة التعقيد تستخدمها الكائنات الحية لبناء أجسمها ولتزويدها بالطاقة التي تلزمها لإجراء عملياتها الحيوية. وقد وجد العلماء أن أجسام الكائنات الحية تحتاج لما يزيد عن عشرين عنصرا من العناصر الطبيعية التي يحويها تراب الأرض والبالغ عددها اثنين وتسعين عنصرا. وتشكل أربعة من هذه العناصر وهي الكربون والأوكسجين والهيدروجين والنيتروجين ما يزيد عن خمس وتسعين بالمائة من وزن الكائن الحي بينما تشكل بقية العناصر التي أهمها الفوسفور والكبريت والصوديوم والكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم والكلور والحديد الخمسة بالمائة المتبقية. ويعتبر عنصر الكربون أهم هذه العناصر على الإطلاق حيث تشكل ذراته العمود الفقري لجميع جزيئات المواد العضوية وذلك لما فيه من الخصائص الفريدة التي لا توجد في غيره من العناصر. ومن أهم هذه الخصائص قدرة ذراته على الاتحاد مع بعضها البعض مشكلة جزيئات ذات سلاسل طويلة تحتوي على آلاف الذرات بينما لا يتجاوز عدد الذرات التي تتكون منها جزيئات العناصر الأخرى العشرة ذرات. ومن خصائصه أنه عند ارتباطه بذرات الهيدروجين فإنه يقوم بتخزين كميات كبيرة من الطاقة في الروابط الكربوهيدراتية. ومن خصائصه أيضا أن ذرة الكربون الواحدة قادرة على الارتباط بأربع ذرات من عناصر مختلفة في نفس الوقت مما ينتج عن ذلك  أنواع لا حصر لها من المركبات العضوية كالكربوهيدرات والدهون والبروتينات والأحماض النووية. ويؤكد العلماء على أن الحياة ما كان لها أن تظهر على الأرض بدون الكربون حيث لا يوجد أيّ عنصر آخر في الأرض يقوم مقامه لإنجاز مثل هذه المهام. وقد لا يعرف كثير من الناس أن معظم ما تحتاجه الكائنات الحية من غذاء تبني به أجسامها تحصل عليه من الهواء ومن الماء بينما لا تأخذ هذه الكائنات من عناصر تراب الأرض إلا القدر اليسير وهذا يعني أن طعامنا وطعام بقية الكائنات إنما ينزل علينا من السماء أي الغلاف الجوي وصدق الله العظيم القائل "هو الذي يريكم ءاياته وينزّل لكم من السماء رزقا وما يتذكّر إلاّ من ينيب" غافر 13. وعلى الرغم من أن العناصر الرئيسية التي تتغذى عليها النباتات والطحالب لا تتجاوز عدد أصابع اليد إلا أنها تنتج من المواد العضوية ما يصعب حتى على المختصين حصر عدد أنواعها ولهذا نرى هذا التنوع الهائل في أشكال وألوان الحيوانات والنباتات التي تعد بالملايين وصدق الله العظيم القائل "وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأكل إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون" الرعد 4  والقائل سبحانه "وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لأية لقوم يذّكّرون" النحل 13.

تحتوي النباتات البرية والطحالب البحرية على أضخم مصنع لإنتاج المواد العضوية على وجه هذه الأرض حيث يقوم هذا المصنع بتزويد جميع الكائنات الحية بالمواد العضوية اللازمة لبناء أجسامها والطاقة اللازمة لإجراء عملياتها الحيوية. إن المادة العضوية الرئيسية التي ينتجها هذا المصنع من خلال عملية التركيب الضوئي هو سكر الجلوكوز الذي يتم تصنيعه من الماء وغاز ثاني أكسيد الكربون فقط. وتأخذ النباتات البرية غاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء من خلال أوراقها وتمتص الماء وبقية العناصر من التراب من خلال جذورها بينما تأخذ الطاقة اللازمة للتصنيع من أشعة الشمس الساقطة على أوراقها. أما الطحالب البحرية فتأخذ جميع ما تحتاجه من عناصر من المركبات الذائبة في ماء البحر والطاقة التي تلزمها من الشمس التي تنفذ أشعتها إلى داخل مياهه. يتكون مصنع سكر الجلوكوز هذا من مكونات دقيقة تسمى البلاستيدات موجودة في خلايا النباتات والطحالب وهي مكونات بالغة التعقيد لا تتجاوز أبعادها عدة ميكرومترات ولا زال العلماء يجهلون كثير من تفاصيل تركيبها. وتقوم هذه البلاستيدات بإدخال جزيئات الماء وثاني أكسيد الكربون من خلال مسامات أغشيتها إلى تراكيبها الداخلية بينما يقوم جزيء الكلوروفيل بالتقاط الطاقة الشمسية وتخزينها في ثناياه بشكل مؤقت. ومن ثم  تقوم بعض الأنزيمات بتحليل جزيئات ثاني أكسيد الكربون والماء إلى مركباتها بينما تقوم أنزيمات أخرى بتصنيع سكر الجلوكوز من نواتج هذا التحليل والطاقة الشمسية التي أمسك بها الكلوروفيل. يتكون جزيء الكلوروفيل من 55 ذرة كربون و72 ذرة هيدروجين وخمس ذرات أوكسجين وأربع ذرات نيتروجين وذرة ماغنيسيوم واحدة. وتتلخص وظيفة هذا الجزيء في امتصاص أحد فوتونات ضوء الشمس وتخزين طاقته في أحد الإلكترونات بعد رفعه من مدار منخفض الطاقة إلى مدار مرتفع الطاقة. وعلى عكس ما يحدث في جميع ذرات المواد عند امتصاصها للضوء حيث تعود الإلكترونات المثارة إلى مداراتها الأصلية وتشع ما اكتسبته من طاقة على شكل ضوء أو حرارة، فإن هذا الجزيء يقوم بتسليم هذا الإلكترون المثار إلى جزيئات أخرى تعمل على استغلال طاقة هذا الإلكترون وتخزينها في الروابط الكيميائية لسكر الجلوكوز من خلال سلسلة طويلة من التفاعلات الكيميائية.


 

تقوم البلاستيدات بأخذ ستة جزيئات من ثاني أكسيد الكربون وإثني عشر جزيء من الماء وكمية كافية من الطاقة الشمسية وتنتج مقابل ذلك جزيئا واحدا من سكر الجلوكوز مع ستة جزيئات من الأوكسجين وستة جزيئات من الماء. ويتكون جزيء سكر الجلوكوز من ستة ذرات من الكربون وستة ذرات من الأوكسجين واثني عشر ذرة من الهيدروجين ويحتفظ بالطاقة التي استمدها من الشمس في روابطه الكيميائية. وقد وجد العلماء أن ثلاثا وتسعين بالمائة من وزن سكر الجلوكوز يأتي من ثاني أكسيد الكربون بينما تأتي السبعة بالمائة المتبقية من الماء. ويقدر العلماء كمية ثاني أكسيد الكربون الذي تأخذه النباتات والطحالب من الهواء سنويا  بخمسمائة بليون طن وكمية الماء الذي تمتصه النباتات من الأرض والطحالب من البحر بأربعمائة وعشرة بلايين طن وكمية الطاقة التي تستمدها من ضوء الشمس  بجزء من ألفي جزء من مجموع الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض. وتنتج البلاستيدات في المقابل  ثلاثمائة وواحد وأربعين بليون طن من سكر الجلوكوز ومائتين وخمسة بلايين طن من الماء وثلاثمائة وأربعة وستون بليون طن من الأوكسجين. ويتضح من هذه الأرقام أن كمية الطاقة التي يتم تخزينها في المواد العضوية التي تنتجها البلاستيدات في كل عام تزيد بمائتي مرة عن كمية الإنتاج العالمي من الطاقة في العام الواحد. إن هذه الكمية الضخمة من سكر الجلوكوز الذي تنتجه النباتات سنويا تقوم عليها حياة جميع الكائنات الحية التي تعيش على الأرض سواء في برها أو في  بحرها. ويستخدم هذا السكر  في أجسام الكائنات الحية لغرضين رئيسين وهما استخدامه كمادة خام لتصنيع جميع أنواع المواد العضوية اللازمة لبناء أجسام هذه الكائنات كالكربوهيدرات والدهون والبروتينات والأحماض النووية واستخدامه كوقود  يزود الكائنات الحية  بالطاقة اللازمة لإجراء مختلف العمليات الحيوية التي تحتاجها.
 
 ويوجد في جميع خلايا الكائنات الحية جهاز آخر بالغ الأهمية يسمى الميتوكندريون يقوم بتفكيك جزيء سكر الجلوكوز بوجود الأوكسجين وتحويل الطاقة الكيميائية المخزنة فيه إلى طاقة كيميائية يحملها أحد أهم الجزيئات المستخدمة في تداول الطاقة في داخل خلايا الكائنات الحية وهو ثلاثي فوسفات الأدينوساين. وقد وجد العلماء أن الجزيء الواحد من سكر الجلوكوز ينتج عند تحليله أو حرقه خمس وثلاثين جزيئا ناقلا للطاقة وبكفاءة تحويل قد تصل إلى ما يقرب من أربعين في المائة وهي كفاءة تحويل عالية إذا ما قارناها مع كفاءات التحويل في المحركات الميكانيكية التي لا تتجاوز الثلاثين في المائة لمعظم أنواعها. وينتج عن تحلل سكر الجلوكوز في الميتكوندريون غاز ثاني أكسيد الكربون والماء اللذين يخرجان كفضلات من الخلايا ليعودان كمواد غير عضوية إلى الجو حيث يعاد امتصاصهما من قبل النباتات والطحالب من جديد. إن التعقيد الموجود في تركيب الميتوكندريون لا يقل عن التعقيد الموجود في تركيب البلاستيدة الخضراء حيث تحتاج عملية حرق السكر إلى عدد كبير من الأنزيمات لا يقل عن تلك التي تحتاجها عملية التركيب الضوئي. لقد كانت الطاقة المخزنة في المواد العضوية قبل اكتشاف الفحم الحجري والبترول والغاز هي المصدر الوحيد للطاقة التي يحتاجها الإنسان لتوفير الدفء له ولطهو طعامه ولصناعة معداته من خلال حرق أخشاب وجذور وأوراق النباتات. ومن الجدير بالذكر أن الفحم الحجري والبترول والغاز ما هي إلا مواد عضوية أنتجتها النباتات والطحالب قبل ملايين السنين وتحولت مع مرور الزمن إلى هذه الأشكال من الوقود نتيجة لانحباسها في طبقات الأرض. وقد أشار القرآن الكريم إلى نعمة توفير الطاقة للبشر من خلال حرق المواد العضوية التي تنتجها البلاستيدات الخضراء في قوله تعالى  "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون"  يس 80 وقوله سبحانه "أفرءيتم النار التي تورون ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبّح باسم ربّك العظيم" الواقعة 71-74.  


إن أعجب ما في عملية تصنيع سكر الجلوكوز أنها تتم عند درجات حرارة منخفضة نسبيا أيّ عند درجات حرارة جو الأرض. وعلى الرغم من بساطة تركيب سكر الجلوكوز إلا أن العلماء قد أثبتوا استحالة تصنيعه من مواده الخام عند مثل هذه الدرجات بدون وجود الأنزيمات. ومما يثبت هذه الاستحالة أنه على الرغم من معرفة العلماء للطريقة التي يتم بها تصنيع سكر الجلوكوز من ثاني أكسيد الكربون والماء داخل أوراق النباتات إلا أنهم لا زالوا عاجزين عن تقليد عملية التصنيع هذه. ولو قدّر للبشر النجاح في تصنيع السكر مباشرة من مواده الخام لتم حل مشكلة الغذاء والطاقة في هذا العالم بشكل نهائي وذلك من خلال بناء مصانع تتكون موادها الخام من ثاني أكسيد الكربون والماء فقط وتستمد طاقتها من الشمس مباشرة. وقد يسأل سائل عن السبب الذي يمنع هؤلاء العلماء من استخدام الأنزيمات لتصنيع سكر الجلوكوز عند درجات الحرارة العادية. والجواب على ذلك هو أن التعقيد الموجود في تركيب الأنزيمات يفوق بآلاف المرات التعقيد الموجود في تركيب سكر الجلوكوز فالأنزيم عبارة عن بروتين مكون من سلسلة طويلة من  الأحماض الأمينية يتم ترتيبها بشكل مدروس بحيث تنتج شكلا ثلاثي الأبعاد له من الخصائص ما يمكنه من تسهيل وتسريع تفاعل كيميائي محدد عند درجات حرارة منخفضة. وإذا ما علمنا أن عملية تصنيع السكر من مواده الخام يحتاج لعشرات الأنواع من الأنزيمات وليس  لإنزيم واحد يتبين لنا لماذا يقف علماء البشر عاجزين عن تصنيع سكر الجلوكوز من ثاني أكسيد الكربون والماء بوجود الطاقة الشمسية. وفي المقابل نجد أن جميع خلايا الكائنات الحية على صغر حجمها قادرة على تصنيع جميع أنواع الأنزيمات التي تحتاجها لتسهيل التفاعلات الكيميائية التي تجري في داخلها عند درجات حرارة منخفضة نسبيا. ومن الجدير بالذكر أن كل تفاعل كيميائي يجري في داخل الخلية يحتاج إلى إنزيم خاص به مما يعني أن هنالك أنزيمات في داخل خلايا الكائنات الحية بعدد أنواع التفاعلات الكيميائية التي تجري فيها. وحتى لو تمكن العلماء من تصنيع الأنزيمات اللازمة لعملية تصنيع السكر فلا أظن أن بمقدورهم تصنيع البلاستيدة الخضراء وما فيها من مكونات بالغة التعقيد كجزيء الكلوروفيل. و مما يدل على عجز البشر وقلة حيلتهم أنه ليس بمقدورهم الاستفادة حتى من البلاستيدات الخضراء والأنزيمات الموجودة في النباتات التي تملأ الأرض من حولهم فيقوموا باستخلاصها من أوراق النباتات وبناء مصانع لتصنيع سكر الجلوكوز من مواده الخام وصدق الله العظيم القائل "أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء مآء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أءله مع الله  بل هم قوم يعدلون" النمل 60.

وقد يتبادر لذهن البعض أن قيام النباتات والطحالب بتحويل بعض عناصر الطبيعة إلى مواد عضوية سيؤدي في النهاية إلى نضوب مصادرها وسيؤدي بالتالي إلى انتهاء الحياة على سطح هذه الأرض. وبما أن عناصر الكربون والأوكسجين والهيدروجين والنيتروجين تشكل ما يزيد عن خمس وتسعين بالمائة من وزن المواد العضوية التي تنتجها النباتات فإن دراسة الطريقة التي يتم بها تجديد هذه العناصر من الأهمية بمكان لضمان استمرار الحياة على الأرض. لقد ذكرنا سابقا أن النباتات والطحالب تحصل على هذه العناصر الأربعة من الماء ومن غاز النيتروجين  وغاز ثاني الكربون الموجودة في الهواء أو المذابة في المياه.  وبما أن نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء تبلغ ثلاثة من مائة بالمائة وهي نسبة متدنية جدا بالمقارنة مع نسبة غاز الأوكسجين التي تبلغ واحد وعشرين بالمائة ونسبة غاز النيتروجين التي تبلغ ثمان وسبعين بالمائة فإن استهلاك خمسمائة  بليون طن من هذا الغاز سنويا سيؤدي لنضوب مخزون هذا الغاز في الهواء في سنوات معدودة إن لم يتم تعويضه بشكل متواصل. وفي دورة ثاني أكسيد الكربون تقوم الكائنات الحية بحرق معظم سكر الجلوكوز لتطلق بذلك غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يعود إلى الجو مرة أخرى. أما بالنسبة لعنصر الأوكسجين فإن الكمية التي تأخذها النباتات من الهواء لكي تتمكن من حرق سكر الجلوكوز تعادل تماما الكمية التي تطلقها النباتات والطحالب إلى الجو في عملية التركيب الضوئي مما يحافظ على مخزون هذا العنصر ثابتا في الهواء. وكذلك هو الحال مع دورة الماء حيث  أن كمية الماء التي يتم تحريرها عند حرق سكر الجلوكوز تعادل تماما كمية الماء المستهلكة في عملية التركيب الضوئي. وأما بالنسبة لعنصر النيتروجين فإن دورته أكثر تعقيدا من دورات بقية العناصر حيث أن النباتات لا تقوم بامتصاص النيتروجين من الجو مباشرة بل تعتمد اعتمادا كبيرا على البكتيريا في فعل ذلك . تقوم بعض أنواع البكتيريا بتثبيت نيتروجين الهواء كمركبات نيتروجينية في تراب الأرض ومن ثم تقوم النباتات بامتصاص هذه المركبات الذائبة من خلال جذورها بينما تقوم أنواع أخرى من البكتيريا بتحليل المواد العضوية النيتروجينية الموجودة في الكائنات الميتة وفي فضلات الكائنات الحية وإطلاق النيتروجين المحرر إلى الجو.

وقد يقول قائل ما الذي يضمن أن تكون كمية المواد العضوية التي يتم حرقها في أجسام الكائنات الحية تساوي تماما كمية المواد العضوية التي أنتجتها النباتات والطحالب بحيث يتم إعادة نفس الكمية من هذه العناصر إلي المصادر التي أخذت منها. فوجود فرق بسيط بين الكميات المنتجة والمستهلكة قد يؤدي مع مرور السنين إلى نضوب المواد الخام الموجودة في الطبيعة وخاصة ثاني أكسيد الكربون. ولكن الذي خلق الحياة من التراب لا يعجزه أن يجد حلا لهذه المشكلة البسيطة نسبيا إذا ما قورنت مع أسرار الحياة الأخرى. لقد قام علماء الأحياء بتصنيف الكائنات الحية إلى ثلاثة أنواع رئيسية وهي الكائنات المنتجة والكائنات المستهلكة والكائنات المحللة. فالكائنات المنتجة هي التي تقوم بتحويل المواد غير العضوية كثاني أكسيد الكربون والماء والنيتروجين وبقية العناصر الأرضية إلى مواد عضوية من خلال عملية التركيب الضوئي ويشمل هذا النوع جميع النباتات التي تعيش على اليابسة ومعظم أنواع الطحالب البحرية. أما الكائنات المستهلكة فهي التي تعتمد في غذائها على ما تنتجه النباتات والطحالب من مواد عضوية مختلفة ويشمل هذا النوع جميع أنواع حيوانات البر والبحر. وأما الكائنات المحللة فهي التي تقوم بتحليل المواد العضوية الموجودة في الكائنات الحية بعد موتها والفضلات التي تخرج من الكائنات الحية وتحويلها إلى مواد غير عضوية يعاد استهلاكها من قبل الكائنات المنتجة ويشمل هذا النوع مختلف أنواع البكتيريا والفطريات. ومن الواضح أن الكائنات المستهلكة والمحللة لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تعيش على الأرض بدون وجود الكائنات المنتجة وذلك لعدم قدرتها على توفير الغذاء اللازم لها مباشرة من تراب الأرض. وكذلك فإنه لا يمكن للكائنات المنتجة أن تستمر في العيش على سطح الأرض بدون الكائنات المستهلكة والمحللة وذلك لأنها ستحول مع مرور الزمن جميع ثاني أكسيد الكربون المتوفر في الطبيعة إلى مواد عضوية وسيكون مصيرها الموت في غياب طعامها المفضل وهو ثاني أكسيد الكربون.

 
ومن الواضح أن استمرار الحياة على سطح هذه الأرض يتطلب توازن تام بين الكائنات المنتجة والمستهلكة والمحللة بحيث لا يطغى أيّ نوع من هذه الأنواع على الأنواع الأخرى وإلا أدى هذا الطغيان  إلى اختفاء جميع أشكال الحياة على الأرض. فالكائنات المحللة كالبكتيريا والفطريات يمكنها القضاء على الكائنات المنتجة والمستهلكة بسبب سرعة تكاثرها لولا وسائل الدفاع التي زود الله بها الكائنات الحية ضد هذه الكائنات الدقيقة ولذلك فهي لا تتكاثر إلا على بقايا الكائنات الميتة وهي الوظيفة التي خلقها الله من أجلها. وكذلك فإن الحيوانات آكلة النباتات يمكنها إذا ما تكاثرت بمعدلات عالية أن تأكل كل ما على بر الأرض من نباتات وبهذا فإنها ستقضي على هذه النباتات وبالتالي على نفسها لأنها لن تجد ما تأكله وفي أسراب الجراد التي تغزو بعض المناطق فلا تترك عرقا أخضرا عليها أكبر مثال على ذلك. وكذلك فإن الحيوانات آكلة اللحوم يمكنها إذا ما تزايدت أعدادها أن تأكل جميع الحيوانات آكلة النباتات وسيكون مصيرها بالطبع الموت في غياب طعامها الوحيد وهو لحوم هذه الحيوانات. ويجب أيضا أن يتوفر التوازن  بين جميع أنواع الكائنات الحية والتي تعد بعشرات الملايين وليس فقط بين الفئات الرئيسة الثلاث بحيث لا يتفرد كائن معين من هذه الكائنات بالموارد الطبيعية على حساب الكائنات الأخرى مما يؤدي إلى انقراض البقية. ولقد وجد العلماء أن مثل هذا التوازن المطلوب بين الكائنات الحية لا يمكن أن يتم إن لم يتم تصميم  هذا النظام البيئي المعقد بشكل بالغ الدقة من قبل عليم خبير حيث أن خطأ بسيطا في تصميم هذا النظام قد يؤدي إلى انهيار كامل النظام وبالتالي اختفاء الحياة على سطح الأرض وصدق الله العظيم القائل "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين" الحجر 19-20.

إن مثل هذا التصميم البالغ التعقيد يتطلب تحديد خصائص كل نوع من أنواع الكائنات الحية التي يبلغ عدد المعروف منها اليوم ما يزيد عن مليوني نوع وذلك من حيث أعدادها وأحجامها وطرق تكاثرها وسرعة هذا التكاثر وطرق حصولها على الغذاء ونوع الغذاء الذي يناسبها والوسائل التي تتبعها في الدفاع عن نفسها ضد من يحاول افتراسها ومدى مقاومتها للظروف الجوية التي تحيط بها وإلى غير ذلك من الخصائص التي يصعب حتى على المختصين حصرها. ولقد تبين للعلماء أن هناك  آليات بالغة التعقيد أودعها الله في هذه الكائنات لكي تضمن هذا التوازن وقد تمكن هؤلاء العلماء من اكتشاف بعض هذه الآليات إلا أنهم لا زالوا يجهلون الكثير منها. فأول هذه الآليات التي تضمن عدم زيادة أعداد الكائنات الحية عن حد معين هو أن كمية المواد الخام والطاقة التي تحتاجها الكائنات الحية محدودة على سطح هذه الأرض. فالنباتات التي هي مصدر غذاء كائنات اليابسة لا تتكاثر إلا بوجود كميات كافية من الماء على طول العام والطحالب التي هي مصدر غذاء كائنات البحر لا تتكاثر إلا بوجود كميات كافية من ثاني أكسيد الكربون المذاب في مياه البحار. وكذلك فإن كمية الطاقة الشمسية التي تسقط على المتر المربع الواحد من سطح الأرض محدودة مما يعني أن هناك سقفا أعلى  لكمية المواد العضوية التي يمكن تصنيعها من قبل النباتات والطحالب في المتر المربع الواحد. وأما الآلية الثانية فهي أن كفاءة تحويل الطاقة في الأنظمة الحية لا يمكن أن تكون مائة بالمائة بل هي أقل من ذلك بكثير حيث تصل في الأنظمة الحية إلى ما يقرب من عشرة بالمائة وهذا يعني أن كمية الطاقة التي تستمدها الحيوانات آكلة النباتات من النباتات لا تتجاوز العشرة بالمائة من كمية الطاقة الكيميائية المخزنة فيها وبناءا على ذلك فإن حجم المواد العضوية الموجودة في الحيوانات آكلة النباتات لا يمكن أن يتجاوز بأي حال من الأحوال عشر حجم المواد العضوية الموجودة في النباتات. وكذلك فإن حجم المواد العضوية الموجودة في الحيوانات آكلة اللحوم لا يمكن أن يتجاوز بأي حال من الأحوال عشر حجم المواد العضوية الموجودة في الحيوانات آكلة النباتات. ومن  هذه الآليات أيضا أن الحيوانات التي تعتمد على ما تنتجه النباتات من مواد عضوية لا تتغذى جميعها على النباتات بشكل مباشر بل يوجد عدة مستويات من نظم التغذية فهناك الحيوانات التي تتغذى على النباتات مباشرة وتسمى الكائنات المستهلكة الابتدائية أو الحيوانات آكلة النباتات وهنالك الحيوانات التي تتغذى على الحيوانات الابتدائية وتسمى الكائنات المستهلكة الثانوية وهي الحيوانات آكلة اللحوم وهناك بعض الحيوانات التي تعتمد في غذائها على الحيوانات آكلة اللحوم كذلك. ومن الآليات المستخدمة في حفظ التوازن أيضا أن لكل من هذه الحيوانات أطعمة مفضلة من النباتات أو من الحيوانات فهنالك الحيوانات التي تتغذى على أوراق النباتات وتلك التي تتغذى على أزهارها أو ثمارها أو بذورها أو أخشابها أو جذورها. ومن الحيوانات من يفضل أكل بعض أنواع الحيوانات على غيرها أو بعض الأجزاء من أجسامها ومن الكائنات من يتغذى على فضلات الحيوانات أو رممها ومنها من يتطفل في طعامه على أجسام الكائنات الحية دون أن يهلكها وإلى غير ذلك من وسائل التغذية التي لا حصر لها. ومن الآليات العجيبة التي تدل على مدى الإتقان في تصميم هذا النظام البيئي المتوازن هو أن معدلات تكاثر الكائنات تقل تدريجيا مع ازدياد حجم هذه الكائنات فعلى سبيل المثال فإن معدل التكاثر في العام الواحد يصل لعشرات الآلاف في البكتيريا ولعدة آلاف في الطحالب ولعدة مئات في الكائنات الحية الدقيقة ولعدة عشرات في الحشرات ولعدة آحاد في صغار الفقاريات وإلى أقل من واحد في كبار الفقاريات فسبحان القائل "وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا" الفرقان 2 والقائل "إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر" القمر 49.

لقد ثبت للعلماء أن الكائنات الحية لم تظهر دفعة واحدة على سطح الأرض بل إن بعضها قد ظهر قبل البعض الآخر فالكائنات المنتجة هي أول الكائنات ظهورا على الأرض تلتها في الظهور الكائنات المحللة ومن ثم الكائنات المستهلكة. وقد جاء هذا الترتيب مطابقا للترتيب المذكور في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده. ويتبين من هذا الحديث الشريف أن الكائنات الحية قد تم تقسيمها إلى ثلاثة أصناف وهي الشجر والمكروه والدواب. فالشجر يمثل جميع أنواع النباتات والطحالب وهي أول الكائنات الحية  ظهورا على الأرض وذلك لأنها قادرة على تأمين غذائها مباشرة من تراب الأرض بعد أن زودها الله بالبلاستيدات الخضراء القادرة على تصنيع المواد العضوية من المواد غير العضوية. ويتضح من الحديث أن النباتات لم تظهر على الأرض إلا بعد مرور يومين من أيام الخلق وذلك بعد أن توفرت الظروف المناسبة على سطح الأرض. إن أغرب ما في هذا الحديث هو ذكره للمكروه كخلق من مخلوقات الله فقد بقي معنى هذا المكروه مجهولا حتى تمكن البشر من اكتشاف الكائنات الحية الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة وذلك باستخدام الميكروسكوبات الضوئية. وفي إطلاق اسم المكروه على هذه الكائنات الدقيقة دليل على صدق نبوءة من جاء هذا الحديث الشريف على لسانه فهذه الكائنات الحية الدقيقة مكروهة بسبب الروائح الكريهة التي تنطلق من المواد العضوية عند تحللها من قبل هذه الكائنات.  وقد جاء ترتيب خلق المكروه أو ما يسمى بالكائنات المحللة بعد النباتات مباشرة وذلك لكي تقوم بتحليل وتحرير العناصر الطبيعية من المواد العضوية الموجودة في ما يموت من هذه النباتات وذلك في غياب الحيوانات في تلك الحقبة من الزمن ولولا هذا التحلل لاستنفدت النباتات جميع المواد الخام التي تلزمها من الطبيعة ولتوقفت بذلك عجلة الحياة على الأرض. أما الدواب فقد بدأ ظهورها في اليوم قبل الأخير من أيام الخلق الستة وهي تمثل جميع الكائنات الحية التي لا يمكنها الحصول على غذائها مباشرة من التراب بل تعتمد على النباتات والطحالب في تأمين غذائها.

إن أكثر ما يثير دهشة الدارس لظاهرة الحياة على الأرض هو هذا الكم الهائل من أنواع الكائنات الحية التي تعيش في مياه الأرض وبراريها. فبر الأرض يمتلأ بشتى أنواع النباتات والحيوانات مهما كانت تضاريسه ومهما كان مناخه فنجد كائنات تعيش عند قطبي الأرض رغم البرودة المتدنية وكائنات تعيش في الصحارى رغم الحرارة العالية والماء القليل. وأنهار وبحار ومحيطات الأرض تعج بأنواع لا حصر لها من الكائنات الحية ويعيش فيها من أعداد الكائنات أضعاف ما يعيش على البر. وعند دراسة خصائص الكائنات الحية في بيئات الأرض المختلفة نجد أنها قد صممت بشكل بارع بحيث يمكنها البقاء تحت الظروف السائدة في تلك البيئة والتي قد تكون بمنتهى القساوة. ولولا هذا الإبداع في تصميم أجسام الكائنات الحية لتناسب البيئات المختلفة لانحصر عيش هذه الكائنات في مناطق محدودة من الأرض حيث تتوفر ظروف العيش المناسبة. ولكننا نجد كائنات تعيش في المحيطات على مختلف الأعماق ولم تنحصر عند السطح حيث تتوفر أسباب العيش بكثرة ونجد كائنات تعيش في صحارى الأرض القاحلة ورؤوس الجبال الشاهقة وأقطاب الأرض المتجمدة ولم تنحصر في المناطق ذات المناخ المعتدل والماء الوفير. ولطالما دعا القرآن الكريم البشر للتفكر في هذه الظاهرة العجيبة وهي بث الكائنات الحية في كل ركن من أركان هذه الأرض فقال عز من قائل "ومن ءاياته خلق السموات والأرض وما بثّ فيهما من دآبّة" الشورى 29 والقائل سبحانه "وفي خلقكم وما يبثّ من دآبّة ءايات لقوم يوقنون" الجاثية 4. ولم يتمكن علماء الأحياء حتى الآن من حصر عدد أنواع الكائنات الحية التي تعيش على سطح هذه الأرض وخاصة تلك التي تعيش في أعماق المحيطات أو تلك التي لا ترى بالعين المجردة وتتراوح تقديرات العلماء لعدد هذه الأنواع ما بين خمسة ملايين وخمسة عشر مليون نوع. أما عدد أنواع الكائنات الحية التي تم حصرها من قبل هؤلاء العلماء  فيقرب من مليوني نوع حيث يبلغ عدد أنواع الكائنات الحية الدقيقة كالفيروسات والبكتيريا والطحالب حوالي مائة ألف نوع والفطريات مائة ألف نوع والنباتات ثلاثمائة ألف نوع والحيوانات الفقارية خمسين ألف نوع والحيوانات اللافقارية ما يقرب من مليون ونصف نوع. أما عدد أفراد كل نوع من هذه الأنواع فمن الصعب تحديده وخاصة تلك الأنواع التي لا ترى بالعين المجردة والتي يحوي  الجزء اليسير من الماء أو الهواء أو التراب على ملايين الملايين منها. أما عدد أفراد كل حشرة من الحشرات فكلنا يدرك مدى صعوبة حصره عندما نحاول معرفة عدد النمل في بيت النمل الواحد أو عدد النحل في خلية النحل الواحدة وكذلك هو الحال مع بقية أنواع الكائنات الحية وقد يكون الإنسان هو الكائن الحي الوحيد من بين هذه الكائنات الذي تم حصر عدد أفراده وذلك على وجه التقريب. أما أحجام هذه الكائنات فتتراوح بين تلك التي لا ترى بالعين المجردة كالفيروسات والبكتيريا والفطريات وتلك التي يصل وزنها إلى عدة أطنان كالفيلة والحيتان وما بين هذين الحدين يوجد تدرج عجيب في أحجام هذه الكائنات لكي  يتخذ بعضها من البعض الآخر غذاء لها. فالطحالب التي تعيش في طبقات الماء العليا من المحيطات تعتبر مصدر الغذاء الرئيسي لجميع مخلوقات البحر وبما أن معظم الكائنات البحرية الكبيرة لا يمكنها التغذي على هذه الطحالب مباشرة وذلك لصغر حجمها فقد سخّر الله كائنات حية دقيقة أكبر حجما من الطحالب تتخذها طعاما لها وهي بدورها تكون طعاما لكائنات أكبر حجما منها كالأسماك الصغيرة التي تصبح طعاما لأسماك أكبر منها حجما في سلسلة غذاء بالغة التعقيد. وعلى البر توجد كذلك سلسلة غذاء بنفس التعقيد الموجود في البحر حيث تقوم النباتات بمختلف أنواعها بتأمين الغذاء لكل فرد من أفراد الكائنات الحية البرية. وعلى الرغم من هذه الأعداد الهائلة من الكائنات الحية التي لا يكاد يخلو منها مكان على سطح الأرض إلا أنها تحصل على نصيبها من الغذاء الذي يبقيها على قيد الحياة. وتقوم معظم الكائنات الحية بتأمين غذائها يوما بيوم ولا تحسب حساب رزق اليوم الذي يليه كما يفعل البشر الذين يقومون بتخزين ما يحتاجون إليه من طعام لعام كامل على الرغم من أنهم أذكى وأقدر مخلوقات الله على هذه الأرض وصدق الله العظيم القائل "وما من دآبّة في الأرض إلاّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلّ في كتاب مبين" هود 6 والقائل سبحانه "وكأيّن من دآبّة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم" العنكبوت 60.